الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الحكمة من إيراد قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم مرات عديدة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الواحد والعشرين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الأربعين وهي قوله تعالى:
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ بادئَ ذي بدء، ما الحكمة من أن تَرِد قصَّة بني إسرائيل في القرآن الكريم مرَّاتٍ عديدة مع أن القرآن للمسلمين؟ هناك من تَلَمَّسَ الحكمة في ذلك فقال: "الخطاب المُباشر أقلُّ تأثيراً من الخطاب غير المباشر" ، فأنت إذا أردت أن تنصح إنساناً، وأن تُلْقِي عليه بعض الحقائق ربما دافع عن نفسه، أو ربما رأى ذلك انتقاصاً من قدره، فهناك خطوط دفاعٍ عند كل إنسان هذه تمنع أن تدخل إلى أعماقه، أما إذا كان المُخَاطَبُ ليس معنياً في الموضوع، إنما المعنيٌّ جهةٌ ثالثة، فهذه الطريقة في الخطاب أكثر فاعليَّةً، وأكثر تأثيراً.
لو أن ابنك مثلاً مبتلى بشيءٍ لا يُرْضي الله، وألقيت عليه نصائح ومواعظ وخطابات قد لا يستجيب، أما إذا حدّثته عن شابٍ وقع في شيءٍ مشابهٍ لما وقع فيه الابن ودفع الثمن باهظاً فلعلَّ تأثير هذا الكلام يكون أبلغ، لذلك دائماً وأبداً الطريقة المباشرة أقلُّ فاعليَّةً من الطريقة غير المباشرة، الأمراض التي يمكن أن نقع بها، النفاق الذي يمكن أن نقع فيه، التقصير الذي يمكن أن نقع فيه، هذا كلُّه عُولِجَ في قصص بني إسرائيل، فصار الحديث عن بني إسرائيل حديثاً غير مباشر عن قضايانا، هذه بعض الحكم التي تلمَّسها بعض العلماء من كثرة إيراد قصَّة بني إسرائيل في القرآن الكريم لأن الأمراض التي يمكن أن نقع فيها وقعوا فيها، نقاط الضعف التي يمكن أن نعانيها وقعوا فيها، فمعالجتها معالجةٌ لنا.
قصص بني إسرائيل فيها أسلوبٌ تربويٌّ فعَّالٌ لنا:
مثلاً قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)﴾
قياساً على ذلك لو أننا أقمنا القرآن الكريم لأكلنا من فوقنا ومن تحتنا، لجاءت الخيرات كثيرةً:
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾
وقال:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾
أول نقطة في هذا الموضوع أن قصص بني إسرائيل أسلوبٌ تربويٌّ فعَّالٌ لأن القرآن الكريم لا يخاطب المسلمين بشكلٍ مباشر بل يحدِّثهم عن أممٍ انحرفت فدفعت ثمن انحرافها باهظاً.
ويا أيها الإنسان؛ كل واحد منا أحياناً يكون عنده تقصير من جهة، فإذا رأى إنساناً قصَّر التقصير نفسه ودفع الثمن باهظاً يبادر إلى تلافي الأمر.
أصل تسمية بني إسرائيل بهذا الاسم:
الشيء الآخر: إذا أراد الله جلَّ جلاله أن يخاطب الناس جميعاً قال:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾
الخطاب هنا لبني إسرائيل، من هو إسرائيل؟ هو سيدنا يعقوب عليه السلام، وما معنى هذا الاسم؟ قال بعض العلماء: في العبرية (إسِر) تعني عبد و(إيل) تعني إله، هو عبد الله، أو صفي الله، هذا أصل التسمية في اللغة العبرية، فربنا عزَّ وجل يقول: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي أنتم انحدرتم من إسرائيل وهو صفي الله عزَّ وجل، فَلِمَ أنتم كذلك؟ تماماً كما لو تثير نخوةَ شاب، أنت ابن فلان، وأبوك إنسانٌ كبير، وإنسانٌ عالِم، وإنسانٌ كريم، وإنسانٌ محترم فَلِمَ أنت تفعل ذلك؟ هذه هي العلَّة في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي أنتم من نسل يعقوب، ويعقوب من نسل إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء، إذاً: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ .
يوجد شيءٌ ثالث: إذا كان الأنبياء الذين جاؤوا إلى بني إسرائيل كُثراً فهذا لا يعني أنَّهم أمةٌ مختارة، أي إذا كان الأساتذة الذين يعلِّمون طالباً كثيرين جداً فهذا دليل على كسله، ليس معنى ذلك أنه متفوِّق.
لو تدبَّرت أصل الفساد في العالم لوجدته من صنع بني إسرائيل.
أكثر الشعوب معصيةً وتمرُّداً على الله عزَّ وجل هم بنو إسرائيل:
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)﴾
منهجهم الآن إفسـاد شعوب الأرض، أصل الفساد في الأرض يتأتَّى الآن من بني إسرائيل، أي هم وإن ضبطوا أنفسهم هذا وصمةُ عارٍ بحقِّهم، هم ينضبطون ويُفْسدون الشعوب كلَّها، لو تدبَّرت أصل الفساد في العالم لوجدته من صنع بني إسرائيل، فلذلك ليس معنى ذلك أن أنبياءهم الكثر دليل تفضيلهم، بل هذا دليل انحرافهم الشديد، هذه بعض الحقائق المتعلِّقة بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ .
الكفَّار أكثر استمتاعاً بالنعم من المؤمنين لأنها نصيبهم الوحيد من الله:
الآن الخطاب يعنينا:
﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ هناك أيها الإخوة؛ نعمةٌ وهناك مُنْعِم، الكافر مع النعمة، أما المؤمن مع المُنعم، وما لم تنتقل من النعمة إلى المنعم فلست مؤمناً، الكفَّار في كل مكان يستمتعون بنعم الله أَيَّما استمتاع، بل إن الكفَّار أكثر من المؤمنين استمتاعاً بالنعم لأنها نصيبهم الوحيد من الله عزَّ وجل، بلادهم جميلة، وأموالهم طائلة، وقوَّتهم مسيطرة ومع ذلك هم غارقون في المعاصي والآثام:
(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))
[ المنذري: الترغيب والترهيب: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح أو حسن ]
آيات من الذكر الحكيم تبين أن عقاب الله آت ولو بعد حين والعاقبة للمتقين:
أيها الإخوة الكرام؛ القرآن شفاء لما في الصدور، ذلك أن الإنسان أحياناً يختلّ توازنه، لو قرأ القرآن لاستعاد توازنه، قد يجد كافراً غنيَّاً، وقد يجد كافراً قـويَّاً، وقد يجد كافراً مسيطراً، وقد يجد كافراً مستمتعاً، وقد يجد كافراً متغطرساً، وهو غارقٌ في المعاصي والآثام، مدينةٌ في بعض بلاد الغرب ثلاثة أرباع سكَّانها شاذُّون، خمسة وسبعون بالمئة، وهي من أجمل المدن كلهم شاذُّون، وهذا عند الله انحرافٌ خطير يوجب أن تقضي عليه قضاء مبرماً قال تعالى:
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ(198)﴾
وقال:
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)﴾
يقول أيضاً:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
يقول أيضاً:
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)﴾
يقول أيضاً:
﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
النصر يحتاج إلى شرطين اثنين؛ الإيمان والعُدَّة:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾
دققوا في هذا الكلام أيها الإخوة: العبرة من يضحك آخراً، لأنه من يضحك أخيراً يضحك كثيراً، ومن يضحك أولاً يبكي كثيراً، فالعبرة أن تكون على منهج الله، العبرة أن تكون مطيعاً لله، العبرة أن تأتمر بما أمر الله وأن تنتهي عما نهى الله عنه، هذه العبرة، وكفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله، لو كان عدوُّك أقوى منك، لو كان أغنى منك، لو كان أذكى منك، لو كان أكثر منك سيطرةً، العبرة أن تكون مطيعاً لله، لكن من طاعة الله أن تُعِدَّ لهم:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾
ذكرت اليوم أن النصر يحتاج إلى شرطين اثنين كلّ منهما شرطٌ لازمٌ غير كافٍ؛ يحتاج إلى الإيمان، ويحتاج إلى العُدَّة، أن تُعِدَّ العُدَّة المتاحة، وليست العدة المكافئة، وهذا من رحمة الله بنا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بقدر استطاعتكم، حينما أمرنا الله أن نُعِدَّ لعدوِّنا العُدَّة المُتاحة رحمنا بهذا وعلى الله الباقي، وعلى الله ترميم الفارق بين العُدَّة المتاحة والعُدَّة المكافئة ولكن لابدّ من الإيمان، وخطر المعصية على قوَّتنا أكثر من خطر عدوِّنا على قوّتنا، لذلك المؤمن مع المنعم، والكافر مع النعمة، ولا خلاف حول النعمة.
الفرق بين أن تكون عبداً للنعمة وبين أن تكون عبداً للمنعم:
في الفاتحة ﴿الْحَمْدُ﴾ لا خلاف على النعم التي بين أيدينا ولكن من هو المنعم؟
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)﴾
هم يرون الحمد لهم الذين اكتشفوا هذه الثروات، الذين صنَّعوها، الذين استغلُّوها، هم يرون أنفسهم آلهة الأرض، ولكن المؤمن يرى الله عزَّ وجل، إذاً الخلاف بين أن تكون عبداً للنعمة، وبين أن تكون عبداً للمنعم، بين أن تشكر ما آتاك الله من قدراتٍ على استغلال النعَمْ، وبين أن تشكر الله عزَّ وجل الذي منحك هذه النعم، فالذي يمدحك يمدح الذي منحك ولا يمدحك أنت: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ قال بعض المفسِّرين، وهي لفتةٌ طريفة: حينما خاطب الله عزَّ وجل المؤمنين قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾
أما حينما خاطب بني إسرائيل قال: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ قال هذا المفسر: لأنهم ماديُّون فمفتاحُهُم النعمة، نرجو من الله عزَّ وجل أن نكون نحن أرقى منهم، مع المُنْعِمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ هم: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ .
المؤمن بالذَّات يحب الله على كماله:
لذلك قد يُحبّ الإنسان الله على نعمه، ولكن المؤمن بالذَّات يحب الله على كماله، فلو أعطاه أو منعه حبُّه هوَ هو:
والله وإن فتَّتوا في حبهم كبدي باقٍ على حبهم راضٍ بما فعلوا
[ عبد الرحيم بن علي المهاجري البُرَعِي ]
أساساً لا يُمْتَحَنُ المؤمن إلا في الشدَّة، قد يُنعم الله عليه في الدنيا فإذا ربط محبَّته لله بهذه النعَم فهو عبد النعْمَة، أما إذا كانت محبَّته لله خالصةً ولا علاقة لها بالنعم فهذه مرتبةٌ أعلى، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا الأدب مع الله عزَّ وجل، قال في الطائف:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ))
[ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]
إن أردت أن تعُدّ النعم فلن تحصيها:
أيها الإخوة؛ استنباطاً من هذه الآية الكريمة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ قال تعالى:
﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)﴾
توجد في الآية لفتة لطيفة: هل يمكن أن أعطيك ليرةً واحدة أقول لك: عدَّها؟ الواحد لا يُعَد، لو أعطيتك مجموعة من الليرات أقول لك: عُدَّها، أما ليرة واحدة أقول لك: عُدَّها، إنها لا تُعَدْ، فما معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ ؟ قال العلماء: بركات النعمة الواحدة لا تُعَدُّ ولا تحصى، نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة الحركة، نعمة النوم.
أخٌ كريم شفاه الله عزَّ وجل، كان مصاباً بمرض عدم النوم، والله الذي لا إله إلا هو أنا أتصوَّر لو طالبته بمئة ألف ليرة يملكها لدفعها لك مقابل أن ينام ليلةً واحدة، نعمـة النوم، نعمة الصحَّة، كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ يقول:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدُكم عن فراشِه، ثم رَجَع إليه ، فلْيَنْفُضْه بصَنِفَةِ إزارِه. ثلاثَ مَرَّاتٍ، فإنه لا يَدْرِي ما خَلَفَه عليه بعدَه، وإذا اضْطَجَع فلْيَقُلْ: باسْمِكَ ربي وضعتُ جَنْبِي، وبك أَرْفَعُه، فإن أَمْسَكْتَ نفسي فارْحَمْها، وإن أَرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عبادَك الصالحينَ. فإذا استيقظ أحدُكم فلْيَقُلْ: الحمدُ للهِ الذي عافانِي في جَسَدِي، ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بذِكْرِه. ))
[ الكلم الطيب ، إسناده جيد : أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) ]
إن أردت أن تَعُد النعم لن تحصى، بل إنك إن أردت أن تَعُدّ بركات نعمةٍ واحدة لا تحصيها.
بعض من نعم الله الدالة على عظمته:
نعمة الأمن:
﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾
أحد أسباب الأمن ثبات خصائص المواد، أنت عمَّرت بيتاً الإسمنت يبقى إسمنتاً، والحديد يبقى حديداً، لو أن خصائص المواد تتبدَّل لا تنام الليل، لعلَّ هذا الحديد أصبح ماءً انهار البيت، ثبات خصائص الأشياء هذه من نعم الله العُظمَى، استقرار الأرض:
﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)﴾
لو أنها تهتزُّ دائماً، أرقى طائرة تهتز أثناء طيرانها، لا يوجد أرض، لا يوجد احتكاك ومع ذلك تهتز دائماً، لو أن الأرض تهتز قليلاً لما رأيت بناءً قائماً على وجه الأرض، نعمة قرار الأرض، ونعمة الجاذبيَّة،
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً﴾ من جعل هذه الأشياء مرتبطة بالأرض؟ رواد الفضاء في منطقة انعدام الجاذبيَّة يعانون الأمرين من فقد الوزن، يستيقظ فإذا هو في سقف المَرْكَبَة، ليس له وزن، يُمسك الحاجة بيده فإذا تفلَّتت منه أصبحت في السقف،
أما نحن فنضع هذا الكأس على الطاولة يبقى على الطاولة لأن له وزناً، نعمة الجاذبيَّة قد لا ننتبه إليها، نعمة الاستقرار قد لا ننتبه إليها، نعمة ثبات خصائص الأشياء لا ننتبه إليها، هناك في الجسم نِعَمٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى، إذا حمل الإنسان ابنه يجد فيه صنعة متقنة، الأربطة التي تربط اليد بالجسم تتحمَّل وزن الطفل، وتتحمَّل ضعف وزنه، لو أن الأب غاضباً وأمسك ابنه بعُنف وحمله، لو كانت الأربطة متناسبة مع وزن الجسم لَخُلِعَت يده، لكن هناك دقَّة بالغة.
نعمة أن هذا الشَعر بلا أعصاب حس، لو كان في كل شعرة عصب حسّي، يوجد في كل شعر عصب ولكنه عصب محرِّك، لكل شعرة وريدٌ، وشريانٌ، وعضلةٌ، وعصبٌ، وغدَّةٌ دهنيَّةٌ، وغدَّةٌ صبغيَّة، ولكن العصب محرّك وليس عصباً حسيَّاً، لو كان عصباً حسياً لاحتجت إلى عمليةٍ جراحيَّةٍ عند كل حلاقة، عملية تخدير لأن الآلام لا تُحْتَمَل.
جسم الإنسان بما فيه من نعم الله الدالة على عظمته:
نعمة المثانة نعمة كبيرة جداً، لولا أن فيها عضلات لما كان هناك طريقة أخرى لإفراغ البول إلا بأنبوب من أجل الضغط، أنبوب تنفيس، نعمة الإفراغ السريع بالعضلات،
نعمة المثانة كلها، لو أنه لا توجد مثانة، من الكليتين إلى الخروج مباشرةً كل عشرين ثانية يوجد نقطة بول، من كل كلية نقطة أصبحتا نقطتي بول، ما هو الحل؟
نعمة الهضم، الإنسان يأكل، ويتولَّى الله عنه عمليَّة الهضم، هي عمليَّة معقَّدة تتم في ثلاث ساعات،
لو أن الله عزَّ وجل أوكل الهضم إلينا، يأكل، معه أربع ساعات هضم، والله مشغول، لأنني أهضم الطعام، أما كُلْ وكلُّ شيء على الله، البنكرياس، والمرارة، وحركة الأمعاء، وامتصاص الطعام، وانتقال الطعام إلى مواد سكَّريَّة تُخزَّن في الكبد وفي العضلات، وتحويل الطعام إلى كيلوس وإلى مواد شحميَّة تُخَزَّن في مكانٍ آخر، هذا كلَّه يتولاه الله عنك.
نعمة أن التنفّس يتمُّ آلياً في الليل، لولا هذه النعمة لما أمكنك أن تنام، ينام يموت لو كان التنفس إرادياً، لو أن الله عزَّ وجل جعل التنفس إراديَّاً، لذلك هناك مركز في البصلة السيسائية اسمه: مركز التنبيه الآلي للرئتين، هذا لو تعطَّل لأصبحت حياة الإنسان جحيماً، بمجرَّد أن ينام يموت، اخترع قبل سنوات عدَّة دواء غالٍ جداً يجب أن تأخذه كل ساعةٍ في الليل من أجل أن تبقى حيَّاً، الساعة التاسعة حبَّة، العاشرة، الحادية عشرة، الثانية عشرة، الواحدة، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة وهكذا، تصوَّر نفسك أنك مكلَّف أن تستيقظ كل ساعة لتأخذ الحبَّة وتنام، ما الذي يحدث؟ أصبحت الحياة جحيماً لا يُطاق.
نعمة أن الدماغ ضمن صندوق، والصندوق له مفاصل متحرِّكة، كل شخص يسمع صوت رأس ابنه يرتطم على الأرض يمكن ألف أو ألفي مرة، تسمع صوتاً قوياً جداً، لماذا لم ينكسر رأسه؟ لأن الجمجمة فيها مفاصل متحركة، فهذه الضربة الشديدة تمتصُّها الفراغات بين المفاصل، ثم إن الدماغ محاط بسائل،
فأي ضربة على الرأس السائل يوزعها على كل الدماغ تغدو بسيطة جداً، فالدماغ في الجمجمة، والنخاع الشوكي في العمود الفقري، والعينان بالمحجرين، والرحِم بالحوض، وأخطر معمل بالإنسان معامل كريات الدم الحمراء في نقي العظام، الأجهزة النبيلة الخطيرة جداً ضمن صناديق، ضمن حصون، هذه من نعمة الله الكُبرى، تصور شخصاً عينه بجبينه، العينان بالجبين، كم إنسان يسلم له بصره؟!
لا تجد سوى عشرة بالمئة فقط، لأن أي وقوع على الأرض انتهت عينه، لو فكر الإنسان بجسمه، لو أنه لا يوجد هذا المفصل كيف يأكل؟ مثل الهرَّة ينبطح، ويلحس الطعام بلسانه، لا يوجد طريقة ثانية، لو أنه لا يوجد مفصل فإن اليد لا تصل إلى الفم، ولكن بهذا المفصل صار شيئاً آخر.
الأرض وما فيها من بحار ونباتات وصحارى من آيات الله الدالة على عظمته:
﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ دورة الأرض، حجم الأرض جعل وزنك ستين كيلو غراماً، لو كان أقل لكان وزنك خمسة كيلو غرام، وزن الإنسان على القمر ستة كيلو غرامات، الحياة لا تُطاق، أما حجم الأرض جعل لك وزناً مناسباً،
الآن سرعة الأرض حول نفسها جعلت لك نهاراً مناسباً، اثنتا عشرة ساعة، ثماني ساعات للعمل، وساعة للأكل، وساعتان أو ثلاثاً مع أهلك صار وقت النوم، لو كان النهار مئة ساعة، هذا يعمل، وهذا نائم، لا أحداً يرتاح، أما النوم فموحَّد، والنهار موحَّد، فحجم الأرض، دورة الأرض.
لولا أن محور الأرض مائل لما وجدت الفصول الأربع أبداً،
صيف أبدي، شتاء أبدي، ربيع أبدي، خريف أبدي، مع ميل المحور صار هناك تبدُّل فصول، لو أن الأرض تدور على محور موازٍ لمستوى دورانها حول الشمس لكانت درجة الحرارة هنا ثلاثمئة وخمسين فوق الصفر، وفي الطرف الآخر الحرارة كانت مئتين وسبعين تحت الصفر، لانتهت الحياة، كم نعمة نحن محاطون بها؟
الآن النباتات لو أنه لا توجد بذور، وجدنا مثلاً مليار طن من القمح، بعد أن انتهت هذه الكمية فإننا نموت من الجوع، لكن الله عزَّ وجل خلق لك نظام البذور،
يوجد مع كل إنتاج نباتي وسائل استمراره بالبذور، نظام النبات وحده من الأنظمة الصارخة في الإشارة إلى عظمة الله عزَّ وجل.
البحار؛ لو كانت البحار بقدر اليابسة لما وجدنا أمطاراً، اسكب كأس الماء هذا على أرض الغرفة تجده قد جفّ بعد ساعتين، أما لو أبقيته في الكأس فلا يتبخَّر ولا بسنتين، إنه ينقص سنتيمتراً واحداً فقط، فكلَّما كان السطح ضيقاً يكون التبخُّر قليلاً،
جعل الله أربعة أخماس الأرض مسطَّحات مائيَّة من أجل أن يكون التبخُّر كافياً لأمطار اليابسة .
لو لم يكن هناك صحارى، لم يكن هناك مناطق حارَّة، لم يعد هناك رياح، هواء المنطقة الحارَّة مخلخل، وهواء المنطقة الباردة مضغوط كثيف،
ينشأ من تباين الضغطين حركة رياح، حركة الرياح تسوق السحاب.
﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ لك طفل، هذا الطفل صفاته صفات محبَّبة، لو كانت صفات الطفل صفات غير محبَّبة من يربي ابنه؟ الطفل بريء ذاتي، لا يحقد أبداً، سريع الرضا، لو كان بطيء الرضا، تكلم الكبير مثلاً كلمة يخاصمك سنتين، إذا غلطت معه غلطة يخاصمك سنتين، لو كان كل واحد ربَّى ابنه فخاصمه سنتين لن تستمر الحياة أساساً، لكن الله صمَّم الطفل بريئاً، فنعمة الطفل، هناك أشياء دقيقة جداً في الحياة.
المواد؛ جعل الله لك معادن وأشباه معادن، معادن ثمينة جداً، معادن رخيصة، معادن قاسية، معادن خفيفة، معادن تنصهر بسهولة، الرصاص ينصهر بالدرجة مئة، أما الحديد فبالألف والخمسمئة، لو كان الحديد ينصهر بالدرجة مئة لانتهى، ولانتهت كل فوائده، تحاول أن تطبخ بوعاء من حديد ينصهر مع الطعام، انتهى، أما الحديد فيصمد للألف والخمسمئة درجة، فالطعام ينضج داخل الوعاء، توجد أشياء دقيقة جداً، يتبخر الماء عند الدرجة الرابعة عشرة، لو يتبخَّر بدرجة مئة انتهى، انتهت وظيفة الماء، الماء لا ينضغط، الماء يتمدَّد، لولا تمدُّد الماء مع التبريد لا توجد حياة على وجه الأرض، ماذا أقول لكم؟!! ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ نعمة الذكر والأنثى:
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46)﴾
يوجد في مبيض المرأة عدد من البويضات ينتهي في سن اليأس،
في الخامسة والأربعين، في الثامنة والأربعين، في الثانية والأربعين، لو كانت كالرجل مهيأة للولادة بشكل دائم، تصور امرأة تلد وهي في التسعين، شيء لا يُحتمل، البويضات تنتهي لدى المرأة في سن معيَّن، أما الرجل فيبقى قادراً على الإنجاب في التسعين، هناك تصميم إلهي رائع، الرجل قد يفقد شَعْرَه كلَّه لكن المرأة لا تفقد شعرها كله، وهذه نعمةٌ كُبرى من نِعَمْ الله عليها.
ملخص الملخص المؤمن مع المنعم والكافر مع النعمة:
نِعَم الصحة، نِعَم الأمن، أنت من خوف الفقر في فقر، أنت من خوف المرض في مرض، توقُّع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها، نعمة الفراغ، الذي يملك وقت فراغ، الإنسان الذي لا يملك وقت فراغ ليس إنساناً، هذا الذي يعمل ليلاً نهاراً هذا إنسان انتهى، انتهى عند الله وعند الناس، لأن وقته استهلكه، عمله استهلكه، أما هذا الذي يجد وقتاً لسماع درس علم، للجلوس مع أخ، للقاء مثمر، هذا يحيا حياته الإنسانية، فالمؤمن على كل مع المنعم دائماً.
كان عليه الصلاة والسلام تَعظُم عنده النعمة مهما دقَّت، أي كأس ماء شربته، معنى ذلك الطريق سالك، لو كان الطريق غير سالك، أي لا سمح الله ولا قدر هؤلاء الذين يعانون الفشل الكلوي،
قال لي أخ كريم: له قريب ذهب لغسيل الكليتين، قالت له الممرضة بقسوةٍ بالغة: هذا الأسبوع لا تشرب ماء كثيراً لأن الجهاز معطل، فأنت عندما تعطش تشرب دائماً، لا يوجد لديك مشكلة إطلاقاً، تصور إذا شرب الإنسان ليس لديه جهاز يخرج هذا الماء، ماذا يفعل؟
يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس إذا مُنِعَ عنك؟ قال: بنصف ملكي، قال: فإذا منع إخراجه؟ قال: بنصف ملكي الآخر، بكم تشتري أن تنام الليل مطمئناً؟ بكم تشتري أن تأوي إلى بيت؟
نعمٌ لا تنتهي، نعمة الصحة، نعمة الأمن، نعمة الفراغ، نعمة الكفاية، هذا الذي يملك قوت يومه من نعم الله الكبرى، قوت يومه فقط، هذه نعمةٌ كبيرة .
فملخص الملخص المؤمن مع المنعم والكافر مع النعمة، ومهما تفنن في النعمة يأتي الموت فينهي هذا، هذه النعمة التي تنعم بها هناك شيء لابدّ منه، إما أن تتركها وإما أن تتركك، أبداً، نعمة البصر، يموت الإنسان انتهى البصر، أو يفقد بصره قبل أن يموت، نعمة المال يموت انتهى كل ماله، أو يصبح فقيراً قبل أن يموت، فإما أن تتحول عنك وإما أن تتحول أنت عنها، لذلك: وبالشكر تدوم النعم، قيدوا النعم بالشكر، النعمة تقيَّد بالشكر.
الآن كيف نشكر؟ قال العلماء: للشكر مستوياتٌ ثلاث.
1 ـ أن تعزو النعمة إلى الله وهذا أحد أنواع شكره:
لمجرد أن تعزو النعمة إلى الله فهذا أحد أنواع شكرها، إذا قلت: الله وفَّقني، الله أعطاني هذا البيت، الله هيَّأ لي هذه الزوجة، الله رزقني هؤلاء الأولاد، الله أعانني على نيل هذه الشهادة العليا، الله أعانني على طلب العلم، الله يَسَّر لي المجيء إلى المسجد، الله أعانني على تطبيق الإسلام في بيتي، الله أكرمني بزوجة مؤمنة، الله أكرمني بأولاد أطهار صالحين أبرار، حينما تقول هذا فهذا أحد أنواع الشكر، حينما تعزو النعمة إلى الله فهذا نوعٌ من شكرها.
2 ـ أن يمتلئ قلبك امتناناً لله عزَّ وجل:
هناك نوع ثان؛ وحينما يمتلئ قلبك امتناناً لله عزَّ وجل فهذا مستوى أعلى.
3 ـ أن تتحرك لخدمة الخلق معرفةً بهذه النعمة:
وحينما تتحرك لخدمة الخلق معرفةً بهذه النعمة فهذا مستوى أعلى، قال تعالى:
﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾
يحبك الله عزَّ وجل أن تكون شاكراً.
علينا أن نسجد شكراً لله عند كل نعمة يمنحنا الله إياها:
عود نفسك إذا منحك الله عزَّ وجل نعمة أن تقابلها بالسجود لله عزَّ وجل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يسجد سجود الشكر لله عزَّ وجل، تلقيت نبأً ساراً، رزقك الله مولوداً كاملاً بدون أي مشكلة، لو لم يُغلق ثقب بوتال لاحتجت إلى مئتين وخمسين ألف ليرة، غلطة واحدة لعملية قلب مفتوح لإغلاق ثقب بوتال، أما هكذا قال الأطباء: ثقب مفتوح بين الأذينين، عند الولادة -هكذا قالوا- تأتي جلطة فتغلق هذا الثقب، بيد من؟ أية يدٍ تصل لداخل قلب الطفل لإغلاق هذا الثقب بين الأذينين؟
الله جلَّ جلاله، فأي غلطة بالجسم تحتاج إلى ملايين مملينة.
اجمع الأجهزة التي تنعم بها ثمنها ألف مليون، عملية زرع الكبد بفرنسا تكلف سبعة ملايين، لو تشمع الكبد، نجاحها ثلاثون بالمئة، فالكبد سبعة ملايين، الكلية أصبح ثمنها الآن مليونين، تبديل صمام، قال لي شخص: والله بدلت صماماً لكن لا أنام الليل يا أستاذ، لماذا؟ قال لي: أسمع طول الليل طرقاً –خردقة- أنت عندك صمام لا يوجد له صوت، أليست هذه نعمة؟ صمام له صوت لا تنام الليل، قال لي: لا أحس بالنهار لوجود الضجيج، لا أنام بالليل من صوت الصمَّام، توفي رحمه الله، هذه نعمة الصمام، صمام عدم رجوع،
هل هذه النعمة قليلة؟
نعمة الأوردة، لها وريقات، دسَّامات عدم رجوع، شيء دقيق جداً، نعمة أن الشريان داخلي والوريد خارجي لو الآية بالعكس، إذا جرح إنسان يموت فوراً، قال لي طبيب جرّاح: إذا أطلقت شرياناً نبض القلب للدم بالشريان يحرِّك الدم اثني عشرة متراً، يصل الدم أحياناً إلى السقف من نبضة قلب واحدة، جعل الله الشرايين داخلية،
والأوردة خارجية، الحركة بطيئة بالوريد، لا تخيف، أما الشرايين فكلها داخلية، في حرز حريز، هذه نعمٌ كبرى، فلذلك إخواننا الكرام المؤمن مع المُنْعِم، والكافر مع النعمة.
للنعمة مهمتان كبيرتان؛ أن تشكر الله عليها في الدنيا وأن تعرف الله من خلالها:
الآن آخر فكرة بالدرس، أية نعمةٍ لله عزَّ وجل في الإنسان لها وظيفتان كبيرتان؛ لها وظيفة تعريفية إرشادية، ولها وظيفة نفعية في الدنيا، الغرب بأكمله انتبه للوظيفة النفعية أما الوظيفة الإرشادية فهي أخطر وظيفة للنعمة، أن تعرف الله من خلالها، هناك نعمة سوف أقولها لكم قد لا تصدق لولاها لما وجدت على وجه الأرض إنساناً واحداً، هذه النعمة اسمها: آلية المَص، يولد الطفل الآن لتوه يضع فمه على ثدي أمه ويُحكم الإغلاق ويسحب،
هذه عملية معقدة، لو أن هذه الآلية غير موجودة، تفضل علمه إياها، هل يستطيع أب مهما كان ذكياً، لو كان معه دكتوراه بعلم التربية أن يعلّم ابنه الذي وُلِد لتوه: يا بابا الله يرضى عليك ضع فمك على ثدي أمك، وإيَّاك أن تنفس الهواء، وإلا لن يخرج لك الحليب، لا يفهم عليك شيئاً، انتهى كل شيء، فلولا نعمة آلية المص لما كان على وجه الأرض إنسان، هذه نعمة أيضاً.
أيها الإخوة؛ النعمة لها مهمتان كبيرتان؛ أن تشكر الله عليها في الدنيا، وأن تعرف الله من خلالها، فمن لم يحقق معرفة الله من خلال النعمة عَطَّل أكبر مهمةٍ للنعمة، وكنت أضرب مثلاً دقيقاً؛ عند أحدهم كتاب عن النحل والعسل، قرأه فتأثر تأثراً بالغاً، وفاضت عيناه بالدموع تعظيماً لله عزَّ وجل على هذه الإبداع في الخلق، لكن دخله بسيط جداً لا يسمح له بشراء العسل أبداً، ما ذاقه، لكنه عرف الله من خلاله، فهذا الإنسان الذي لم يذق طعم العسل، لكنه عرف الله من خلاله، هذا الإنسان حقق الهدف الأكبر من خلق النحل والعسل، والذي جعل العسل غذاءه هدفه الأساسي، ولم يفكر في خالق العسل، هذا عطّل الهدف الأكبر من خلق العسل، فالمؤمن مع المنعم ؛ والكافر مع النعمة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ .
في الدرس القادم إن شاء الله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ .
الملف مدقق