وضع داكن
26-04-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 19 - أسباب الصبر عن المعصية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

تعريف الصبر

 أيها الإخوة الكرام، يمكن أن يعرف الإيمان بكلمة واحدة: إنه الصبر، لأن الله أودع في الإنسان الشهوات، وبإمكانه من خلالها أن يفعل كل شيء، لكن الله سمح له بأشياء، وحرم عليه أشياء، فحينما يضبط نفسه، ويتحرك في المساحة المسموح بها يكون مؤمناً، وحينما يتحرك من دون قيد أو شرط يكون كافراً، إذاً الإيمان هو الصبر.
 الضبط بحث في علم النفس، يوضح هذا البحث الفرق بين الحيوان والإنسان، أيضاً في الحيوان شهوات، عند الحيوان المؤثر يقتضي الإجابة الفورية، كيف ؟ ضع أمام قطة قطعة لحم تجد استجابة فورية في أكلها، تملكها، لا تملكها، يجوز، لا يجوز، لعلها تحرج صاحب هذه اللحمة، مادام هناك طعام تشتهيه فلابد من أن تأكله، الحيوان تضربه فيضربك، لكن أحياناً الأب يضرب ابنه، والابن يبقى واقفاً، لعله يضرب صديقه لو ضربه، أما لو جاء الضرب من قِبل الأب يبقى في مكانه من دون أن يتحرك، الأمثلة كثيرة جداً، فالفرق بين الحيوان والإنسان أن في الحيوان مؤثر الاستجابة، والإنسان مؤثر تفكير استجابة، هذا ينقلنا إلى أن الإنسان أيضاً عنده شهوات، وهناك مؤثرات، لكن الإرادة التي هي قرار يلي المحاكمة، الإرادة تصميم على شيء تصميم على الامتناع، أو على الإقبال، القرار الذي يلي المحاكمة هو الإرادة.

 

أنواع الصبر

 فلذلك أيها الإخوة، في هذا الدرس سأتحدث عن أسباب الصبر عن المعصية، بالمناسبة هناك صبر على الطاعة، أنت حينما تصلي عشرين ركعة هذا شيء متعب، إنك تصبر، وأنت في الصلاة، والأقرب إلى الراحة أن تبقى في البيت، هناك صبر على الطاعة، هناك صبر عن المعصية، وهناك صبر على قضاء الله وقدره، فأنواع الصبر ثلاثة.

 

 

بنود المحاكمة التي تسبق قرار الابتعاد عن المعصية

 

 الحديث اليوم عن الصبر عن المعصية، المحاكمة التي تسبق قرار الابتعاد عن المعصية ما بنودها ؟

علم العبد بقبحها و دناءتها

 لأن القاعدة الأصولية أن الحسن ما حسنه الشرع، وأن القبيح ما قبحه الشرع، ولو ما أعجبك القبيح، ولم يعجبك الحسن، لأن هذا الشرع من عند خالق السماوات والأرض، ومن عند الخبير، وهو أعلم منك بأسباب سلامتك وسعادتك، فالمؤمن مستسلم لله عز وجل.
أضرب على هذا مثلاً دقيقاً: أن عالماً من دمشق ذهب إلى أمريكا، والتقى بمسلم حديث عهد بالإسلام، لكن من أساتذة الجامعات المتفوقين، وطُرح موضوع الخنزير، وهذا العالم الدمشقي جزاه الله خيراً تحدث ساعة وزيادة عن مضار لحم الخنزير، وعن الدودة الشريطية، وعن، وعن... فكان جواب هذا العالم: كان يكفيك أن تقول لي: إن الله حرمه، أنا لا أحتاج لكل هذه التفاصيل، لأن الذي حرمه هو الخالق، ببساطة بالغة أنت مع طبيب تقرأ على لوحته بورد، يحمل البورد، لا تفكر أن تناقشه، لا تفكر أن تعترض عليه، لأنك واثق من علمه، فإذا حرم الله عليك شيئاً  كمؤمن لا تحتاج إلى تعليلات، لأن هذا من عند الخبير، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾

 

[ سورة فاطر: الآية 14]

 إذاً حينما تعلم أن هذا الشيء محرم، وأن الله ما كان ليحرمه إلا لأنه يفسد عليك سلامتك وسعادتك، ولك ثقة بالله عز وجل تستجيب.
بالمناسبة، هذا الذي لا يقدم على شيء، أو لا يدع شيئاً إلا إذا علم الحكمة منه هذا لا يعبد الله، يعبد ذاته، لذلك قالوا: علة أية أمر أنه أمر.
تصديق سيدنا الصديق لرسول الله حينما قيل له: " إنه عرج إلى السماء قال: إن قال هذا فقد صدق ".
هناك جزء في حياتنا أساسه الثقة، ألا تثق أن هذا القرآن كلام الله ؟ أثق، ألا تثق أن الله هو الخير المطلق والرحمة المطلقة ؟ أثق، إذاً مادام الله قد حرمه انتهى الأمر، قال له: كان يكفيك أن تقول لي: إن الله قد حرمه.

 

العلاقة بين الشيء المحرم ونتائجه علاقة علمية

 فحينما يحرم الله شيئاً يجب أن تعلم أن العلاقة بين الشيء المحرم ونتائجه علاقة علمية، معنى علاقة علمية أيْ علاقة سبب بنتيجة، أنا حينما أمنع ابني أن يجلس على مقعد معين فهذا المنع وضعي، المقعد أعد للجلوس، لكنني لسبب أو لآخر منعته على أن يجلس على هذا المقعد بالذات، فإذا جلس فقد عصاني، لكن العلاقة بين المعصية وبين النتيجة ليست علمية، إنما هي وضعية، جلس على مقعد أعد للجلوس، لكن الأب منعه، فلما جلس عاقبه، فالعلاقة بين العقوبة والجلوس ليست علاقة علمية، بل هي علاقة وضعية، الأب وضع هذه القاعدة، أما حينما يضع الابن يده على المدفأة، وهي مشتعلة تحترق اليد، نقول: العلاقة بين وضع اليد واحتراقها علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة، أنت حينما توقن أن العلاقة بين المعصية ونتائجها علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة تستسلم لله عز وجل.

 

 

الحياء من الله

 

 فإن العبد متى علم أن الله ينظر إليه، وأنه بمرأى ومسمع، وكان يستحي من ربه، يستحي أن يعصيه، والله مطلع عليه هذا سبب آخر.

علمه اليقيني أن المعاصي تزيل النعم

 أنت حينما تعصي الله كأنك تطلب من الله أن يزيل عنك النعم، وهذا المعنى ورد بآية قرآنية، قال تعالى:

 

﴿ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾

 

[ سورة سبأ: الآية 19]

 معنى ذلك أن تكون المسافة بين البلدين مسافة طويلة، لا نبات، ولا شيء من هذا القبيل، أحيانا تنتقل مثلاً من بلد إلى بلد، لكن الطريق كله أخضر، وكله أكمات، وكله أشجار، وكله أنهار، لا تشعر أن المسافة طويلة، أما حينما تنتقل فرضاً من حمص إلى دمشق غير انتقالك من طرطوس إلى اللاذقية، يوجد فرق كبير.

 

﴿ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾

 يعني يا رب امحق بلادنا، يا رب اجعل بلادنا جرداء، هل في الأرض قوم يدعون بهذا الدعاء ؟ ما معنى الآية إذاً ؟ أنت حينما تعصي الله كأن لسان حالك يقول: يا رب دمرني، يا رب أزل عني النعم، يا رب امحقني، يا رب أفقرني، يا رب عاقبني، لسان حالك هكذا، إذاً السبب الثالث  أن المؤمن يوقن أن المعاصي تزيل النعم، قال تعالى:

 

 

﴿ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾

 

[ سورة الجن: الآية 16]

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾

[ سورة المائدة: الآية 66]

 قال:
 إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم

 

خوف الله وخشية عقابه

 إن لكل سيئة عقاباً، حتى إن بعض الشباب ممن تتلمذ على بعض الشيوخ، وقد أعلمه شيخه أن لكل سيئة عقاباً، فلما زلّت قدمه بحسب كلام شيخه هو ينتظر العقاب، لم يحدث شيء، مضى أسبوع، وأسبوعان، ثم ناجى ربه فقال: يا رب، لقد عصيتك فلم تعاقبني ؟ قيل: وقع في قلب هذا الشاب: أنْ يا عبدي قد عاقبتك ولم تدر، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟
أنت حينما تكون في طاعة فالطريق إلى الله سالك، والخط ساخن، والخط مفتوح دائماً، أما حينما تعصي الله فالطريق إلى الله مسدود، والخط غير ساخن، ومقطوع، وما قيمة جهاز هاتف غال جداً، لكن بلا خط هاتفي، لا قيمة له إطلاقاً، فالإنسان حينما يعصي الله يقطع العلاقة بينه وبين الله.
 حدثني أخ زار هولندا، وتصفح مجلة رأى فيها إعلانًا لهاتف خلوي، أن رجل دين تشع الأنوار من رأسه موصول بالله مرت فتاة متبذلة، فأحدّ النظر فيها، فأطفأت أنواره، ثم قيل له: بهذا الخط تعيد الاتصال مع الله، هذا كإعلان، لكن الإنسان حينما يعصي الله ينقطع، ويصبح خطه مع الله مقطوعاً، وطريقه إلى الله غير سالك، إذاً السبب الرابع خوف الله وخشية عقابه.

 

 

السبب الأقوى لترك المعاصي حب الله

 الذي يحب الله عز وجل، والذي يسوق نفسه إلى بابه بدافع الحب هذا أعلى من الذي يسوق نفسه إلى بابه بدافع الخوف، لأن العلاقة التي أرادها الله بين العباد ورب العباد علاقة حب، لذلك الله عز وجل قال:

 

 

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

 

[سورة البقرة: من الآية 256]

 لا يريدك إلا أن تأتيه طائعاً، أن تأتيه محباً، أن تأتيه بمبادرة منك، لأنه يحبهم، ويحبونه، أراد الله أن تكون العلاقة بينه وبين عباده علاقة حب، فالذي يعصي الله يعبر عن عدم حبه لله، فحينما تنعقد صلةُ الإنسان بالله يخشى على هذه الصلة أن تنقطع، هو يستقيم لأنه يحب الله، هذا الذي أحب فتاة سواء قيس لبنى أو مجنون ليلى، يحبها وبعيره يحب ناقتها من شدة محبته لها، يضاف إلى هذا البند أن المحبة وحدها لا تكفي، بل لابد من أن تقترن بإجلال المحبوب، فقد يحب الإنسان ابنه الصغير، لكنه لا يجله، ينبغي أن تقترن محبة الله عز وجل بالإجلال، جل جلاله.
بالمناسبة، أنت في علاقاتك الاجتماعية قد تجد إنساناً تحبه، ولا تجله، أو إنسان له والدة يحبها حباً جماً، لكنها غير متعلمة، هو معه دكتوراه، فيحبها، ويتمنى رضاها، وهو في خدمتها، لكنه يعلم أن أفقها ضيق جداً.
 مرة امرأة ما صدقت أن الإنسان صعد إلى القمر، الدليل أن حجمه صغير جداً، لا يتسع لإنسان، هكذا ثقافتها، إنسان ألقى درساً في المسجد، وظن أن حبل السرة فيه هواء يتنفس الجنين عن طريقه، فالإنسان أحيانا يكون أفقه محدودًا، ويتكلم، قد تحبه، ولا تجله، وأحيانا يكون عندك أستاذ في الجامعة تقدر علمه، ولا تحبه، تقول عنه: لئيم، قاس، لا يرحم، تجله ولا تحبه، وقد تحبه ولا تجله، لكن أعظم ما في الذات الإلهية أنك بقدر ما تجله بقدر ما تحبه.

 

﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾

 

[ سورة الرحمن: الآية 78]

 الفطرة
الله عز وجل فطرك فطرة عالية عزيزة، تحب أن تكون عالياً، تحب أن تكون عزيزاً، هذه الفطرة تمنعك أن تعصي الله، فكيف بإنسان له مكانة في المجتمع، والطريق ممنوع، لا يمر في الطريق الممنوع مع أنه أقصر، يقول لك: أنا لا أتضعضع أمام شرطي، مكانتي لا تسمح لي أن أعتذر أمام شرطي، فيسلك الطريق الأطول المسموح، ولا يسلك الطريق الأقصر، لأن مكانته كبيرة جداً.

 

قوة العلم بحتمية عاقبة المعصية

 

 أحد الأسباب أيضاً التي تمنعك أن تعصي الله: قوة العلم بحتمية عاقبة المعصية، والله أيها الإخوة، وهذا الكلام خذوه على محمله الحقيقي: يكاد المؤمن، يكاد لا تعني أن الشيء وقع، لو قلت: كدت أقع هل وقعت ؟ هذا الفعل عجيب في اللغة، إن أثبته فهو منفي، وإن نفيته فهو مثبت، ما كدت أقع حتى قمت، معنى هذا أنني وقعت، مع أن الفعل منفي، أما كدت أقع، لم تقع، يكاد المؤمن يعلم الغيب، هل يعلم الغيب ؟ لا، أما حينما ترى إنسانا يأكل أموال الناس بالباطل، حينما ترى إنسانا يزهق أرواح الناس بالباطل يجب أن تعلم علم اليقين أنه لابد له من مصير أسود، تكاد تعلم الغيب، لذلك الإنسان المستقيم أنا أكاد أقول: تنتظره حياة طيبة، والإنسان المنحرف أكاد أقول: تنتظره مصائب تلو المصائب، هذه قضايا ثابتة، أنت لو قيل لك: إنسان يركب مركبة في طريق ضيق، عن يمين الطريق واد سحيق، وعن يساره واد سحيق، والطريق كله انعطافات، وفي الليل وفجأة انطفأ ضوء المركبة، تقول: الحادث حتمي، الطريق متعرج، فالحادث بالمئة مئة، هل معنى ذلك أنك تعلم الغيب ؟ لا، تعلم القوانين، و كذلك الذنوب تميت القلوب، وتفقر بعد الغنى، والرزق ينقص بعد العطاء، ويحرم حلاوة الطاعات، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟ وكل ذنب يستدعي ذنباً آخر، والإنسان بالتعبير المعاصر باللغة الأجنبية (ديناميكي )، ويقابله (ستاتيك ) أي سكوني، فكل طاعة تستدعي طاعة، يقول: تداعيات، مصطلح يستخدم بالأخبار، المعصية تداعياتها معصية أخرى، معصية ثالثة، رابعة.. والطاعة تداعياتها طاعة ثانية، ثالثة، رابعة، خامسة، ويعلم الإنسان أن هذه المعصية فوت عليه من الخير الشيء الكثير.

ثبات شجرة الإيمان في القلب

 شيء آخر يدعو إلى ترك المعاصي، وهو جامع لكل هذه الأسباب: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، حتى أكون واقعيا المعاصي محببة، هؤلاء المنغمسون بالمعاصي، كالبهيمة تماماً، رأوا قطعة لحم فأقبلوا عليها، ألغيت المحاكمة في أذهانهم، المعاصي تتوافق مع الطبع، والمعاصي تتناقض مع الفطرة، فلذلك لو أن المعاصي غير محببة لابتعد الناس عنها، أكبر شاهد أن العمل الحرام محبب، والعمل الحلال فيه مشقة،

(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

، هكذا استرخاء، تأكل ما تشاء، تلتقي مع من تشاء، تفعل ما تشاء، تتكلم ما تشاء،

(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[أحمد]

 هناك جهد، يقول لك: تكاليف، أي ذات كلفة، تكلف الإنسان جهداً ومشقة، فقوة الإيمان في القلب تدعو العبد إلى الصبر عن المعاصي، وكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، هذا أكبر سبب يعين على الصبر، قوة الإيمان، و هناك شواهد كثيرة من حياتنا.
 دخل طالب كلية الطب، فبنى آمالا أن يأخذ دكتوراه، ويسافر إلى بلاد بعيدة فيأتي بالبورد، ويفتح عيادة، وهو في أناقة، في ملبسه، أناقة في بيته، محترم، معزز، مبجل، دخلٌ فلكي، يدعى لمؤتمرات، هذه الصورة الجميلة، وهو يدرس الساعة الثانية، وهو يقول: سأتابِع حتى أنجح، ما الذي يدعوه إلى الصبر على الدراسة ؟ هذه الرؤية لمستقبل الإنسان حينما يتخرج، فلذلك أنت حينما تعلم ماذا ينتظر المؤمن من سعادة أبدية تصبر على كل شيء.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور