الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ملخص للدروس السابقة من سورة البقرة:
أيها الإخوة الكرام مع الدرس التاسع من سورة البقرة، مع الآية الواحدة والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
كان هناك في الدروس السابقة وصفٌ للمؤمنين في خمس آيات، ووصفٌ للكُفَّار في آيتين، ووصفٌ للمنافقين في ثلاثَ عشرةَ آية، وانتهت الآيات آيات المنافقين بمثلين دقيقين؛ الأول: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ هؤلاء المنافقون الذين انتفعوا بكفرهم، هم في الحقيقة كُفَّار، لكن مصالحهم متعلقةٌ بالمؤمنين فنافقوا، هم: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ .
المنافق هو من أَظْهَر الإيمان وأبطن الكفر وهو الأخطر على الإسلام:
أما النموذج الآخر ضَعُفَ إيمانهم، وكَثُرَت الشُبُهات في عقولهم، فمالؤوا المؤمنين، وضعفت نفوسهم عن الالتزام التام، هؤلاء يُرجى لهم الشفاء، لذلك لم يُخْبر النبي عن أسمائهم، بل أَسَرَّ أسماءهم لسيدنا حُذَيفة،
الزمرة الثانية:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ هؤلاء يتعلَّقون بالمغانم ويبتعدون عن المغارم، هؤلاء يحبون ثمار الإيمان ولا يدفعون ثمن هذه الثمار:
﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ .
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾
انتهى وصف المؤمنين، والكفار، والمنافقين، والحقيقة هناك رجلان؛ مؤمنٌ وكافر، أما الثالث فهو من أَظْهَر الإيمان وأبطن الكفر.
الأول واضح، والثاني واضح، الأول جريء قَبِلَ الحق وقبض ثمنه، والثاني ردَّ الحق ودفع الثمن باهظاً، أما الثالث فجبان، لم يجرؤ على أن يلتزم، ولم يجرؤ على أن يكفر، فهو بَيْنَ بَيْن، مصدر الخطر من الثالث، لأن الأول ينفعك، والثاني تحذره، أما الثالث فيغشك، لذلك يُخشى على الدين لا من أعدائه، بل من أدعيائه من المنافقين، والمنافق هنا من كان عليم اللسان، جاهل القلب، من كان عمله غير قوله، من أظهر ما لا يُبطن، ومن أبطن ما لا يُظهر.
من سنة الله أنَّه يُخاطب عامَّة الناس بأصول الدين ويخاطب المؤمنين بفروع الدين:
أيها الإخوة؛ ننتقل الآن إلى فقرةٍ جديدة من الآيات:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
من سنة الله جلَّ جلاله أنَّه يُخاطب عامَّة الناس بأصول الدين بينما يُخاطب المؤمنين بفروع الدين، أي ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ هذا توجهٌ عام لكلِّ البشر ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أما:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾
يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، أي يا من آمنتم بي، يا من عرفتموني، يا من عرفتم رحمتي، يا من عرفتم سرّ وجودكم، يا من خُلِقتم لسعادةٍ أبدية افعلوا هذا ولا تفعلوا هذا، هناك عَقدٌ إيماني مع الله.
مهمة المؤمن أن يتحرَّى أمر الله ويطبِّقه فقط:
المؤمن كأنه على عقدٍ إيمانيٍ مع الله عز وجل، من لوازم هذا العقد أن يطبق كل ما جاءه عن الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
باع نفسه، والثمن هو الجنة، ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ يخاطب الله عزَّ وجل عامَّة الناس بأصول الدين، ويخاطب المؤمنين بفروع الدين، المؤمن آمن بالله، وعرف لماذا خلقه الله، عرف أنه قد خُلِقَ لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وعرف أن هذه الجنة ثمنها طاعة الله عزَّ وجل، وتلقَّى الأمر عن الله عزَّ وجل، المؤمن ما عليه إلا أن يتحرَّى أمر الله ويطبِّقه فقط، مهمة المؤمن الأولى أن يتحرَّى أمر الله ويطبِّقه، لكن الشاردين البعيدين، الذين بعدوا عن الله عزَّ وجل، الذين تعلَّقوا بالدنيا، هؤلاء الكفار يخاطبهم الله عزَّ وجل بشكلٍ عام: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ .
الإنسان مخلوقٌ على وجه الأرض من أجل أن يعبد الله عزَّ وجل:
أيها الإخوة؛ أكبر سؤالٍ يُطْرَحُ علينا هو: لماذا نحن في الدنيا؟ لماذا خُلقنا؟ صدقوني أيها الإخوة أن ملايين طائلة من الناس يتحركون كل يوم، يعملون عملاً شاقاً، يكسبون الأموال، يسكنون البيوت، يتزوَّجون، يسافرون، يتاجرون، يفرحون، يمرحون، ولا يعلم أحدهم لماذا خلقه الله؟ أنت إذا ذهبت إلى بلد، ونزلت في أحد فنادقه، واستيقظت صبيحة اليوم الأول، وتناولت طعام الفطور، وارتديت ثيابك قد تسأل: إلى أين سأذهب؟
نحن نسألك لماذا جئت إلى هنا؟ إن جئْتَ هذا البلد تاجراً فاذهب نحو المعامل والمؤسسات، وإن جئته سائحاً فاذهب نحو المقاصف والمتنزَّهات، وإن جئته طالب علمٍ فاذهب نحو المعاهد والجامعات، متى تَصِحُّ حركتك؟ إذا عرفت سرَّ وجودك، هذا سؤال دقيق جداً يجب على كل منا أن يسأله بشكلٍ جاد، ليسأل نفسه: لماذا أنا في الأرض؟ الذي خلقني في الأرض لماذا خلقني؟ إن كنت تعرف فهذه نعمةٌ عظمى، وإن كنت لا تعرف فربنا أخبرك، أخبرك فقال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
شيءٌ يغيب عن معظم الناس، أنت مخلوقٌ على وجه الأرض من أجل أن تعبد الله وحده، نُرسل أحياناً طالباً إلى بلد أجنبي، هناك آلاف الأبنية، آلاف الأماكن، دور لهو، دور سينما، ملاعب، مسارح، متاحف، مقاصف جميلة، مكتبات، صناعة، تجارة، هذا الطالب الذي ذهب إلى هذا البلد له هدفٌ واحد أن يأتي بدكتوراه، هدفٌ واحد، إذا كان هذا الهدف ماثلاً في ذهنه، واضحاً في فكره، يُحَقِّق هذا الهدف، أما إذا ذهب إلى بلدٍ أجنبي ودُهِش، يوم في مسرح، ويوم في سينما، ويوم في ملهى، ويوم في متحف، ويوم يقرأ قصة، ويوم في مُتَنَزَّه، مضى العام الدراسي ولم ينتسب للجامعة، هذا يحقق إخفاقاً كبيراً جداً، لأنه ما عرف سرّ وجوده هناك، لو عرف سرّ وجوده لما فعل هذا.
خُلِق الإنسان للجنة ولكن هذه الجنة لابدَّ لها من ثمن:
يا أيها الإخوة الأكارم؛ كلامٌ دقيق، أكبر سؤال يجب أن تسأله نفسك: لماذا أنا هنا على وجه الأرض؟ متى تعرف الحقيقة ناصعةً؟ حينما يأتي ملك الموت:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
إذاً أعظم شيء في هذه الدنيا أن تعمل صالحاً، لأن عملك الصالح طريقُك إلى الجنة، العمل الصالح ثمن الجنة، أنت في الأصل مخلوقٌ للجنة، أنت في الأصل مخلوقٌ لجنةٍ إلى أبد الآبدين فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حينما خُلقت، يوم خُلقت خُلِقتَ للجنة.
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
خلقك ليرحمك، خلقك ليُسْعدك، ولكن هذه السعادة الأبدية المتنامية لابدَّ لها من ثمن، والدليل: اجلس مع إنسان حَصل على دكتوراه فَخْرِية، زار بلداً، أُقيم له احتفال ومنح هذه الدكتوراه الفخرية، واجلس مع إنسان حصل على دكتوراه حقيقية، درس ثلاثاً وثلاثين سنة، وألَّف أطروحة، ونجح نجاحاً باهراً، فرق كبير بين مَن بذل هذا الجهد ونال هذه المرتبة وبين من أخذها بلا سبب وبلا جُهد.
عندما حمل الإنسان الأمانة سُخِّرَت له الأكوان:
من أجل أن تسعد في الآخرة سعادةً متنامية إلى أبد الآبدين، من أجل أن تحتلّ أعلى مرتبةٍ نالها مخلوق، من أجل أن تصل إلى أعلى مرتبة، لأن:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
لمَّا حملها الإنسان سُخِّرَت له الأكوان، مُنح عقلاً هو أعظم آلةٍ في الكون، مُنٍحَ فطرةً سليمة تدلُّه على خطئه، مُنِح كوناً مسخَّراً له تسخير تعريفٍ وتسخير تكريم، مُنح شهوةً محرِّكه إلى الله عزَّ وجل يرقى بها مرَّتين، يرقى بها صابراً ويرقى بها شاكراً، مُنِح حرية اختيار ليُثَمَّنَ عملُه، ليأتي ربه طائعاً لا مُكْرهاً، الإنسان مُخَيَّر فيه شهوات، سلمٌ يرقى به، فيه عقل أداة معرفة الله، القوة الإدراكية الأولى.
أي ما يجري ماذا فعل هذا العقل البشري؟ وصل إلى القمر، وإلى المريخ، وإلى المشتري، غاص إلى أعماق البحار، نقل الصورة ملونةً عَبْرَ القارَّات الخمس، أنجز إنجازاً مُذهلاً، لو بذل الإنسان من هذا الجهد واحداً بالمليون لوصل إلى الله فسعد بقربه، العقل البشري الآن له إنجازات ضخمة لكِنَّه مع الأسف الشديد لم يُستخدم لما خُلِقَ له، استُخدم للدنيا فأنتج الأعاجيب، ولو أنه استُخدم للآخرة لكان سبب سعادة الأمم والشعوب.
أيها الإخوة الكرام؛ يجب أن تعلموا علم اليقين أن علَّة وجودك على وجه الأرض أن تعبده، وللناس مفاهيم ساذجةٌ في العبادة، أي نطيعه،
﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ فعلاً أطيعوا ربكم، لكن أطيعوا ربكم طاعةً طَوعية وليست قسرية، حينما تطيع الله مقهوراً هذه ليست عبادة، أنت تطيع أي إنسان قوي هل تُعَدُّ عابداً له؟ قد تكرهه، لكن العبادة التي أرادها الله هي الطاعة الطوْعية الممزوجة بالمحبة القلبية، المبنية على معرفةٍ يقينية، التي تُفضي بك إلى سعادة أبدية، هذه هي العبادة، طاعةٌ طوعية مبنيةٌ على معرفةٍ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية، هذا المفهوم يدلُّنا على أن في الإسلام كُلِّيةً علمية، وكليةً سلوكية، وكليةً جمالية، في الكلية العِلمية لابدّ من أن تطلب العلم، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه، أدنى مراتب الإيمان معرفة، أدنى مراتب الإيمان علم:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
وقال:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾
أول مرحلة في عبادة الله أن تعرفه:
اعتمد الله جلَّ جلاله قيمة العلم، فالعلم قيمةٌ مُرَجِّحةٌ بين الخلق، لذلك: الناس رجلان عالمٌ ومتعلِّم ولا خير فيمن سواهما، رجلان، وليس أجر العالم بأكثر من أجر المتعلِّم. تواضعوا لمن تتَعَلَّمُون منه وتواضعوا لمن تُعَلِّمُون، مشاركة، الحقيقة التعليم تعاون، تبادل خبرات:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾
فالعبادة معرفة، أول مرحلة في عبادة الله أن تعرفه وإلا تعبد من؟ تخافُ ممن؟ تحبُّ من؟ ترجو رحمة من؟ تخشى عذاب من؟ أصل الدين أن تعرف الله، إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في تطبيق الأمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلُّت من أمره، وهذا ما يفعله معظم الناس، يبحث عن فتوى مهما تكن ضعيفة يقبلها ويعتمد عليها ويقول: إن شاء الله بذمة من أفتى بذلك، ولو أنَّك استخلصت فتوى من فم رسول الله سيد الخلق وحبيب الحق ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله، فهذا الذي يتعلَّق بفتوى من بني البشر هناك خللٌ في عقله، الله جلَّ جلاله هو الذي سيحاسب:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
فالعبادة طلب علم.
من أساسيات الإيمان بالله أن تعرفه من خلال أسمائه الحُسنى:
المشكلة أيها الإخوة أنَّ معظم الناس يطلبون العلم الشرعي إذا كان عندهم وقت فراغ، الأصل كَسْبُهم للمال، الأصل مصالحهم، الأصل أهواؤهم، أي إذا كان هناك درس قصير، ممتع جداً، يوجد جلسة مريحة يأتي، يأتي ليزيد من مُتَعِ الدنيا، الأمر غير ذلك، طلب العلم حتم واجبٌ على كل مسلم، طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم.
كيف أن الهواء فرض لبقائنا، نموت فوراً من دون هواء، الهواء فرض أي أساسي في بقائنا، شرب الماء أساسي في بقائنا، تناول الطعام والشراب أساسي في بقائنا، الزواج أساسي في بقاء النوع، كذلك العلم أساسي في سلامتك وسعادتك، فإذا قلتُ لك: اعبد الله، أي اطلب العلم من أجل أن تعرف من ينبغي أن تعبد، لأن الناس يعبدون بعضهم بعضاً، لأن معظم الناس اتخذ إلهه هواه.
جلس عالم في أمريكا في حديقة إلى جانب إنسان أمريكي، فتعرَّف عليه، عرف أنه من بلاد الشرق الأوسط، وأنَّه مُسلم، فقال له: هل تحدثني عن دينك؟ فهذا العالم بارعٌ في الحديث، يُتقن اللغة الأجنبية، حدَّثه عن الإسلام، وعن عقيدة المسلمين، وعن أخلاق المسلمين، وعن عبادات المسلمين، بعد أن انتهى من حديثه كله أخرج هذا الأمريكي من جيبه دولاراً، وقال: هذا إلهي أعبده من دون إلهك.
هم هكذا، يعبدون الدرهم والدينار، بل إنَّهم -وهذا شيءٌ غريب-اقتبسوا من الإسلام حقائق تنفعُهم في حياتهم الدنيا، فإذا ذهبت إلى بلدٍ غربي ترى أن إيجابِيَّات هذا البلد إسلامية، لكن لا حباً بالله، ولا طاعةً له، ولكن حباً بالدرهم والدينار.
أيها الإخوة؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي اطلبوا العلم من أجل أن تعرف من ينبغي أن تعبد، لماذا تعبد الله؟ لماذا ترجوه وحده؟ لماذا تخافه وحده؟ لماذا تعلِّق الأمل على رضاه وحده؟ لماذا تُفني شبابك في سبيله؟ لماذا تنفق مالك من أجله؟ لماذا تُعادي من تعادي في سبيل الله وتصالح من تصالح في سبيل الله؟ ينبغي أن تعرف من هو الله؟ لذلك جزءٌ من معرفة الله أن تعرف أسماءَهُ الحسنى ؛ كيف أن الله رحيم، كيف أنه حكيم، عليم، قدير، سميع، مجيب، رؤوف، لطيف، قوي، جبَّار، مُهَيْمِن، منتقم، رافع خافض، مُعِزٌّ مُذِلّ، ضار نافع، جزءٌ أساسي من إيمانك أن تعرف الله من خلال أسمائه الحُسنى، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ يتوهَّم الناس أنها كلمة، أخي اعبد ربك، لا ليست كذلك، العبادة طاعةٌ طوعيةٌ مع محبةٍ قلبية أساسها معرفةٌ يقينية.
لا هدف يعلو على طلب العلم ولا شغل يفوق أن تشتغل بمعرفة الله عزَّ وجل:
كم من الوقت بذلت لمعرفة الله؟ اِسأل إنساناً يحمل دكتوراه، يدرس ثلاثاً وثلاثين سنة من أجل أن يضع على بطاقته حرف الدال قبل اسمه، وقد لا يستفيد من هذه الدراسة المدةِ التي قضاها في الدراسة، مستحيل، مستحيل أن يستفيد إنسان من الدكتوراه بسنواتٍ توازي سنوات الدراسة، أقل بكثير، سنوات معدودات بعدها، من أجل أن تنال درجة في الدنيا تبذل هذه الدراسة الطويلة ومن أجل أن تعرف الله وأن تعرف هذا المصير الأبدي ألا تحتاج إلى طلب العلم؟ هذا الذي يقول لك: ليس عندي وقت فراغ لأحضر مجلس علم هذا إنسان جاهل، كما لو أن إنساناً ذهب إلى بلدٍ أجنبي لينال دكتوراه وقد وُعِد بأعلى منصبٍ في بلده حينما يعود –مثل افتراضي-ووُعِد بأفخر بيتٍ حينما يعود، وبأجمل زوجةٍ حينما يعود، ويأتي وقت الدوام في الجامعة، وليس له عمل إطلاقاً في هذا البلد إلا نيل هذه الشهادة، يقول: والله لا يوجد عندي فراغ لأحضر المحاضرات، إذاً عندك فراغ لماذا؟ إذا كان الهدف الأول من هذا السفر الطويل، وهذه المشقَّة، أن تنال هذه الشهادة من هذه الجامعة، وحينما حان وقت الدوام تقول: ليس عندي وقت؟! لا هدف يعلو على طلب العلم، ولا شُغل يفوق أن تشتغل بمعرفة الله عزَّ وجل، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي اعرفوه، تفكَّر في خلق السماوات والأرض، هل تصدق أن في أنفك عشرين مليون نهاية عصبية؟ في كل نهايةٍ عصبية سبعة أهداب، كل هُدْبٍ محاط بمادةٍ مخاطية تتفاعل مع الرائحة، ينتج عن هذا التفاعل شكلٌ هندسي، كرة، موشور، أسطوانة، مفتاح، يُنقل هذا الشكل الهندسي إلى الدماغ إلى الذاكرة الشَمِّية التي تحوي ملفاً فيه عشرة آلاف بند، يُعرض هذا الشكل الهندسي الذي هو مُحَصِّلة تفاعل الرائحة مع الأهداب على عشرة آلاف بند، توافق مثلاً مع البند خمسمئة وأحد عشر، ياسمين، في لمح البصر.
﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)﴾
آيات دالة على عظمة الله عزَّ وجل:
هناك آيات في جسمك والله لا تكفي سنوات وسنوات لشرحها، في جسمك الذي هو أقرب شيء إليك، الذي هو أقرب آيةٍ دالةٍ على عظمة الله عزَّ وجل، شعرُك ثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعرةٍ عضلة، وعصبٌ محرك، وغدةٌ دهنيةٌ، وغدة صبغيةٌ، ووريدٌ وشريان في كل شعرة، يوجد مئة وثلاثون مليون عُصَيِّة ومخروط في شبكية العين، عصب العين تسعمئة ألف عصب، تفرز المعدة خمسة وثلاثين مليون عصارة هاضمة، تحوي الكلية مليون نفروناً، يسير الدم في الكليتين في اليوم الواحد ما مقداره مئة كيلو متر ليتصفَّى، يضخ قلبك في اليوم الواحد ثمانية أمتار مكعبة، قد تستهلك في العام كلِّه متراً مكعباً من الوقود السائل، وقلبك يضخ في اليوم الواحد ثمانية أمتار مكعبة، ويضخ في عمرٍ متوسط ما يملأ أكبر ناطحة سحابٍ في العالم، القلب ينبض ليلاً نهاراً وأنت نائم لا يمل ولا يَكَل.
يا أيها الإخوة الكرام؛ حينما يقول الله عزَّ وجل:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي اعرفوه أولاً، ولا شيء يعلو على معرفة الله، والله أيها الإخوة لو عرفنا ما نحن قادمون عليه في الدار الآخرة لشُغِلنا عن كل شيء بمعرفة الله، لشُغلنا عن كل شيء، ولأمضينا الوقت كله في معرفته وطاعته، لأن هذه السنوات المعدودة التي نمضيها ستحدد مصيرنا الأبدي، أنت لاحظ مثلاً الطلاب، ينجح الطالب من الصف السابع إلى الثامن، كله ناجح، سواء أكان في المرتبة الأولى أو الأخيرة، من السابع إلى الثامن، ثامن تاسع، تاسع عاشر، التاسع فيه مصير، إما تعليم عام وإما مهني، إذا لم يحصل على مئتين أو مئة وثمانين علامة فليس له مكان في التعليم العام، دخل تعليماً عامّاً: عاشر، حادي عشر، ثاني عشر، الآن ستحدد علاماته مهنته، حصل على علامات طب صار طبيباً، حصل على علامات مهندس، حصل على علامات صيدلي، أتى بعلامات شريعة، أتى بعلامات حقوق، أتى بعلامات علوم، رياضيات -مثل للتقريب-أي علاماته في هذه الشهادة مصيرية، ستحدد مصيره في الحياة، تُحدد حرفته، مكانته الاجتماعية، وأنت في هذه السنوات المعدودات سوف يتحدد مصيرك الأبدي إلى أبد الآبدين، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، إما جنةٌ يدوم نعيمها أو نارٌ لا ينفد عذابها.
الآيات الكونية في القرآن منهج للتفكُّر:
حينما يقول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ تعرفوا إليه، تعرف إليه من خلقه، في القرآن الكريم ألفٌ وثلاثمئةٍ واثنتان وعشرون آية كونية، ما الهدف منها؟ لماذا جعل الله سُدُس القرآن آيات كونية؟ للتسلية؟! للقراءة؟! أم كي نتعرف إلى الله من خلالها؟ جعل الله هذه الآيات منهجاً للتفكُّر، لما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)﴾
لو أن الله كلَّفنا أن نُخَزِّن المياه التي نستعملها طوال العام يحتاج كل منا إلى مستودع يساوي حجم بيته تماماً، مثلاً لو كانت مساحة بيته مئة وخمسين متراً مضروبة بثلاثة أمتار، أربعمئة وخمسون متراً مكعباً تحتاج الأسرة في السنة كلها، نريد ضعف أبنية العالم، قال الله عزَّ وجل: ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ تجد نهراً كالأمازون كثافته في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف متر مكعب، هذه دمشق الشام فيها خمسة ملايين ونصف إنسان، ويوجد قول: ستة ونصف في النهار، تشرب كلّها من نبع الفيجة، كثافته ستة عشر متراً مكعباً في الثانية: ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ مُخَزَّن في هذا الجوف الجيولوجي الذي يمتد إلى حمص، ونصف لبنان فوق هذا الجيب الجيولوجي، يمتد هذا الجيب قريباً من تَدْمُر، الحقل أو المستودع الجيولوجي لهذا النبع: قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ .
معرفة الله تعالى توصلنا إلى طاعته:
عندما يشرب الإنسان ماء القوارير يفاجأ أنه يحوي ثلاثة عشر معدناً، منغنيز وصوديوم، ماء معدني، هل فكَّرت في هذا الماء؟ هل فكَّرت في هذا الهواء المتوازن؟
نحن نستهلك الأوكسجين دائماً، ومن جعل النبات يستهلك عكسنا؟ يستهلك النبات غاز الفحم ويعطي الأوكسجين، هذا التوازن الرائع دائماً نسب الأوكسجين ثابتة في الهواء الخارجي، من فعل هذا؟! ألف آيةٍ وآية، أينما تحرَّكت، أينما نظرت؛ في طعامك، في شرابك، في ابنك، في النبات، في الطير، في السمك، في الجبل، في السهل، في البحر.
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنَّه واحدُ
﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي تعَّرفوا إليه من أجل أن تطيعوه، لأن العبادة طاعةٌ طوعية تسبقها معرفةٌ يقينية تُفضي إلى سعادةٍ أبدية.
يا أيها الإخوة الكرام؛ طلب العلم فرض على كل مسلم.
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتَهُما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلَّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظلُّ المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنَّ أنَّه قد علِم فقد جهل، العلِم، ثم العلِم، ثم العلم، ولعالم واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد.
كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك.
هذه الكُلِّية الأولى، لابدّ من أن تزداد كلَّ يومٍ علماً بالله عزّ وجل، ورد في بعض الأدعية أن "لا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله قرباً" .
والمساجد مفتَّحةٌ على أبوابها، مفتَّحةٌ على مصاريعها من أجل طلب العلم، لابدّ لك من درسٍ أسبوعي، لابدَّ لك من أن تفهم كلام الله، لابدّ لك من أن تعرف سنة رسول الله، لابدَّ لك من أن تعرف سيرة رسول الله، لابدَّ لك من أن تعرف أحكام الفِقْه، لابدَّ لك من أن تعرف أسلوب الرقي الرُوحي، هذا كلُّه تأخذه في المسجد، لذلك: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي اعرفوا ربَّكم لأن العبادة طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية.
الآن السلوك، البند الثاني في العبادة هو السلوك، أي إسلام انتماء لا معنى له، إسلام فولكلوري، مظاهر، لا معنى له، إسلام تعاطف لا معنى له، خلفية إسلامية -مصطلحات جديدة-وأرضية إسلامية، ونزعة إسلامية، واتجاه مُحافظ، وثقافة إسلامية، ومشاعر إسلامية، هذا كلُّه لا يُجدي، لابدَّ من أن تضبط كل شيء وفق منهج الله، لابدَّ من أن تضبط دخلك، هذا القرش من أين اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ هذا البيت الذي هو بيتك هل أقمت الإسلام فيه؟ هذا العمل الذي هو عملك هل كنت صادقاً فيه؟ هل نفعت المسلمين؟
المؤسف أيها الإخوة أن بعض الناس يتوهَّمون أن الإسلام هو هذه العبادات أي صلى وصام وحج وزكّى وانتهى الأمر، أما حياته فهي حياة أخرى لا علاقة لها بالإسلام إطلاقاً، أنا أكاد أقول: الإسلام مئة ألف بند، الصلاة واحدة، والصيام، والحج، والزكاة، خمسة من مئة ألف، تقريباً كل شيءٍ له حكمٌ شرعي؛ إما أنه فرض، أو أنَّه واجب، أو أنه مندوب، أو أنَّه سُنَّة مؤكَّدة، أو سُنَّة غير مؤكَّدة، أو مُباح، أو مكروه كراهة تنزيهية أو كراهة تحريمية، أو حرام، أي شيءٍ على وجه الأرض لابدّ من أن تَعْتَوره هذه الأحكام الخمس.
يا أيها الإخوة؛
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)﴾
يجب أن ترى الإسلام صارخاً في حياة المؤمن، أن ترى الإسلام في مواعيده، أن ترى الإسلام في عمله، في صدقه، في أمانته، في إخلاصه، في محبَّته، في رحمته، في إنصافه، في إحسانه، هذا الإسلام، سلوك، أي المؤمن الصادق يُشار له بالبنان، أي أنشأ بناء ولسببٍ أو لآخر لم يتَمَكَّن من إفراغ المُلْكِيَّة لأصحابها، ظنَّ هؤلاء الذين اشتروا منه هذا البناء أنه يتلكَّأ ليأخذ من أموالهم، عرضوا عليه مبلغاً ضخماً قال: لا، أنا بعتكم وقبضت ثمن ما بعتكم به، وربحت عليكم، ولا شيء لي عندكم، فلما أُتيح له أفرغ كل البناء لأصحابه، هذا الإسلام.
البند الثاني في العبادة الانضباط السلوكي:
الإسلام عفة عن المحارم، الإسلام عفة عن المطامع، الإسلام صدق، الإسلام أمانة، الإسلام عفاف، الإسلام كرم، الإسلام شجاعة، الإسلام تواضع، الإسلام علم، الإسلام سخاء، المؤمن إسلامه صارخ، أما هذا الذي يُميز المسلم من غير المسلم بالصلاة فقط شيء مضحك، الصلاة عبادة من العبادات أما الإسلام فمنظومة قِيَم، إذاً البند الثاني في العبادة: الانضباط السلوكي؛ ضبط الجوارح، ضبط اللسان، ضبط العين، ضبط الأذن، ضبط اليد، ضبط الرجل، ضبط الكَسْب، ضبط الإنفاق، ضبط البنات، ضبط الشباب، ضبط الزوجة، الإسلام منظومة قيَم، هذا الذي يتوهَّم أن الإسلامَ صلاةٌ وصيامٌ شيء مضحك، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ اعرفوه أولاً، وأطيعوه ثانياً، واتصلوا به ثالثاً، هذا الجانب الجمالي في العبادة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن أوضِّح لكم هذه الحقيقة، إن لم تقل: أنا أسعد الناس فلَسْتَ مؤمناً، أنت موصول بالله هل تشقى؟! لك اتصالٌ بخالق الكون، لك اتصالٌ بأصل الجمال، لك اتصالٌ بأصل الكمال، لك اتصالٌ بأصل النوال، بالأصول، الذي يُعْطي وحده هو الله، والجميل وحده هو الله، والكامل وحده هو الله، أن تتصل بالله وتقول: أنا غير سعيد، هذه مشكلة!!
أيها الإخوة الكرام؛
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)﴾
عبادة الله من أجل اليوم الآخر، من أجل أن نصل إلى دار السلام بسلام، من أجل الجنَّة، من أجل السعادة الأبدية، لا ترى العبادة عبئاً عليك، ثمن قليل لخيرٍ كثير،﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ .
بعض الآيات القرآنية عن العبادة:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)﴾
أي لا يوجد خيار، لا يوجد إلهٌ ثانٍ، الله عزّ وجل لا يخَيِّرك أن اعبدني أو اعبد فلاناً: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ لا إله إلا الله، فإن لم تعبده أنت مع من؟ مع لا شيء.
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)﴾
وجوب عبادة الله من لحظة معرفة الإنسان به وحتَّى الموت:
إن لم تعبد الله ما النتيجة؟ الجنة محرمةٌ على المُشرك ومأواه النار:
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)﴾
وقال:
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
يجب أن تعبد الله من لحظة معرفتك به وحتَّى الموت:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾
يجب أن تعبده في الأعماق، ليس أقل شيء يهزك، والله هناك أشخاص تهزهم كلمة، كلمة تجعله يدع الجامع كلَّه، خلاف بسيط مع أخ هل يعقل دخلت كلية الطب ومصيرك طبيب تركت هذه الكلية لخلافٍ بسيط مع صديق أو مع أستاذ؟ لا يفعلها عاقل في الدنيا فكيف في الآخرة؟ أساء لك أخ،شخص تكلَّم معك كلمة نابية، تضحي بدينك؟! تضحي بآخرتك؟! مستحيل.
على المؤمن أن يعتزل من يعبد غير الله:
هذا الذي يعبد الله على حرف مقاومته هشةٌ جداً لأن علمه هزيل، إرادته ضعيفة، مقاومته هَشَّة، يعبد الله على حرف، أما الناس إذا عَبَدوا بعضهم بعضاً، وعبدوا أهواءهم، وعبدوا من دون الله جِهاتٍ لا تملك لهم من الله شيئاً قال: هؤلاء يجب أن يُعتَزَلوا، قال تعالى:
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)﴾
يجب أن تعتزلهم إلى أن يعبدوا الله عزّ وجل:
﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾
أما الذين يعبدون من دون الله، قال:
﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)﴾
أي تعبدون أشخاصاً، أشخاصاً ضِعافاً، أنت تحيطهم بهالةٍ كبيرة، من قال: إنَّ بوذا إله، من قال؟ له تمثال كبير، توضع الفواكه طوال الليل، قال: ليأكلها في الليل، يأكلها السدَنة، حجر لا يأكل شيئاً، تعيش شعوب بأكملها في خرافاتٍ مضحكة.
آيات من القرآن الكريم عن أشخاص أشركوا مع الله آلهة أخرى:
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ وقال:
﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)﴾
قال:
﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)﴾
وقال:
﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (43)﴾
العبادة ثمن الجنة وهي الهدف من هذه الحياة:
يا أيها الإخوة الكرام؛ قضية العبادة قضيةٌ خطيرةٌ جداً هي هَوِيُّتك، هي سرّ وجودك، هي هدفك من هذه الحياة، العبادة ثمن الجنة، العبادة ثمن السلامة، العبادة ثمن السعادة، العبادة ثمن التقوى.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآية أوَّل آية بعد أن وصف الله المؤمنين والمنافقين والكفار:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾
وهذه الآيةُ إن شاء الله تُفَسَّرُ في الدرس القادم، وبالله المستعان.
الملف مدقق