الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
صفات المؤمن والكافر والمنافق:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس من سورة البقرة، ومع الآية الثامنة.
أيها الإخوة؛ بيَّن الله جلَّ جلاله في مطلع هذه السورة الكريمة صفات المؤمنين في آياتٍ قليلة، وبيَّن صفات الكافرين في آيتين، وبيّن صفات المنافقين في ثلاث عشرةَ آية، لماذا؟ المؤمن كان جريئاً وآمن بهذا الدين العظيم، وقبض الثمن، ضَحَّى قليلاً وأخذ كثيراً، والكافر كان جريئاً وردَّ الحق ودفع الثمن، المؤمن مُنسجم مع نفسه، والكافر منسجم مع نفسه، المؤمن منسجم مع الحقيقة ومع نفسه، الكافر غير منسجم مع الحقيقة لكنه مُنسجم مع نفسه، فالمؤمن واضح والكافر واضح.
لكن الإنسان الخطير هو المنافق، غامض، له ظاهر، وله باطن، له موقف معلن، وله موقف باطن، له شيءٌ يفعله في جلوته، وله شيءٌ يفعله في خلوته، علانيته ليست كسريرته، المنافق خَطِر، فالمؤمن واضح، والكافر واضح، المؤمن انسجم مع الحقيقة ومع نفسه، وكان جريئاً وقَبِل الحق وضحَّى وقبض الثمن، والكافر انسجم مع نفسه فقط، وكان جريئاً، وردّ الحق، ودفع الثمن، المؤمن كلُّه خير، كله عطاء، كله إكرام، كله إحسان، الكافر شَرُّه محدود لأنه مكشوف، أذاه محدود لأنه ظاهر، الناس يتقونه لأنه كافر، أما المنافق فخطره كبير، لأنه يوهم المؤمنين أنه مؤمن وهو مع الكُفَّار، لذلك قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾
السبب: أخذ ميزات المؤمنين، عُومل كما يُعامَل المؤمنون، أخذ كل امتيازاتهم لأنه أظهر الإيمان، واستفاد من الكُفَّار، وغَشَّ المؤمنين، فلذلك هو في الدرْك الأسفل من النار، وصف الله المؤمنين في بضع آيات، وفي آيتين فقط وصف الله الكافرين، وفي ثلاث عشرة آية وصف الله المنافقين.
النفاق أخطر شيءٍ في حياة المؤمنين:
أيها الإخوة؛ يبتلي الله عزَّ وجل المؤمنين ابتلاءاتٍ متعددة، يبتليهم فيمنحهم القوة، ويبتليهم فيضعفهم، المؤمنون مبتلَوْنَ حينما يُظهرهم الله على أعدائهم، ومُبتلون حينما يُستضعفون، فإذا كان الابتلاء استضعافاً كَثُرَ الكفار، لأنهم لا يخافون أحداً، وإذا كان البلاء قوةً كَثُر المنافقون، في مكة المكرَّمة لم يكن هناك منافقون، لأن الإنسان يكفر جهاراً، ويتَّهم النبي جهاراً، ويقول: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه أَفَّاك، وينام مطمئناً في بيته، ولا يناله أحد بأذى، لأن المؤمنين ضِعاف، يكثر الكافرون مع ضعف المؤمنين، أما في المدينة فقد أصبح للمؤمنين شَوْكَة، وهم قوة، لذلك كَثُر المنافقون، المنافق كافر لكنه رأى من مصلحته أن يَنْضَمَّ إلى المؤمنين صـورةً، وأن يتعاون مع الكافرين حقيقةً، فلذلك أخطر شيءٍ في حياة المؤمنين النفاق، المؤمن كما قلت قبل قليل واضح، والكافر واضح، المؤمن انسجم مع الحقيقة، ومع نفسه، وكان مصدر عطاءٍ للخلق، والكافر انسجم مع نفسه فقط، لا مع الحقيقة، شره محدود، لأن هويّته معلنة، واضح، المؤمن جريء آمن بالحق، وضحَّى، وقبض الثمن، والكافر جريء، ردَّ الحق وكسب بعض المكاسب المؤقَّتة، ودفع ثمنًا باهظاً، لكن المنافق متلوِّن لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)﴾
من رُقِيّ النفس أن يتهمها صاحبها دائماً بالنفاق:
أيها الإخوة الكرام؛ من رُقِيّ النفس أن يتهمها صاحبها دائماً بالنفاق، اتهام، قال أحد التابعين الأجِلاء: التقيت مع أربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظن نفسه منافقاً، المؤمن يتقلب في اليوم الواحد بأربعين حالاً خشية النفاق،
والمنافق يَثْبُتُ على حالٍ واحد أربعين عاماً ولا يشعر أنه منافق، النفاق ازدواج، النفاق حالة من حالات انفصام الشخصية، له شخصيتان، يتظاهر مع المؤمنين بالتقوى والصلاح، ويطرح أسئلة فقهية دقيقة جداً، حبة سُمسم بقيت بين أسنانه ما حكم صيامه يا أستاذ؟ تجده يغلي ورعاً، وله معاصٍ كبيرةٌ جدًّاً، هذه يُغفلها، كلما جلس مع المؤمنين طرح عليهم أسئلة كثيرة، وفتاوى، وقضايا، ليظهر أمامهم أنه مؤمن، وليأخذ امتيازات المؤمنين، وليكسب مكاسِبَهُم، أما هو في الحقيقة فمع الكافرين، يقول الله جلَّ جلاله:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)﴾
بلسانه، والقول سهل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ والله عزَّ وجل كَذَّبَهُم قال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ .
الإنسان لا يقيّم بأقواله بل بأفعاله:
أول شيء: لا يقيّم الإنسان بأقواله، يُقيَّم بأفعاله، فكم ممن يقول لك: أنا مؤمنٌ باليوم الآخر، فإذا بحثت في أعماله لا تجد عملاً صالحاً واحداً يؤكِّد إيمانه باليوم الآخر، إذا بحثت في حياته الخاصَّة لا تجد عملاً واحداً يُنْبئُ عن أنَّه يخاف النار، يأكل المال الحرام، يجلس مع نساءٍ لا يحللن له، يعتدي على حقوق الآخرين، على أعراضهم، على أموالهم، إما صراحةً أو ضمناً بالكذب، والغش، والاحتيال، ويحقق مصالحه، ويَدَّعي أنه مؤمن، والإيمان بريءٌ منه، استطاع رجل أن يُخَلِّص بيتاً ثمنه سبعة ملايين بسبعمئة ألف، بأساليب، وهو يرتاد المساجد، ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حَجَّةً بعد حجة الإسلام.
النفاق أخطر شيء في حياة المؤمنين، ازدواج الشخصية، انفصام الشخصية، موقف مُعلن، موقف خفي، شيءٌ يفعله أمام الناس، وشيءٌ يفعله فيما بينه وبين نفسه، سريرته ليست كعلانيته، خلـوته ليست كجلْوته، شيءٌ يفعله في بلده فإذا سافر فعل شيئاً آخر، وكم من امرأةٍ محجَّبةٍ تـراها في الطائرة جاءت من بلدٍ الحجاب فيه إلزامي، فلما ركبت الطائرة خلعت كل شيء، وكأنها لا تؤمن بشيءٍ من الدين، هذا نفاق، يلاحظ الإنسان نفسه، إذا كان هناك ازدواج في حياته، إذا كان يفعل فعلاً أمام الناس مقبولاً ويفعل خلافه فيما بينه وبين نفسه فهذه حالة من النفاق، ولا تنسوا أيها الإخوة أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، أخطر شيءٍ في حياة المؤمن أن تَزِلَّ قدمه إلى النفاق.
لكن لا أكتمكم أن هنـاك من النفاق ما هو ضعفٌ في الإيمان، أو ضعفٌ أمام الشهوات، هذا النفاق الذي انطلق من ضعفٍ في اليقين، وضعفٍ في الإرادة، لعل الله سبحانه وتعالى يُعالج هذا المنافق فيأخذ بيده إلى الإيمان، وهناك حالاتٌ كثيرة ممن عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام كانوا منافقين فتاب الله عليهم، ولكن النفاق الذي يُنْتَفع به حينما ينتفع الإنسان بالكفر، حينما يتخذ الكفر وسيلةً لمكاسب مادية، هذا الكافر: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ والمنافق الذي أصله كافر كفراً اعتقادياً، وكفراً سلوكياً، وهو مع المؤمنين في ظاهره، هذا أيضاً لا ينتفع بأية موعظةٍ يتلقَّاها، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قول.
الله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
ما قال: فقل، القول سهل، وكل إنسان ذكي، والآن التمثيل في هذا العصر متفوِّق تفوِّقاً كبيراً، أي أذكى الأذكياء يُتْقِن التمثيل، فبإمكانه أن يوهمك أنه مؤمن، بكلام، وبحركات، وبسكنات، وبتصرفات، وبمواقف، وما هو كذلك، ولاسيما في موضوع الزواج، هو يوهم أنه صالح، وتقي، ونقي، وعفيف، فبعد القِران يظهر إنساناً آخر، وهي توهمه أنها تحفظ كلام الله، ولها شيخةٌ تأخذ عنها العلم، وتخاف من الله، وتتحجَّب أمامه، فإذا دخل وقتٌ آخر رأيتها إنسانة أخرى، فالتمثيل الآن متقن جداً، الخبرات التمثيلية في أعلى درجة، والتمثيل نفاق في الحقيقة، أوضح شيء أن الممثل قد يأخذ دور إنسان صالح، وهو ليس كذلك، وقد يأخذ دور إنسان سيّئ، وهو كذلك، على كل هناك إتقان للأدوار، فالنفاق والتمثيل يلتقيان، المنافق ممثل، والنفاق أنواع، والتمثيل أنواع، هناك تمثيل متقن جداً، وهناك تمثيل غير متقن.
ذكرت لكم مرة أن هناك تمثيلية في معهد شرعي عن سيدنا بلال، وعن أمية بن خلف كيف يعذِّبه ويقول بلالٌ: أحدٌ أحد، فهذا الذي يمثل دور أمية، قال له: لن أرفع عنك العذاب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، طبعاً تمثيل غير متقن، لأنه قال: صلى الله عليه وسلم، على كل المنافق ممثِّل، ممثل ذكي جداً.
أعمال الإنسان تؤكد مكانته:
الآن: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ يُقيَّم الإنسان من أعماله فقط، أعماله تؤَكِّدُ مكانته، لذلك تجد إنساناً يؤمن بشيء علانيةً، لكن أفعاله لا تؤكد ذلك، ليس في فعل المنافق فعلٌ واحد يؤكد أنه مؤمن بالجنة، لا يعمل لها، وليس في فعل المنافق فعلٌ واحدٌ يؤكد أنه مؤمن بالنار، لا يتقيها، هؤلاء الذين ينغمسون إلى قمة رؤوسهم في المال الحرام أين هي الجنة والنار في حياتهم؟ والله لو أن الإنسان آمن أن هناك ناراً يدخلها إلى أبد الآبدين لعدَّ إلى المليون قبل أن يأكل درهماً حراماً، ولو آمن أن هناك حساباً عسيراً.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
حينما لا تجد في عمل الإنسان عملاً يؤكِّد أنه يتقي النار، ولا تجد في عمل الإنسان عملاً يؤكِّد أنه يرغب في الجنة فهذا نوعٌ من النفاق، حينما تستقر حقيقة الإنسان في قلب المؤمن تُعَبِّرُ هذه الحقيقة عن ذاتها بخدمة الآخرين، يتحرك نحو خدمة الخلق، يحاسب نفسه حساباً دقيقاً، إذاً الإيمان عمل، الإيمان التزام.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)﴾
الإيمان حركي، لا يوجد إيمان سكوني أبداً، مؤمن ساكن، مؤمن مقيم على معصية، مؤمن لا يعمل صالحات، ليس هذا مؤمناً، الإيمان الحقيقي ما أكَّده العمل، الإيمان إقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، ما استقرّ في القلب، وصدَّقه اللسان، وأكَّده العمل، قناعةٌ في القلب، وإقرارٌ باللسان، وعمل بالأركان، هذا هو الإيمان، لذلك قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾
وردت في أكثر من مئتي مرة مقترنتين: ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ .
الله جلَّ جلاله كَرَّم المؤمنين فجعل عدوهم عدواً له وجعل إكرامهم إكراماً له:
هم ﴿يخادعون الله﴾ والحقيقة هم يخادعون المؤمنين، لم يؤمنوا به إيماناً يحملهم على طاعته، هم يخادعون المؤمنين، ولكن الله جلَّ جلاله كَرَّم المؤمنين فجعل مخادعة المؤمنين مخادَعةً له، وجعل عدو المؤمنين عدواً له، وجعل إكرام المؤمنين إكراماً له.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
الياء ياء النسب، هذه نسبة تشريف وتكريم، شرَّف الله المؤمن لأنه نسبه إلى ذاته، لذلك المنافق يُخادع المؤمنين فقط، لكن الله عزَّ وجل جعل هذه المخادعة للمؤمنين مخادعةً له، فالمؤمن عدوه عدوٌ لله، والذي يُخادعه يخادع الله، والذي يُكْرِمُه يكرم الله، "من أكرم أخاه فكأنما أكرم ربه" أبداً، من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه، وهذا أعلى أنواع التشريف.
﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾
من حرم نفسه الخير فقد خدعها:
كيف خدعوا أنفسهم؟ حرموها الخير، إنسان يوجد معه كيلو من المعدن الخسيس، خسيس جداً لا يساوي ليرة، أقنع الناس بذكاء وبجهدٍ جهيد وبحِيَل أن هذا المعدن ذهب، فصدقه الناس، وأكبروا هذه الثروة، من هو الخاسر الناس أم هو؟ هو وحده الخاسر، لأنه اطمأن إلى قناعتهم، وهو في الحقيقة لا يملك شيئاً، فالذي يخدع المؤمنين، ويشعر بنشوة أنه استطاع أن يخدعهم، وأن يقنعهم أنه مؤمن، وإذا أقنعتهم؟ أنت لست مؤمناً، ولا تأخذ من امتيازات المؤمنين شيئاً، أقنعتني في النهاية أنَّك تحمل أعلى شهادة، وأنت لا تقرأ ولا تكتب، هل تستطيع أن تنتفع بأميتك؟ أقنعتني بجلسةٍ عابرة أن معك شهادة عليا، وأنت لا تقرأ ولا تكتب، هل تستطيع أن تنتفع بأُمِّيَّتِك؟ لا تنتفع بها أبداً، كيف يخادعون أنفسهم؟ حرموها الخير، أي هو عندما أقنع المؤمنين أنه مؤمن ارتاح، نجحت الخطة، وإذا نجحت؟ ما قيمة هذا النجاح؟ نجحت لكنك لست مؤمناً، لن تنجو من عذاب الله، ولا من عقاب الله، ولا من تأديب الله، لن تنجو من إتلاف مالك، ولا من تأديبٍ في صحتك، ولا من تأديبٍ في أهلك، ما أخذت شيئاً من ميزات المؤمنين، أقنعتهم أنك مؤمن وصدَّقوك، أنت في الحقيقة تخدع نفسك، النعامة حينما يتبعها عدوٌ لها فتغمس رأسها في الرمل عندئذٍ لا تراه، هل هي ذكيَّة؟ في منتهى الغباء، هي حينما غمست رأسها في الرمل لم تبق تراه فاطمأنت فجاء عدوها وقد ثبتت في مكانها فأكلها، هل خدعت عدوها أم خدعت نفسها؟ خدعت نفسها.
علاقة كل إنسان مع الله عز وجل:
الملخَّص أنك إذا استطعت أن تخدع الناس، وأن توهمَهم أنك مؤمن، والناس ببساطة أو سذاجة صدقوك، وأثنوا على إيمانك، وأنت لست كذلك، علاقتك مع الله، وسوف يُعرِّضك الله عزَّ وجل لامتحاناتٍ صعبةٍ ولعقاباتٍ شديدةٍ، ولن تأخذ شيئاً من امتيازات المؤمنين، فمن خدع الآخر؟ قال الابن لأبيه: أنا أقنعك أن هؤلاء ثلاث دجاجات، وهم في الواقع دجاجتان، قال له أبوه: أنا سوف آكل واحدة، وسوف تأكل أمك واحدة، وأنت كُلْ الثالثة، كلام فارغ، ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم ساذَجون، أغبياء، أوهمتني أنك مؤمن وأنت لست مؤمناً، ماذا حققت؟ علاقتك مع من؟ مع الله، وأبلغ شيءٍ في هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عن أم سلمة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))
طليق اللسان، سريع البديهة يقلب الحق إلى باطل بذكاءٍ بارع، جيد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقنعه بشيء فحكم له النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ)) لم يستفد شيئاً، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ .
الله عز وجل يحول بين المرء ونفسه ويعلم خواطره ونواياه وبواعثه وأهدافه:
دُعيت إلى طعام نفيس جداً، وأنت في درجة عالية من الجوع، فأوهمت الذي دعاك أنَّك أكلت طعاماً أنفس من هذا قبل قليل،
فقال لك: إذاً لا تؤاخذني فلا تكثر منه، أنت خدعته أم هو الذي خدعك؟ ماذا استفدت من هذا الكلام؟ حرمت نفسك هذا الطعام، أوهمته أنك أكلت طعاماً نفيساً قبل قليل، وأنت من يومين لم تأكل، والطعام طيِّب جداً، عندما أوهمته كفَّ عن دعوتك إلى الطعام، وجلست أنت تتلوى جوعاً، والطعام النفيس أمامك، من خدع الآخر؟ أنت خدعت نفسك فقط،
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ هذا هو الغباء بعينه، وهذا هو الحُمق بعينه، لا تتظاهر بما ليس فيك، علاقتك مع الله، لا تخفى عليه خافية، مكشوفٌ أمامه تماماً، خواطرك يعلمها، يحول بين المرء وقلبه، خواطرك، نواياك، بواعثُك، أهدافك، طموحاتك، احتيالك.
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)﴾
علاقة الإنسان مع الله وحده ولن ينجو من عذاب الله إلا بطاعته:
والله أيها الإخوة؛ لأنني أرى كل يوم إنساناً يُقْنِع الناس بشيء وهو على خلاف ذلك، فيسقط ولا ينجو من عذاب الله أبداً، لا ينجو، ماذا فعلت؟ نقيم حفلاً، عقد قرانٍ، ندعو كل العلماء، والعلماء ببساطةٍ يقفون ويثنون على هاتين الأسرتين الكريمتين الأصيلتين..إلخ، والأسرتان ليستا كذلك، لو أن إنساناً مدحك نجوت من عذاب الله؟ يقولون لك: دعونا فلاناً، وألقى كلمة، وفلاناً ألقى كلمة، فلما صار العرس، نساءٌ كاسيات عاريات، وزِّعَت الخمور، وجيء بالراقصات، وجيء بالمصوِّرين، قبل يومين عقد الرجال، أسرتان عريقتان، أصيلتان، والطيبون للطيبات، وبعد يومين النساء كاسيات عاريات، والخمور توزَّع، والراقصات ترقص، وكل المعاصي والآثام في هذا العقد، أنت حينما أتيت بهؤلاء ليلقوا كلمات ماذا فعلت؟ أوهمت الناس أنك جيد، أنك صالح، علاقتك مع الله وحده، ولن تنجو من عذاب الله إلا بطاعته، وأما إيهامك للناس أنَّك مؤمن فهذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر.
طرفة؛ شخص دخل على محامٍ، فكر المحامي أنه إذا أجرى أمام الشخص عدة مكالمات هاتفية يعلو في نظره كثيراً، فاتصل مع شخصيات مهمة، القضية نجحت، القضية نجحت، نجحت، ثم سأل المحامي الشخص عن حاجته، فقال له: لقد أتيت لكي أصل لك سلك الهاتف، طبعاً لم يكن عنده هاتف، فممكن أن تتكلم كلاماً تتوهم أنك ارتفعت، في الحقيقة سقط الإنسان: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ .
الصدق منجاة من عذاب الله تعالى:
إذا علم المنافق أنه منافق فليس بمنافق، المشكلة أنه لا يشعر، يظن نفسه ذكياً، عاقلاً، شاطراً بالتعبير الدارج، وهو ليس كذلك، لا توهم أحداً بشيء، لتكن علاقتُك بالله صادقة، كُنْ مع الله صادقاً، أَخْلِص دينك يكفك القليل من العمل.
تخلّف سيدنا كعب بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خطر في بال كعب أن يعتذر له بعذر كما يعتذر المنافقون، قال: فلما حضر النبي عليه الصلاة والسلام حضرني بثي ووجدي، وقف بين يديه، قال: والله يا رسول الله لو جلست إلى أحدٍ من الناس لخرجتُ من سخطه، فقد أوتيت جدلاً -أنا طليق اللسان ومعي حجة-ولكنني أخشى أن أرضيك اليوم كذباً فيُسَخِّطُك الله عليّ، وأرجو إن صدقتك اليوم أن يعفو الله عني، رأى الله وحده، ما أراد أن يخدع رسول الله، ثمانون منافقاً أعطوه حججاً قويةً، وأعذاراً قويةً، والنبي استغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فلما جاء كعب وكان صادقاً معه قال: أما هذا فقد صدق، بكلمة أما هذا فقد صدق كل هؤلاء الذين اعتذروا أمامه، وقَبِل اعتذارهم في الظاهر، ووكل سرائرهم إلى الله، قال: أما هذا فقد صدق، الصدق منجاة، كن صادقاً، ليس معنى ذلك أن تفضح نفسك، لا، لست مكلفاً أن تفضح نفسك، لكن لا تظهر بشيء خلاف ما أنت عليه، واسأل الله السلامة، واسأل الله الستر.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)﴾
مرض.
حدَّثْتُكم في الدرس الماضي أن متاعب أمراض القلب تبدأ بعد الموت، وإلى أبد الآبدين.
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ حبّ الدنيا مرض، حبّ الدنيا يعمي ويُصِم، حبّ الدنيا رأس كل خطيئة، أن يكون لك بيت ليس هذا من حبّ الدنيا، أن تحب أن يكون لك بيت تشتريه بمالك الحلال ليس هذا من حبّ الدنيا، أن تحب أن تقترن بامرأةٍ صالحة ليس هذا من حب الدنيا و أن تحب أن يكون لك دخلٌ حلال ليس هذا من حب الدنيا، حبّ الدنيا الذي يحملك على العدوان، وعلى أخذ ما ليس لك، على أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى أعراضهم، وعلى أن تنافس الناس على الدنيا، وأن تحطِّمَهُم من أجل مصلحتك، هذا هو حبّ الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ .
تفاقم أمراض النفس لأن الإنسان في الأساس حركي ديناميكي:
تتفاقم أمراض النفس، الإنسان في الأساس حركي، ديناميكي، إن عمل عملاً طيباً قاده لعملٍ أطيب، وإن عمـل عملاً سيئاً قاده لعملٍ أسوأ، نظرةٌ، فابتسامةٌ، فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاء.
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)﴾
خطوات كلها، فالإنسان حركي فإذا مرض قلبه هذا المرض ينقله إلى مرضٍ آخر، يوجد في قلبه مشكلة، أدوية القلب تَرَكَت قُرحةً في المعدة، مرض القلب نقله إلى مرضٍ في المعدة، تطورت القرحة إلى ورمٍ خبيث في المعدة، انظر بدأ بمرض في القلب انتقل إلى المعدة إلى ورم خبيث، الحالات كثيرة جداً، المرض ينتقل إلى مرض أشد دائماً، حتى في المركبات هناك خطأ ينتقل لخطأ أكبر لخطأ أكبر، فرضاً إنسان هبط ضغطه، إذا بقي الضغط منخفضاً ست ساعات فإن الكلية تتوقف، كان بالضغط أصبح بالكلية، هذه طبيعة الأمراض، الأمراض تتفجَّر من مرض إلى مرض، ارتفع السكر فقد بصره، ارتفع السكر خثرة في الدماغ، هذه الخثرة سببت شللاً، الشلل سبّب تقرحاً في الجلد.
حياة الكافر سلسلة انفجارية:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ من مرض إلى مرض، كان بالنظر أطلق البصر، إطلاق البصر نقله إلى الحديث اللطيف مع الجنس الآخر، نقله الحديث إلى لقاء، واللقاء انتهى به إلى الزنا، والزنا انتهى به إلى السجن، ثم إلى مرض الإيدز، بدأ من نظرة، هكذا سمعت أن سائقاً ركبت معه امرأة، سألها: إلى أين؟ قالت له: إلى حيث تشاء، فهِم، وعدَّ هذا مغنماً كبيراً، وبعد أن انتهى أعطته رسالةً، وظرفاً فيه مال، فتح الظرف وجد خمسة آلاف دولار، ورسالة مكتوب فيها: مرحباً بك في نادي الإيدز، نقلت له المرض، ذهب ليصرف المبلغ فإذا هو مزور أودِع في السجن، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ حياة الكافر سلسلة انفجارية، يأكل مالاً حراماً، يسرق، يتورَّط مع السرقة إلى جريمة قتل، حكموه ثـلاثين سنة، انتهى، بدأ بالسرقة انتهى بالقتل، لا يُصلي، طَلَّق زوجته لسبب تافِه، طلقها وعنده خمسة أولاد، هي أصرت ألا ترجع، ذهبت إلى أهلها واعتصمت بهم، بقي أولاده بلا مربية، كان في شيء، وصار في شيء آخر، الكافر أعمى، والمنافق أعمى ينتقل من طور إلى طور، حياته كلَّها متفجِّرات، ألغام، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ .
الكذب أكبر صفة تُهلك الإنسان:
يوجد معنى آخر:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ وهو حب الدنيا،
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ حينما أصرَّوا عليها أطلقهم الله إليها،
كانت شهوةً بإمكانهم أن يتوبوا منها فصارت واقعاً،
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ عذاب أليم، أكبر صفة تُهلك الإنسان هي الكذب، ورد:
يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. لا يمكن للمؤمن أن يكذب أبداً، ولا أن يخون، يُخْطئ، والمؤمن مذنب توَّاب، أما أن يكذب؟ أن يخون؟ مستحيل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
(( مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قَالَ: ما خطبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا قال: لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له. ))
[ مسند الإمام أحمد: إسناده صحيح أو حسن ]
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ لأنهم يخدعون الناس.
الخطر الكبير الذي يهدد المسلمين هو من أدعياء الدين لا من أعداء الدين:
الحقيقة أيُّها الإخوة: المسلمون من أين تأتيهم الأخطار؟ من أنفسهم مستحيل، لأن الحق لا يتعدد، الحق واحد، مستحيل أن تقع معركةٌ بين حقَّين أبداً، الحق لا يتعدد، وإن وقعت معركةٌ بين حقّ وباطل المعركة قصيرة جداً، لأن الله مع الحق، أما بين باطلين فإن المعركة لا تنتهي، فأكبر خطر يُهَدد المسلمين ليسوا أعداء الدين، أعداء الدين مكشوفون، إنهم أدعياء الدين-المنافقون-.
الأخطار التي أهلكت المسلمين ليست من أعداء الدين، بل من أدعياء الديّن، والأعداء أيُّها الإخوة أعداء المسلمين في العالَم، ولاسيما في العالَم الغربي كشفوا أن هذا الدين أقوى وأكبر من أن يُواجَه، ماذا فعلوا؟ أرادوا أن يفجِّروه من داخله عن طريق المنافقين، فكل إنسان يغيِّر في عقيدة المسلمين، يُحلّ لهم الحرام، يُحرِّم عليهم الحلال، يبتدع في الدين شيئاً ما أنزل الله به من سلطان، هذا منافق يفجِّر الدين من داخله، والآن الخطة واضحة جداً ومكشوفة، يحاول أعداء الدين أن يفجِّروا حياة المسلمين من داخلهم، كم من أعمالٍ إرهابية ما فعلها المؤمنون ولكن فعلها المنافقون؟! ليُّشوِّهوا سمعة الدين، ليجعلوا المسلم إرهابياً، وهو أبعد الناس عن هذه الصفة، أبداً، دائماً يتهددنا الخطر من المنافقين، هؤلاء يندَّسون بين المؤمنين، ويفعلون ما لا تُحمدُ عُقباه، والحديث عن هذا الموضوع طويل، كم من أعداء ألِدَّاء للدين تزيّوا بزي المؤمنين وفعلوا أعمالاً إجرامية وأُلصقت بالمؤمنين؟! هذا سلوك واضح متكرر مكشوف، لذلك الخطر الكبير الذي يهدد المسلمين ليس من أعدائهم، أعداؤهم مكشوفون، وليس منهم، الحـق لا يتعدد، إنما هـو من المنافقين.
المؤمن يقرِّب ويصل والمنافق يُبعد ويقطع:
مثلاً: قطع اليد وحشية، هذا كتاب عظيم، قرآنٌ كريم، هذا كلام رب العالمين، لكن قطع اليد وحشية، لابدّ من وسيلة ردعٍ أخرى غير قطع اليد، ماذا فعلوا؟ تُهدِّم أحكام القرآن، غاب عن الله عزّ وجل أن هذه الوسيلة وحشية ولا بدَّ من وسيلة أخرى؟ أي حينما يتزيّا الإنسان بزي الدين، ويهاجم القرآن، يهاجم السنة، يهاجم رسول الله بشكل أو بآخر، إما بالموضوعية، أو بالبحث العلمي الدقيق، أو بالنظرة الحضارية، هذا منافقٌ يُهدِّم الدين بمعولٍ خطير تحت هذه الأغطية المضحكة، وهو لا يشعر، فلذلك الخطر القاسي الذي يهدد المؤمنين من أدعياء الدين لا من أعداء الدين، هناك كلمة تناسب هذا المقام: "لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين" .
الارتزاق بالرقص ارتزاق، ولكن الراقص لا يُقتدى به أبداً، أما الارتزاق بالدين هذا الذي يرتزق بالدين يوهم الناس أنه مؤمن، يوجِّه النصوص لمصلحته، يأخذ المال الذي لا يحق له أن يأخذه، يعطي أسوأ سمعةٍ للناس حول الدين، فإذا انصرف الناس عن الدين فبسبب هذا الإنسان المنافق الذي نفَّر الناس من الدين، المؤمن يقرِّب، المنافق يُبْعد، المؤمن يصل، المنافق يقطع، المؤمن يُحبِّب، المنافق يُنفِّر، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ .
مهمة المنافق دائماً إفساد النفوس والبيئة:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾
هذا الماء غير فاسد، لأنه لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة له، كيف نفسده؟ إذا غيَّرنا لونه، أو غيرنا طعمه، أو غيرنا رائحته، إفساد الشيء إخراجه عن صفاته الأساسية، إفساد الفتاة إخراجُها عن العِفَّة والحياء، إفساد الموظَّف إخراجه عن خدمة المواطنين، إفساد القاضي إخراجه عن العدل، إفساد الطبيب إخراجه عن النصح للمريض، إفساد المُحامي أن يكذب على موكِّليه، إفساد المدرِّس أن يعطي المعلومات الصغيرة بوقتٍ مديد، أي لم يعلمهم شيئاً، أخذ مبلغاً من المال ولم يُعلِّم شيئاً، فكل حرفة، وكل شخصية، وكل هوية لها طريقٌ قويم، ولها طريقٌ فاسد، فالمنافق يريد شهوات الدنيا فيفسد المرأة بإغرائها أن تُسْفِر، وأن تعرض مفاتنها للناس في الطريق، يُغْري إنساناً أن يأخذ المال الحرام، يقول له: عندك أولاد والناس كلّها هكذا، أفسده، دائماً المنافق مهمَّته إفساد النفوس، أو حتى إفساد البيئة، إفساد الهواء، إفساد الماء، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ .
الإنسان مأمور أن يزيد الصلاح صلاحاً:
الحقيقة الإنسان مُكلَّف أن يزيد الصلاح صلاحاً، مثلاً: بئر ماء هناك احتمال أن يتهدم، نُنْزل فيه قميصاً معدنياً، البئر صالح للاستخدام لكن زدته صلاحاً، المؤمن يزيده الصلاح صلاحاً، أما لو أبقيته كما هو ما أفسدته، أما لو هدمته فقد أفسدته، صار هناك إفساد، وعدم إفساد، وأن تزيد في الصلاح، المؤمن مُكَلَّف أن يزيد في الصلاح فإذا أفسدَ أفسد مرتين، مرة لأنه تَركَ ترك الفساد، ومرة لأنه أفسد الشيء، وأنت في الأصل مأمور أن تزيد الصلاح صلاحاً، فالمؤمن يُصلح بين الناس، يصلح البيئة.
قبل خمسين عاماً فيما أذكر كان الناس يشربون من هذه الأنهار، نهر يمشي في دمشق، وماؤه يُشْرَب، ما كان أحد يجرؤ أن يلقي فيه شيئاً، الآن تُصب كل المجاري في الأنهار، وازن بين نبع بردى وبين مصبه، ما الذي طرأ عليه في سيره إلى مصبه؟ روافد كلُّها مياه سوداء، فإفساد الشيء إخراجه عن صفته الأصيلة، إفساد الماء، إفساد المزروعات بهذه الهرمونات، يهمُّه الربح يرش هرموناً محرَّماً يُمنع استيراده، يأتي به تهريباً، يرشه فيصبح الإنتاج بحجم أكبر، وألوان أزهى، لكن هذا الهرمون مُسرطن، هذه المبيدات كلُّها تُمَلِّح التربة، تسبب أمراضاً للنباتات، وأمراضاً للإنسان، هذا العلف هناك طحين اللحم، هناك دم مجفف، هناك أشياء محرَّمة بالأساس، تجد البقر جنّ، جنَّ البقر من جنون البشر، أطعموا البقر طحيناً من لحم الجيف أفسدوا اللحوم، أفسدوا الهواء، حتى هذه المحطات الكثيرة جداً في الهواء تُسَبِّب فساداً في الاتصالات، هناك أمراض تأتي للإنسان من كثرة هذا البَث في الهواء، هناك ضجيج، الماء ملوَّث، التربة ملوَّثة بالملوحة الزائدة، بالمبيدات الكيماوية، هدف الإنسان الربح فقط.
حبّ المال يجعل الإنسان يفسد في الأرض:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ المرض حبُّ المال، من أجل حبّ المال نفعل كل شيء، لذلك يغيرون خلق الله عزّ وجل، ممكن أن تضع مادة في بعض المواد الغذائية، مادة كيميائية محضة لا يقبلها الجسم لكن تُبَيِّض هذا الإنتاج فيزداد سعره، تفسيرها:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ حبّ المال فأفسدوا هذا الإنتاج،
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ طبعاً يُصلحون جيوبَهم، يُصلحون معيشتهم وحدهم، يبحثون عن مصالحهم الضيِّقة.
كل منافق يرى ربحه هو الصلاح ولو على حساب كل شيء:
إخواننا الكرام؛ أول صفةً للمؤمن أنَّه يُصلح والمنافق يفسد، بمطلق معنى هذه الكلمة: يُفسد كل شيء، يفسد علاقةً بين زوجين، علاقةً بين شريكين، علاقةً بين جارين، علاقةً بين أم وابنها، علاقةً بين ابنٍ وأبيه، مهمَّة المنافق دائماً إفسادُ العلاقات، مهمة المنافق تحقيق الربح ولو على حساب إفساد البيئة، يُفسد البيئة، ويفسد الهواء، ويفسد الماء، ويفسد المزروعات، ويفسد الصناعة، ويبث الأفكار غير الصحيحة إفساداً للعقائد، يُفسد العقيدة، يُفسد علاقة الإنسان بالله عزَّ وجل، يغريه بأشياء محرَّمة، لا شيء فيها يا أخي أنت تعيش خارج العصر؟ يجب أن تتنوَّر، أن ترى ماذا يجري في العالَم، فلذلك الإفساد واسع؛ إفساد عقائد، إفساد أخلاق، إفساد علاقات، إفساد بيئة، إفساد صناعة، إفساد زراعة، إفساد ماء، إفساد هواء، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هم وَقِحون يركبون رؤوسَهم، يقول: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يرى الصلاح في الفساد، يرى ربحه هو الصلاح ولو على حساب كل شيء.
﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)﴾
المؤمن مُبارك يجمع ولا يُفَرِّق يُصلح ولا يُفسد:
المؤمن مُبارك يجمع ولا يُفَرِّق، يُصلح ولا يُفسد، يقرِّب ولا يُبَعِّد، يُحبب ولا يُنَفر، دمَغَهم ربنا عزّ وجل: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع صفات المنافقين، صفات المنافقين دقيقة جداً، ويجب أن نعلمها بدقةٍ بالغة لئلا تزل أقدامنا إلى بعض هذه الصفات، المؤمن ينجو، والكافر شرُّه محدود لأنه مكشوف لكن الخطر من المنافقين.
الملف مدقق