الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإيمان والكفر نموذجان متقابلان متعاكسان متناقضان:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس من سورة البقرة، ومع الآية السادسة في قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾
تكلَّم الله عن المؤمنين: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾ هؤلاء الصِنْفُ الأول.
والصِنف الثاني: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
يمكن أن يُقَسَّم البشر على اختلاف أجناسهم، وأعراقهم، وألوانهم، وانتماءاتهم، وأقاليمهم، وأَمصارهم، وقبائلهم، وطوائفهم، وملَلِهم، ونِحَلِهم إلى قسمين؛ مؤمن وكافر؛ مؤمن عرف الله، واستقام على أمره، وأقبل عليه، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة، وحقق الغاية من خلقه، وحقق الحكمة من وجوده؛ وكافر غَفَل عن الله، وتَفَلَّت من منهج الله، وأساء إلى خلق الله، فشقي في الدنيا والآخرة، ولن تجد صنفاً ثالثاً، الثالث منافق، هو في الأصل كافر، لكن مصالحه تقتضي أن يُظهر ما لا يُبطن، إن المنافقين هم الكافرون، فالتقسيم الحقيقي مؤمن وكافر.
الإيمان تصديق، الكُفر تكذيب، الإيمان كشف، الكفر غطاء، الإيمان إقبال، الكفر إعراض، الإيمان شُكر، الكفر جحود؛ نموذجان متقابلان، متعاكسان، متناقضان؛ الإيمان تصديق، الكفر تكذيب، الإيمان شهود، كشـف، الكفر غِطاء، الإيمان إقبال، الكفر إعراض، الإيمان شكر، الكفر جحود.
المنتفع لا يُناقَش لأنه يدافع عن منافِعِهِ لا عن أفكاره:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ سوف يُستثْنى صنفٌ من الكفار، كفر لنقص المعلومات فلما توافرت له آمن، كَفرَ لأن المعلومات وصلت إليه مشوَّهةً فلما صُححت له آمن، أما هذا الذي ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هو الكافر المنتَفِعُ بكفره، هو يعبد شهوته، ومن لوازم عبادة شهوته أن يكفر بالله، فكفره مَصْلَحِيّ، كفره متعـلقٌ باختياره، كفره متعلقٌ بمصالحه، كفره متعلقٌ بشهواته، كفره متعلقٌ بمكانته، كفره متعلقٌ بمكاسبه؛ فهذا الكافر الذي اتخذ الكفر وسيلةً إلى مكاسبه. دققوا، الإنسان قد تغيب عنه الحقائق فإذا تجلَّت له آمن، هذا الإنسان ليس معنياً بهذه الآية، الإنسان أحياناً قد تأتيه الحقائق عن الدين مشوَّهةً فإذا صُححت له الحقائق آمن، هذا الإنسان ليس معنياً بهذه الآية، الإنسان أحياناً قد يغفل فلما صحا آمن، هؤلاء ليسوا معنيين بهذه الآية، أما الذي اتّخذ الكفر وسيلةً للدنيا، الذي انتفع بكفره، الذي هيَّأ له كفره مكانةً عالية، أو مكسباً كبيراً، أو مالاً وفيراً، أو منصباً رفيعاً، أو مكانةً مرموقة، هذا الإنسان سواءٌ عليه أأنذرته أم لـم تنذره لا يؤمن، لأنه لا يبحث عن الحقيقة، ولا يرجوها، ولا يتمنَّاها، ولا تعنيه إطلاقاً.
مثل افتراضي؛ إنسان فقير جداً يعمل عَتَّالاً على دابة، فلما ماتت هذه الدابة فَقَدَ دخله كلياً؛ فدفنها، وأقام عليها بناءً وقبةً خضراء، وأعطاها اسماً من اختراعه، وزعم أن هناك ولياً مدفوناً في هذا المكان، وجاءه الناس زُرافاتٍ ووحدانا يتبركون بهذا الولي، ويعطونه العطايا الكثيرة، هذا الإنسان انتفع بهذه الكذبة وهذا الدجل انتفاعاً لم يكن يخطر له على بال؛ هل في الأرض قوةٌ يمكن أن تُقنعه أن الذي دُفن هنا دابة؟ لا، قناعته أشدّ من قناعة الذي يناقشه، لكن ليس من صالحه إطلاقاً أن يعترف أن المدفون في هذا المكان دابة، يقاتل من أجل دَجَلِه، يقاتل من أجل فكرته، يقاتل من أجل كَذِبه، يقاتل من أجل الخُرافة التي ينشرها بين الناس، هو يدافع عن مصلحته، يدافع عن دخلِه، يدافع عن مكانته، يدافع عن مكاسبه، فهذا الذي يتَّخذ الكفر وسيلةً للدنيا، هذا الذي هيَّأ له كفره مكانةً عالية، ودخلاً كبيراً، وهيمنةً على الناس عظيمة، هذا سواءٌ عليه أأنذرته أم لم تنذره لا يؤمن؛ بعيدٌ جداً عن موضوع الفكر، وعن موضوع العقيدة، وعن موضوع المبادئ، وعن موضوع الأهداف، أنت في واد وهو في واد؛ المنتفع لا يُناقَش لأنه يدافع عن منافِعِهِ لا عن أفكاره، فإن الذين كفروا ليس هؤلاء الذين شوِّهَت لهم المعلومات فكفروا فلما صُحِحَت آمنوا، لا، ليسوا هؤلاء، وليسوا هم الذين غابت عنهم الحقائق فلما حصَّلوها آمنوا، ليسوا هؤلاء، إن الذين كفروا الذين انتفعوا بكفرهم، والذين وصلوا إلى الدنيا بكفرهم، والذين أطاعهم الناس لكفرهم.
المؤمن إنسان مبادئ وقيم بينما الكافر إنسان مصالح وشهوات:
أيها الإخوة؛ حدثنا ربنا عزَّ وجل عن اليهود كيف أنهم يعرفون النبي، أية معرفةٍ بديهية؛ أية معرفةٍ يقينية، أية معرفةٍ سهلة، أية معرفةٍ قصيرة أن تعرف ابنك، أي إذا نظر أحدهم إلى ابنه هل يقول له: ما اسمك يا بني؟ مستحيل، من أنت؟ أنت ترتيبك الثاني أم الثالث؟ مستحيل، قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)﴾
لماذا كفروا؟ كفروا حسداً، هناك مصالح، لذلك كأن الله عزَّ وجل ينصحنا أن المنتفع بكفره لا تناقشه، لا تحاوِرَه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
الذي لم ينتفع بكفره هذا حاوره، فيه خير، معلوماته قليلة، معلوماته مشوَّهة، لو وصل إلى الحقيقة لآمن بها، هذا يأخذ الله بيده إلى الإيمان، أما الذي عناهم الله بهذه الآية المؤمن إنسان مبدأ، الكافر إنسان مصلحة، المؤمن إنسان قِيَم، الكافر إنسان شهوات، المؤمن يسعى للآخرة، الكافر يسعى للدنيا، مبادئ المؤمن فوق كل مصالحه، مصالح الكافر فوق كل مبادئه، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من معاني الكفر كما قلت قبل قليل الجُحود، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
من لوازم الإيمان الشكر ومن لوازم الكفر الجحود:
من لوازم الإيمان الشكر ومن لوازم الكفر الجحود، فالمؤمن يشكر والكافر يجحد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:
(( عن ابن عباس رضي الله عنه: رأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ. قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ-والعشير هو الزوج-الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ. ))
هذا لا ينطبق طبعاً على النساء المؤمنات الصالحات الصادقات، اللواتي يعرفن حق الزوج، واللواتي يَرْعَين الزوج، واللواتي يربين الأولاد.
﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5)﴾
جنس النساء قبل أن يعرفن الله يَكْفُرْن العشير، لم أر منك خيراً قط، قال لها: ولا يوم الطين؟ فسكتت، هذه قصة طويلة رجل اسمه ابن عبَّاد، أحبّ جاريةً وتزوَّجها، وجعلها السيدة الأولى وكان ملك الأندلس، اشتهت حياة الفقر مرةً، حَنَّت إلى حياة الفقر، فطلبت أن تدوس في الطين، فعجن لها الكافورَ والمسك بماء الورد، وقال: هذا هو الطين؛ فلما خسر المُلك، وأخذه منه ابن تاشفين، وأودعه في السجن، افتقر، فكانت تسيء معاملته وكانت تقول له: ما رأيت منك خيراً قط؛ فقال لها مرةً: ولا يوم الطين؟ فسكتت.
كلمة كفر تعني أن هناك إيماناً بالفطرة وهناك جحوداً باللسان:
الكفر هو الجحود، والكفر هو التكذيب، والكفر هو الإعراض، والكفر هو الغِطاء، دقق الآن؛ قال بعض الشعراء في الجاهلية:
يـعـدُو طـريـقـة َ مـتـنِـهَـا مـتـواتِرٌ فـي لـيـلـة ٍ كَـفَـرَ الـنُّـجومَ غَمَامُهَا
[ لبيد بن ربيعة العامري ]
النجوم: مفعول به مُقَدَّم، غمامُها: أي سحابها، فاعل مؤخَّر؛ أي غَطَّت السحب النجوم؛ فالكفر هو الغطاء، والكفر هو الستر؛ الآن منطقياً يظهر معنى جديد، معنى الذي كفر هو يؤمن بالله بالأصل بفطرته لكنه غَطَّى هذه الحقيقة، الشيء الموجود يَسْبِق الغطاء، ماذا تغطي أنت؟ كلمة كفر تعني الغطاء، كلمة كفر تعني الستر، الستر مصدر أو الستر الغطاء، فلابدَّ من شيءٍ تَسْتُره، لابدَّ من شيءٍ تُغَطِّيه؛ فكلمة الكفر تعني الإيمان، أنت مؤمن لكنَّك تُغَطِّي إيمانك، مؤمن ولكنك تَسْتُر إيمانك، مؤمنٌ بفطرتك ولكن مصلحتك تقتضي أن تغطِّي هذه الحقيقة، أن تُعَمِّيها على الناس، لذلك يوم القيامة:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)﴾
فقال الله عزَّ وجل:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾
يوجد معنى دقيق جداً؛ الكفر هو الستْر، الكفر هو الغطاء في أصل اللُّغة، وهذا القرآن بلسانٍ عربي مبين، فالإنسان حينما يكفر يُغَطِّي حقيقةً آمن بها بفطرته، والإنسان حينما يكفر يستر حقيقةً تُدرَك بالبديهة، الشيء المُغَطَّى يسبق الغطاء، والشيء المستور يسبق الستر، فكلمة كفر تعني أن هناك إيماناً بالفطرة، وهناك جحود باللسان: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ .
الكفار المنتفعون بكفرهم أنت في واد وهم في واد:
أيها الإخوة؛ هؤلاء الكفار المنتفعون بكفرهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي أنت في واد، وهم في واد.
لقد أسمعت لو ناديـــت حيــاً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت فيها أضاءت ولـكنَّـــك تنفخ فـي رماد
[ عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي ]
نعوذ بالله من الكفر، الناس رجلان مؤمنٌ وكافر، مؤمنٌ يعرف الله، كافرٌ كَذَّبَ بالحق لما جاءه، مؤمن مقبل، كافر معرض، مؤمن شاكر، كافر جاحد، مؤمن يرى، يشهد، وكافر أعمى:
﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)﴾
الله تعالى قدّم السمع على البصر:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ كأن الله جلَّ جلاله ينصحنا أن هذا الذي اتّخذ الكفر مغنماً، واتّخذ الكفر سبيلاً للدنيا وَقْتُكَ أثمن من أن تُضَيِّعَه معه، ابحث عن إنسانٍ آخر يبحث عن الحقيقة؛ يؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)﴾
لماذا لا يؤمنون؟ هنا المشكلة: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الإنسان له عين وله سمع، قُدِّمَ السمع مبدئياً على البصر: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ قـال العلماء: العين لا ترى إلا أمامها، ولا ترى بعد الحواجز، ولا ترى إلا بواسطة، أي زاوية الرؤية نحو الأمام، فإذا كان هناك جدار منع الرؤية، ولابدَّ من نورٍ يتوسَّط بين العين وبين المرئي، لكن الأُذن تتصل بالجهات الستة، بالأمام، والخلف، واليمين، واليسار، وفوق، وتحت، بالجهات الستة، والأذن لا تحتاج إلى وسيط، وإن كان الهواء هو الوسيط، لولا الهواء ما انتقلت الأمواج الصوتية، ولكننا يمكن أن نغفل الوسيط لكونه دائماً وثابتاً.
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هذه الغشاوة حُبُّ الدنيا، الشهوات، حُبُّك الشيء يُعمي ويُصِم.
الشهوة غشاوة على الأذن وغشاوة على العين:
لما أحبّ الشهوة وآثرها على كل شيء، وعبدها من دون الله، وجعلها نهاية آماله، ومحطَّ رحاله، كانت هذه الشهوة غشاءً على عينيه، وغشاءً على أذنيه، فهو لا يرى الآيات، ولا يستمع إلى الحق؛ إما أن ترى الآيات الدَّالة على عظمة الله، وإما أن تُصغي لكلمة الحق تلقى في أذنه، فالشهوة غشاوة على الأذن، وغشاوة على العين؛ الفكر أو إذا سميناه مجازاً العقل الذي في الرأس، هناك عقل في القلب، وعقل في الرأس:
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)﴾
إن أردنا أن نسمي ما في الرأس فكراً، الفكر جهاز استدلال، جهاز استنباط، جهاز محاكمة، جهاز اتخاذ قرار، جهاز معرفة، أداة إدراكيَّة منافذها السمع والبصر، فإذا فُتحِ البصر، وفُتِحَ السمع، جاءت المعلومات إلى الدماغ، والدماغ درسها وحللها، وحاكم فيما بين جُزْئيَّاتها واتّخذ قراراً، كلما تعمَّق هذا القرار في الذهن انتقل إلى القلب ليستقر فيه، فالقلب قلبُ النفس، فيه تستقر الحقائق، حينما يضع الإنسان غشاوةً على عينه أي الشهوة، وحينما يضع غشاوةً على أذنه أي الشهوة، والسمع والبصر مَنْفَذا الحقائق:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
الإنسان لم يسمع.
منفذا القلب هما السمع والبصر:
الآن ادعُ إنساناً متفلِّتاً همُّه النساء، همه المال، همُّه الشهوات، همه أن ينغمس في شهوات الدنيا، ادعه إلى درس علم يستحيل أن يستجيب لك، ما لي ولهذا الدرس ماذا أفعل به؟ يقول لك: كلام فارغ، كلام أعرفه، أنا لا أحبُّ أن أُضَيِّع وقتي، هو في واد وأنت في واد، فالإنسان إذا أحبّ الشهوات، أحبّ الدنيا، أحبّ المال، أحبّ النساء، أحبّ الانغماس في المُتًع الرخيصة، هذه الشهوة غشاءٌ على عينه وغشاءٌ على سمعه، بقي الفكر بلا معلومات، لم يسمح الإنسان لعينه أن ترى الآيات فيستنبط منها الحقائق، ولم يسمح لأذنه أن تصغي إلى الحق فيعرف الحقيقة، وضع على أذنه غشاوة وعلى عينه غشاوة، فالفكر تعطل، والفكر هو المُورِّد للقلب، تعطَّل القلب، فقال علماء التفسير: هذا ختْمٌ حكمي؛ مادام البابان الخارجيان مغلقين فالأبواب الداخلية مغلقةٌ حكماً، ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ لأن منفَذَي القلب السمع والبصر، وعلى السمع غشاوة، وعلى البصر غشاوة، ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ والغشاوة هي حبُّ الدنيا.
وصف الله عزَّ وجل قلب الكافر بصفاتٍ كثيرة:
أيها الإخوة الكرام؛ وصف الله عزَّ وجل قلب الكافر بصفاتٍ كثيرة، وصفه بالخَتْمِ، ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ والطبع، والضيق، والمرض، والريْن، والموت، والقسـاوة، والانصراف، والحَمِيَّةِ، والإنكار، هذه عشرة أوصـاف لقلب الكافر، والحقيقة يقول سيدنا عمر: "تعاهد قلبك".
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
رأس مالِكَ الأوَّل في الآخرة قلبك السليم، هذا القلب الذي استقرت فيه الحقائق، وهذا القلب الذي امتلأ شكراً لله، وهذا القلب الذي امتلأ بالحب لله، وهذا القلب الذي امتلأ تعظيماً لله. يا رب أيّ عبادك أحبّ إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبّ عبادي إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحبّ من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم أنني أحبك، وأحبّ من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي.
الآلاء للتعظيم، النَّعْماء للحب، البلاء للخوف؛ معنى ذلك أن القلب السليم فيه تعظيمٌ لله، وحبّ له، وخوفٌ منه، البلاء يُورِثُ الخوف، والآلاء تورث التعظيم، والنعم تورث الحب؛ فالقلب السليم فيه خوف، وفيه حبّ، وفيه تعظيم، أما قلب الكافر فيه الختم، والطبع، والضيق، والمرض، والرَّين، والموت، والقساوة، والانصراف، والحَمِيَّة، والإنكار:
﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)﴾
تُنكر الحقائق، تَعاف الحقيقة.
آيات من القرآن الكريم عن الحمية الجاهلية:
ذكر لي أخ أنه حدَّث إنساناً بكلامٍ طيبٍ عن الدين، فقال: هذه المعلومات لا أهتَمُّ لها، ولا أصغي إليها، ولا أزنها بأي ميزان، إنني أسعى لامرأةٍ جميلة، وبيتٍ واسع، وسيارةٍ فارهة. ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ وقال في الحمية:
﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)﴾
تجد عاطفة هَوْجاء، تَعَصُّباً أعمى، انحيازاً غير معقول، يفور بلا سبب، يقسو بلا سبب، يقتل بلا سبب، يغضب بلا سبب، حمِيَّة جاهلية، حمية عمياء، ينجرف انجرافاً مخيفاً بلا أسباب معقولة، ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ هناك إنسان جاهلي يغضب فيرتكب جريمة، يغضب فيقذِف بأبشع الكلمات، يغضب فيُطَلِّق بلا سببٍ وجيه، يغضب فيعتدي، هذه الحمية الجاهلية من صفات قلب الكافر.
آيات أخرى من القرآن الكريم عن الانصراف والقساوة:
وفي الانصراف قال تعالى:
﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)﴾
انصرف عن الحق إلى الباطل، انصرف عن المسجد إلى دور اللهو، انصرف عن الحقائق إلى القصَص، انصرف عن دروس العلم إلى المُسَلْسَلات، ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ مكانك الطبيعي في أعلى عليين فَغُصْتَ في أسفل سافلين، مكانك الطبيعي في السماء أنت في وحول الأرض انصرفت إلى الدنيا، خلدْت إلى الأرض، وقال في القساوة:
﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)﴾
ما هذا القلب أيها الإخوة؟ يكبر ويكبر ولا نرى كِبَرَه، فيتصاغر أمامه كل كبير، ويصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل حقير؛ من هم الأنبياء العظام؟ لهم قلوبٌ كبيرة وَسِعَت هموم الناس، القلب الكبير يحمل هموم المسلمين، لا يرتاح إذا حقق مصالحه المادية، هذه لا تعنيه كثيراً، يعنيه أن يحقق إنجازاً للمسلمين.
القلب منظر الرب يتصل بالله فيمتلئ رحمة:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ. ))
والقلب أيها الإخوة يتَّصل بالله فيمتلئُ رحمةً؛ الرحمة إحساس داخلي مُنْعَكَساتها اللين واللطف والخدمة والتواضع؛ قال تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
أي بسبب رحمةٍ استقرت في قلبك يا محمد من خلال اتصالك بنا كنت لهم لَيِّناً، فلما كنت لهم ليناً التفوا حولك وأحبّوك، ولو كنت منقطعاً عنا لكان قلبك قاسياً، والقسوة من لوازمها الفظاظة والغِلظة: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ قوانين، تتصل يمتلئ القلب رحمةً، إذا امتلأ القلب رحمةً كنت ليناً مع الناس رحيماً بهم، منصفاً متواضعاً، مُعطياً كريماً، سخياً عفُوَّاً، أحبك الناس والتفّوا حولك، لو كنت منقطعاً عن الله لامتلأ قلبك قسوةً.
قسوة القلب علامة البُعد ورقَّة القلب علامة الرحمة:
مؤشِّر الإيمان يتحرك تماماً مع مؤشِّر الرحمة، أنت رحيمٌ بقدر ما أنت مؤمن، وأنت قاسي القلب -لا سمح الله-بقدر بُعْدِكَ عن الله، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وفي آيةٍ أخرى:
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)﴾
قلب الكافر كالصخر، لا يرحم، ولا يعطف، ولا يتألَّم، يبني مجده على أنقاض الآخرين، يبني غناه على إفقارهم، يبني حياته على موتهم، يبني أمنه على خوفهم، قلبٌ كالصخر؛ هؤلاء الذين خاضوا حروباً عالمية خَلَّفت خمسين مليون قتيل، الحرب العالمية الثانية، قلوبهم كالصخر من البعد عن الله، كلما ابتعدت عن الله كلما قسا القلب، قسوة القلب علامة البُعد، ورقَّة القلب علامة الرحمة.
"يا أمير المؤمنين إن الناس خافوا شدتك"، قال: "والله يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى" .
قالوا لسيدنا الصديق: "أتولي علينا عمراً !؟" قال: أتخوِّفونني بالله؟ أقول: يا رب ولَّيْتُ عليهم أرحمهم، هذا علمي به فإن بدَّل وغيَّر فلا علم لي بالغيب.
مواقف تدل على رحمة سيدنا عمر رضي الله عنه:
"أيُّها الناس: إن الناس خافوا شدتي وبطشي، إنّ هذه الشدة على أهل البغي والعدوان أما أهل العفة والإيمان فأنا أَلْيَن لهم من أنفسهم، سأضع لهم خدي ليطؤوه بأقدامهم -هذا قول سيدنا عمر-أيها الناس خمس خصالٍ خذوني بها: لكم عليّ ألا آخذ من أموالكم إلا بحقها، وألّا أنفقها إلا بحقها، ولكم عليَّ ألا أُجَمِّركم في البعوث -ترسله بمهمة سنة، يدع زوجته وأولاده-ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا".
رحمة، سيدنا عمر كان يتجوَّل في المدينة ليلاً مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف رأوا قافلةً قد استقلَّت في ظاهر المدينة، قال: تعال نحرسها.
بكى طفل فقال عمر إلى أمه: أرضعي طفلك؛ أرضعته فسكت، ثم بكى فقام إليها وقال: أرضعي طفلك؛ أرضعته فسكت؛ ثم بكى، فغضب عمر، قال لها: يا أمة السوء أرضعي ابنكِ. فقالت له: وما شأنك بنا أنت؟ -ما دخلك-إنني أفطمه. قال: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام -أي التعويض العائلي-فضرب جبهته، وقال: ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين؟!
وصلَّى صلاة الفجر من شدة خوفه من الله ما عرف أصحابه قراءته من شدة بكائه، قال: يا ربِّ هل قبلت توبتي فأهَنِّئ نفسي أم رددتها فأعزيها؟
قلب رحيم، اشتهى أن يأكل اللحم، فقال لبطنه: "قرقر أيها البطن أو لا تقرقر، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين" .
تقرّحت يد السيدة فاطمة من الطحن، ومن سحب الماء بالدلو، وتعبت تعباً شديداً، فشكت إلى زوجها سيدنا علي، قال: اذهبي إلى أبيك واطلبي منه خادمةً -كل شيء بيد أبيك- فذهبت إليه، قال: ما الذي جاء بك يا بُنيتي؟ استحيت قالت: جئت لأسلِّم عليك؛ عادت إلى البيت وقالت لزوجها: ائتِ معي -استحيت أن تطالبه بخادمة-فجاءت مع سيدنا علي، تكلم سيدنا علي مع النبي عن حاجتها إلى خادمة، وعن تعبها، وعن مشقتها، فقال: والله يا بُنَيَّتي لا أُؤثرك على فقراء المسلمين، لا أدع أهل الصفة يتضوَّرون جوعاً، قولي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله"، وانتهى الأمر، رحمة في القلب، إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي.
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ. ))
(( عن عبد الله بن عمرو: الراحمون يرحمهم الرحمن. ))
مواقف من الكتاب والسنة عن القاسية قلوبهم:
(( عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بَكْرٍ: حديث الكسوف وقد تقدم، وفي هذه الرواية: قَالَتْ: قَالَ: «قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوِ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا، وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ: أَيْ رَبِّ، وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ -حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ- تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ: «مَا شَأْنُ هَذِهِ؟» قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، لا أَطْعَمَتْهَا وَلا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ - قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ خَشِيشِ، أَوْ خَشَاشِ الأَرْضِ». ))
﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ والقلب قد يموت، ويموت فعلاً، قال الله عزّ وجل:
﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)﴾
الذين ماتت قلوبهم.
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾
هذا الرّين، أي الشهوات والمعاصي والأخطاء تجعل طبقة تحول بين القلب وبين معرفة الحقيقة.
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)﴾
مُغَلَّفة، ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ كُفْرُهم ومعاصيهم وانحرافهم سبّب تغليف قلوبهم.
أمراض القلب تبدأ بعد الموت ويتعذَّب صاحبها بها إلى أبد الآبدين:
قال تعالى:
﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)﴾
القلب يمرض، القلب المُتَكَبِّر مريض، والقلب الجاحد مريض، والشُّح مرض، والأنانية مرض، وأن تظلم الناس مرض، وأن تَبْخَـسَ الناس أشياءهم مرض، هذه كلها أمراض.
إخواننا الكرام، أمراض الجسم مهما تكن عُضالة؛ سرطان، تَشَمُّع كبد، فشل كلوي، يموت تنتهي هذه الأمراض، فإذا كان المرء مؤمناً فإلى الجنة، وتبدأ أمراض القلب بعد الموت ويتعذَّب صاحبها بها إلى أبد الآبدين، أي مليون مرض بالجسم ولا مرض بالقلب، والدليل: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قلبك السليم رأسُ مالك، هناك كِبْر، هناك حسد، هناك بَغْي، هناك عدوان، هناك استعلاء، هناك جحود، هناك هضم حقوق الآخرين، هناك أن تَبْخَسَهُم حَقَّهُم، أمراض القلب لا تُعَدُّ ولا تحصى، وكل هذه الأمراض تبدأ آلامها بعد الموت، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا.
ربنا عزّ وجل يعاوننا على الإيمان:
إنسان يقود سيارة بسرعةٍ طائشة في الساعة الثانية ليلاً، دهس طفلاً، يبدو أن في قلب هذا السائق حياة، لم يذق طعم النوم عشرين يوماً، تألَّم، زار طبيباً نفسياً فنصحه أن يدفع ديَّةً وزيادة لأهل الطفل لينام، فإذا كان في القلب حياة هذه نعمةٌ كُبرى، أما إذا كان القلب مُغَلفاً ورانت عليه بالمعاصي عندئذِ انتهى، وقال الله تعالى في الضيق:
﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)﴾
وهذه نعمةٌ كُبرى:
(( عن أنس بن مالك: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. ))
أي ربنا عزّ وجل يُعاوننا على الإيمان، فإذا اتخذ الإنسان قراراً صحيحاً يشرح الله له صدره، تجده مبسوطاً، وإذا اتخذ قراراً آخر غير صحيح يضيق صدره:
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾
قلب المؤمن طاهر بفطرته مصطبغ بكمال الله:
القلب قضية كبيرة جداً.
(( عن النعمان بن بشير: أعرف في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. ))
رأس مالك قلبك، المؤمن قلبه نظيف، قلبه صاف، قلبه بريء، قلبه مطمئنٌ لعدالة الله، لا يحمل حقداً على أحد، ولا يحسد، ولا يبغي، ولا يتكبر، قلبه سليم، أي قلبه موصول بالله، طاهر بفطرته، مصطبغ بكمال الله باتصاله، هذا قلب المؤمن، والطبع:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)﴾
هذا الطبع حكمي أيضاً، مثلاً: انتسب إنسان إلى الجامعة بضغطٍ من أبيه، ولم يحضر أي درس، ولا ساعة، وما قَدَّم أي امتحان، ولا قرأ ولا صفحة، هل يفقه شيئاً؟ لماذا لا يفقه؟ لأنه أغلق بيده منافذ المعرفة، لو سمع درساً يتعلَّم كلمة، لو قرأ كتاباً يتعلم، لو زار الأستاذ يتعَلَّم، فلما أعرض عن حضور أي درس، وعن سماع أية محاضرة ولو بالشريط، وعن قراءة أي موضوع، أغلق بيديه منافذ المعرفة، إذاً قلبُه خُتِم عليه ختماً حكمياً.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾
إذا عُزيت الإزاغة إلى الله، أو عُزيَ الإضلال إلى الله، أو عُزي الخَتْمُ إلى الله، هذا كله جزائي مبني على اختيار؛ وأوضح مثل قلت هذا قبل قليل: طالب لم يقدم أي امتحاناً، ولا حضر ولا مادة، ولا قرأ، جاءه إنذار من إدارة الجامعة؛ إنذار ثانٍ، إنذار ثالث، لم يستجب، صدر قرار بترقين قيده من الجامعة، هل هذا القرار فيه افتراءٌ عليه أم هو تجسيدٌ لاختياره؟
حبُّ الكفار للدنيا واختيارهم للشهوات:
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ إذا عُزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، وإذا عُزي الخَتْمُ إلى الله فهو الختم الجزائي المبني على سدّ منافذ المعرفة باختيارك.
أيها الإخوة:
﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)﴾
إذاً ختم الله على قلوبهم هو الخَتْمُ الحُكْمِي، لأن: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ من صنع أيديهم؛ حبُّهم للدنيا، واختيارهم للشهوات، وإصرارهم عليها جعل هذه الشهوات كغشاوةٍ على أعينهم وعلى سمعهم، ولأن العين والسمع منفذان للفكر، والفكر موَرِّد للقلب فصار القلب مختوماً عليه حكماً: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .
يوجد بالقرآن عذاب أليم، ويوجد عذاب مهين، ويوجد عذاب عظيم، هؤلاء الذين أضلّوا الناس، وتبعهم الناس على إضلالهم، هؤلاء لهم يوم القيامة عذابٌ مهين، يُعذَّبون أمام أتباعهم الذين أضلّوهم، والعذاب المهين أشدُّ من العذاب الأليم.
إنسان له مكانة كبيرة جداً، أن تجعله أمام الناس جميعاً، أَنْ تضربه ضرباً مهيناً أمام أتباعه جميعاً هذا عذاب مهين؛ ويوجد عذاب أليم له ألم حسِّي شديد؛ العذاب المهين معنوي، والعذاب الأليم حِسي، أما العذاب العظيم فمنسوبٌ لقدرة الله؛ أنت إن أردت أن تعذِّب إنساناً يوجد حدود ينتهي عندها العذاب، مات، لا تستطيع إكمال العذاب، تنتهي قدرتك على تعذيبه بعد أن يموت، لكن الله عزّ وجل قادر على أن يُعَذِّب الإنسان إلى أبد الآبدين:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)﴾
هذا عذاب عظيم، ويوجد عذاب مهين، ويوجد عذاب أليم؛ العذاب المهين أن يعذِّبه أمام من خضعوا له بكفره، أي إنسان أنكر وجود الله عزّ وجل وقال: الشهوة هي كل شيء، يوجد طغاة هكذا، فهؤلاء الذين أضلّوا الناس وحملوهم على الكفر يُعذَّبون عذاباً مُهيناً أمام أتباعهم يوم القيامة، والذين كفروا وجحدوا يُعذَّبون عذاباً عظيماً، أي عذاباً مستمراً، أما الإنسان إذا عَذَّب فَله حدّ ينتهي عنده التعذيب، فإذا مات الإنسان انتهى التعذيب.
يا أيها الإخوة؛ افتتح ربنا عزّ وجل هذه السورة العظيمة بوصف المؤمنين، ووصف الكافرين؛ المؤمنون: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الإيمان تصديق، الكفر تكذيب، الإيمان إقبال، الكفر إعراض، الإيمان شهود، الكفر ستر وغطاء، الإيمان شكر، الكفر جحود: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وانتفعوا بكفرهم، وجعلوه مَطِيَّةً لشهواتهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ مكان العقل القلب: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ لأن مَنفَذي القلب السمع والبصر.
الملف مدقق