- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أُمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الدعوة إلى الله تتذبذب بين أن تكون أقدس عمل وأتفه عمل :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع من دروس سورة التوبة، ومع الآية الثالثة وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3) ﴾
هذه الآية شُرحت في اللقاء السابق، لكن ذكرتها لأن هناك استثناء، قال تعالى:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4) ﴾
الحقيقة أن هناك آيات كريمة تنظم العلاقة بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، هذه الآيات ملخصة في قوله تعالى:
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ
الحقيقة أن الدعوة إلى الله تتذبذب بين أن تكون أقدس عمل على الإطلاق يرقى إلى صنعة الأنبياء، وبين أن تكون أتفه عمل على الإطلاق لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة.
الدعوة الخالصة إلى الله أساسها الاتباع :
متى تكون الدعوة إلى الله أقدس عمل وترقى إلى صنعة الأنبياء؟ حينما نتبع ولا نبتدع.
﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ
فحينما أتبع منهج الله في قرآنه، ومنهج رسوله في سنته، فأنا متبع، فالدعوة الخالصة إلى الله التي تعد أقدس عمل على الإطلاق، والتي ترقى إلى صنعة الأنبياء، أساسها الاتباع، بينما حينما نبتدع هذه الدعوة تصبح عملاً لا جدوى منها، اتبع لا تبتدع، قال: حكمة تُكتب على ظفر: اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، الورِع لا يتسع، فحينما تكون الدعوة أساسها الاتباع، وهناك توجيهات:
﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا
فهذا الكافر إذا رأى المسلم، رآه ليس صادقاً، رآه ليس منصفاً، لم يكن هذا المسلم في المستوى الذي أراده الله، ما الذي يحصل؟ تعينه أنت على كفره، يعتقد أنه على صواب، ولأنك أخطأت معه هذا الخطأ يسحبه على دينك.
بطولة المؤمن أن يشد الطرف الآخر إلى الإسلام بأخلاقه وحسن معاملته :
لذلك: وطّن نفسك أنك إذا أسأت إلى مسلم، هذا المسلم يقول: فلان أساء إليّ، أما إذا أسأت إلى غير المسلم يقول هذا الإنسان غير المسلم: الإسلام دين باطل، فبين أن يبقى خطؤك بك وبين أن ينسحب خطؤك على الدين كله؟!
لذلك أنت على ثُغرة من ثُغر الإسلام، فلا يؤتين من قِبَلك، أنت سفير، هؤلاء المشركون الذين كانوا أمناء على العهد، وكانوا أوفياء، ولم ينقصوا منه شيئاً، لم يصدوا لكم تجارة، ولم يستولوا على أغنام، ولم يسرقوا أسلحتكم، ولم يُغرُوا بكم أحداً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، هؤلاء هم كما تروي الروايات التاريخية بنو ضمرة، وبنو كنانة، هؤلاء لم يؤذوا المسلمين إطلاقاً، وكانوا أوفياء لعهودهم ومواثيقهم، هؤلاء جاء الأمر الإلهي بأن يستمر العهد معهم إلى مدتهم ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾
إخواننا الكرام، للتقريب: النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما دخل المدينة المنورة، قال كلاماً يجب أن نقف على أبعاده، قال: "أهل يثرب أمة واحدة"، يوجد في يثرب نصارى، ومشركون، ووثنيون، وموالٍ، وأعراب، ويهود، هذا المفهوم الذي جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- يقال عنه اليوم: مفهوم المواطنة، أو مفهوم التعايش ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾
يعني إلغاء الآخر غير مقبول، هناك آخر، فبطولتك بذكاء، وبمنطق، وبلطف، وبإحسان أن تقنعه بالدين من خلال الأخلاق، من خلال حسن المعاملة، من خلال الإنصاف.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ
إن عدلت معه تقربه إلى الله، وتقربه إليك، لذلك الآية رائعة:
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
يعني ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾
طبعاً هؤلاء كما ذكرت بنو ضمرة، وبنو كنانة كانوا مشركين، فاستُثنوا من قوله تعالى:
﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
الإنقاص نوعان :
أيها الإخوة، ما معنى ﴿لَمْ يَنْقُصُوكُمْ﴾
الإنسان حينما يقتل أنقص هذا المجتمع واحداً، هذا إنقاص ذوات، أما حينما يأخذ مال إنسان أخذ مُتَعَلَّقه، أخذ حقه، فالإنقاص يحمل معنيين، إما إذا اعتدوا عليكم بالقتل، أو إذا اعتدوا على أموالكم ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾
أخلاق القتال شيء وأخلاق الحياة المدنية شيء آخر :
نعود إلى الدعوة، الدعوة ترقى إلى صنعة الأنبياء، وتكون أعظم عمل على الإطلاق حينما نحسن إلى هذا الآخر، حينما نستقيم معه، موضوع القتال موضوع آخر، ليس له علاقة بهذا الدرس، أخلاق القتال شيء، وأخلاق الحياة المدنية شيء آخر، أخلاق القتال:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
هذا أين؟ في ساحة المعركة، أما في الحياة المدنية:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
يمكن أن تقول: هناك أخلاق الجهاد في ساحة المعركة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾
أيها الإخوة، لذلك أول صفة الاتباع لا الابتداع، أنت مؤمن، معك منهج، معك وحي السماء، معك افعل ولا تفعل.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
ارتباط المؤمن مع الله عز وجل بعقد إيماني :
حينما يكون الأمر واضحاً، وحينما يكون النهي واضحاً، لا خيار لك أيها المؤمن، لأنك مرتبط مع الله بعقد إيماني، يا أيها الذين آمنوا، يا من آمنتم بالله، يا من آمنتم به موجوداً، وواحداً، وكاملاً، يا من آمنتم به خالقاً، ورباً، وإلهاً، يا من آمنتم بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، يا من آمنتم بمنهجه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، يا أيها المؤمن أنت في عقد إيماني مع الله
﴿الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾
الظهر رمز القوة و الظهير هو المعين :
أيها الإخوة أما ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾
لذلك الظهر يعني أن تعينه، يعني أن تدعمه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ
كلمة ظاهرين، أي أعناهم، أصبحوا أقوياء.
إذاً: الظهر رمز القوة
لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما قصّ الله علينا نبأ في حياته الداخلية، قال تعالى:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4)﴾
لكن هناك ملمح لطيف في هذه الآية، زوجتان من زوجات النبي -عليه الصلاة والسلام- ظاهرتا عليه فالرد الإلهي: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
علاقة الإنسان مع المحيط الخارجي إدراك فانفعال فسلوك :
ألا يتساءل أحدنا؟ للتقريب: مواطن انتقد بلداً هل يعقل من أجل مواطن، أو مواطنين، أن تُستنفَر القوى البرية والبحرية والجوية؟ غير معقول.
ماذا تعني الآية؟ ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
فلذلك عندنا قاعدة دقيقة جداً؛ علاقتك مع المحيط الخارجي، إدراك، فانفعال، فسلوك، فأنت إن لم تنفعل أنت لم تدرك، وإن لم تتحرك أنت لم تنفعل، إدراك، فانفعال، فسلوك، تمشي في بستان -لا سمح الله- رأيت ثعباناً، حينما تنفعل معنى ذلك أدركت ما معنى ثعبان، وإذا انفعلت لا بد من حركة، إما أن تبادر إلى قتله، أو إلى الهروب منه.
قاعدة دقيقة جداً، يصح الإدراك إذا تبعه انفعال، ويصح الانفعال إذا تبعه حركة، فإذا الإنسان لم ينفعل، ولم يتحرك، معنى ذلك لم يصغِ إلى كتاب الله، الملمح دقيق
أيها الإخوة، الظهير هو المعين، فلان شددت به ظهري، أي أعانني، ظهر فلان على فلان؛ أي تفوق عليه، علا ظهره؛ أي استولى على أقوى شيء عنده.
القوي يجب أن يعين الضعفاء ويجبرهم على أن يعملوا معه ليتعلموا :
الآن في سورة الكهف آية دقيقة، قال تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً(93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً(94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً(95)﴾
الشاهد: ﴿فَأَعِينُونِي﴾
وهناك استنباط آخر؛ أن القوة تعني أن هذا القوي يجب أن يعين الضعفاء، وأن يجبرهم على أن يعملوا معه ليتعلموا، هذا الكلام يعني عندما تعطي إنساناً مساعدة من دون عمل يألف البطالة، يألف النوم إلى الظهر، يرتاح، أما حينما تكلفه بعمل، فرص العمل أفضل ألف مرة من إعطاء الصدقة، أنت حيما تعين إنساناً بمبلغ من المال دون أن يقدم لك عملاً يرتاح، لا يوجد جهد إطلاقاً، والدخل يكفي، أخطر شيء بالمجتمع أن يتعود الإنسان أن يأخذ ولا يعطي، لكن تأمين فرص عمل، هناك دوام، هناك جهد، هناك إبداع، هذا يرقى بالأمة، أنا مع الصدقات لكن لمن؟ للعاجز.
(( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي ))
إذا كان الشاب قوياً ويطلب مساعدة بلا عمل، هيّئ له فرصة عمل، هذه الفرصة تجعله نشيطاً، تجعله منتجاً، يأخذ أجرته رافع الرأس، لذلك:
(( اليدُ العليا خير ))
والأَولى ألا تكون اليد سفلى، أما إذا قبضت أجرتك بيدك فيدك ليست سفلى، لكن الصدقات لمن يعاني ما يعاني، هناك حالات مرضية، هناك حالات عجز، هناك عاهة، أما إنسان شاب قوي تعطيه دون أن يفعل شيئاً فهذه مشكلة كبيرة، لذلك الآية: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾
(( فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم ))
هذا الضعيف ينبغي أن تطعمه إن كان جائعاً، وأن تكسوه إن كان عارياً، وأن تُعلّمه إن كان جاهلاً، وأن تنصره إن كان مظلوماً، وأن تؤويه إن كان مشرداً، وأن تعالجه إن كان مريضاً، أنت حينما تعين الضعيف يكافئك الله بمكافأة من جنس عملك، ما المكافأة؟ ينصرك على من هو أقوى منك.
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :
إخوتنا الكرام، الأمة الإسلامية تعاني ما تعاني، أنا أتحدث عنها بشكل عام، فحينما الأمة تنصر ضعفاءها، عندئذٍ يكافئها الله بأن ينصرها على من هو أقوى منها.
فلذلك يجب أن يكون لك دور في الحياة، اسأل نفسك هذا السؤال: أنا ماذا قدمت لمن حولي؟ ولا يوجد إنسان إلا ويملك خصائص يمكن أن ينفقها، قال تعالى:
﴿ الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)﴾
وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح، والعمل الصالح لا يقبل إلا بشرطين، أن يكون صواباً، وأن يكون خالصاً، صواباً: وفق السنة، وخالصاً: ما ابتغي به وجه الله، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا
اعتماد القرآن قيمتان مرجحتان بين خلقه ؛ العلم والعمل :
القرآن اعتمد قيمتين مرجحتين بين خلقه، اعتمد قيمة العلم وقيمة العمل، فقال تعالى:
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ
هذه قيمة العلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
هذه قيمة العلم، وأما العمل: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
لذلك ذو القرنين قال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾
أنواع الفقر :
لذلك قالوا: هناك فقرُ الكسل، وهناك فقر القدر، وهناك فقر الإنفاق، سيدنا الصديق سأله النبي -عليه الصلاة والسلام-: يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟ ـ أنفق كل ماله ـ قال: الله ورسوله.
(( أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ فقالَ أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا. ))
هذا فقر الإنفاق، وهناك فقر الكسل، الكسول دخله قليل جداً، لا يتقن عمله، لا يؤدي ما عليه، لا يعمل لترويج عمله، يكتفي بالقليل، يمضي وقته نائماً، يؤجل، لا يتقن، إذا كان فقيراً فهذا هو فقر الكسل، وهناك فقر القدر، إنسان أحياناً امتحنه الله بعاهة، هذا فقير، لكن هذا فقر القدر، فرق كبير بين فقر القدر، وبين فقر الكسل، وبين فقر الإنفاق.
عن عبدالله بن مغفَّل رضي الله عنه قال: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، والله إني لَأُحِبُّك، فقال: (انظر ماذا تقول!)، قال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، فقال
(( إن كنتَ تحبُّني فأَعِدَّ للفقر تجفافًا؛ فإن الفقر أسرع إلى من يحبُّني من السيل إلى منتهاه ))
أي فقر هذا؟! فقر الإنفاق، إذا أحب الله -عز وجل- أعان عباده، أعانهم، معقول أن تكون في بحبوحة ومن حولك من المؤمنين في أمس الحاجة إلى مساعدتك ولا تساعدهم؟ مستحيل.
لكن لا تنسوا هذا الحديث: (فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم)
إن لم يكافأ المحسن و يعاقب المسيء فنحن في طريق الهاوية :
ذو القرنين قال:
﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87)﴾
إخواننا الكرام هناك حقيقة خطيرة، إن لم يُكافَأ المحسن، وإن لم يُعاقَب المسيء، فنحن في طريق الهاوية، مثل بسيط: أنت معلم، عندك خمسون طالباً، أعطيتهم وظيفة، بعض الطلاب كتبوا الوظيفة واستغرقت معهم ساعتين أو ثلاثة، وتعبوا بها كثيراً، وفي اليوم التالي لم تشاهد الوظائف، فاستوى عندك من جهد طوال الليل في كتابة الوظيفة، ومن أهمل هذا الأمر، في اليوم الثالث أعطِ وظيفة لا أحد يكتبها.
كلام دقيق، إن لم يُكافَأ المحسن، إن لم يُعاقَب المسيء، فهناك مشكلة، فإذا كنت معلماً، أو كنت أباً، أو كنت قيّماً على عشرة، يجب أن يكافأ المحسن، وأن يعاقب المسيء.
لذلك: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً﴾
﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً(88)﴾
هذا مبدأ يحتاجه الأب، تحتاجه الأم، يحتاجه المعلم، يحتاجه أي صاحب منصب قيادي.
أيها الإخوة، هذه أمانة القوي.
الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :
إخواننا الكرام، قال عليه الصلاة والسلام:
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))
لماذا؟ قال: لأن القوة تعني
والقوة الثانية قوة العلم:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ
هذه قوة ثانية.
والقوة الثالثة: قوة المنصب
لذلك إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، أما إذا كان طريق القوة على حساب مبادئك وقيمك فالضعف وسام شرف لك.
المؤمن سفير لهذا الدين :
أيها الإخوة، الآية الكريمة التي بدأناها في أول هذا الدرس:
﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
وآخر فكرة أنك إذا أسأت إلى غير المسلم هو لا يتهمك عندئذٍ يتهم إسلامك، لا يتهمك يتهم دينك، وأنت سفير لهذا الدين.
أيها الإخوة الكرام، في الآيات القادمة إن شاء الله تتبدّى بعض الحقائق في هذه السورة الكريمة.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين