- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أُمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
نتيجة السورة التالية إنهاء العهود والعقود مع المشركين كافة :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس من دروس سورة التوبة، ومع الآية الثانية وهي قوله تعالى:
﴿ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2)﴾
والآية التي تليها:
﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3)﴾
أيها الإخوة الكرام، مما يلفت النظر أن هذه السورة لها خصوصية.
أولاً: آخر سورة نزلت في القرآن الكريم، من خصوصيات هذه السورة أنها تتضمن إنهاء العهود التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين، سواء أكانت هذه العهود قد انتهت بعد أربعة أشهر لمن كانت عهودهم مطلقة، أو الناكثين لعهودهم، أو كان بعد انتهاء الأجل لمن كانت لهم عهود مقيَّدة، ولم ينقص المسلمين شيئاً، ولم يظاهروا عليهم أحداً، فعلى الجملة، النتيجة من خلال هذه السورة إنهاء العهود والعقود مع المشركين كافة في الجزيرة العربية، وإنهاء مبدأ التعاقد أصلاً، هناك تطور جذري، تطور نوعي في علاقة المسلمين مع الآخرين من خلال هذه السورة، مع العقود المبرمة سُمح للمشركين بالطواف في المسجد الحرام، أو عمارته في صورة من الصور، لكن هذا الشيء انتهى، لم يُسمَح لهم لا بالطواف، ولا بالسعي، ولا بأي منسك من مناسك الحج عندهم.
سورة التوبة تنبؤنا عن خصائص مرحلة جديدة :
أيها الإخوة، المغزى العميق من هذه الأحكام النوعية في هذه السورة أن هناك مرحلة عاشها المسلمون في مكة، وهذه المرحلة تقتضي التفاهم، التعاهد، التعاقد، لكن بعد أن أعزّ الله دينه ونصر نبيه، هناك مرحلة أخرى تنبِئُنا هذه السورة عن خصائصها.
النقطة الدقيقة:
كان هناك مصالح تقتضيها حالة المسلمين، وهناك مصالح تقتضيها وضع المسلمين قبل فتح مكة، لكن بعد فتح مكة هناك مستجدات لا بد من أن تُراعى.
أيها الإخوة، لا بد من تمهيد لمعرفة الطرف الآخر.
الإنسان لأنه قَبِل حمل الأمانة سخر له ما في السماوات والأرض :
أيها الإخوة، الله -عز وجل- كان الله ولم يكن معه شيء، خلق المخلوقات في عالم الذر، وهذه المخلوقات خلقها ليسعدها، لكن عرض عليها عرضاً متميزاً، هذا العرض تؤكده الآية الكريمة:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
هذا الإنسان لأنه قَبِل حمل الأمانة، وقال: أنا لها يا رب.
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ
فالإنسان في القرآن، والإنسان في المنهج الإسلامي، هو المخلوق الأول، أنا أقول لكل واحد منكم: لأنك من بني البشر أنت المخلوق الأول في الكون، أنت المخلوق الأول رتبة، لأن الله حينما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فئة من مخلوقاته قالت: نحن لها يا رب، فلما قالوا: نحن لها تميزوا عن بقية المخلوقات، نظير تميزهم سخر الله لبني البشر ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
فعالم الجن وعالم الإنس قبلا حمل الأمانة، فكانا في القمة، الذي حصل أن البشر حينما جاؤوا إلى الدنيا بعضهم راعى هذه الأمانة، وأداها، وتعرف إلى الله، واستقام على أمره، وعمل الصالحات تقرباً إليه، ودفع ثمن الجنة التي فيها:
(( ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه في عالم الأزل، وكان صدقهم تاماً هم الأنبياء، والمرسلون، والذين قبلوا وأدوا ما عليهم ولكن بمستوى أقل هم المؤمنون، والذين لم يرعوا هذه الأمانة بعضهم من الكفار، وبعضهم من المنافقين، فيمكن أن يُقسَّم البشر إلى مؤمن وغير مؤمن، وغير المؤمن كافر صراحةً جهاراً نهاراً، أو كافر ضمناً، هذا هو التقسيم.
البشر على اختلاف مللهم ونحلهم وانتماءاتهم نموذجان لا ثالث لهما :
فلما جاء الناس إلى الدنيا سيُعبِّرون عن موقفهم في عالم الأزل، لكن كان من الممكن أن يعيش الكفار في كوكب آخر، لا يوجد أية علاقة بيننا وبينهم كمؤمنين طبعاً، وكان من الممكن أن يعيشوا في حقبة أخرى، وكان من الممكن أن يعيشوا في قارة أخرى، ولكن شاءت حكمة الله -جلّ جلاله- أن يعيش البشر مؤمنهم وكافرهم في مكان واحد، الشيء الطبيعي إنسان آمن بالواحد الديان، منطلقاته الفكرية أن يسعى لدخول الجنة، أن يوقع حركته وفق منهج الله، والبشر على اختلاف مللهم، ونِحَلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وطوائفهم، وتياراتهم، لا يزيدون عن نموذجين فقط، نموذج عرف الله، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة.
فالذي قبل حمل الأمانة، وجاء إلى الدنيا وحملها، وأدى ما عليه، هم الأنبياء أولاً والمرسلون، والذي أداها بمستوى أقل هم المؤمنون، ويتفاوتون فيما بينهم، لكن الذي لم يحمل هذه الأمانة، ونقض عهده مع الله، جاء إلى الدنيا ليكون طرفاً آخر، كافراً بهذه الأمانة مؤمناً بالدنيا.
لذلك يمكن ببساطة بالغة أن يقسم البشر إلى قسمين، مؤمن وغير مؤمن، صادق كاذب، وفيّ غير وفيّ، رحيم قاسٍ، يمكن لهذه القيم أن تنتظم البشر جميعاً، قسماً من هؤلاء البشر أقبل على هذه المبادئ والقيم، فكانوا المؤمنين، وقسماً آخر أعرض عنها فكانوا الكفار والمنافقين.
وذكرت قبل قليل: كان من الممكن أن يكون هؤلاء البشر غير المؤمنين في كوكب آخر، بل في قارة أخرى، بل في حقبة أخرى، ولكن شاءت حكمة الله أن نعيش معاً في وقت واحد، وفي مكان واحد.
القرآن الكريم اعتمد قيمتين فقط للترجيح بين خلقه؛ العلم و العمل :
لذلك من بديهيات الأمور أن تنشأ معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، بين المؤمن وغير المؤمن، بين الذي وفى ما عاهد الله عليه وبين الذي لم يرعَ هذا العهد إطلاقاً.
وهذا التقسيم موجود بكل مكان، وبكل زمان، هذا التقسيم الحقيقي، هناك تقسيمات على وجه الأرض لا تعد ولا تحصى، هذه التقسيمات لم يعتمدها القرآن الكريم، باطلة، العرق الأبيض، خير إن شاء الله! العرق الملون، الشعب السامي، الشعب الأنكلو سكسوني، هذا كلام، دول، وشعوب، وألوان، ولغات، هذه التقسيمات لم يعتمدها القرآن، القرآن اعتمد قيمتين فقط للترجيح بين خلقه، اعتمد قيمة العلم فقال:
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ
واعتمد قيمة العمل فقال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا
وأما البشر:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
سيدنا سعد بن أبي وقاص كان من أحبّ أصحاب النبي إلى النبي الكريم، وحده قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( سعد ارم فداك أبي وأمي ))
(( ما فدى النبي أحداً من أصحابه إلا سعد بن أبي وقاص، وقال: إذا دخل عليه يقول: هذا خالي أروني خالاً مثل خالي،
أقبلَ سعدٌ فقالَ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلم هذا خالي فليُرِني امرؤٌ خالَهُ ))
قال له عمر مرةً: يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له.
معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية :
أنا أقول لكم الآن بناء على هذه المعطيات: أي واحد منكم إذا تعرف إلى الله، واستقام على أمره، قلامة ظفره قد تساوي مليون إنساناً شارداً عن الله، أي واحد من أي بلد، من أي عرق، من أي ملة، من أي طائفة، هذا هو الدين.
الدين أن يأتي أبو بكر الصديق إلى صفوان بن أمية ويشتري منه سيدنا بلالاً، كان عبداً مملوكاً، وكان يعذبه سيده، فقال: والله لو دفعت به درهماً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت مئة ألف لأعطيتكها، هذا أخي حقاً، وضع يده تحت إبطه وقال: هذا أخي حقاً، هذا هو الدين.
وأقول لكم مرة ثالثة: أية أمة تعتمد في الترجيح بين أفرادها مقاييس انتمائية هذه أمة متخلفة، وأية أمة تعتمد في الترجيح بين أفرادها مقاييس موضوعية أمة قوية ومتقدمة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
توظيف الله تعالى طغيان الطغاة لخدمة دينه و المؤمنين :
الآن النقطة الدقيقة جداً أن الله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
في عصرٍ المؤمنون أقوياء، وفي عصر آخر المؤمنون ضعاف، ضعاف جداً، وقد شاءت حكمة الله أن نكون في هذا العصر، المؤمنون ضعاف، القوة، والمال، والأقمار الصناعية، والطيران، والقنابل النووية مع الطرف الآخر، لذلك فرضوا إباحيتهم، وفرضوا ثقافتهم على جميع الشعوب، والشعوب الإسلامية لأَن يُغزَوا من قبل الجنود أهون ألف مرة من أن يُغزَوا ثقافياً، الغزو الثقافي خطير جداً، أنت انتهيت كمسلم، أنت رقم بسيط، لا قيمة لك إطلاقاً.
فلذلك أيها الإخوة، أتمنى من أعماق أعماقي أن يستعيد الإنسان المسلم هويته، أنت مسلم، أنت معك وحي السماء، معك منهج الله -عز وجل-، ينبغي أن تكون في مستواه، لأن الله شاءت حكمته أن نعيش معاً، إذاً هناك معركة بين الحق والباطل، فمرة يقوى المؤمنون، ومرة يقوى أعداء الله، لكن هذان امتحانان صعبان جداً، أحياناً يقوي الله الكافر لحكمة بليغةٍ بليغةٍ بليغة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها لينظر كيف تعملون.
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾
إيماني أن الله -سبحانه وتعالى- لا يسمح لطاغية على وجه الأرض أن يكون طاغية إلا ويوظف طغيانه لخدمة دينه والمؤمنين، وكل الذي ترونه في العصر الحديث من اجتياحات، ومن عدوان على البلاد الإسلامية، إذا أمدّ الله بعمركم جميعاً ينبغي أن تعلموا علم اليقين أن هناك حكمة بالغةً بالغة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، لأنه لا يليق بألوهية الإله أن يقع في ملكه ما لا يريد، لكن الذي أتمنى أن يكون واضحاً لكم إن خطة الله تستوعب خطة أعدائه.
تصور سفينة عملاقة من أكبر السفن في العالم تتجه نحو الشرق، وعلى ظهر هذه السفينة رجال يشاكسون قائد السفينة، ويتحدونه، فيتجه على ظهر السفينة نحو الغرب، خير إن شاء الله! السفينة كلها باتجاه الشرق.
لا تستطيع جهة في الأرض أن تفسد على الله هدايته لخلقه :
العالم كله يتجه نحو الدين، هناك أعداء للدين:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
هذا الدين لا تستطيع جهة في الأرض أن تفسد على الله هدايته لخلقه.
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً(15) وَأَكِيدُ كَيْداً(16)﴾
آيات كثيرة.
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
والتاريخ بين أيديكم، وهؤلاء الصحابة الفقراء الضعاف، الشباب من الطبقة الدنيا من المجتمع، والصناديد، والأقوياء، والأذكياء، والأغنياء، بيدهم الجزيرة كلها، هم زعماء قريش، وقريش زعيمة الجزيرة العربية كلها، ما الذي حصل؟ أن الله -سبحانه وتعالى- في النهاية جعل هؤلاء الأصحاب قمماً في التاريخ البشري، وجعل هؤلاء الذين عارضوا الحق في مزبلة التاريخ، وهذا الأمر مستمر وثابت.
ما لم نعد إلى ديننا فلن ننتصر على عدونا :
لذلك هناك امتحان صعب، صعب جداً، يقوي الله الكافر، يقويه، يقويه عسكرياً، واجتماعياً، ومادياً، غني، وقوي، وذكي، وبيده كل شيء، والمسلمون على كثرتهم مليار وخمسمئة مليون، وعلى أنهم يملكون ثروات لا يعلمها إلا الله، بلادهم محتلة، أمرهم ليس بيدهم، للطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل، لكن هناك حكمة أن الذي يضعف إيمانه في ساعة من ساعات ضعف إيمانه يقول: أين الله؟ يقصفون، يهدمون، يقتلون، الذي يقولونه يفعلونه، والأمر بيدهم، والإعلام بيدهم، والدولار بيدهم، وكل شيء بيدهم، وهذا امتحان، ونحن فيه الآن.
يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه.
هؤلاء العدوانيون اليهود قتلوا في غزة ألف و خمسمئة طفل وامرأة، بأحدث أسلحة في العالم جاء الغرب إلينا كمؤتمر، التصريح الوحيد يجب أن نمنع تهريب السلاح للمقاومة فقط، أما ألف و خمسمئة طفل يموت على مرأى العالم كله لا أحد ينطق بكلمة، ولا تعليق، ولا استنكار، ولا شجب أبداً، يأتي رئيس أمريكي إلى المنطقة يزور دمشق، وتل أبيب، ورام الله، والبند الرابع أسرة الأسير الإسرائيلي، ولنا عند اليهود أحد عشر ألفاً و ثمانمئة أسيراً، ما خطر في باله أن يراعي أسر هؤلاء ولا بزيارة واحدة.
﴿ هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ
إله عظيم يقول هذا، ما لم نعد إلى ديننا، إلى تاريخنا المجيد، إلى قيمنا، إلى أخلاقنا، لا نستطيع أن ننتصر عليهم.
قوانين النصر :
أما النصر له قوانين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
الله -عز وجل- لا يحتاج إلى أن ننصره، لكن إذا نصرت دينه ينصرك، حديث خطير جداً:
(( فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم ))
هؤلاء الضعاف إن أطعمتهم إن كانوا جياعاً، وإن كسوتهم إن كانوا عرايا، وإن أسكنتهم إن كانوا مشردين، إن علمتهم إن كانوا جاهلين، يتفضل الله علينا بمكافأة من جنس عملنا، ينصرنا على من هو أقوى منا، هذا الكلام واضح كالشمس إخواننا الكرام.
أردت من هذه المقدمة أن تعلموا لماذا أراد الله أن يكون في الأرض مؤمنون وغير مؤمنين، بينهما تناقض كبير، إنسان يعمل للآخرة، وإنسان يعمل للدنيا، إنسان يعبد الله، ويسعى لمكارم الأخلاق، وإنسان يعبد شهوته فقط.
﴿ أَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ
أحياناً يكون هناك فرق بين شخصين، يكون فرق في الدرجة، الاثنان نجحا، لكن أحدهم نجح بتفوق والثاني نجح بأقل تفوق، أحياناً يكون هناك تناقض، هذان لا يجتمعان.
الناس عند الله نموذجان :
1 ـ رجل عرف الله فانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة :
لذلك هذه المقدمة ضرورية جداً، لأن البشر بصرف النظر عن أعراقهم، وعن أنسابهم، وعن طوائفهم، وعن ألوانهم، وعن قومياتهم، وعن كل ما نقوله عن البشر، هم عند الله رجلان، مؤمن وغير مؤمن، المؤمن عرف الله فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة، وإنسان آخر غفل عن الله، وتفلّت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة، ولن تجد نموذجاً ثالثاً، مؤمن وغير مؤمن، الدليل القرآني:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5 (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6)﴾
النموذج الأول: صدّق أنه مخلوق للجنة، بناء على هذا التصديق اتقى أن يعصي الله، وبناء على هذا التصديق بنى حياته على العطاء، علامة المؤمن أنه يسعده أن يعطي، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة.
2 ـ و رجل غفل عن الله فتفلت من منهجه وأساء إلى خلقه فهلك في الدنيا والآخرة :
النموذج الآخر :
﴿ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)﴾
كذب بالجنة، وآمن بالدنيا، فاستغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ.
لذلك هؤلاء البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، هم نموذجان؛ وعلى رأسهم نموذحان أيضاً: أول نموذج بنى حياته على العطاء، والثاني على الأخذ، أول نموذج ملك القلوب، والثاني ملك الرقاب، أول نموذج عاش للناس، والثاني عاش الناس له، أول نموذج يُمدَح في غيبته، والثاني في حضرته، هذان النموذجان الناس جميعاً تبعٌ لهم.
هذه الحقيقة الدقيقة حول هذا الموضوع.
باب التوبة مفتوح على مصارعه لمن أشرك بالله تعالى :
فالله -عز وجل- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- والدليل:
﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1)﴾
في مرحلة، المرحلة الانتقالية انتهت، مرحلة أنصاف الحلول انتهت، مرحلة هذا لكم وهذا لنا انتهت، دخل المسلمون بعد أن قواهم الله -عز وجل- في مرحلة ثانية، هذه المرحلة: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
﴿فَسِيحُوا﴾
﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
طبعاً مات مؤمنون أيضاً، مثلاً طائرة سقطت كل راكب يموت على نيته، إنسان يسافر لشراء بضاعة ليبيعها للمسلمين يموت على هذه النية، إنسان يسافر إلى مكان في آسيا ليرتكب الفاحشة يموت على هذه النية، لا أقول إن كل إنسان مات بهذا الزلزال هو كافر، لا، هناك مؤمنون وهناك غير مؤمنين، لكن الله -عز وجل- لا يوجد معه قوي، لذلك قالوا: هذا الزلزال زلزال تسونامي يساوي مليون قنبلة ذرية، الأرض كلها في قبضة الله.
بلد فيه زلزال قوته تقدر بسبع درجات على مقياس رختر، كل شيء انتهى، يقال لك: مئة و خمسون ألفاً بالعراء، وقبل أيام بالصين، وقبلها بهاييتي، البشر في قبضة الله، ولا ينجينا إلا طاعة الله، والاستقامة على أمره.
من كان الله معه فمن عليه و من كان عليه فمن معه ؟
لذلك أيها الإخوة ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾
أيها الإخوة، هذه حقيقة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾
ككلمة أقولها دائماً: إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ويا ربي ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ الله -عز وجل- مع الصحابة الكرام، الفقراء الضعاف، الشباب، وقد أجرى الله على أيديهم النصر، وإله الصحابة إلهنا، والإله موجود دائماً، وقوانينه ثابتة ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾
الدين الإسلامي دين جماعي وفردي :
وأخاطب الإخوة الكرام الحاضرين: هذا الدين جماعي وفردي، لو طبقته وحدك لقطفت كل ثماره، ولو طبقته الأمة لانتصروا على أقوى دولتين في العالم، من هم المسلمون؟.
سراقة تبع النبي -عليه الصلاة والسلام- ليقتله، أغراه المئة ناقة، قال له: يا سراقة ـ أنت فكر بدقة بالغة إنسان أُهدر دمه، والمئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، والذي تبعه يرجو هذه المئة ناقة ـ قال له: يا سراقة، كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ نقرأ هذه الحادثة ولا نقف عندها أي أنا سأصل يا سراقة إلى المدينة، وسأنشئ دولة، وسأؤسس جيشاً، وسأحارب أكبر دولتين في العالم، وسأنتصر عليهما، وسوف تأتيني الغنائم إلى هنا، ولك يا سراقة سوار كسرى، ما هذا التفاؤل؟ ما هذا اليقين؟ والذي حصل في عهد عمر جاءت كنوز كسرى، وسأل عن هذا الصحابي ـ سراقة ـ وألبسه سوار كسرى، وقال: بخ بخ أُعيرابي من بني مدلج يلبس سوار كسرى؟!
الوعود قائمة، والآن قائمة، الله ينتظر أن نصطلح معه، وأن نتوب إليه، والنصر سهل جداً، وهناك عينات موضحة، وهناك جرعات منعشة، إخوتنا المقاومون في غزة كم عددهم؟ عشرة آلاف وقفوا أمام أول جيش في المنطقة، رابع جيش في العالم، يملك الطيران الحديث، الأباتشي، و f16، وأضخم مدرعة في العالم من صنعه، وصواريخ، وأسلحة كيماوية، وأسلحة عنقودية، وقنابل عنقودية، وانشطارية، وكل هذه الأسلحة لاثنين وعشرين يوماً لم تستطع أن تحقق شيئاً، هذه أليست جرعة منعشة لنا جميعاً؟ الله موجود، والآن الخط البياني للطرف الآخر يهوي.
بلد محتل من قبل ثلاثين دولة، حلف الناتو، 74% من أراضيها بيد المقاومين، معهم بارودة فقط، هذه كلها أشياء تعطيك فكراً أن الله موجود، لذلك:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات، طبعاً آيات اليوم :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.