وضع داكن
29-03-2024
Logo
مختلفة لسورية الفضائية - الندوة : 05 - حقيقة الحج.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 

 حول مفهوم الحج وحكمته يسرنا أن نستضيف فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في جامعة دمشق، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور، بكم يا سيدي.
ورد في الحديث:

((" عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أفلا نُجَاهِدُ قَالَ لا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ ))

[ البخاري، النسائي، ابن ماجه ]

والحج عبادة شعائرية فما هي حقيقة الحج ؟
 الحقيقة الأساسية في حياة الإنسان أن الإنسان خلق ليعبد الله بل إن العبادة علة وجوده لقول الله عز وجل:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات: الآية 56 ]

 ومن أدق تعريفات العبادة أنها طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، لكن العبادات على أنواع منها ما هو عبادات شعائرية كالصلاة والحج والزكاة، ومنها ما هو عبادات تعاملية كالصدق والأمانة وأداء الحقوق ورعاية الأقارب والدخل الحلال وما إلى ذلك، والحقيقة الصارخة أنه ما لم تصح العبادات التعاملية لا تقبل العبادات الشعائرية، فقد ورد في بعض الأحاديث أن الحاج الذي يحج بمال حرام ينادى أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك، إذاً لابد أن تصح العبادات التعاملية لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالصدق والأمانة والعفاف وصلة الرحم وحسن الجوار وما إلى ذلك، هذا جوهر الدين.
 الحاج عندما يتوب إلى الله توبةً نصوحة ويحرر دخله من الحرام ويلتزم منهج الله عز وجل عندئذ حينما أدى العبادات التعاملية صار المجال مفتوحاً كي تقبل عباداته الشعائرية، شيء آخر الإنسان له عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك فلكل جانب غذاءه، فكما أن غذاء العقل العلم، وغذاء الجسم الطعام والشراب، غذاء القلب هو الاتصال بالله، فالحج شحنة روحية عالية جداً، الإنسان في الصلاة يشحن من صلاة إلى صلاة، وفي يوم الجمعة يشحن في خطبة الجمعة وصلاتها، وفي رمضان يشحن إلى عام بأكمله، لكن الحج هو شحنة العمر وينبغي أن تبقى آثار الحج طوال العمر لأنه فرض مرةً واحدة.
 هذه العبادة لها خصوصية دقيقة تتميز بأنها تحتاج إلى تفرغ تام فلا تؤدى إلا في بيت الله الحرام، فلابد من ترك الأهل والخلان، وترك الأوطان، وترك العمل، والزوجة، والأولاد، والمرتبة الاجتماعية، هناك أقنعة كثيرة نحن نغتر بها في حياتنا، هذه الأقنعة ينبغي أن تسقط كلها من أجل أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه وسر وجوده وغاية وجوده، فلابد من التفرغ التام ولكن شاءت حكمة الله أن هذا الحاج الذي ترك بيته وعمله وأهله وأولاده وهم أحب الناس إليه، وترك مكانته ورتبته وكل الميزات التي يقدمها له وطنه وبلده ورحل إلى الله، إن الحج في حقيقته رحلة إلى الله كما أنني أسافر لأتعلم في بلد معين أو أسافر لأستجم، أو أسافر لأتاجر، الحقيقة أن الحج رحلة إلى الله قال تعالى:

 

﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾

 

[ سورة النور: الآية 31 ]

 س: فضيلة الدكتور هذا الحج، هذه الفريضة التي تؤدى في مكة المكرمة، الله موجود في كل مكان فما معنى أن تؤدى هذه الفريضة في هذا المكان بالذات ؟ ما معنى أن يكون لله بيت الله الحرام ؟
ج: الحقيقة أن الله في كل مكان، قال تعالى:

 

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾

 

[ سورة الحديد: الآية 4 ]

 وهذه المعية معية العلم، وهو مع المتقين معية التوفيق، ولكن تمشياً مع كيان الإنسان المادي شاءت حكمة الله المطلقة أن يجعل لنفسه بيتاً في الأرض يأتيه من اشتاق إليه ومن أراد الصلح معه، هذا تمشياً مع طبيعة الناس المادية، أضرب مثلاً: لو أن طالباً له والد أستاذ في الرياضيات وأعطاه بعض الدروس، الدرس بلا مقابل، قد يهتم وقد لا يهتم، أما حينما يدفع الطالب ثمن درس مبلغاً باهظاً يصغي إلى كل كلمة يقولها المدرس لأنه دفع الثمن. الحج ترك الأهل والأوطان والعمل والمرتبة، ودفع أموال ومكان فيه ازدحام وحر، دفع ثمن هذا اللقاء، أراد الله عز وجل شيئين أن تدفع ثمن هذا اللقاء الكبير وأراد أن تشعر أنك تحبه بمعنى أنك آثرت تلبية دعوته على كل ما حولك من الدنيا، إذاً تمشياً مع كيان الإسلام اتخذ الله لنفسه بيتاً، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 96 ]

 هذا تمشياً مع طبيعة الإنسان المادية ومن أجل أن يدفع المسلم ثمن هذا اللقاء الطيب، وهو أعظم لقاء على الإطلاق، ومن أجل أن يشعر أنه صادق مع الله بدليل أنه آثره، آثر تلبية دعوته على كل ما حوله من الدنيا.
يعني على مبدأ لا يعرف لذة الراحة إلا من تعب، ولا يعرف لذة الطعام إلا من جاع.
س: فضيلة الدكتور ما معنى بيت الله الحرام في هذه المنطقة الحارة بالذات، في هذا الوادي غير ذي زرع، في هذه المنطقة الجرداء الجافة، لماذا كان هنا بالذات هل له من معنى ؟
 ج: كان من الممكن أن يكون مكان الحج، أو أن يكون بيت الله الحرام في أجمل بقعة في الدنيا حيث الجبال الخضراء والبحيرات العذبة، والنسيم العليل، وأن يكون الحج على مدار العام دفعاً للازدحام، عندئذ يقبل جميع الناس على أداء هذه الفريضة طلباً للاستجمام لا عبادةً للواحد الديان، كأن لذة وهناك سعادة، فالله عز وجل عنده السعادة التي تنبع من الداخل والتي تتنامى والتي تعقبها راحة نفسية، وقد تتصل سعادة الدنيا بنعيم الآخرة، أما اللذة أولاً آنية وطابعها حسي وهي متناقصة وقد تنتهي بكآبة إن لم تكن وفق منهج الله، شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون الحج في مكان حار، وفي وقت معين، وفي ازدحام شديد كي تعطل أسباب اللذائذ المادية وتتحرك السعادة الروحية، لو أن اللذائذ المادية موجودة وحصل اتصال بالله قد يضيع الإنسان ما سر هذه السعادة ؟ أهو الطعام الطيب؟ أم المناظر الجميلة ؟ أم النسيم العليل ؟ أم البحيرات الرائعة ؟ عطل الله كل أسباب اللذائذ المادية في هذا المكان وحرك الاتصال به ليعلم الإنسان علم اليقين أن غاية السعادة القرب من الله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾

 

[ سورة الرعد: الآية 28 ]

 والشيء الدقيق أن ما من حاج حج بيت الله الحرام بإخلاص شديد وبأداء تام لشعائر الحج إلا وتمنى أن يعود إلى هذه البلاد كل عام مع أن الحر شديد، مع أن النفقات باهظة، ومع أن الازدحام شديد والوقت محدد، حكمة الحج أن تعطل أسباب اللذائذ المادية وتحرك لذة السعادة بالله عز وجل.
 س: هنا نستطيع أن ندرك بأن الحج هو رحلة إلى الله لا يخامرها أي لبث آخر من لذائذ الدنيا أو مشاغلها أو مقتضياتها، أن يكون المقصود أولاً و آخراً هو الاتصال بالله سبحانه وتعالى والحرص على الفوز برضى الله سبحانه وتعالى، حديث الرسول عليه الصلاة والسلام:

 

((عن عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ))

 

[ مسلم، النسائي، ابن ماجة ]

فما علاقة الحج بمغفرة الذنوب وبهذا العتق من النار ؟
 ج: الحقيقة أستاذ ميسر جزاكم الله خيراً هناك وهم عند معظم المسلمين أنه لمجرد أن يحج بيت الله الحرام قد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، هذا صحيح لكن من زاوية واحدة، الذنوب التي بينه وبين الله حصراً أما الذنوب التي بينه وبين العباد هذه لا تسقط إلا بالأداء أو المسامحة، لئلا يتوهم المسلم أنه يفعل ما يشاء في بلده ثم يذهب إلى بيت الله الحرام فتغفر له ذنوبه، لا تغفر إلا الذنوب التي بين العبد وربه فهناك ذنب لا يغفر إطلاقاً وهو الشرك بالله، وهناك ذنب لا يترك وهو ما كان بينك وبين العباد، وهناك ذنب يغفر وهو ما كان بينك وبين الله، الحقيقة الصارخة أن حقوق العباد مبنية على المشاححة بينما حقوق الله مبنية على المسامحة.
ذكرتني ببيت من الشعر يقول:
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
 النبي عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه توفي فجاء ليصلي عليه فسأل أعليه دين قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أحد أصحابه: علي دينه يا رسول الله، سأل هذا الصحابي في اليوم التالي أديت الدين ؟ قال: لا، سأله في اليوم الثالث أديت الدين ؟ قال: لا سأله في اليوم الرابع أديت الدين ؟ قال: نعم، قال: الآن ابترد جلده.
صحابي جليل وكان مع رسول الله.
هذا الصلاح وهذه التقوى وهذه العبادة كل هذا لا تعفي هذا المخلوق من حقوق العباد.
 حقوق العباد لا تغفر إلا بالأداء والمسامحة، إلا ما كان بينك وبين الله إذا كان الحج مبروراً، طُبق وفق شعائر الدين تماماً كما حج النبي صلى الله عليه وسلم تماماً وكان فيه إخلاص وإنابة إلى الله فعلاً رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
 الآن لو أن هناك تاجر وعليه ديون بالملايين وسوف تحجز أملاكه وبيوته ومتجره، وسوف يذل إذلالاً لا حدود له إن قيل له افعل شيئاً ترفع عنك كل الديون، هكذا فرصة ذهبية لأن يرجع الإنسان كيوم ولدته أمه، فكل التقصير الماضي فيما بينه وبين الله يسقط بأداء الحج المبرور لأن ليس له ثواب إلا الجنة.
س: لمحة سريعة فضيلة الدكتور أيضاً الترفيه الزائد في الحج ما دام تفضلتم أننا نذهب ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى لاشك بأن رفع المشقة مطلوب لكن هذا القصد للترفيه الزائد ما رأيكم به ؟
 ج: الحقيقة الصارخة أن المشقة في الإسلام ليست مطلوبةٍ لذاتها أما حينما يبالغ الحاج في ترفيه نفسه فكأن الأقنعة التي أمر أن ينزعها في الحج لم تنزع، فجاء استمتع، وحج خمسة نجوم، وكأن الميزة التي أرادها الله أن يعود الإنسان إلى أصل فطرته وأن يعود إلى بساطته هذه الأقنعة المزيفة عاد إليها.
 شكراً فضيلة الدكتور، في ختام هذا اللقاء أتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في جامعة دمشق وشكراً لإصغائكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحميل النص

إخفاء الصور