وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة التحريم - تفسير الآيات 1 ـ 4
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة التحريم.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

 

 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

 1 ـ ليس في القرآن خطاب للنبي باسم محمد:

 النبي كما تعلمون صلى الله عليه وسلَّم سيد الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم، وهو حبيب الله وخليله، ما خاطبه الله في القرآن كلَّه باسمه مباشرةً كما خاطب بقية الأنبياء، قال:

﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾

(سورة المائدة: الآية 110)

 وقال:

 

﴿ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾

 

( سورة مريم: الآية 12 )

 وقال:

 

﴿ يَا زَكَرِيَّا ﴾

 

( سورة مريم: الآية 7 )

 ولم يقل يا محمد، بل إنه قال:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾

 وقال:

﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾

( سورة المائدة: الآية 67 )

 2 ـ سببُ نزول هذه الآية تحريمُ النبي مارية القبطية على نفسِه:

 النبي عليه الصلاة والسلام في أوجه الروايات والتفاسير حرَّم على نفسه مارّية القبطيّة التي أهداها إليه المقوقس حاكم مصر إرضاءً لزوجاته، لأن الضرائر كما تعلمون هنَّ الضرائر في كل مكانٍ وفي كل زمان، والمرأة هي المرأة، تسمو إلى أعلى الدرجات، ولكن لا تتخلى عن طبيعتها.. الغَيورة.. الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾

 وكأن الله عزَّ وجل يلخِّص للنبي عليه الصلاة والسلام الزواج بمارية القبطية، ولا ينبغي أن يجعل إرضاء زوجاته ما يحرّم عليه الذي أحلّ الله له..

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ﴾

 أي إن منهج الإسلام منهج متوازن ومتكامل، والإسلام يلبي حاجات الجسد كما يلبي حاجات الروح، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي ))

 

[ مسلم ]

 وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:

 

(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))

 

[ متفق عليه ]

 النبي عليه الصلاة والسلام ابتغاء مرضاة زوجاته حرَّم على نفسه ماريّة القبطيّة، فالله سبحانه وتعالى يبيّن له لا ينبغي أن تفعل هذا، الحق حق، والباطل باطل..

﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾

( سورة التحريم: الآية 2 )

 3 ـ التحلُل من اليمين: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ

 هذه الآية يحتاجها كل إنسان، في أكثر الأحيان يتألَّم الإنسان من موضوعٍ ما فيُقسِم يميناً مغلَّظةً أن لا يزور فلاناً.. أخته.. أو أن لا يفعل خيراً، أو أن لا يُعطي أمَّه... إلخ، الله سبحانه وتعالى رحمةً بنا شرع لنا كفَّارة اليمين أو تحلَّة اليمين، تحلَّة اليمين تكون قبل الحنث باليمين، أما كفَّارة اليمين فتكون بعد الحَنث باليمين، الحنث باليمين أن تفعل خلاف القصد، فلو أن الإنسان قال: والله لا أزور أختي، فإما أن يدفع كفَّارة اليمين قبل أن يزور أخته، عندئذِ تسمى هذه الكفَّارة تحلَّةً، وإما أن يدفع الكفَّارة بعد أن يزور أخته، عندئذٍ تسمى التحلَّة كفَّارةً، فالتحلَّة قبل الحنث باليمين، والكفَّارة بعد الحنث باليمين، ولكن الشيء الثابت أن الإنسان إذا حلف يميناً، ورأى الخير في الحنث باليمين فعليه أن يحنث بيمينه، وأن يبتغي الخير، وأن يكفِّر عن يمينه.
 لا حرج إطلاقاً، الإنسان في ساعة غضب حلف يميناً أن لا يفعل خيراً، أن لا يزور مريضاً، أن لا يمشي في جنازة، أن لا يعود مريضاً، أن لا يساعد إنساناً، واليمين منعقدة، هناك يمينٌ اللغو، وهناك يمين الغموس، وهناك اليمين المنعقدة، اليمين الغموس أن تحلف يميناً لتقتطع بها حقّ امرئٍ مسلم، هذه اليمين لا كفَّارة لها، بل هي تُخرِج الإنسان من الدين، وتغمسه في النار، لذلك من حلف يميناً غموساً ليقتطع به حقّ امرئٍ مسلم أمام القاضي فعليه أن يعيد النطق بالشهادتين، لأن هذه اليمين تُخرِجه من الإسلام، وتغمسه في النار، والإنسان قبل أن يحلف يميناً غموساً ينبغي أن يَعُدَّ للمليون، وفي بعض الآيات الكريمة فرق دقيق بين ألفاظها:

﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

( سورة النحل )

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

( سورة الأنعام )

 قد يأتي ردّ الإله العظيم على اليمين الغموس فوراً، فيُصاب الإنسان بمرض عضال أو بشلل، أو يأتي متأخراً، إذا كان في الإنسان بقية خير.
 على كلٍ اليمين الغموس أعاذنا الله منه، اخسر أي شيء، وإياك أن تحلف يميناً غموساً، اليمين الغموس لتغطي الماضي، أما الأيْمان الأخرى فللمستقبل، والله لا أفعل هذا، والله لا أزور فلانا، هذه للمستقبل، أما الغموس فللماضي..
 عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ مَصْبُورَةٍ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ بِوَجْهِهِ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ))

 

[ أحمد ]

 التحلل أو الكفارة إذا رأى المسلمُ الخيرَ في غير ما حلف عليه:

 اليمين المنعقدة: هي أن تعقد العزم موثقاً بقسم أن لا تفعل هذا الشيء، فإن كان هذا الشيء خيراً فينبغي أن تكفِّر عن يمينك، أو أن تتحلَّل من يمينك، وأن تفعل هذا الشيء، هذا حكمٌ شرعي، ينبغي أن تتحلَّل من يمينك أو أن تكفِّر عن يمينك، وأن تفعل الشيء الذي تراه صحيحاً، وتراه خَيراً، ولم يكن ربنا جلَّ جلاله يريد أن يكون بينك وبين الخير، فلو حلفت بذاته، لو أقسمت يميناً معظَّمةً أن لا تفعل خيراً، احنث بيمينك، وكفِّر عنها أو تحلَّل منها، وافعل الخير، هذا أساس كبير في أسس الأيمان.
 أما إذا اليمين المنعقدة فأيضاً افعل الخير، ولا تلتزم بيمين تحرمك الخير الذي أراده الله لك، لكن العلماء قالوا: حينما تستثني لا تحنث بيمينك، فإذا قلت: إن شاء الله لن أزور أختي، فإن هذه يمين معها استثناء لا يقع به الحَنْث، فأنت تحفَّظ دائماً بكلمة إن شاء الله، والله لا أفعل هذا إن شاء الله، ما دام استثنيت بالمشيئة فإن الحنث باليمين لا يقع في هذا الكلام..

﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾

 ورد في بعض الأحاديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ ))

 وأنا أقول هذه القاعدة: لأن كثرة الأيمان بين الناس علامة ضعف إيمانهم، فأكثر ساعات الغضب تنتهي بيمين تَحْرِم صاحبها الخير، فالله سبحانه وتعالى لا يريد أن يكون اسمه الكريم حجاباً بينك وبين الخير، فافعل الخير دائماً، وكفِّر عن يمينك، أو تحلَّل منها..

 

﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾

 4 ـ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

 من لنا إلا الله ؟ الإنسان دائماً مرجعه هو الله، وقد وصف المؤمن بأنه أوَّاب، أي كثير الأوبة، فكلَّما زلَّت قدمه يؤوب إلى الله، وكلَّما غفل عنه يؤوب إلى الله، هذا من شأن العبد أن يقع في التقصير، أو أن يقع في مزلَّة الأقدام، وليس له إلا الله ليتوب إليه..

﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾

( سورة التحريم: الآية 3 )

 وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا

 1 ـ الحديث الذي أسره النبي إلى بعض أزواجه هو عدم زواجه بمارية:

 أي أن المجالس بالأمانة، النبي عليه الصلاة والسلام أسرَّ إلى بعض أزواجه عزمه على أن لا يتزوج بمارية القبطية، هي مباشرةً أنبأت به أخواتها.. أزواج النبي عليه الصلاة والسلام..

﴿ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ﴾

 2 ـ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ

أخبره الله عن طريق جبريل أنها نبَّأت بهذا الحديث..

﴿ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾

 أي عاتب بعضهن، وذكر بعض الذي قُلْنَهُ، وأعرض عن بعضه الأخَر، وأعرض عن ذكر بعض بقية الحديث.

 لا تحرجوا الناسَ بأخطائهم:

 يُستنبط من هذا: إنسان تحرّج أمامك، واجهته بخطئه فتحرّج، فأنت اكتفِ بحدٍ معقول، لا تبالغ، هناك خطأ، واعترف بخطئه، فلا تقل له: هناك خطأ ثانٍ، ما دام قد تراجع، ما دام قد استحى، ما دام قد خجل، ما دام قد اعتذر، فأنت عرّفه ببعض أخطائه، وتجاوز عن بعض أخطائه الأخرى، هذا من خُلُق الني عليه الصلاة والسلام، وقد قال:

(( لا تحمِّروا الوجوه ))

[ ورد في الأثر ]

 لا تخجِّل إنسانا، لا تحرج إنسانا، إياك أن تضع إنسانا في زاوية ضيقة، إيَّاك أن تدفع إنسانا إلى أن يكذب، لأن شدَّة التضييق تدفع إلى الكذب، هذا من أدب النبي عليه الصلاة والسلام.
 كلُّكم يعلم القصة التي تروى عن رسول الله، وقد فسرها المفسرون تفسيراتٍ شتَّى: حينما كان مع أصحابه الكرام، وقد أكلوا لحم جزور، ثم ظهرت رائحةٌ غير طيّبة في المجلس، ثم أراد النبي أن يصلي العصر بأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( كل من أكل لحم جزور فليتوضَّأ، قالوا: كلَّنا أكلنا هذا اللحم، فقال عليه الصلاة والسلام: كلَّكم فليتوضَّأ))

 

[ ورد في الأثر ]

 وأراد بهذا التوجيه أن يستر حال هذا الذي انتقض وضوءه، ولم يدر، هذا من أخلاق النبي، فإياك أن تحمِّر الوجوه..
 سيدنا يوسف حينما التقى بإخوته، وكان عزيز مصر، وبإمكانه أن يحرجهم، وأن يوبَّخهم، وأن يعنِّفهم، وبإمكانه أن يذكِّرهم بجريمتهم، قال سيدنا يوسف:

﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ ﴾

( سورة يوسف: الآية 100 )

 ولم يقل: من الجبّ، والحقيقة أن الجبّ أخطر من السجن، في السجن يكون السجين مضمونةٌ حياته ورزقه، أما الجبّ فهو معرَّض للموت، لكن لئلا يذكِّر إخوته بفعلتهم.
إذاً..

 

﴿ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ﴾

 

 3 ـ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ

 أي إذا لم يتكلَّم الإنسان، لم يواجه الناس بأخطائهم، لم يحرج الناس، ليس معنى هذا أنه لا يعلم، أحياناً التغابي يكون قمَّة الذكاء، حتى إن بعضهم قال:

لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ  لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي
***

 التجاهل وعدم السمع.
 يُروى عن عالمٍ جليل في هذه البلدة عاش قبل خمسين عاماً تقريباً، وكان قاضياً، جاءته امرأةٌ من أطراف المدينة، وفي أثناء صعودها إلى مكان المحاكمة صدر منها صوتٌ غير طيّب، فاحمرَّ وجهها خجلاً وحياءً، وتألَّمت أشدَّ الألم، فلمَّا وصلت إليه قال: ما اسمك يا أختي ؟ قالت: فلانة، فقال: لم أسمع ارفعي صوتك، فقالت: فلانة، قال: لم أسمع، لأن سمعي ضعيف، قالت لأختها: الحمد لله، معنى ذلك أنه لم يسمعنا.. فالإنسان كلَّما كان كاملاً يتجنَّب إحراج الناس، يتجنَّب التدقيق، يتجنب أن تضعهم في زاوية ضيِّقة، ويلتمس لهم العذر، ويتعامى عن أخطائهم.

﴿ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾

 4 ـ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ

فكان الوحي يأتيه بتفاصيل دقيقة جداً، وكانت هذه التفاصيل التي عاشها أصحاب النبي أحد أسباب إيمانهم بالوحي..

 الإنباء أحد دلائل نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام:

 سيدنا عُمَيْر التقى مع صفوان بن أمية، وقال: والله يا صفوان لولا ديون ركبتني، وأطفالٌ صغار أخشى عليهم العنَتَ من بعدي لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه، صفوان استغلَّها، وقال: أما أولادك فهم أولادي ما امتدت بهم الحياة، وأما ديونك فهي عليَّ بلغت ما بلغت، أنا ذو مالٍ كثير فامضِ لما أردتَ، عندما عمير بن وهب دخل على النبي مقيّداً بحمَّالة سيفه قال عمر: هذا عدو الله جاء يريد شرَّاً، قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: يا عمير، ألم تقل لصفوان بن أمية: لولا ديون ركبتني.. إلخ ؟ فوقف، وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله، وأنت رسوله.. فهذا الإنباء أحد أدلَّة نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، اليهود أرادوا قتله كان عندهم، فأتمروا أن يصعد أحدهم إلى الحائط ويلقي عليه صخرةً، جاءه الوحي وبلَّغه ذلك..

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾

( سورة التحريم: الآية 4 )

 إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا

 1 ـ معنى: صَغَتْ

 صغت أي مالت، كان عليه الصلاة والسلام يُصغي الإناء للهرَّة، أي يميِّل الإناء للهرَّة، فالإصغاء هو المَيل، والإنسان إذا استمع إلى كلامٍ رائع فإنه يصغي، أي يميل إلى هذا الكلام الرائع فيعطيه أذنه.

 2 ـ علامة إصغاء القلب التوبةُ إلى الله:

 إذاً: علامة المَيل التوبة، علامة الصدق التوبة، علامة الفهم التوبة، علامة السماع التوبة..

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾

 لو صغنا المعنى صياغة أخرى: تُصغي قلوبكما إلى الحق حينما تتوبا إلى الله، لا تُعَدّ مصغياً للحق، مائلاً إليه معجباً به إلا إذا تُبْتَ إلى الله، وإلا ما تدَّعيه من إعجابٍ بهذا الكلام، واهتمامٍ بهذا المضمون، وأنك مشدوهٌ بهذه الخطبة، وأنك مأخوذٌ بهذه القصَّة، هذا شيء لا قيمة له، فما لم تطبِّق ما سمعت فكل هذا الكلام لا يُقدِّم ولا يؤخِّر، ولا تكون مصغياً حق الإصغاء، مائلاً حق الميل، معجباً غاية الإعجاب إلا إذا تُبْتَ إلى الله..

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾

 مثلاً: إنسان معه مرض خطير، وله ثقة بإنسان عالم بالطب، وأنبأه عن دواء ناجح ومجرَّب، لمجرَّد أن هذا المريض الذي يعاني من مرضه لا يذهب ليشتري الدواء فوراً فهو لم يصغِ إلى الطبيب، أو لم يعبأ بعلمه، أو لا يهتمّ بكلامه، ولا يُسمَّى مصغياً مقدِّراً محترماً إلا إذا اشترى الدواء، فعلامة إصغائه، وعلامة تقديره، وعلامة إكباره، وعلامة إعجابه المبادرة إلى شراء الدواء، أما الإعجاب الجدلي، والمديح الكاذب، والنتيجة أنه لا يشتري الدواء فهذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر.
 هذه الآية دقيقة جداً:

 

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾

 الإصغاء الميل، لا تكون مائلاً للحق، لا تكون مُنيباً إلى الحق، لا تكون معجباً بالحق، لا تكون مُكْبِراً للحق إلا إذا طبَّقت الحق..
 لا سمح الله إنسان مريض، ومرضه خطير، والدواء ناجح ورخيص، وميسور ومبذول، والمتكلِّم عندك صادق، إن لم تبادر إلى شراء الدواء فأنت لم تستمع، ولم تعقل، ولم تقدِّر، قل ما شئت.. فالمِحَكْ التطبيق..

 

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ ﴾

 هذه الآية عجيبة جداً.. فالموضوع امرأتان فقط..

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾

 فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ

فهل هاتان المرأتان الضعيفتان تحتاجان إلى هذا التضافر:

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾

 1 ـ كلُّ إنسانٍ يقف ضد الحق فإن الله وجبريل والمؤمنين جميعهم ضده:

 قال بعض العلماء: " ليس المقصود أن هاتين المرأتين تحتاجان إلى كل هذا، ولكن المقصود أن أيّ إنسانٍ يفكِّر أن يُطفئ نور الله عزَّ وجل، أو أن يعارض الحق، أو أن يقف أمام الحق يجب أن يعلم أن الله وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة جميعهم ضدَّه "، ولكي تعرف أنه قبل أن تقف أمام الحق معارضاً الطرف الآخر.
 أحياناً تقام مناورات في بعض الدول، يقولون لك: الأسطول الفلاني قام بمناورة في الخليج الفلاني، لكي تعلم الجهة الثانية مَن هو الطرف الآخر، ما حجمه.
 العِبرة من هذه الآية: أن كل إنسان أراد أن يقف أمام الحق مناهضاً، أراد أن يُبطِل الحق، أراد أن يطعن في أهل الحق، أراد أن يُسَفِّه الحق، أراد أن يقلِّل من شأن الحق يجب أن يعلم سلفاً مَن هو الطرف الآخر..

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ ﴾

 خالق الأكوان..

﴿ هُوَ مَوْلَاهُ ﴾

 طبعاً معه رسول الله..

﴿ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾

 مثلاً: إنسان عنده ألف جندي، وعنده مركبتان آليتان، وعنده عشر بنادق، هذا الإنسان مع عشر بنادق والمركبتين الآليتين هل يقدر أن يعلن الحرب على أكبر دولة في العالم ؟ عندنا قنابل تبيد الأرض خمس مرَّات، هل هذا ممكن ؟
ما هو القصد في هذه الآية ؟ أن أي إنسان أراد أن يقف أمام الحق مَن هو الطرف الآخر ؟ الطرف الآخر هو خالق الكون، فعندما تريد أن تطعن في الدين، أو أن تطعن في أحقِّية القرآن، أو أن تطعن في النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن تسفِّه التشريع، أو أن تقلِّل من قيمة هذا الإنسان يجب أن تعلم أنك تحارب الكون كلَّه، تحارب خالق الكون، وتحارب رسول الله، وتحارب جبريل، وتحارب الملائكة جميعاً، فقبل أن تتحرَّك خطوةً نحو هذا الموقف اعرف من هو الطرف الآخر، اعرف مَن هو الحق، لذلك أية معركةٍ بين باطلٍ وحق لا تدوم أبداً، لأن الله مع الحق، أية معركةٍ بين حقَّين لا تكون، وأية معركةٍ بين باطلين لا تنتهي، وبين حقٍ وباطل لا تطول..

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾

 2 ـ اعلمْ مَن هو الطرف الآخر:

 الآن كل الناس تقريباً إذا كان في علاقاتهم خلافات يقولون لك: خصمي لا أقدر عليه، الكلام البسيط خصمي لست كفئًا له، فلان معه، وفلان معه، وفلان معه، وفلان معه، ويده طائلة، وليس لي مصلحة أن أخاصمه، وهذا من باب ما يجري بين الناس دائماً، فإذا كنت مع إنسان قوي تتحاشى أن تقف في وجهه، أيعقل أن تقف في وجه الحق ؟ أيعقل أن تحاول أن تُسَفِّه الدين ؟
 الذين سفَّهوا الدين أين هم الآن ؟ في مزابل التاريخ، هذا الكيان الذي ناهض الدين سبعين عاماً ما مصيره اليوم ؟ في الأوحال، لا يوجد مجتمع متمزِّق، متفكِّك، ضعيف، فقير، فيه كل أنواع الانحرافات، كل أنواع الجرائم كهذا المجتمع الذي ناهض الدين سبعين عاماً، وهذا شيء بديهي.
 هذه الآية دقيقة، دائماًِّ فكِّر في الطرف الآخر ؛ مَن تحارب ؟ من تنتقد ؟ من تسفِّه ؟ فيمن تطعن ؟ من تقلل من قيمته ؟ الطرف الثاني هو الحق، الله هو الحق، الله بيده كل شيء..

﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾

 هذه الآية إن شاء الله تعالى نرجعها إلى الدرس القادم لأنني في الدرس الماضي غَفَلْتُ عن الوقت، وقد أخرَّتكم كثيراً، فأنا أعتذر إليكم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور