وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0284 - ابن عمر دينك دِينك إنه لحمك ودمك - الخنزير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .

القرآن الكريم مقياس المؤمن للتمييز بين الأفكار الصحيحة و المغلوطة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في الموضوع الذي بُحِثَ مِن قَبل ألا وهو موضوع العبادة ، واليوم الحديث في العبادة حول هذا السؤال : هل يجوز أن نعبُد الله طمعاً في جنَّته أو خوفاً من ناره ؟
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوعٌ دقيقٌ دقيق ، هو أن المسلم يستمع ويقرأ في حياته آلاف مؤلَّفة من الأفكار الدينية ، فأيُّ هذه الأفكار صحيح وأيها مغلوط ؟ لا يستطيع المُسلم أن يميز الفكرة الصحيحة من الفكرة المغلوطة إلا بمقياس ، إذا امتلك هذا المقياس حُلَّت هذه المشكلة .
 قد تستمع من خطيب مسجد ، أو من مدرس ، أو تقرأ في كتاب ، عشرات الأفكار ، يا ترى كلها صحيحة ؟ بعضها صحيحة ؟ جُلّها صحيحة ؟ لا سبيل إلى معرفة الصحيح منها من المغلوط إلا بمقياسٍ دقيق ، إذا امتلكت هذا المقياس حُلَّت مشكلة الاضطراب في الأفكار .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمام مالِك يقول :" إن هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم " . إنك إذا قبلت فكرةً من دون دليل ؛ وقعت في متاهاتٍ لا حصر لها ، إنك إذا رفضت فكرةً من دون دليل ؛ وقعت في متاهاتٍ لا حصر لها . " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " . ويقول النبي عليه الصلاة والسلام مخاطباً ابن عمر قائلاً له :

(( ابن عمر دينك دِينك ، إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا ))

[ من كنز العمال عن ابن عمر]

 لو أن أحداً قال لك ، أو لو أنك قرأت في كتاب أنه لا يجوز أن تعبد الله طمعاً في ثوابه أو خوفاً من عقابه ، أي طلباً لجنته ، أو هرباً من ناره ، لا ينبغي للعابد أن يفعل هذا، على المؤمن الصادق أن يعبده لأنه أهلٌ للعبادة . كلامٌ طيب ، وكلامٌ لطيف ، وكلامٌ يسمو بالإنسان ، ولكن ماذا يقول القرآن ؟ القرآن هو المقياس ، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم :

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾

[ سورة الإسراء : 57]

 الله سبحانه وتعالى يُثني على أولئك المؤمنين الصادقين ، الذين يرجون رحمته ويخافون عذابه ، هذا هو المقياس ، القرآن الكريم هو المقياس .
 هناك من يُقَرِّع الناس لأنهم يعبدون الله طلباً لجنَّته ، أو خوفاً من ناره ، مع أن القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة وكثيرة يبيِّن أن عباده الصالحين ، وأن عباد الرحمن المخلصين ، بل إن الأنبياء المُكَرَّمين يسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار ، هذا شاهدٌ على أن القرآن هو المِقياس ، لا ينبغي للمؤمن أن يقبل فكرةً ، ولا أن يرفض فكرةً إلا إذا كانت مُدَعَّمَةً بالدليل الناصِعِ مِن كتاب الله عز وجل .

 

مِن بُنْيَة عقيدة المسلم أن يسأل ربَّه الجنة وأن يستعيذ به من النار :

 عباد الرحمن هؤلاء الذين أضافهم الله إلى ذاته ، أضافهم إلى اسمه العظيم ، إلى اسمه الجامع ، الرحمن قال :

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾

[ سورة الفرقان : 63-66]

 عباد الرحمن يستعيذون بالله من نار جهنم :

﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾

[ سورة الفرقان : 65]

 آياتٌ أخرى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾

[ سورة آل عمران : 190-195]

 إذاً العباد المؤمنون ، والعباد الصالحون ، والعباد المقرَّبون يستعيذون بالله من النار ، ويسألون الله الجنة . إذاً مِن بُنْيَة عقيدة المسلم أن يسأل ربَّه الجنة وأن يستعيذ به من النار .

 

سؤال الله الجنة و الاستعاذة به من النار جزءٌ من عبادة المسلم الصحيحة :

 شيءٌ آخر . . الله سبحانه وتعالى يحدثنا عن دعاء سيدنا إبراهيم يقول :

﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِييَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء: 82-89]

 واجعلني ، سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء ، من أولي العزم . .

﴿ يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي﴾

[ سورة الشعراء: 87-87]

 النبي عليه الصلاة والسلام أمر أمَّته ، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[ سورة الحشر : 7]

 أمر أمَّته أن يسألوا ربَّهم عُقَيْبَ الأذان أعلى منزلةٍ في الجنة ، لذلك كان أحد أصحاب رسول الله وهو سليم الأنصاري يقول : " أما إني أسأل الله الجنة ". فأن تسأل الله الجنة وأن تستعيذ به من النار فهذا جزءٌ من عبادتك الصحيحة .
 في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " إن الله تعالى يسأل ملائكته عن عباده وهو أعلم بهم ، يقولون : أتيناك من عند عبادك يهللونك - أي يوحِّدونك - ويكبرونك ، ويحمدونك ، ويمجدونك . فيقول الله عز وجل : وهل رأوني ؟ فيقولون : لا يا رب ما رأوك . فيقول الله عز وجل : كيف لو رأوني ؟! فيقولون : لو رأوك لكانوا أشدّ لك تمجيداً يا رب ، ويسألونك جنتك . فيقول الله عز وجل : هل رأوها ؟ فيقولون : لا ، وعزَّتك ما رأوها . فيقول الله عز وجل : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها لكانوا أشدّ طلباً لها ، ويقول الملائكة أيضاً : ويستغيثون بك من النار . فيقول الله عز وجل : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا ، وعزتك ما رأوها . فيقول الله عز وجل : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها لكانوا أشدّ منها هرباً ، عندئذٍ يقول الله عز وجل : يا ملائكتي إني أشهدكم أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأعذتهم مما استعاذوا ".
 هذا الحديث الصحيح دليل مشروعية أن تسأل الله دخول الجنة وأن تستعيذه من النار . والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( استعيذوا بالله من عذاب القبر . . . ))

[ من كنز العمال عن أبي هريرة ]

 ولما سئل أن يدعو لأحد أصحابه بالجنة قال عليه الصلاة والسلام :

((أعني على نفسك بكثرة السجود ))

[ من الدر المنثور عن ربيعة بن كعب ]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرةً ثانية : القرآن هو الأصل ، القرآن هو الدليل ، القرآن هو المقياس ، لا ينبغي أن تقبل شيئاً خلاف القرآن الكريم ، لا ينبغي أن ترفض شيئاً إلا بالدليل ، إذا أعملت فكرك تلقَّيت من العلم الصحيح ، ورفضت المغلوط ، عندئذٍ تسعد بهذا العلم، لأن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذ دينه .

 

الجنة نعيمٌ مقيم وأعظم ما فيها القُرب من الله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( ألا مشمرٌ للجنة فإنها وربِ الكعبة نورٌ يتلألأ ، وريحانةٌ تهتز ، وزوجةٌ حسناء ، وفاكهةٌ نَضِجَة ، وقصرٌ مشيد ، ونهرٌ مضطرب ))

[ من الدر المنثور عن ابن زيد ]

 هذا وصف النبي عليه الصلاة والسلام . فقال الصحابة : يا رسول الله نحن المشمرون لها . فقال : " قولوا إن شاء الله تعالى " .
 وفي حديثٍ آخر يقول عليه الصلاة والسلام : " إن الله يحب من عباده أن يسألوه الجنة ، وأن يستعيذوا به من النار فإن الله يحب أن يسأل ، ومن لم يسأله يغضب عليه ، وأعظم ما سئل الله عز وجل الجنة ، وأعظم ما استعيذ به النار " .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لو لم يكن مطلوباً من المؤمن أن يسأل الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل لما ذكر القرآن أوصاف الجنة وشوَّقنا إليها ، ولو لم يكن مطلوباً من المؤمن أن يستعيذ من النار ، لَما وصفت بالقرآن بأوصافٍ يقشعر منها جلد المؤمن حتى نبتعد عنها ونسأل الله النجاة منها .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ولكن الصحيح أن الجنة في تصوّر البعض مكانٌ جميل؛ فيه أشجارٌ وثمار ، فيه أنهارٌ وأطيار ، بستانٌ جميل ، فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، إذا تصوَّرت الجنة شيئاً مادياً فقط ليس غير ، فهذا هو الغلط ، إن في الجنة رؤية وجه الله الكريم ، إن في الجنة مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ، إن في الجنة تقلُّباً في رحمة الله .
 لذلك إذا سألت الله الجنة ، ليس معنى ذلك أن تسأل ما في الجنة من طعامٍ وشراب ، وحورٍ عين ، وجناتٍ تجري من تحتها الأنهار ، إنك إن سألت الله الجنة أيْ إنك تسأله أن تكون معه ، وأن تنظر إلى وجهه الكريم ، وأن تتمتع بما أعدَّ الله لك من ألوان النعيم .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ القول الفصل هو أن الجنة ليست مادةً فقط ، بل هي نعيمٌ مقيم ، وأعظم ما في هذا النعيم القُرب من الله العظيم .
 يقول بعض العلماء : الجنة ليست اسماً لمجرَّد الفواكه والطعام والشراب ، ليست اسماً لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور ، وأكثر الناس يغلطون في مُسَمَّى الجنة ؛ فإن الجنة اسمٌ لدار النعيم المُطلق الكامل ، ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، وقرة العين بالقرب منه ، وبرضوانه .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الجنة كل شيء ، لكن أرقى شيءٍ في الجنة هذا القرب من الله عز وجل ، فيها أشجارٌ وثمار ، فيها حورٌ عين ، فيها جنَّاتٌ وأنهار ، وفيها نظرٌ إلى وجه الله الكريم . وفي بعض الآثار أن المؤمنين إذا نظروا إلى وجه الله الكريم غابوا خمسين ألف سنة من نشوة النظر . فإذا سألت الله الجنة إنك تسأله نعيماً مُقيماً ونظرةً إلى وجهه الكريم .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ جاء في بعض الأحاديث الشريفة :

(( فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 وفي حديثٍ آخر : " إنه سبحانه وتعالى إذا تجلىَّ لهم ورأوا وجهه عياناً نسوا ما هم فيه من النعيم ، وذهلوا عنه ، ولم يلتفتوا إلى سواه " .

 

ثمن الجنة طاعة الله عز وجل و الاستقامة على أمره :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرةً ثانية : الجنة هي النعيم المُطْلَق ، وما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المَخيط إذا غمس في مياه البحر ، ماذا يأخذ المخيط ؟ فهؤلاء الذين ينكبّون على الدنيا ، ويسعون إلى جمع الدرهم والدينار ، ويجعلون منتهى آمالهم أن يجمعوا منها ما أمكنهم الجمع ، وينسون ما أعدَّ الله لهم من النعيم المُقيم ، هؤلاء في خسارةٍ كبيرة :

 

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان عليه الصلاة والسلام يدعُو فيقول :

(( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ))

[ الدر المنثور عن ابن عمر]

 لأن الدنيا إذا كانت أكبر همِّنا ومبلغ علمنا كنا فيها من الأخسرين أعمالاً ، الذين وصفهم الله عز وجل في القرآن الكريم .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألا إن سلعة الله غالية ، هذه الجنة التي وصفها الله تعالى في القرآن الكريم ثمنُها طاعة الله عز وجل ؛ في المنشط والمكره ، ثمنها الاستقامة على أمره ، ثمنها بذل الغالي والرخيص والنفس والنفيس ، ثمنها أن تكون أوثق بما في يدي الله منك مما في يديك ، ثمنها أن تكون كما يريد الله عز وجل ، حتى يكون الله لك كما تريد .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا قال الله عز وجل في الحديث القدسي :

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

.
 فما في الجنة من نعيم ؟! أيزهد في الجنة ؟ أتكون الدنيا هي أكبر همنا ؟ إن الدنيا جيفة طلابها كلابها ، إنها دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له ، إنك في الدنيا كالمسافر جلست إلى ظل شجرة ، فلابد من أن ترحل عما قريب ، إنك في الدنيا ضيْف ، إنك في الدنيا تعيش أياماً معدودة ، وبعدها تنقضي إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ عوِّد نفسك أن تسأل عن الدليل مِن كتاب الله ، في كل شيءٍ تسمعه ، لا تقبل شيئاً قبل أن ترى الدليل ، ولا ترفض شيئاً قبل أن ترى الدليل .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الخنزير :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ اطلعت قبل يومين على مقالةٍ تُلَخِّص كتاباً ألَّفه رجلٌ من العالم الغربي يتحدث فيه عن الخنزير ، والشيء الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى حينما يحرِّم أكل لحم الخنزير فإن هذا التحريم ينطوي على حِكَمٍ لا حصر لها ، يقول مؤلف الكتاب : إن الخنزير حيوانٌ لاحمٌ عاشِب - أي يأكل العُشب واللحم معاً- وقد حَرَّمت أكله الشرائع كلّها ، وللخنزير أقبح الطبائع والعادات ، ففيه الغباوة والقذارة ، وفيه سوء الخُلُق ، ولا يعفُّ في نكاحه حتى عن أمه .
 وهناك شيءٌ آخر : إن أحبّ الطعام إليه النجاسات والجرذان الميتة ، وإن أحبّ الطعام إليه طعام الجيَف ، وإنك إذا وضعت الخنزير في مكانٍ نظيف ، وفي طرف المكان أقذارٌ ما أمكنه إلا أن يتمرَّغ بها ؛ شيءٌ عجيب في طباع الخنزير .
 شيءٌ آخر : إن البيوض ، بيوض الديدان التي يمكن أن تكون في لحمه ، لا ينجو من خطرها الإنسان ولو بقي يغلي هذا اللحم ساعةً بكاملها ، إن الطبخ العادي ، وإن الشَيَّ السطحي لا ينقذ الإنسان من أخطار لحم الخنزير . قلت : سبحان الله إن أمراضاً كثيرة وديداناً خطيرة تعيش في خلاياه وفي ثنايا لحمه ، وهذه الديدان محصَّنةٌ بحيث لو أن هذا اللحم طبخ طبخاً عادياً ، أو شوي شَيَّاً سطحياً فإن هذه اليرقات لا تموت ، لابد من أن يكون في تبريدٍ يقل عن ثلاثين درجة تحت الصفر ، أو أن يغلي أكثر من ساعة حتى تموت هذه اليرقات في لحمه. فربنا سبحانه وتعالى حينما حرَّم هذا اللحم حرمه لحكمٍ كبيرة ، هذه بعض الحِكَم ، بل إن مؤلف الكتاب يقول : إن هذا الحيوان له وظيفةٌ في تنظيف الأرض من الجيَف والأوساخ والنجاسات .
 هذه مهمته ، فإذا بعض الناس يجعلونه طعامهم الأول ، الله سبحانه وتعالى إذا حرَّم شيئاً كان هناك علةٌ علميةٌ بين النتائج وبين علَّة التحريم ، أي لحمٌ مليءٌ بالديدان واليرقات، ولو طبخته طبخاً عادياً ، أو شويته شَيَّاً عادياً فإن هذه اليرقات لا تموت .
 لذلك حينما تشيع الأمراض في بعض البلاد التي تأكل لحم الخنزير فهذا شيءٌ طبيعيٌ جداً ، بل إن ست حالات وفاة أحدها من هذه الدودة التي تعيش في ثنايا خلايا الخنزير.
 شيءٌ آخر : إن الدهون التي في هذا الحيوان فيها نسبةٌ عالية من الكولسترول، لذلك الذبحة القلبية ، وتصلُّب الشرايين ثمانية أضعاف في الدول المتقدمة التي تأكل هذا اللحم، نسبة هذه الأمراض ثمانية أمثال الدول التي لا تأكل هذا النوع من اللحم .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أردت من هذه المقالة التي نشرت في مجلةٍ تصدر في سوريا في دمشق ، أردت من هذه المقالة أن يعرف المسلم لماذا حرَّم الله عليه لحم الخنزير ؟ طبعاً المقالة طويلة ، وتنطوي على تفصيلاتٍ كثيرة ، ولكن جئتكم ببعض ما فيها من فقرات ، إن الله عز وجل حرَّم الخبائث وأحلّ الطيبات ، الشيء الذي تطيب نفسك به حلال ، والشيء الذي يتلف جسدك أو يذهب عقلك هو حرام .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور