- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشـهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سلامة العقيدة :
أيها الأخوة الكرام، لا زلت أقول: إن أخطر شيء في الدين سلامة العقيدة، ومن سلامة العقيدة أن تملك تصوراً صحيحاً لحقيقة الكون، ولحقيقة الدنيا، ولحقيقة الإنسان، فالإنسان في حقيقته هو المخلوق الأول، وقد خلق للجنة، وإنما جاء إلى الدنيا كي يدفع ثمنها، ليحمل نفسه على معرفة الله أولاً، وعلى طاعته ثانياً، وعلى التقرب إليه بالعمل الصالح ثالثاً، فحينما يفهم الإنسان أن هذه الدنيا دار ابتلاء، ودار التواء، وليست دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، وجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، يأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، حينما يوقن أن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
عندئذ يتقبل هذا الابتلاء، وينجح في هذا الابتلاء، ويفوز برضى الله في الدنيا، وبجنته في الآخرة، هذه حقيقة كبرى في الإسلام.
للامتحان هدف تربوي و كشفي يكشف حقيقة الإنسان :
لذلك أيها الأخوة: المحن التي يعاني منها المسلمون اليوم ليست هي استثناء بل هي القاعدة، لأن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن يكون بين عباده صراع مستمر من آدم إلى يوم القيامة، صراع بين الحق والباطل، صراع بين الخير والشر، صراع بين العطاء والأخذ، صراع بين العدل والظلم، هذا الصراع من أول الخليقة وإلى نهاية الدوران، فالمحن التي يمر بها المسلمون، والمحن التي يمر بها أهل الحق بشكل عام هي محن ضرورية لتربيتهم ولتمحيصهم، استمع إلى قوله تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾
إذاً لا يكفي أن تقول: آمنت بالله، لا يكفي أن تفهم الأمور فهماً نظرياً، لا يكفي أن تستمع إلى خطبة فتقتنع بها، لا يكفي أن تقرأ كتاباً إسلامياً فتقتنع به، لا يكفي أن تسمع شريطاً فتعجب بقائله، لابد من عمل، لابد من منعكس لهذا الفهم، لذلك:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾
أيها الأخوة الأحباب:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
سنَّة الله في خلقه أن يبتلي عباده المؤمنين، لأنهم مؤهلون، الصبي خارج المدرسة لا يمتحن، ليس له مستقبل، من المشردين، أما إذا دخل المدرسة فلابد من امتحانات، فحينما نوطن أنفسنا على أننا اخترنا الله ورسوله، واخترنا الدار الآخرة، لابد من الامتحان، ولابد من التمحيص، فالامتحان له هدف تربوي، وهدف كشفي، إن صح التعبير، وإن صح القياس، يكشف حقيقة الإنسان.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾
آية ثانية:
﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾
آية ثالثة:
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
سهل جداً أن تقول: ما شاء، وأن تمدح نفسك كما تشاء، وأن تصف إيمانك كما تريد، لكن الله متكفل أن يحجمك، وأن يضعك في خانتك الصحيحة، أن يضعك في حجمك الحقيقي، لذلك يقول الله عز وجل في آية بليغة وكل كلام الله بليغ:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
وما هذه الأحداث الجسام التي يمر بها المسلمون في العالم إلا من هذا النوع.
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
معركة الحق والباطل أزلية أبدية قديمة قدم الإنسان :
أيها الأخوة الكرام، لماذا في منهج البحث يعتمد المنهج التاريخي كمقدمة للبحث؟ لأن التاريخ يضيء الحاضر، أنا أضعكم أيها الأخوة في هذه الخطبة مع بعض الأحداث التاريخية، التي قد تلقي ضوءاً كاشفاً على ما يعانيه المسلمون في هذه الأيام:
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾
الذين حفروا الأخدود، وحرقوا فيه المؤمنين.
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾
إذاً الله جلّ جلاله على من أثنى في هذه الآيات؟ أثنى على الذين احترقوا، وثمن عملهم، ووعدهم بجنة عرضها السموات والأرض، وعلى من غضب؟ على الذي فعل هذا، فما هو النصر الحقيقي؟ أن تكون في سخط الله أم أن تكون في رضوان الله؟ النصر الحقيقي أن تكون في رضوان الله، وأن تكون ثابتاً على المبدأ، وأن تكون صحيح العقيدة، سليم المنهج، مؤمناً بالله، متوكلاً عليه، راغباً فيما عنده، تخشاه، ولا تخشى معه أحداً، هذا هو الإيمان الحقيقي، وكما قلت قبل قليل: معركة الحق والباطل أزلية أبدية، قديمة قدم الإنسان، ومستمرة مع الإنسان، إلى نهاية الدوران، والدليل:
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾
لماذا؟ لأن الإنسان وضعت فيه الشهوات، والشهوات يقتضي أن يمارسها الإنسان بلا قيد ولا شرط، هذا طبع الإنسان، لكن المنهج يضع له حدوداً، والحدود يظنها الجاهل قيوداً، ويفهمها العالم ضماناً لسلامته، فما من شهوة وضعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قنوات نظيفة تجري من خلالها، لكن أهل الكفر والفسوق والعصيان والفجور وأهل الدنيا يريدون ممارسة شهواتهم بلا قيد ولا شرط، لأن خطيباً في ألمانيا ندد بقانون جواز الزواج المثلي سحبت منه الجنسية ودفع خمسة عشر ألف مارك، لأنه ندد بما ندد به القرآن.
الإسلام منهج الله المتألق دائماً :
أيها الأخوة الكرام، الأمور واضحة وضوح الشمس، كان هناك ألوان لا تعد ولا تحصى رمادية، الآن أبيض وأسود، حق وباطل، وليٌّ وإباحي، ظالم ومنصف، محسن ومسيء، أخروي ودنيوي، رباني وشيطاني، الأمور توضحت وضوحاً لاشك فيه:
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾
يريد الطرف الآخر أن يمارس الشهوات بأوسع زاوية لها، من دون قيد أو شرط، منهج الله يضع حدوداً، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، هذه القناة ضمان لسلامته في الدنيا وسعادته في الآخرة، أهل الكفر والفجور لا يريدون هذه القنوات يريدونها مياه سوداء، يريدونها قنوات مالحة فيها كل شيء، فلذلك:
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾
بربكم أيها الأخوة: لو أن إنساناً وقف في رابعة النهار، وتوجه إلى الشمس، وأراد أن يطفئ نورها بنفخة منه !! أين مكانه في حياتنا المدنية؟ في مستشفى المجانين، فإذا كان الإنسان عاجزًا عن إطفاء نور الشمس فلأن يكون عاجزاً عن إطفاء نور الله من باب أولى، أهل الأرض لو اجتمعوا على أن يطفئوا نور الله لا يستطيعون، إن هذا الدين العظيم هناك من يحاول أن يقمعه كمن يحاول أن يطفئ النار بالزيت، ولكن ما ضر السحاب نبح الكلاب، وما ضر البحر أن ألقى فيه غلام بحجر، ولو تحول الناس إلى كناسين ليثيروا الغبار على الإسلام ما أثاروه إلا على أنفسهم، ويبقى الإسلام متألقاً، لماذا كل هذا الضغط على الإسلام؟ لأنه منهج إلهي، هناك مئات الديانات الأرضية الوضعية، أتباعها بمئات الملايين، وليس هناك من مشكلة أبداً حولها، والسبب أنها ليس معها منهج، معها طقوس، تمتمات وحركات وسكنات لا تقدم ولا تؤخر، أقم هذه الطقوس وافعل ما تشاء، مثل هذه الديانات لا يمكن أن تثير مشكلة في الحياة، لكن الإسلام منهج الله فيه افعل ولا تفعل، فيه قيود، أو بالأصح فيه حدود لسلامتنا، لذلك الذين أرادوا التفلت من كل قيد أرادوا التفلت من هذا المنهج، بكل ما عندهم من قوة، وهذا ليس جديداً، إنما هو قديم.
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾
الشيء الذي لا يصدق أن محنة الحق والباطل أزلية أبدية، وأن معركة الحق والباطل أزلية أبدية، وأن المؤمنين دائماً يدفعون الثمن باهظاً لأنهم يدفعون ثمن الجنة، وفي النهاية الانتصار للمؤمنين، اقرؤوا تاريخ النبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء الذين عارضوه، وناوؤوه، وأخرجوه، وائتمروا على قتله، أين هم في التاريخ؟ إنهم في مزبلة التاريخ، وهؤلاء الذين نصروه وعززوه ودافعوا عنه، ونشروا دعوته، أين هم في التاريخ؟ إنهم في لائحة الشرف.
بطولة المؤمن أن يكون جندياً للحق :
أيها الأخوة الكرام :
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾
زوال الكون أهون على الله من ألا تحقق هذه الآية، لكن للباطل جولة، ثم يضمحل.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
زهوق صيغة مبالغة، مهما يكن الباطل كبيراً فهو زهوق، ومهما يكن متعدداً فهو زهوق، المبالغة تعني الكم والنوع.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
أكبر قلعة من قلاع الكفر تداعت من الداخل، كبيت العنكبوت.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تكون قوة جبارة طاغية، ظالمة، وأن تخطط لمستقبلها، ولمستقبل أبنائها على حساب بقية الشعوب، على حساب كرامة الشعوب، وعلى حساب حرية الشعوب، وعلى حساب ثقافة الشعوب، وأن تنجح خططها على المدى البعيد، نجاح خططها على المدى البعيد لا يتناقض مع عدل الله بل مع وجوده.
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
﴿الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
الإيمان الذي أراده الله أيها الأخوة الكرام:
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾
كل بطولتك أن تحقق جنديتك لله عز وجل، أن تكون جندياً للحق، إن كنت كذلك فأنت المنتصر، ولو بعد حين.
المؤمن هو المنتصر في النهاية :
أيها الأخوة الكرام: نبدأ بسيدنا إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، أعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبد هؤلاء من دون الله قال:
﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾
لا يوجد حل وسط، الحق حق، والباطل باطل، ماذا فعلوا به؟ ألقوه في النار، من المنتصر؟
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
سمح الله لهم أن يعتقلوه، سمح لهم أن يوقدوا ناراً عظيمة، ولم تطفأ بمطر غزير، جعل الجو مناسباً لتألق هذه النار، وسمح لهم ن يأخذوه، وأن يلقوه، وفي آخر الحلقات:
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً ﴾
لو قال: برداً فقط لمات من البرد، ولو قال: سلاماً فقط لتعطل مفعول النار إلى يوم القيامة، على إبراهيم فقط.
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
أنت إذا آمنت بالله مع من؟ مع خالق الكون، مع خالق القوانين، مع مفعّل القوانين، إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ هل من محنة أعظم من أن يلقى الإنسان في النار؟ فإذا كان مع الله أصبحت النار برداً وسلاماً، هذه أشد حالة يتصورها الإنسان.
سيدنا يونس في بطن الحوت، لمن هذه القصص؟ لأخذ العلم؟ لا والله، للاستمتاع القصصي؟ لا والله، لمن هذه القصص؟ لنا، سيدنا يونس في بطن الحوت نادى في الظلمات:
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾
لم يكن الخلوي موجوداً.
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلبها إلى قانون، هل أنت في محنة كهذه المحنة؟ هل أنت في محنة كمحنة سيدنا إبراهيم؟
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾
هل أنت في محنة كمحنة سيدنا يونس؟
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام:
﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾
هذه حقائق.
أيها الأخوة:
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
في النهاية المنتصر هو المؤمن، الجنة للمؤمن، خريف العمر المتألق للمؤمن، الامتحان لابد منه، الامتحان من سنن الله الكبرى:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
سيدنا موسى حياته كلها محن، رافقت هذا النبي الكريم رضيعاً تتقاذفه الأمواج، شبت معه هذه المحن فتى يافعاً هارباً من بطش فرعون، زاد حياته محنة على محنة، تعرضه لنقمة فرعون من جهة، ولإيذاء قومه ولسفههم من جهة ثانية، ويمضي موسى في طريقه حاملاً كل التبعات، وفي فترة من فترات الضعف البشري يحس موسى بالوجل والخوف يخلجان في صدره، وفي قلب المعركة، ولكن الله سبحانه وتعالى سرعان ما تداركه بالمدد:
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾
بالحسابات لا يوجد أمل، قلة قليلة، شرذمة هاربة وراءهم فرعون بقوته وأتباعه، وآلته الحربية، والبحر أمامهم:
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
لم ينف بل ردعهم، أيها الأخوة الكرام:
﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾
كيد الطرف الآخر للمسلمين تشيب لهوله الولدان :
والله أيها الأخوة لو اطلعتم على ما يكيد الطرف الآخر للمسلمين، والله كيدهم يشيب لهوله الولدان، والله كيدهم تتفطر له السماء، والله كيدهم يتلخص في إبادة المسلمين عن آخرهم، كيدهم في إفقارهم، كيدهم في إذلالهم، كيدهم في إضعافهم، كيدهم في تفرقتهم، اقرأ قوله تعالى:
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾
انتهى، كل قوتهم، وكل أسلحتهم، وكل مؤامراتهم، وكل خططهم، وكل ضبطهم للأمور، يتلاشى عند الله عز وجل، فالبطولة أن نكون معه، البطولة أن نستحق أن ينصرنا، من أدعيتي التي أدعو بها دائماً، والله الموفق: وانصرنا على أنفسنا حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا.
أيها الأخوة الكرام، المحنة التي أصابت المؤمنين في عهد رسول الله، تفنن أهل الجاهلية في حرب رسول الله عليه لصلاة والسلام، ابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، حشدوا كل قواهم لعرقلة مسيرة هذا الدين، عمدوا أولاً إلى أسلوب خسيس رخيص يستهدف تدمير أعصاب المسلمين، والمسلم الآن، وأنا لا أكتمكم قد يخضع المؤمن لتضليل إعلامي غربي، قد يغسل دماغه، يلقى في روعه بأنك ضعيف، وأنك منتهٍ، لا سبيل لك إلا أن تركع وأن تسجد، هذا التضليل الإعلامي أحد أسلحة الطرف الآخر:
﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ﴾
من أنا ؟ أنا عبد ضعيف.
﴿) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾
فضائل الإنسان تعزى إلى دينه لا إلى عاداته و تربيته :
أيها الأخوة الكرام، معركة طويلة الأمد بين النبي وأهل مكة وكفار قريش، ماذا قالوا عن النبي؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ:
(( مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ أَوْ كَمَا قَالُوا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ انْصَرِفْ رَاشِدًا فَوَ اللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ قَالَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ ))
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾
لم يقل: هذه تربية بيتية، هذا ضمير يقظ:
﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
لأنني مسلم أنا صادق، لأنني مسلم أنا أمين، لأنني مسلم أنا متواضع، لا تعزُ فضائلك إلى تربية أو إلى عادات أو تقاليد أو مجتمع، ينبغي أن تعزوها إلى دينك، كي تكون داعية إلى الله عز وجل، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِي اللَّه تَعَالَى عَنْه دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي:
(( أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ ))
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
الإسلام ثورة حقيقية على المعتقدات البالية و التصورات المزيفة :
أعيد وأقول: إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
أخواننا الكرام: لأن الإسلام ثورة حقيقية، ثورة على المعتقدات البالية، ثورة على التصورات المزيفة، ثورة على كل طرح بعيد عن وحي السماء، ثورة على كل السلوك الذي يعبر عن كل شهوة وتفلّت، لأن الإسلام ثورة حقيقية، كان الإسلام وكان أهل الإسلام في محنة شديدة، وما هذه المحنة إلا ثمن الجنة.
سيدنا بلال: كان أمية بن خلف يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً: إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، أو تعبد اللات والعزة، وكان بلال يردد ويقول: أحد أحَد.
محنة آل ياسر: أما ياسر فالأب لم يقوَ على تحمل العذاب لكبر سنه، فمات لتوه، أما سمية فأغلظت القول لأبي جهل فطعنها عدو الله في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام، فنزل قوله تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام: خبيب بن عدي الذي ساقه كفار مكة إلى مكة، وباعوه لمن قتل أباه في بدر، وكان سيصلب، وضع على خشبة الصلب، وتقدم منه أبو سفيان وقال له: يا خبيب أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك معافى؟ فقال قولة والله لا أشبع من تردادها، قال هذا الصحابي الجليل: " والله ما أحب أن تكون لي الدنيا وعافيتها ونعيمها وأنا في أهلي وولدي - في بيته وزوجته وأولاده ومعه مال وفير وعافية ونعيم ورفاه - وأن يصاب رسول الله بشوكة". أقرأ على مسامعكم تفاصيل هذه القصة:
أيها الأخوة، في اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى التنعيم ليصلبوه، فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين. ففعلوا، قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من الموت لاستكثرت من الصلاة، لكن أراد أن يموت عزيزاً فما أطال الصلاة، أتمهما وأكملهما، وعندما رفع على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك، قال: لا والله لا أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعاً، إن قتلي في الله لقليل، ما قدمت شيئاً، اللهم إني لا أرى إلا وجه عدوٍ - ليس حوله أحد من المؤمنين- اللهم ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت، وكان عليه الصلاة والسلام في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة، ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام، واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين بأيديهم الرماح، وقالوا: هذا الذي قتل أباكم في بدر. فقال خبيب: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فأبلغه الغداة ما يصنع بنا، وعندما أخذت الرماح تمزق جسده استدار نحو الكعبة وقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته، التي ارتضى لنفسه ولنبيه وللمؤمنين. واستمر أعداء الله يمزقون جسد خبيب برماحهم وهو لا يفتر يردد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أيها الأخوة، الذي يموت على الإيمان هو المنتصر، الذي يموت ثابتاً على المبدأ هو المنتصر، الذي يموت محباً لله ورسوله هو المنتصر، الذي يقيم الإسلام في بيته هو المنتصر، الذي يقف عند حدود الله هو المنتصر، الذي له عمل صالح هو المنتصر، الذي له دعوة إلى الله هو المنتصر، وليكن وضعه المادي ما كان.
أيها الأخوة الكرام: الحسن البصري دخل في محنة مع الحجاج، قال قولة الحق فأمر بقتله، فلما دخل على الحجاج، ورأى السياف واقفاً، والنطع ممدوداً حرك شفتيه بكلمات لم يفهمها أحد، وإذا بالحجاج يقف له ويستقبله، ويجلسه على سريره، ويقول له: يا أبا سعيد أنت سيد العلماء، واستفتاه، ثم أكرمه وودعه إلى باب القصر، السياف والحاجب ذهلا وصعقا، ما الذي حدث؟ جاء به ليقتله والسياف واقف، فتبعه الحاجب وقال له: يا أبا سعيد ماذا قلت لربك؟ قال: قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا أنيسي في وحشتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
محن المسلمين أزلية أبدية وهذه المحن ثمن الجنة :
أيها الأخوة الكرام، نحن في أمس الحاجة إلى هذه الدروس، محن المسلمين أزلية أبدية، لكن لهم الجنة، ألم يدخل سيدنا عمر على النبي عليه الصلاة والسلام رآه مضطجعاً على حصير أثر في خده الشريف، أين السرير؟ أين الريش؟ أين الفرش الوثيرة؟ بكى، قال: ما يبكيك يا عمر؟ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ:
((مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُـمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ. قَالَ عُمَرُ فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ ))
مئات الألوف يقتلون، وهذا الذي يأمر بقتلهم يجلس على أريكة يشاهد مباراة في كرة القدم، وفي تتمة مما ورد في الأثر:" رسول الله ينام على الحصير، وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير؟ قال: يا عمر أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا؟ يا عمر هل أنت في شك؟ يا عمر إنما هي نبوة، وليست ملكاً".
أيها الأخوة الكرام، نحن في أمس الحاجة إلى هذه الدروس، نحن في أمس الحاجة إلى دروس ترفع معنوياتنا، الله جل جلاله لن يتخلى عنا، وإذا مدّ الله في أعماركم وأرجو ذلك، سترون أن هذه الأحداث التي وقعت لها أثر إيجابي كبير جداً في الإسلام، وأن هذا الدين العظيم انتقل إلى بؤرة الاهتمام في العالم كله، وأن هؤلاء الطغاة في الغرب وفي إسرائيل مهمتهم عند الله توحيد المسلمين، وبدأت معالم وحدتهم إن شاء الله، بدأت معالم تضامنهم، بدأت معالم غيرتهم، بدأ الحق يتوضح، والـله ولا مليار خطبة توضح الحق كما وضحته هذه الأحداث، ولا مليار كتاب يوضح الحق كما وضحته هذه الأحداث، في العالم كله، الله جل جلاله يقول:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾
إرادة الله أن يمن على هؤلاء المستضعفين، لا تعدل عند الله هذه الدنيا جناح بعوضة:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين.
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حاجة الدين إلى التعزيز و التقوية :
أيها الأخوة الكرام، والله لا أملك إلا كلمة واحدة: لا يوجد عندنا حل إلا أن نكون مسلمين صادقين مؤمنين، كل واحد منكم لبنة في صرح هذا الدين العظيم، بعض اللبنات موقعها خطر، بعض اللبنات في زاوية، بعض اللبنات في مكان ضعيف، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك، استقامتك دعوة إلى الله، الدين يحتاج إلى تعزيز، إلى تقوية، لم يكلفك الله ما لا تطيق، تطيق أن تكون مسلماً، تطيق أن تطلب العلم، تطيق أن تعرف الحقيقة، تطيق أن تعمل صالحاً، تطيق أن تحمل هموم المسلمين، تطيق أن تخفف عنهم بعض الأعباء، ارحمهم ليرحمك الله، قدم لهم جزءاً من إمكاناتك، من علمك، من خبرتك، من مالك، قدِّم شيئاً حتى يرضى الله عنا جميعاً، يحبنا الله إذا تراحمنا، يحبنا إذا تعاونا، يحبنا إذا تضامنا، يحبنا إذا تباذلنا، يحبنا إذا تناصحنا، هكذا يحبنا الله عز وجل، القضية الدقيقة أننا إن كنا كما أراد الله كان لنا كما نريد، ومما ورد في الأثر: " عبدي كن لي كما أريد أكن لك كما تريد. عبدي كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد".
أيها الأخوة الكرام، حينما تستقبل محنة، ولو لم تمسك المحنة مباشرة، الحمد لله والفضل لله لم يصب أحد منا بأذى في هذا البلد الطيب، لكن نحن مسلمون لنا مشاعر، وأحاسيس، فإن لم نتألم لما يجري عند المسلمين فلسنا مؤمنين إطلاقاً، علامة إيماننا ألمنا، حرقتنا، وتمنياتنا، ودعاؤنا لأخوتنا أن ينصرهم الله عز وجل، إن لم نتحرك لمد يد المساعدة، إن لم نتحرك لخدمة المسلمين.
أيها الأخوة الكرام، أقول كثيراً قد تقرأ كتاباً سخيفاً سطحياً تنتهي من قراءته تتثاءب وتنام، وقد تقرأ كتاباً خطيراً تنتهي من قراءته فتبدأ عندها متاعبك، الخطبة التي أرجو الله سبحانه وتعالى أن يقويني على أدائها كما يحب الله، ينبغي أن تبدأ وأنا معكم متاعبنا بعدها، أن تضعنا أمام مسؤولياتنا، أمام رسالتنا التي وكلنا الله بها، أمام مهمتنا في الحياة، ومما ورد في الأثر: قالت السيدة خديجة: ابق مستلقياً يا رسول الله، قال: عليه الصلاة والسلام: " انقضى عهد النوم يا خديجة " .
وما لم يحمل أحدكم همّ المسلمين، وما لم - كما قلت في الخطبة قبل السابقة- يجاهد نفسه أولاً، ليحملها على معرفة الله وعلى طاعته وعلى خدمة عباده لن ننتصر، جهاد النفس والهوى هو الأصل، بل إن جهاد الأعداء فرع له، وهذا متاح لكل مؤمن، متاح لكل مسلم من أي مكان في العالم، ولا أحد في الأرض بإمكانه أن يمنعه من ذلك، لنبدأ بإعداد أنفسنا، لنبدأ بمجاهدة أنفسنا وأهوائنا، لنضع مصالحنا وأهواءنا وشهواتنا تحت أقدامنا، لنكن مؤمنين كي نستحق نصر الله عز وجل.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا فيما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، اللهم أهلك أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم على أعدائهم وعلى أعدائك يا رب العالمين، اللهم اجعل تدمير أعدائك في تدبيرهم، واجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، وردنا إليك رداً جميلاً، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.