وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0701 - الاعتصام بالله وبحبل الله - التطبيق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، أنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الاعتصام بالله و بحبله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال العلماءُ: كلُّ أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوبَ ما لم تقُم قرينةٌ على نفي ذلك، كلُّ أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، و اللهٌ عز وجل أمرَنا في آيتين؛ في آيةٍ أن نعتصم بحبله، و في آية أن نعتصم به، فالاعتصامُ من خلال هاتين الآيتين نوعان: اعتصام بالله لقوله تعالى:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾

[سورة الحج: 78]

 و اعتصام بحبل الله لقوله تعالى:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 فالاعتصام في آيتين قرآنيتين قطعيتي الدلالة؛ آيةٌ تأمرنا أن نعتصم بالله، وآية تأمرنا أن نعتصم بحبله.
 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتصام عند النحويين افتعالٌ من العصمة، عصَمته فانعصم، هو التمسُّك بما يعصمك، الاعتصام أن تتمسَّك بما يعصمك، و ما يمنعك من المحذور، و من المخُوف، فالعصمة هي الحِمية، الاعتصام هو الاحتماءُ، والاعتصام هو الالتجاءُ، يا أيها الأخوة الكرامُ سمِّيتْ القِلاعُ العواصم لأنها تحمي من يلتجئ إليها من الأعداء.
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ مدارُ السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، و لا نجاةَ إلا لمن تمسَّك بهاتين العصمتين.

 

الإسلام منهج تفصيلي كاملٌ لشتَّى نواحي الحياة :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ في آخر الزمان يتقلَّص الدينُ حتى يصبح عبادات شعائرية، مع أن في الدين مئاتٍ بل الألوف من الأوامر و النواهي، وكلُّ أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، و كلُّ أمر في سنة النبيِّ عليه أتمُّ الصلاة و التسليم يقتضي الوجوبَ، الإسلام بكتابه و سنته منهجٌ تفصيليٌّ كامل، أما هذا الذي اختار من الإسلام أن يصليَّ، وأن يصوم، وأن يحجَّ بيت الله الحرام، وحياته في وادٍ، والإسلام في وادٍ، فهذا بعيدٌ عن الإسلام بعدَ الأرض من السماء، الإسلام منهج تفصيلي كاملٌ لشتَّى نواحي الحياة، لشتى مستويات الحياة، لشتى نشاطات الإنسان، يدور معه أينما دار، هذا هو الإسلام؛ منهج ينبغي أن يؤخذ كلُّه، لا أن يُنتقَى منه ما يعجبك، أما من ينتقي من الإسلام ما يعجبه و يهمل ما لا يعجبه فهذا ليس من الدين في شيء، فمن هذه الأوامر التفصيلية التي عليها مدارُ سعادة الإنسان في الدنيا و الآخرة أن تعتصم بالله، و أن تعتصم بحبله.
 أيها الأخوة الكرام ؛ أن تعتصم بحبل الله هذا يعصمك من الضلالة، و أن تعتصم به هذا يعصمك من الهلاك، تمامًا كمن يمشي على طريق لهدفٍ معيَّن هو على خطرين: خطر أن ينحرف عن الطريق الموصل إلى هدفه، يضلُّ الطريقَ و يدخل في فرع يبعده عن الهدف، أو يهلك وهو على الطريق، فإن اعتصمتَ بالله لا زِلتَ في الطريق الموصل إلى الله، الموصل إلى الجنة، الموصل إلى السلامة، إلى السعادة في الدنيا و الآخرة، حينما تعتصم بحبله فأنت على المنهج القويم، و على الصراط المستقيم، و نحو الهدف الأكبر، سعادتك في الدنيا و الآخرة هذا الاعتصام بحبله، أما حينما تعتصم به أيْ تتوكَّل عليه و تسأله أن يحميَك من كلِّ شيء مُهلِك.

الاعتصام بحبل الله يوجب الهداية و الاعتصام بالله يوجب القوَّة والسلاح :

 يا أيها الأخوة الكرام؛ الاعتصام بحبل الله يعصمك من الضلالة، و الاعتصام بالله يعصمك من الهلاك، فالسائر إلى الله كالسائر على الطريق، خطرُ انحرافه عن الهدف، هو الضلال، و خطر الهلاك وهو على الطريق هو الموتُ، و هو أن يقوى عليك عدوُّك.
 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتصام بحبل الله يوجب الهداية و اتّباع الدليل و الاعتصام بالله يوجب القوَّة والعُدة والسلاح، الاعتصام بحبل الله هو أن تبحث عن الأدلة في الكتاب والسنة، و أن تبقى في حياتك اليومية وفي كل نشاطاتك وفق المنهج القويم و الصراط المستقيم، و الاعتصام بالله ينبغي أن تتوكَّل عليه، و أن تلجأ إليه، وأن تدعوَه ليلاً و نهاراً.

تفسير قوله تعالى : و اعتصموا بحبل الله جميعاً :

 ابنُ عبَّاس رضي اللهُ عنهما يقول في تفسير قوله تعالى:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 أي " تمسكوا بدين الله "، و ابنُ مسعود رضي اللهُ عنه في تفسير قوله تعالى:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 أي" تمسكوا بالجماعة"، كنْ مع مجموع المؤمنين، كن مع المؤمنين فهذا حصنُ حصين، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
 يقول ابنُ مسعودٍ:" إن ما تكرهون في الجماعة خيرٌ ممَّا تحبُّون في الفرقة "، لعلَّ في الفرقة ميزةً و لكنَّ متاعب الجماعة أفضل ألف مرة من ميِّزات أن تكون وحيداً، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[سورة التوبة: 119]

 وكان بعض المفسِّرين يرى في هذه الآية لزوم الجماعة، أي يجب أن تتقي اللهَ، و الذي يعينك على تقوى الله أن تكون مع المؤمنين، تأنس بهم، وأحيانا تغار منهم، تتنافس معهم في خير الآخرة، و يصوِّب رأيك، و يسدِّد خطاك، و يصحِّح ما اختلَّ من عقيدتك، كن مع المجموع، و لا تنْأَى عنهم، و لا تفكِّر وحدك، و لا تبتعد عن جمهور المؤمنين، كن مع المؤمنين، إن ما تكرهون في الجماعة خيرٌ مما تحبون في الفرقة، والإمام مجاهد يقول في قوله تعالى:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 بعهد الله الذي عاهدتم به ربَّكم ، و إمام آخر يقول:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 بأمر الله و طاعته، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أني تَارِكٌ فِيكُمْ مَا أن تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَأنظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا))

[الترمذي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ]

 و هذا تفسير النبيِّ عليه الصلاة و السلام في حبل الله المتين، قال تعالى:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 اعتصِم بهذا الكتاب، اعتصِم بوحي السماء و اعتصِم بالكلام الذي بيَّنه لك و وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم، اِعتصِم بالكتاب، و اعتصِم بتبيينه من خلال النبي عليه الصلاة و السلام، و في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إن اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأن تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ))

[مسلم عن أبي هريرة]

ثمار الاعتصام بحبل الله لا تقطف إلا إذا اعتصمنا بكتاب الله و سنة رسوله :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ وقفةٌ قصيرةٌ عند كلمة:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 أي ثمار هذا الاعتصام لا ترونها واضحةً إلا إذا اعتصمتم جميعاً، و هذا يذكِّرني بقوله تعالى:

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[سورة النور: 31]

 إنسان له جهاز هاتف، و له مئة صديق ليس لهم هذا الجهاز، ما قيمة جهازه ؟ أما إذا كان هذا الجهاز عند كل أصدقائك إذًا تقطف ثمارَ الهاتف، لا تقطف ثماره إلا إذا كان معمَّما عند كلِّ من تعرف، كذلك لا تُقطف ثمار التوبة إلا إذا تُبنا جميعا إلى الله، نعيش في مجتمع فاضل، نعيش في مجتمع الأمن، مجتمع التعاون، مجتمع التباذل، مجتمع التناصح، مجتمع التكاتف، مجتمع التضامن، هذا معنى قوله تعالى:

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[سورة النور: 31]

 أي لن تقطفوا ثمار هذا الاعتصام و لن تسعدوا في دنياكم إلا إذا كنتم جميعاً معتصمين بالله عز وجل، بكتابه و بسنة نبيِّه.

 

الاعتصام بحبل الله يكون بالمحافظة على الطاعة مع المراقبة للأمر :

 أيها الأخوة الكرام، الاعتصام بحبل الله قال عنه العلماءُ: المحافظة على الطاعة مع المراقبة للأمر، المحافظة على الطاعة واضحةٌ، هناك: اِفعلْ و لا تفعل، والمؤمن الذي يعتصم بحبل الله، وبكتاب الله، وبدين الله، وبعهد الله يطبِّق الأمرَ، وينتهي عما اللهُ عنه نهى وزجر، واضح، لكن معنى مع المراقبة ؟ المراقبة: أن تراقب نفسك و أنت في الطاعة يجب أن تكون هذه الطاعةُ لله وحده، يجب أن تحبَّ الطاعةَ لأنها طاعة، يجب أن تنصاع لله عز وجل عبودية له، يجب أن تنصاع لله عز وجل لا لعلَّة أخرى باعثة على امتثال هذا الأمر غير طاعة الله عز وجل، قال بعضُ العلماءِ: التقوى هي العمل بطاعة الله على نور من الله، وترجو بها ثواب الله، والتقوى تركُ معصية الله على نور من الله تخاف بهذا الترك عقاب الله، أما الذي يقول: الصيام صحة، والصلاة رياضة، هذا الذي يحاول أن يبحث عن فوائد العبادات غير الطاعة لله ويركِّز عليها، ويفرِّغها من مضمونها، فلا فرق بين من يضبط غذاءه بنظام معيَّن، وبين من يصوم، ولا بين من يجري في الطريق ليحافظ على صحته، وبين من يصلي، لا ينبغي أن يفرِّغ العبادةَ من مضمونها، الاعتصام بحبل الله أن تنبعث إلى الطاعة لأنها طاعة فقط، أما إذا استفدتَ منها في أشياء أخرى فلا مانع، أما لا ينبغي أن يكون انبعاثُك لها إلا لطاعة الله وحده، هذا المعنى الدقيق وقد ذكر هذا النبيُّ عليه الصلاة و السلام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ صَامَ رَمَضَان إِيمَانا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 صام تركَ الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غياب الشمس، هذا صام إيماناً بدافع الإيمان بالله، و تنفيذاً لأمر الله، و تقرُّباً إلى الله، و أداءً لطاعة الله عز وجل، و احتساباً يرجو ثوابَ ذلك عند الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ صَامَ رَمَضَان إِيمَانا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 الصيام و القيام هنا الطاعة، و الإيمان مراقبة الأمر، وإخلاص الباعث، والاحتساب رجاء ثواب الآخرة.
 إذًا الاعتصام بحبل الله أن تقوم بالأمر مع مراقبة هذا الأمر، ما الباعثُ له ؟ ما الهدف ؟ ما الملابسات ؟ ما الظروف التي تخرجه عن أن يكون طاعةً لله عز وجل ؟

 

من لوازم الاعتصام معرفة ما في القرآن والسنة من أمر ونهيٍ :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا هو الاعتصام بالله، إذًا من لوازم هذا الاعتصام أن تعرف ما في القرآن والسنة من أمر ونهيٍ، كيف أننا في أصول الفقه نقول: ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب، و ما لا يتم الفرضُ إلا به فهو فرض، و لماذا كان الوضوء فرضاً؟ لأن الصلاة التي هي فرض لا تتمُّ إلا به، فحينما يقول الله لك:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 وكلُّ أمر في القرآن يقتضي الوجوبَ، حينما يقول الله للمؤمنين:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة آل عمران: 103 ]

 من لوازم هذا الأمر أن تعرف و أن تعلم ما الأمرُ و ما النهيُ في القرآن و في السنة.
 إذًا طلب العلم فريضة على كل مسلم، طلب العلم الذي ينبغي أن يُعلَم بالضرورة فرض علم على كل مسلم كائناً من كان، مهما تكن مرتبتُه العلمية ، و لو أنه يحمل أعلى شهادة في العالَم يعتبر أمياً إذا كان جاهلاً بالعلم الديني، لا بدَّ من طلب العلم الديني، و مهما يكن عملُه متواضعاً، لو أنه عامل فقط، قال تعالى:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد: 19 ]

 لو أن الله جلَّ جلالُه قبِل منا اعتقاداً بالتقليد لكان كلُّ دالٍ على هدى، و أي رجل قال له هكذا لصدَّق، لكنَّ الله عز وجل لم يقبل منا الاعتقاد إلا بالتحقيق، قال تعالى:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد: 19 ]

 فالعلم حقيقةٌ مقطوع بها يؤيِّدها الواقع عليه دليلٌ، لو لم تبحث عن الدليل لكان اعتقادُك تقليدًا، و لو لم يؤيِّدها الواقعُ لكانت هذه الحقيقةُ جهلاً، هي في الحقيقة ليست حقيقة.
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ ننتقل إلى الاعتصام بالله، قبل قليل تحدَّثتُ عن الاعتصام بحبل الله، بالقرآن والسنة، تطبيقاً ومراقبةً، تطبيقاً؛ عليك أن تنفذِّ الأمرَ، وأن تنتهي عما نهى عنه، و مراقبةً؛ عليك أن تبحث عن الباعث الذي بعثك إلى الطاعة، أهو انتزاع إعجاب الآخرين؟ أن تظهر بمظهر الصلاح بين الناس؟ أن ينتفع جسمُك بهذه الطاعة؟ لا،عليك أن تنبعث إلى أمر الله تنفيذًا لأمر الله فقط، أما أن تأتيَ المنافعُ بعدها عرَضًا فلا مانع من ذلك.

الاعتصامُ بالله أن تتوكَّل عليه و تمتنع به و تحتمي به :

 يا أيها الأخوة الكرام؛ إذا اتَّبعت للكتابَ و السنة فأنت على المنهج القويم، وعلى الصراط المستقيم، وهذا الصراط المستقيم يصل بك إلى الجنة، و لكن الاعتصام بالله شيءٌ آخر، الاعتصامُ بالله أن تتوكَّل عليه، و أن تمتنع به، و أن تحتميَ به، و أن تسأله أن يحميك، و أن يمنعك و يعصمك، و أن يدفع عنك، و ثمرة هذا الاعتصام بالله أن يدفع اللهُ عنك كل ما يؤذيك، لقوله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾

[سورة الحج: 38]

 ما هذه الميزة ؟ خالق الأكوان، مَن بيده ملكوت السموات و الأرض يدافع عنك، إذا كان اللهُ معك فمَن عليك ؟ و إذا كان اللهُ عليك فمن معك ؟ أن تعتصم بحبل الله؛ أن تطبِّق الكتابَ و السنة، و أما أن تعتصم بالله فأن تسأله أن يحميك، و يحفظك، و أن يسدِّد خطاك، و أن يوفِّقك، أن تكون معه بالدعاء، و أن تكون معه بالافتقار، و درسٌ بليغ، درس بَدْرٍ و درسُ حُنَيْن، هذان الدرسان جعلهما اللهُ مثلاً لكل مؤمن حتى آخر الدوران، في بدر، قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[سورة آل عمران: 123]

 أي مفتقرون إلى الله، فتولاَّكم اللهُ بعنايته، ورعايته، وتوفيقه، ونصره، وفي حنين قلتُم: لن نُغلَب من قِلَّةٍ، فتخلَّى اللهُ عنكم، قال تعالى:

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[سورة التوبة: 25]

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ و اللهِ الذي لا إله إلا هو ما من مسلمٍ اليوم إلا وهو في أمسِّ الحاجة إلى هذين الدرسين، هناك كلمتان، إن قلت: أنا؛ تخلَّى اللهُ عنك، ووكَّلك إلى نفسك و أنت ضعيف، و إن قلتَ: الله؛ تولاَّك بالعناية و العناية و التوفيق و النصر، هذان الدرسان، أنت بين التولِّي و التخلِّي، ببن أن يتخلَّى عنك، و بين أن يتولاَّك، المنهج القويم أن تأخذ بالأسباب و كأنها كلُّ شيء، و أن تتوكَّل على الله، و كأنها ليست بشيء، هكذا فعل النبيُّ في الهجرة عليه أتمُّ الصلاة و التسليم، أخذ بكل الأسباب و توكَّل على الله، فلما وصلوا إليه قال: يا أبا بكرٍ ما قولك في اثنين اللهُ ثالثُهما ؟ هذا منهجٌ قويمٌ، أنت في عملك، في دراستك، في تجارتك، في سفرك، في حِلِّك و في تَرحالك، في زواجك، و في إنجاب أولادك، في حلِّ مشكلاتك، تأخذ بكل الأسباب و كأنها كلُّ شيء، و تتوكَّل على الله وكأنها ليست بشيء.

 

الاعتصام بالله أن تسأله أن يعصمك عن المعاصي :

 الاعتصامُ بالله أن تسأله أن يعصمك، قال تعالى:

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة يوسف: 33]

 لا تقُل: أنا عندي إرادة قوية، قل:

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة يوسف: 33]

 قال تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾

[سورة إبراهيم: 35]

 أيُعقَل أن يعبد نبيٌّ كريم هو أبو الأنبياء صنماً ؟

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾

[سورة إبراهيم: 35]

 و قال تعالى:

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[سورة النساء: 113]

 ينبغي أن تعتصم به، و أن تسأله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 وعَنْ أنسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا أنقَطَعَ))

[الترمذي عن أنس ]

 اسأل ربَّك ملح طعامك، إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع، اسأل ربك حاجتك كلها، هذا هو الاعتصام بالله، قبل أن تدخل إلى مكان:" اللهم إني تبرأت من حولي ومن قوتي و من علمي، و التجأت إلى حولك و علمك و قوتك، يا ذا القوة المتين" قبل أن تقوم بعمل، سمعتُ عن أحد الأطباء المؤمنين الجرَّاحين، المريض على الطاولة، يصلِّي ركعتين لله عز وجل و يسجد و يسأل اللهَ التوفيقَ، و ما خابتْ معه عمليةٌ جراحية واحدة، اسجد لله عز وجل، و اسأله التوفيق في تجارتك، في دراستك، في علاقاتك، و في كلِّ ورطةٍ لاحتْ لك بالأفق، في أيَّةِ مشكلة :

((لا يخافنَّ العبدُ إلا ذنبَه، و لا يرجُوَّن إلا ربَّه))

[ملء العيبة عن دَاوُدَ بْنِ أَبِي غَمْرَةَ ]

 فإذا كان اللهُ معك فمن عليك ؟ و إذا كان عليك فمن معك ؟ هذا هو الاعتصام بالله.

 

الاعتصام بالله يدفع عن الإنسان كل سبب يفضي به إلى الهلاك :

 أيها الأخوة الكرام؛ حينما تعتصم بالله يدفع اللهُ عنك كلَّ سبب يفضِي بك إلى الهلاك، و يحميك من أخطر شيء، من الشبهات، أن ترتكب المحرَّمات، و لا تعلم أنها محرَّماتٌ، أن تقع في الشبهات، و من وقع في الشبهات وقع في الحرام و هو لا يدري، يحميك من الشبهات، و من الشهوات، و كيد الأعداء، و يحميك من شرِّ نفسك، و يدفع عنك موجبات الشرِّ بعد انعقادها، بحسب قوة الاعتصام، يدفع عنك أسباب العطب، و يدفع عنك موجباتها و مسبِّباتها، ويدفع عنك قدَرَه بقدرِه، و إرادتَه بإرادته، و يُعيذك به منه، أي حينما تعمل عملاً تستوجب سخط الله فإذا التجأتَ إلى الله يدفع عنك ما كان مقدَّراً لتأديبك بعنايته وعفوه.

 

درجات الاعتصام :

1 ـ اعتصام العامة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الاعتصام درجاتٌ، اعتصامُ العامَّة، ما وردَّ في الخبر الصحيح عن الأمر و النهي، استسلاماً و إذعاناً، و تصديق الوعد و الوعيد، و تعظيم الأمر و النهي، و تأسيس المعاملة على اليقين و الأنصاف، هذا اعتصام عامة المسلمين، أي اعتصموا، معهم نصٌّ صحيح يجب أن يأخذوا به، نصٌّ ينهى عن شيء يجب أن ينتهوا عنه، أمرُ الله عظيم عندهم، و نهيُ الله عظيم عندهم، يُعاملون على اليقين، أي هذا الذي يفعل الطاعات احتياطاً، هذا ليس مؤمناً، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾

[ سورة الحجرات: 15]

 قال الشاعر:

 

زعم المنجِّم و الطبيبُ كلاهما  لا تُبعث الأمواتُ قلتُ إليكمــــــــا
إن صحَّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ  أو صحَّ قولي فالخسارة عليكما
***

 هذا الذي يفعل الطاعات احتياطاً، أي إذا كان هناك آخرة فما خسرنا شيئاً، هذا ليس إيماناً، و ليس طاعةً، يجب أن يكون يقينُك بخبر الله عز وجل و أمره و نهيه كيقينك بوجودك، و هذه النقطة الدقيقة أشارت إليها الآيةُ الكريمة، قال تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾

[سورة الفيل: 1]

 مَن مِن أصحاب النبيِّ رأى أصحاب الفيل؟ مَن منا رأى أصحاب الفيل؟ لكنَّ العلماء قالوا: يجب أن تأخذ خبرَ الله على أنك تراه بعينك.
 أيها الأخوة الكرام ؛ اليقين ليس معه شكٌّ و لا تردُّد و لا أن تسلك سبيل الاحتياط، هذا الأسلوب أسلوب الطاعة احتياطاً، هذا يوفِّر لصاحبه سعادةً و لا يدفع عنه مصيبةً، هذا مجرِّب، و اللهُ عز وجل لا يُجرَّب، ولا يُمتحَن، ولا يُشارط، يجب أن تتعامل معه، مع اليقين، قال تعالى:

﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾

[ سورة التكاثر: 5-6]

 كنْ مع الله يقيناً، و أما الإنصافُ مع الله فأن تعطي العبوديةَ حقَّها، و ألا تنازع ربَّك صفاته الإلهية التي لا تليق بالعبد، من العظمة و الكبرياء و الجبروت، المتكبِّر المتعالي المتغطرس الذي يعتدُّ بعلمه أحياناً، أحيانا ًيكون العلمُ حجاباً يعتدُّ به، اِقرأ قولَه تعالى:

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[ سورة النساء: 113]

 و من إنصافك لربِّك أن تشكره، و من إنصافك للخلق ألا تجحد أصحاب الفضل منهم، قال تعالى:

﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾

[ سورة البقرة : 237 ]

 هذا الذي يجحد فضلَ الناس حرِيٌّ به أن يجحد فضل الله عز وجل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:

((مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ))

[ الترمذي عن أبي هريرة]

 ويا أيها الأخوة الكرام؛ هذه الدرجة الأولى، درجة اعتصام العامة يتلقَّونه بالخبر استسلاماً، و إذعاناً، وتصديقاً بالوعد و الوعيد، و تعظيماً للأمر و النهي، و تأسيس المعاملة على اليقين و الإنصاف.

 

2 ـ قطع العلاقات الباطنة :

 الدرجة الأعلى قطعُ العلائق الباطنة، كما ورد في الأثر: " اللهم لا تجعل لي خيرًا على يد كافر أو منافق"، أي أن تحبَّ إنساناً منحرفًا، أن تعظِّم أهل الدنيا، و أن تعظِّم أصحابَ الأموال، أن تعظِّم أصحاب السلطان، يجب أن تعتزَّ بالله وحده، و يجب أن تكون مع الله، أن تكون مفتقراً إليه، أن تقطع هذه العلائق الباطنة، من ولاءٍ لغير المؤمنين، الحبُّ للفسقة والفاجرين، هذا يمنعك من أن تكون مؤمناً، يجب أن تبحث في الباطن، هل هناك حبٌّ لغير الله؟ العلماء قالوا: هناك حبٌّ في الله و حبٌّ مع الله، الحب في الله عينُ التوحيد، و الحب مع الله عين الشرك.
 أيها الأخوة ؛ إذا قطعت علائقك الباطنة، ما ضرَّتك العلائقُ الظاهرة، أنت مع الناس جميعاً، مع الناس و في حدود و علاقات واضحة، في علاقات محدودة، لا تعادي أحدًا، كان عليه الصلاة و السلام يحذر الناسَ و يحترز منهم من غير أن يطوي بِشرَه عن أحد، أما قلبُك فمعلَّقٌ بالله، ولاؤك للمؤمنين، كلُّ علاقاتك فيما بينك و بين الله رابحة، و فيما بينك و بين أهل الإيمان متينة، و فيما بينك و بين الناس محدودة هناك علاقات عمل مثلاً، علاقات طارئة، أن تقيم علاقةً حميمةً عميقة جدًّا مع أهل الشرك والبعد عن الله فهذا مما يفسد دينَك و إيمانك.
 أيها الأخوة الكرام ؛ قال: متى كان المالُ في يديك وليس في قلبك لم يضرَّك و لو كثر، و متى كان المالُ في قلبك ضرَّك و لو لم يكن في يدك منه شيءٌ.
 قيل للإمام أحمد رحمه اللهُ تعالى: أيكون الرجل زاهداً و معه ألف دينار ؟ قال: نعم؛ على شريطة ألا يفرح إذا زادت، وألاّ يحزن إذا نقصت، إن هذه الدنيا دارُ التواءٍ لا دار استواء، و منزل ترَح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها اللهُ دارَ بلوى، و جعل الآخرة دارَ عقبى، فجعل بلاءَ الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، و جعل عطاءَ الآخرة من بلوى الدنيا عِوضًا، يأخذ ليعطي و يبتلي ليجزي.
 أيها الأخوة الكرام، كان أصحابُ النبي رضوان الله عليهم أزهدَ الأمة مع ما بأيديهم من الأموال، وقيل لسفيان الثوري رحمه اللهُ تعالى: أيكون ذو المال زاهداً ؟ قال: "نعم، إن زيد مالُه شكر، وإن نقصَ شكر و صبر"، لذلك الدعاء: اللهم اجعلها في أيدينا و لا تجعلها في قلوبنا، الدرجة الأعلى أن تقطع هذه العلاقات الباطنة التي تبعِدك عن منهج الله عز وجل.

3 ـ قطع العلاقات الظاهرة إن كان فيها فساد للدين :

 و الدرجة الثالثة أيها الأخوة؛ إلا أن هناك تعقيباً، قطعُ العلائق الظاهرة يحتاجها المؤمن مرَّتين، مرةً إذا خاف منها ضرراً على دينه، دُعِيَت إلى سهرة فيها منكر، يجب ألا تلبِّيَ هذه الدعوة، قد تقطع علاقتك بإنسان دعاك و أصرَّ عليك و لكن هذه السهرة منكرة، لا ترضي اللهَ عز وجل، فحينما تكون هذه العلاقة الظاهرة تفسد دينك يجب أن تقطعها، و في الحالة الثانية، عندما لا تكون هناك مصلحة راجحة، أناسٌ دعوك إلى زيارتهم، حديثهم عن الدنيا، و إذا تكلَّمتَ لا يستمعون إليك، لا جدوى من هذه العلاقة، لو لم تكن هناك مصلحة راجحة، أو كان هناك خطرٌ على دينك، حتى العلاقة الظاهرة ينبغي أن تقطعها، أما إذا لم يكن هناك خطر على دينك، وهناك مصلحة أنك إذا جلستَ معهم، واستمعت إليهم حينًا، وتكلَّمت بالحق استمعوا إليك، هناك مصلحة راجحة، فحافظ على العلاقة الظاهرة، أو حافظ على عمل ترفع عند الله به.
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه العلائق الظاهرة التي تضرُّ بدينك، أو التي ليس فيها مصلحة راجحة تكون كلابيبَ على الصراط، تمنعك من العبور، وهي كلابيب الشهوات و الشبهات.

الاعتصام بالله و بحبله مدارُ السلامة و السعادة في الدنيا و الآخرة :

 و الدرجة الأرقى في الاعتصام بالله درجة القرب، في الدنيا جنةٌ من لم يدخلها لم يدخل جنةَ الآخرة، يؤكِّد هذا المعنى آيةٌ كريمة، قال تعالى:

﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾

[ سورة محمد: 6]

 في الدنيا، هم في الدنيا ذاقوا بعضَها، ذاقوا نموذجًا منها، جنة القرب قال تعالى:

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

[سورة العلق: 19]

 وفي الأثر القدسي عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ:

((إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَأني مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))

[ البخاري عن أنس ]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام ؛ الخطبة نقطتان: اعتصامٌ بحبله؛ أي بكتابه و سنة نبيِّه، و اعتصامٌ به؛ دعاءٌ وتوكُّلٌ وإنابة، إن اعتصمتَ بكتابه نجوتَ من الضلال، و إن اعتصمت به نجوت من الهلاك، والاعتصام بالله و بحبله عليهما مدارُ السلامة و السعادة في الدنيا و الآخرة.
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم، و اعلموا أن ملَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرَنا إلينا، فلنتَّخِذ حذرَنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مراقبة الإنسان نفسه و دراسة أحواله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لو أن كلَّ إنسان حضر خطبةً، وحينما عاد إلى البيت كتب رؤوس أقلام هذه الخطبة، وحاول أن يقلبها إلى واقع، و حاول أن يراقب نفسه، و حاول أن يدرس أحوالَه، وأن يدرس بيتَه وعمله، هل هناك مخالفات؟ وهل هناك تقصير؟ وهل هناك بُعدٌ عن منهج الله؟ هل هناك جهلٌ بمنهج الله؟ يجب أن يكون الإنسان حكيمَ نفسه، و يجب أن يعرض هذه الحقائق عرضاً جريئاً واضحاً، أين أنت من هذا الموضوع؟ استمعت إلى خطبة، أين أنت منها؟ هل أنت مطبِّقٌ لها؟ اُشكُر اللهَ عز وجل، مقصِّرٌ في تطبيقها؟ ضاعِفْ جهدَك، بعيد عن مضمونها بعداً شديداً، ماذا تفعل؟ ماذا تنتظر؟ ما دام القلبُ ينبض فنحن في بحبوحة التوبة، كل شيء في الدنيا يُصحَّح، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:

((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَأني يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَة ))

[ مسلم عن أبي ذر]

 لو جئتني بملء السموات والأرض خطايا غفرتُها لك ولا أبالي، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا))

[ مسلم عن أبي هريرة]

(( للَّهُ أشدُّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد))

[السيوطي في الجامع الصغير عن أنس]

 ركب أعرابيٌّ ناقته، وسار بها في الصحراء، جلس ليستريح، فاستيقظ فلم يجِد الناقةَ، فأيقن أنه هالك، فجلس يبكي، ثم يبكي، أدركته سِنة من النوم، استيقظ بعدها، فرأى الناقةَ، من شدَّة فرحه اختلَّ توازُنه، فعَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَأن عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَافَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنتَ عَبْدِي وَأنا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ))

[ مسلم عن أنس بن مالك ]

 ماذا ننتظر؟ كلما استمعت إلى خطبة، هناك ثلاث حالات؛ إما أنك مطبِّق لها تماماً، و هذا من نعمة الله العظمى، و إما أنك مقصِّر في بعض فقراتها، عالِجْ و رمِّمْ النقصَ، و إما أن الإنسان بعيد عن مضمونها، ماذا يفعل و ماذا ينتظر؟ في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ))

[ الترمذي عن أبي هريرة]

 هل بالإمكان أن نستيقظ كلَّ يوم كاليوم السابق إلى ما شاء اللهُ ؟ مستحيل، لا بدَّ من أن نستيقظ يوماً على شيء طارئ لم يكن من قبلُ، في صحَّتنا، وقد يكون هذا الشيء الطارئ مرض الموت الذي ننتقل به إلى الآخرة، فماذا ينتظر أحدُنا من الدنيا هل تنتظرون إلا فقرا منسياً؟ شدائد متتالية؛ أو غنى مطغياً؟ أو مرضاً مفسِداً؟ أو هرماً مفنِّداً؟ أو موتًا مجهزاً؟ أو الدجال؟ أو الساعة؟ و الساعة أدهى و أمر.
 هذا الأمر خطير، هذا الأمر متعلِّق بالمصير الأبدي، هذا الأمر متعلِّق بالآخرة، الذي يكسبه الإنسان في عمرٍ مديد يخسره في ثانية واحدة، كلُّ قوة الإنسان التي يتوهَّمها مبنيَّة على ميليمتر و ربع قطر الشريان التاجي في القلب، مبنية على سيولة الدم، وعلى نموِّ الخلايا، فإذا تجمَّد الدمُ كانت الطامَّة الكبرى، و إذا ضاق هذا الشريان، هناك متاعب لا تُحصى، و إذا تفلَّت نموُّ الخلايا انتهت حياةُ الإنسان، فماذا ينتظر الإنسان من الدنيا؟ بادروا بالأعمال الصالحة، بادروا بالتوبة، تأمَّلوا واقعكم، تأملوا بيوتكم، أعمالكم، هل أنتم على منهج الله قائمون؟ هل هناك طريق سالكٌ إلى الجنة أم هناك طريق سالك إلى النار؟ حفَّت النارُ بالشهوات و حفت الجنة بالمكاره، و أن عملَ الجنة حزْنٌ بربوة و أن عمل النار سهلٌ بسهوة.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور