وضع داكن
26-04-2024
Logo
الخطبة : 0692 - مفهوم العبادة - الشدة النفسية وتأثير العبادة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الإخلاص ومتابعة النبي أصلان أساسيان للعبادة :

 أيها الأخوة الكرام، متابعةً لموضوع الخطبة السابقة حول أن العبادة هي سرّ وجودنا على وجه الأرض، وأننا خلقنا كي نعبد الله عز وجل، وأن العبادة هي الطاعة الطوعية التي أساسها معرفة يقينية، والتي تفضي إلى سعادة أبدية، متابعةً لهذا الموضوع، فإن هذه العبادة لا تتحقق إلا بأصلين عظيمين أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 والأصل الثاني: الإخلاص للمعبود. فهذا تحقيق " إياك نعبد "، الإخلاص ومتابعة النبي أصلان أساسيان للعبادة التي هي سر وجودنا، وغاية وجودنا. والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضاً إلى أربعة أقسام.

المتابعة والإخلاص قسمت الناس إلى أربعة أصناف :

1 ـ أهل الإخلاص للمعبود :

 القسم الأول: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، هؤلاء صفوة الله من خلقه، متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة القولية ، والعلمية، والتقريرية، والوصفية، هؤلاء عبدوا الله حقيقةً، هؤلاء حققوا الهدف من وجودهم، هؤلاء جعلوا أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاءهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان : 9]

 ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يفعلون شيئاً، لا يملكون لهم ضراً، ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياةً، ولا نشوراً، هم عبيد لله لا يقوون على إيقاع النفع ولا إيقاع الضرر، عاملوهم كأصحاب القبور لأنهم لا يملكون ضراً، ولا نفعاً، ولا حياةً، ولا نشوراً. فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجاؤهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بالله البتة، هذا الذي يسعى لإرضاء الناس، يخشى ذمهم، يقصد مديحهم، يبتغي المكانة عندهم، يداري منحرفهم، يجامل فاسقهم، يبتغي مصلحته من خلال رضاهم عنه، هذا ضعيف التوحيد، هذا ما عرف الله حقيقةً.

 

جوهر الدين أن تتجه إلى الله و تخلص له و تبتغي ما عنده :

 أيها الأخوة الكرام، من عرف الناس حقيقةً أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله حقيقةً أخلص له أعماله، وأقواله، وعطاءه، ومنعه، وحبه، وبغضه، وصلته، وقطيعته، ولا يعامل الخلق دون الله إلا لجهله بهم، وجهله بالخلق، فإذا عرف الإنسان الله عز وجل وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم، هذا هو جوهر الدين، أن تتجه إلى الله، أن تخلص إلى الله، أن تبتغي ما عند الله، أن تخشى وعيد الله، أن ترجو الرفعة عند الله، أن تنتظر العطاء من الله، أن تعقد الأمل على الله، ألا ترى أحداً إلا الله، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، هذا هو الدين أيها الأخوة، أن تتجه إلى خالق السموات والأرض، أن تزهد بما في سواه وأن ترغب فيما عنده، أن ترجو رحمته، وأن تخشى عذابه، أن توحده، أن تعبده، أن تحبه، أن تشتاق إليه، بهذا سبق الصحابة المسلمين جميعاً، لهذا كان أصحاب رسول الله خير الخلق، إن الله اختارني واختار لي أصحابي.
 أيها الأخوة الكرام، هذا هو إخلاصهم أما عبادتهم فأعمالهم كلها وعبادتهم موافقةً لأمر الله، أي همّ المؤمن بعد أن يعرف الله همّ واحد تقصي الأمر والنهي، تقصي الحلال والحرام، ما من أمر في الدنيا إلا ويعتبره إما أنه فريضة، وإما أنه حرام، وإما أنه سنة، وإما أنه مكروه، وإما أنه مباح، فهمّ المؤمن الأول بعد أن عرف الله المعرفة التي تحمله على طاعته تقصي أمر الله عز وجل، المؤمن الحق بالكون يعرف الله، وبالطاعة يتقرب إليه، بعد أن تعرف الله أكبر سؤال ماذا أفعل حتى أرضيه؟ بمنهجه تعبده، بأمره ونهيه تعبده.
 أيها الأخوة الكرام، هذا الصنف الأول من الناس، الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أعمالهم كلها - كما قلت قبل قليل- وعباداتهم كلها موافقة لأمر الله، ولما يحب ويرضى، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه، وهو الذي ابتلى عباده بالموت والحياة لأجله، قال تعالى:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك: 2 ]

 والله عز وجل أيها الأخوة جعل ما على الأرض زينةً لها ليختبرهم أيهم أحسن عملاً، وفي هذه الآية وقفةٌ دقيقة جداً أنت قد تجري امتحاناً لتعرف من هو الناجح، ومن هو الراسب، ولكنك إذا أجريت امتحاناً للمتفوقين لا تعرف من هو الناجح، ولا من هو الراسب، من أجل أن تعرف من هو الأكثر تفوقاً، ومن هو الذي ينال الدرجة الأولى، وكأن الأمر مفروغ منه أن تعبد الله شيء مفروغ منه، بقي الامتحان ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، كأن الرسوب غير متصور إطلاقاً، لابد من أن تعرف الله، ولابد من أن تعبده، والذي خلق الموت والحياة:

﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك: 2 ]

العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه :

 أيها الأخوة الكرام، فكرة قلتها لكم كثيراً حينما قال الله عز وجل:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك: 2 ]

 سئل الفضيل بن عياض عن هذه الآية فقيل له: يا أبا علي ما العمل الحسن ؟ فقال الفضيل بن عياض: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه، ثم قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، يجب أن يكون خالصاً وصواباً، فالصواب والإخلاص كل منهما شرط لازم غير كافٍ والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
 أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾

[ سورة الكهف: 110]

 وفي قوله:

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾

[ سورة النساء : 125]

 أيها الأخوة الكرام، فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، على متابعة أمره. وما عدا ذلك فهو مردود على عامله، يرد عليه - وهو أحوج ما هو إليه - فيجعل الله عمله هباءً منثوراً، قال تعالى:

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾

[ سورة الفرقان: 23 ]

 قد يكون لك عمل كالجبال إن لم تكن مخلصاً أو إن لم يكن صواباً كان هذا العمل هباء منثوراً يؤكد هذا حديثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ))

[ البخاري عن عائشة ]

 وكل عمل بلا اقتداء لا يزيد عامله من الله إلا بعداً، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء، ولا بالاجتهادات المناقضة لمنهج الله عز وجل، هذا هو الصنف الأول من الناس أهل الإخلاص والمتابعة.

 

2 ـ من لا إخلاص له ولا متابعة :

 وأما الصنف الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقاً للشرع، وليس هو خالصاً للمعبود، كأعمال المتزينين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل، ولهم أوفر نصيب من قوله تعالى:

﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران : 188]

 يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص وهم ليسوا كذلك، لذلك هناك كتاب صدر بأربعة أدعية لو أن الإنسان عقلها لارتعدت فرائصه، من هذه الأدعية :" اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك، اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك".
 أيها الأخوة الكرام، هذه الأدعية تدفعنا إلى الإخلاص، هؤلاء يفرحون كما قلت قبل قليل بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص، هذا النوع أو هذا الصنف من الناس يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، ويرجون الرياء والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه، هؤلاء انحرفوا عن سواء السبيل.

 

3 ـ المخلص في أعماله لكنها على غير متابعة السنة :

 وأما القسم الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة السنة كجهال العباد، هناك أناس أخلصوا لله ولكنهم ما عرفوا السنة، ولا فهموا حقيقتها، فاجتهدوا فيما يخالف السنة، هؤلاء نقص من عملهم شرط أساسي، وهو متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين يعبدون الله بحرمان أنفسهم أشياء ما حرمها الله، قال عليه الصلاة والسلام:

((... أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))

[ البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 هؤلاء الذين يفعلون ما يخالف السنة وهم يتوهمون أنهم تفوقوا على أهل المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين تركوا الزواج، هؤلاء الذين تركوا العمل، هؤلاء الذين أصبحوا عالةً على الناس اجتهاداً منهم بأنهم زاهدون، وأنهم إلى الله واصلون، ليس هذا هو المنهج الذي أمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام.

 

4 ـ طاعة المرائين :

 وأما الصنف الرابع فهؤلاء الذين تابعوا الأمر ولكن لغير الله كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل رياءً، وحميةً، وشجاعةً، ويحج ليقال: حاج، ويقرأ القرآن ليقال: قارئ، ويطلب العلم ليقال عنه: عالم، أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة لكنها غير صالحة، فالمتابعة والإخلاص قسمت الناس إلى أربعة أصناف، أعلاها أهل المتابعة والإخلاص، وأشرها أهل المعصية والرياء، وبينهما أناس تابعوا ولم يخلصوا، وأناس أخلصوا ولم يتابعوا.

أفضل أنواع العبادة :

 أيها الأخوة الكرام، لو أن سائلاً سأل ما هي أفضل أنواع العبادة ؟ ما دامت العبادة سرّ وجودنا وغاية وجودنا، قال بعضهم: بعضهم رأى أن أنفع العبادات أشقها على النفوس وأصعبها، لأن النفس ينبغي أن نبعدها عن هواها، وعما يريحها، وهؤلاء علموا وتوهموا أن هذه العبادة النافعة أن تعبد الله بأن تحمل الجسد ما لا يطيق، أن تعبد الله بأن تحرم نفسك من ملذات الدنيا المباحة، هذا اجتهاد خاطئ، وقالوا: الأجر على قدر المشقة، ورووا حديثاً لا أصل له: " أفضل الأعمال أحمرها "، أي أصعبها وأشقها، والحقيقة أيها الأخوة أن المشقة في الإسلام ليست مقصودةً لذاتها إطلاقاً، أما إذا فرضتها علينا العبادة فمرحباً بها، أوضح مثل على ذلك لو أن إنساناً ركب دابةً من دمشق إلى مكة المكرمة ليحج بيت الله الحرام، وهناك طائرة تقله بساعتين فهل يعد عمله الشاق عبادةً راقية؟ الجواب: لا، لأن المشقة ليست مقصودةً لذاتها، ولكن إذا كان هناك مشقة في الطواف، وفي السعي، وفي الوقوف بعرفة، فهذه مشقة اقتضتها العبادة، فمرحباً بها، أما أن نفتعلها، أما أن نطلبها لذاتها فلا.
 وقف رجل في الشمس سأل النبي عنه فقالوا: يا رسول الله لقد نذر أن يقف بالشمس؟ قال: مروه أن يتحول، لأن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، المشقة في الإسلام وفي أصل العقيدة ليست مطلوبةً لذاتها إطلاقاً، لا تحمل نفسك ما لا تطيق، نفسك مطيتك فارفق بها. إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الطائف يقول: إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، هذا كلام سيد الخلق وحبيب الحق.
 أيها الأخوة الكرام، هؤلاء توهموا أن طبيعة النفس الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض فلا تستقيم النفس إلا بركوب الأهوال، وتحمل المشاق، وهذا اجتهاد غير صحيح، هذا هو الصنف الأول الذي يرى أن أفضل عبادةٍ أن تحرم النفس من حاجتها، وأن تحملها على مشقة لا مبرر له، وأن تجعل من المشقة غايةً لها.
 الصنف الثاني قالوا: أفضل العبادات التجرد، و الزهد في الدنيا، وترك العمل، وترك الحاجات الأساسية، الزواج، والانقطاع إلى الله عز وجل. ثم هؤلاء قسمان؛ قسم ظن أن التجرد لله عز وجل والزهد في الدنيا مقصود لذاته فما فعلوا غير أن زهدوا في الدنيا ولم يقدموا شيئاً، ولم يعملوا عملاً، وهذا وهم خاطئ، واجتهاد غير صحيح، وبعضهم رأى أن الزهد في الدنيا وسيلة، وليس غاية، وسيلة للقرب من الله عز وجل، وجمع الهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، ودوام ذكره بالقلب واللسان.
 أما الصنف الثالث فرأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع للآخرين، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فهناك العابد، وهناك العالم، وهناك الورع، وهناك المحسن، فمن كان نفعه قاصراً على ذاته فهذه عبادته قاصرة، ومن كان نفعه متعدياً إلى غيره فهذه العبادة الصحيحة، لذلك رأوا خدمة الفقراء، و الاشتغال بمصالح الناس، و قضاء حوائجهم، و مساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل، فتصدوا له، و عملوا عليه، و احتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم:

((الخلق كلهم عيال الله، و أحبهم إليه أنفعهم لعياله))

[أبو يعلى عن ابن مسعود]

 و احتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، و عمل النفع متعد إلى الغير، و أين أحدهما من الآخر !! ولهذا قالوا: و لهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. واحتجوا بقول النبي لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:

((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم))

[ متفق عليه عن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ]

 و احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:

(( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ))

[ مسلم عن جابر]

 واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، و صاحب النفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعه نسب إليه، واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق، وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب.
 أيها الأخوة الكرام، تسعون بالمئة من كلام هؤلاء صحيح وهو حقيقي. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ ؛ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

 ولكن الصنف الرابع هؤلاء الذين أصابوا كبد الحقيقة مئةً بالمئة هؤلاء رأوا أن للإنسان هوية، وأن للإنسان ظرفاً هو فيه، وأن للإنسان وقتاً هو فيه، فهذا الإنسان يجب أن يعبد الله فيما أقامه، فهذا الذي آتاه الله قوةً عبادته الأولى إنصاف الضعيف، وهذا الذي آتاه الله مالاً عبادته الأولى إنفاق ماله، وهذا الذي آتاه الله علماً عبادته الأولى إنفاق علمه، وهذه المرأة عبادتها الأولى رعاية زوجها وأولادها، وهذا الشاب عبادته الأولى برّ والديه، وهذا الأب عبادته الأولى رعاية أولاده.

 

المفهوم الدقيق للعبادة :

 كل إنسان له هوية، كل إنسان أقامه الله بحالة، فعبادته الأولى نابعة من هذه الحالة، هذا أول معنى أن تعبد الله فيما أقامك، ماذا أقامك؟ أقامَك قوياً أنصف المظلوم، أقامك غنياً أعطِ الفقير، أقامك عالماً أنفق علماً، أقامك امرأةً أحسني رعاية زوجك وأولادك، كل إنسان الله أعطاه هوية فعبادته الأولى أن يحقق الوضع الأمثل لهذه الهوية، الآن وضع في ظرف عدو اقتحم، فالعبادة الأولى مقاومة العدو، ضيف نزل العبادة الأولى إكرام هذا الضيف، ابن مريض العبادة الأولى رعاية هذا المريض، هذا الظرف الذي وضعك فيه لك هوية ولك ظرف، وهناك وقت أنت فيه، ففي وقت السحر أول عبادة الاشتغال بالصلاة و القرآن و الدعاء و الذكر و الاستغفار. وفي وقت الأذان أول عبادة إجابة المؤذن، وفي أوقات الصلوات الخمس أول عبادة الصلاة على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت.
 وهناك حالة أن إنساناً يمد لك يد المساعدة، أول عبادة أن تلبيه، وأن تسعده، وأن تزيل كربته. في وقت قراءة القرآن أول عبادة جمع القلب على تدبره وتفهمه ثم العمل بأحكامه.
 وفي وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف لذلك.
 وفي أيام العشر من ذي الحجة الإكثار من التعبد لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. وفي العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف في المسجد أو البيت والانقطاع لله عز وجل. وفي وقت مرض أخيك المسلم أول عبادة عيادته، وفي حالة موته أول عبادة تشييعه وحضور جنازته وتشييعه، وفي وقت نزول النوازل، أول عبادة أن تؤدي الواجب مع الصبر، وقع زلزال في بعض الأقطار العربية والأطباء كثر، بعضهم قبع في المستشفيات يعالج المرضى ليلاً ونهاراً، وبعضهم اتجه إلى مكان بعيد عن الزلزال، وقت الكارثة أعلى أنواع العبادة تقديم المساعدة لهؤلاء المنكوبين، هذا هو الفهم الدقيق للعبادة، أنت مع الناس إذا خالطتهم، واستطعت أن تشدهم إلى الدين، فالعبادة الأولى أن تخالطهم، من خالط الناس وصبر عن أذاهم خير ممن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم، وحينما تكون المخالطة طريقاً إلى أن تخسر من دينك فالعبادة الأولى أن تعتزلهم، هذا هو الفهم الدقيق للعبادة.

 

أهل التعبد المطلق هم من يعبدون الله فيما أقامهم :

 أيها الأخوة الكرام، لذلك قالوا: أهل التعبد المطلق هؤلاء يعبدون الله فيما أقامهم، وفي الظرف الذي وضعهم فيه، وفي الزمان الذي يظلهم، وهم في كل وقت، وفي كل وضع، وفي كل هوية يعبدون الله عز وجل بما يتاح لهم من عمل الصالحات، المسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى هذا المفهوم في العبادة ، في أمس الحاجة إلى أن يصلحوا دنياهم بعد أن يعرفوا ربهم، حينما يحلوا مشكلات شبابهم، حينما يعالجون مرضاهم، حينما يزوجون شبابهم، حينما يوفرون الأعمال لعاطليهم هذا نوع من العبادة بعد معرفة الله وطاعته والتجرد لقربه.
 أيها الأخوة الكرام، أما العبادة المقيدة فأن تعبد الله على نمط واحد، وفي أسلوب واحد، وفي طريقة واحدة، لا تحيد عنها ولو نشأت حولك ظروف وظروف.
 أيها الأخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام حينما جلس مع كفار قريش ليهديهم إلى سواء السبيل، وقد طمع في هدايتهم، فعاتبه الله جل جلاله، لكنه عتب له، ولم يعتب عليه، بمعنى أن النبي اختار الأشق في نظره، اختار أن يجلس مع كفار قريش فلعل في هدايتهم هداية لبقية الكفار.
 أيها الأخوة الكرام، من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر ، هذه هي العبادة كما يراها العلماء العاملون، كما يراها أهل الصدق وأهل الوفاء، كما يراها أهل المتابعة والإخلاص .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشّدة النّفسية و تأثير العبادة :

 أيها الأخوة الكرام، كلما تقدم علم الطب اكتشف أن الشدة النفسية وراء أكثر الأمراض المستعصية، وأن الشدة النفسية هي الهم، وقالوا: ضغط الدم من ضغط الهم، أي أن الهم، والقلق، والخوف، والحزن، والحسد، والعداوة، والبغضاء هذه كلها شدة نفسية تضعف جهاز المناعة في الإنسان، وأن جهاز المناعة في الإنسان هو أخطر جهاز في هذا المخلوق الأول، هذا الجهاز أيها الأخوة قال عنه العلماء أشياء كثيرة، ففيه كريات مهمتها الاستطلاع، أن تكتشف تركيب شفرة الجرثوم الكيماوية، وفي هذا الجهاز عناصر مهمتها تصنيع السلاح في العقد اللمفاوية، وفي هذا الجهاز عناصر مهمتها القتال، تحمل هذا السلاح وتنطلق لتقاتل الجرثوم، وفي هذا الجهاز عناصر مهمتها الخدمات تنظيف أرض المعركة من الجثث.
 اكتشف في عام تسعة وسبعين فرقة في هذا الجهاز، جيش بكل ما لهذه الكلمة من معنى، اكتشفت فرقة سماها العلماء تجاوزاً المغاوير، هؤلاء يتدربون تدريباً عالياً جداً في الغدة الصعترية، وينطلقون لمحاربة الجرثوم، هذه الفرقة تستطيع أن تكتشف انحراف الخلية عن وضعها الطبيعي، انحرافها السرطاني في وقت مبكر جداً فتلتهمها.
 هذا الجهاز جهاز المناعة المكتسب الذي هو شغل العالم اليوم مرض الإيدز هو الذي يدمره، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلا السَّامَ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 عقد مؤتمر في مصر واكتشف أن هذه الحبة، حبة البركة تقوي جهاز المناعة، فقد صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا نص النبي عليه الصلاة والسلام من دلائل نبوته.
 اكتشف أن جهاز المناعة المكتسب يقويه الحب، يقويه الأمن، يقويه السرور، تقويه الثقة، يضعفه القلق، يضعفه الخوف، يضعفه الحزن، فالإنسان حينما يوحد، وحينما يعبد الله عز وجل يحقق الهدف من وجوده، لذلك ترى أن المؤمنين على أنهم يعانون من مشكلات كثيرة إلا أن جهازهم المناعي قوي جداً، جهازهم المناعي قوي جداً بسبب إيمانهم بالله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، واستقامتهم على أمر الله، وقد قال الله عز وجل:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 81]

 فكلما تقدم الطب اكتشف أن الشدة النفسية وراء الأمراض الكثيرة التي يعاني منها الإنسان، وأن التوحيد والعبادة و الإخلاص يقوي معنويات الإنسان، ويرفعها إلى أعلى مستوى، وبهذا يقوى جهازه المناعي، فلذلك بالمفهوم الصحي والمادي تجد أصح الناس أجساماً هم المؤمنون لأن جهازهم المناعي قوي جداً بسبب الأمن الذي يشعرون به، قال تعالى :

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82]

 وثقتهم بالله عز وجل، ووعده لهم بجنة عرضها السموات والأرض.

 

القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله :

 أيها الأخوة: خط الإنسان الشارد عن الله خط بياني، قد يكون صاعداً صعوداً حاداً لكن هذا الخط الصاعد في حالةٍ دقيقة جداً يسقط سقوطاً مريعاً، لكن المؤمن خطه البياني صاعداً صعوداً هادئاً، والموت نقطة على هذا الخط الصاعد ويبقى صاعداً بعد الموت، يجعل الله نعم الدنيا متصلةً بنعم الآخرة.
أيها الأخوة الكرام، الخير كل الخير، والسلامة كل السلامة، والسعادة كل السعادة، والأمن كل الأمن، والفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، والتفوق كل التفوق، في طاعة الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[سورة الأحزاب:71]

 إن عبدت الله صح جسمك، وإن عبدت الله اطمأن قلبك، قال تعالى:

﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[ سورة الرعد: 28]

 القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله.
 يا أيها الأخوة الكرام، خلاصنا في طاعة الله عز وجل، خلاص هذه الأمة في صلحها مع الله، خلاص هذه الأمة في اعتمادها عليه، خلاص هذه الأمة في تطبيق منهجه، وإذا كنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً مع المجموع فعليك بنفسك، عليك ببيتك وعملك، أقم الإسلام في بيتك وفي عملك تكون قد أديت الذي عليك و بقي الذي لك .

 

الدعاء :

 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور