وضع داكن
18-04-2024
Logo
الخطبة : 0691 - العبادة والاستعانة - إياك نعبد وإياك نستعين - الإدراك.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيَّته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم، رسول الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

العبادة تجمع أصلين غاية الحب مع غاية الخضوع :

 أيها الأخوة الكرام، لأن علة وجود الإنسان في الحياة الدنيا أن يعبد الله فالله عز وجل يقول:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 لأن عبادة الله هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
 أيها الأخوة الكرام، كلمتان مقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين، الكلمة الأولى: " إياك نعبد "، هذه لله تعالى، والكلمة الثانية: " إياك نستعين"، هذه للعبد، كلمتان بين ربنا جل جلاله وبين العبد المسلم إياك نعبد وإياك نستعين، فالعبادة تجمع أصلين غاية الحب مع غاية الخضوع، فمن أحبّ الله ولم يخضع له لم يكن عابداً له.

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعـتــــه  إن المحب لمن يحب مطيــع
***

 ومن خضع له بلا محبة لم يكن عابداً له، لا تكون عابداً له إلا إذا خضعت له وأحببته، كلاهما شرط لازم غير كافٍ، ينبغي أن تخضع له في كل شؤون حياتك وفق المنهج القويم الذي جاء به النبي الكريم، وينبغي أن تحبه وأن تؤثره على كل شيء، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ:

((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآنَ يَا عُمَرُ))

[ أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ ]

 و محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرع من محبة الله.

 

على الإنسان أن يؤمن أن الله في السماء إلهٌ وفي الأرض إله :

 أيها الأخوة الكرام، ليس الإيمان أن تقر أن لهذا الكون خالقاً عظيماً، الله عز وجل أثبت لمشركي مكة هذا الإيمان، و هذا لا يعفيهم من المحاسبة، و لا يعفيهم من أن يبرؤوا من الشرك، قال تعالى:

﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾

[ سورة الزخرف : 87]

 ما العلاقة بين إيمانهم وبين حركتهم في الحياة ؟ حركتهم في الحياة لا علاقة لها بإيمانهم، ليست منضبطةً بمنهج الله، قال تعالى:

﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾

[ سورة لقمان : 25]

 وآية ثالثة، قال تعالى:

﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون:84]

 إلى قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون:89]

 أيها الأخوة الكرام، أن تعتقد أن الله خلق السموات والأرض هذا الإيمان لا ينجي، ولا يرقى بصاحبه، ولا يعفيه من الشرك، العبرة أن تؤمن أن الله في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، بيده كل شيء وإليه يرجع كل شيء قال تعالى:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾

[ سورة الفتح: 10 ]

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة هود : 56]

﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة الأعراف : 54]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 26]

العبادة و الاستعانة :

 أيها الأخوة الكرام، العبادة تجمع أصلين غاية الحب مع غاية الخضوع، إياك نعبد وإياك نستعين كلمتان بين الرب وبين العبد، وأما الاستعانة فتجمع أصلين؛ الثقة بالله والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه ولا يثق به لأنه مضطر إليه، فقد تعتمد ولا تثق، وقد تثق ولا تعتمد، ولكن أصل الاستعانة بالله أن تثق به ثقةً مطلقة، وأن تعتمد عليه اعتماداً مطلقاً، فالعبادة تجمع أصلين، والاستعانة تجمع أصلين، العبادة تجمع بين الحب والخضوع والاستعانة تجمع بين الثقة والاعتماد.

الثقة و الاعتماد على الله يولدان التوكل :

 أيها الأخوة الكرام، إذا جمعنا الثقة والاعتماد كان التوكل، قال تعالى:

﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾

[ سورة إبراهيم : 12]

 الثاني: قول شعيب، قال تعالى:

﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾

[ سورة هود : 88]

 وآية ثانية: قوله تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة هود : 123]

 إن الشقاء الذي يعانيه الإنسان الشارد عن الله عز وجل هو شقاء البعد عن التوكل، الحياة قاسية والإنسان ضعيف والقوى التي حوله مخيفة، فلا بد له من أن تنهار نفسه وأن يختل توازنه، أما إذا توكل على الله فهو حسبه، الله عز وجل يحكي عن المؤمنين فقال تعالى حكاية عن المؤمنين:

﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾

[ سورة الممتحنة : 4]

 و قوله تعالى:

﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾

[ سورة المزمل : 8]

 و قوله تعالى:

﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾

[ سورة الرعد : 30]

 فهذه ست آيات بالقرآن الكريم تبين أصل الاستعانة بالله، أن تثق به ثقةً مطلقة لأن بيده كل شيء، جسمك، أعضاؤك، حواسك، أجهزتك النبيلة، أهلك، أولادك، من حولك، من فوقك، من تحتك، كل القوى التي حولك هي بيده، ولا يستطيع مخلوق كائناً من كان أن يصل إليك بنفع أو ضر إلا إذا شاء الله، قال تعالى:

﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾

[ سورة هود : 55]

 هذا هو التوحيد الذي يملأ القلب أمناً، ويملأ القلب سكينةً، ويملأ القلب ثقةً بالله عز وجل، وثقةً بالمستقبل، قال تعالى:

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة التوبة : 51]

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾

[ سورة آل عمران : 146]

الحكمة من تقديم العبادة على الاستعانة :

 إن المسلم اليوم في أمس الحاجة إلى أن ترتفع معنوياته، لأنه إذا كان على منهج الله سائراً فالله معه، وإذا كان الله معه فمن عليه؟ يا ربي ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟
 أيها الأخوة الكرام، تقديمُ " العبادة " على " الاستعانة " إياك نعبد وإياك نستعين في فاتحة الكتاب التي هي من السبع المثاني، والتي ورد فيها أن القرآن جمع بالفاتحة، وأن الفاتحة جمعت في إياك نعبد وإياك نستعين، وقد ألفت كتب حول إياك نعبد وإياك نستعين، الدين كله يضغط بكلمتين إياك نعبد، نحن ضعاف يا رب، وإياك نستعين.
 تقديمُ " العبادة " على " الاستعانة " إياك نعبد وإياك نستعين في فاتحة الكتاب من باب تقديم الغايات على الوسائل، الغاية أن تعبده والوسيلة أن تستعين فيه، غاية العباد التي خلقوا لها أن يعبدوا الله والاستعانة وسيلة له، " إياك نعبد " هذه متعلقةٌ بألوهية الله عز وجل و" إياك نستعين " هذه متعلقةٌ بربوبيته.
 أيها الأخوة الكرام، لأن الاستعانة جزء من العبادة دون أن نقبل العكس، لأن الاستعانة جزء من العبادة، ولأن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب له، لأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، أي إنسان إذا ألمت به المخاطر دعا الله عز وجل.
 أيها الأخوة الكرام، لأن العبادة شكر على نعم الله، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعل الله وتوفيقه، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت مظلتها أعانك عليها، فكان التزامها، والدخول تحتها سبباً لنيل الإعانة.
 أيها الأخوة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو لو وضعنا أيدينا على حقيقة هاتين الآيتين ما أمرنا أن نستعين به إلا ليعيننا، فكل نقص تشعر به نقص باستعانتك، لأن الله تولى أن يعينك فإن كنت في نقص إيماني، نقص تعبد، نقص في الأعمال الصالحة، فهذا لا لضعف قدراتك، بل لضعف استعانتك، لأن الله عز وجل في فاتحة الكتاب يقول:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

[ سورة الفاتحة : 5]

العبادة غاية الإنسان في الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام، العبودية أرقى مرتبةٍ يصل إليها الإنسان، النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سدرة المنتهى، في أعلى مرتبةٍ وصلها مخلوق، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وكلما ازددت عبوديةً لله رفع الله ذكرك، وأعلى مقامك، ويسر أمرك، وأحاطك بعناية لا حدود لها العبودية.
 أيها الأخوة العبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلَها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، فكل عبادة لله تكون بتوفيق الله أولاً، وتنقلك إلى عبادة أرقى منها، فالخطوة نحو طاعة الله تقودك إلى خطوات، والعياذ بالله والخطوة نحو المعصية تقودك إلى خطوات، الإنسان حركة فإذا سلك طريقاً يبتغي به وجه الله أعانه الله على ما طلب ويسر له عبادة أرقى، فمن حال إلى حال، ومن مرتبة إلى مرتبة، ومن منزلة إلى منزلة.
 أيها الأخوة الكرام، العبادة غاية الإنسان من وجوده في الدنيا لذلك هناك نقطة دقيقة في الآية، ما قال الله عز وجل نعبد إياك قال: " إياك نعبد " وما قال: نستعين بك قال: " إياك نستعين "، وهناك لفتة في البلاغة مؤداها أن تقديم إياك على نعبد تفيد القصر والحصر، أي لو قلنا: نعبد الله، لا ينفي هذا الكلام أن نعبد غيره، أما إذا قلنا: إياك نعبد أي لا نعبد إلا الله، فلا يعبد في الأرض إلا الله، ولا يعبد الله إلا وفق ما شرع هو، هذا معنى إياك نعبد، ولا نستعين بغير الله، أما لو قلنا: نستعين بالله، فلا تنفي أن نستعين بغير الله " إياك نعبد وإياك نستعين "، وهناك آية مشابهة تأمل قوله تعالى:

﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾

[ سورة البقرة : 40]

 أي لا ترهبوا أحداً غيري، ومن خاف غير الله فهذا نقص في توحيده، والنقص في توحيده يدفعه إلى النفاق، والنفاق ضعف في الإخلاص وضعف الإخلاص ضعف في التوحيد:

﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾

[ سورة البقرة : 40]

 ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السموات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه.

 

الناس حول العبادة والاستعانة أربعة أقسام :

1 ـ قسم عبد الله واستعان به وهؤلاء صفوة الله من خلقه :

 أيها الأخوة الكرام، إياك نعبد وإياك نستعين؛ الناس حول هذين الأصلين - وهما العبادة والاستعانة - أربعة أقسام- ودققوا في هذا الكلام- القسم الأول: أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله الذين نفذوا قوله تعالى إياك نعبد، وإياك نستعين بعد أن تحققوا من أبعاد هاتين الآيتين، أهل العبادة والاستعانة، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الله تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، أعظم دعاء، وأعظم طلب أن تستعين بالله على مرضاته، والذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبّه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:

((أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ... ))

[ النسائي عن معاذ بن جبل]

 وهذه مرتبة ما بعدها مرتبة "... إِنِّي لأُحِبُّكَ.... " أن يحبك الله ورسوله هذه مرتبة ما بعدها مرتبة :

((... فَقَالَ إِنِّي لأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))

[ النسائي عن معاذ بن جبل]

 لهذا قال العلماء: أنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأعظم العطاء أن يسعفك الله بهذا الطلب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا.
 وقال أحد العلماء: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في " إياك نعبد وإياك نستعين ".
 أي نقص تعانيه في حياتك لا لضعف قدراتك، ولا لضعف حظك من الله عز وجل كما يتوهم بعض الضلال، أي ضعف في حياتك هو نقص في استعانتك، وأضعف إنسان بإمكانه أن يستعين بالله، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، هذا القسم الأول، عبدوا الله، واستعانوا به على مرضاته، وهو أعلى قسم.

 

2 ـ و قسم لم يعبده ولم يستعن به وهؤلاء من شرار الخلق :

 القسم الثاني: والعياذ بالله هم المعرضون عن عبادته، والاستعانة به، فلا عبادة، ولا استعانة، بل إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض؛ يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء. قال تعالى:

﴿ كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾

[ سورة الإسراء : 20]

 القسم الثاني، والعياذ بالله الذين استكبروا أن يعبدوه، واستكبروا أن يستعينوا به، وإذا استعانوا به لظرف طارئ فعلى شهواتهم وحظوظ أنفسهم وتمكنهم من الدنيا، أبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجةً، فأعطاه إياها ومتعه بها، ولكن لم تكن عوناً له على مرضاته، كانت زيادةً له في شقاوته، وبعده عن الله، وطرده عن رحمته، وهكذا كل من استعان به على أمر، وسأله إياه، ولم يكن عوناً على طاعته كان هذا الأمر مبعداً له عن مرضاته، قاطعاً له عنه. لذلك ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ولو عرفت حكمته في المنع لانقلب المنع عين العطاء، قال تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 216]

 أيها الأخوة الكرام، على العاقل أن يتأمل هذا في نفسه وفي غيره، ليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، لأن الإنسان مخير، وهذا أساس الاختيار، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه، هذا كلام يملأ قلب الإنسان سعادةً قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتتحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله.
 أيها الأخوة الكرام، ويكون بالمقابل منعه منها لكرامته عليه، ومحبته له، فيمنعه حمايةً وصيانةً وحفظاً لا بخلاً. إن الله ليحمي عبده من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام، إن الله ليحمي عبده من الدنيا كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة، فإذا مَنَعَه منَعَه حمايةً وصيانةً وحفظاً لا بخلاً، لأنه علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

 

النّعم التي أنعم الله بها على الإنسان موقوفة على نوع استخدامها :

 أيها الأخوة الكرام، الجاهل إذا طلب من الله حاجةً من الدنيا ليستعين بها على شهواته، وأعطاه الله إياها يتوهم أن الله يحبه، وقد كرمه بها، لأنه قضى حاجته، وهذا وهم لا أصل له، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾

[ سورة الفجر : 15-16]

 كلا أداة نفي وردع، أن لا يا عبادي، لا كما تتوهمون، ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، المال ليس نعمةً وليس نقمةً إنما هو ابتلاء، فإذا أنفق في طاعة الله كان من أجلّ النعم، والصحة ليست نعمةً ولا نقمةً فإذا أُنفقت في طاعة الله كانت من أجلّ النعم، أية نعمةٍ أي حظٍ هو سلم نرقى به، أو دركات نهوي بها، النعمة التي أنعم الله بها علينا موقوفة على نوع استخدامها.
 أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾

[ سورة القصص: 77]

 أسعد الناس هم الذين أوتوا حظاً من الدنيا فوظفوه في طاعة الله، هم الذين أوتوا حظاً من العلم فأنفقوه في سبيل الله، هم الذين أوتوا حظاً من المال فأنفقوه بسخاء، هم الذين أوتوا حظاً من الجاه فبذلوه في نصرة الضعيف، قال تعالى:

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾

[ سورة القصص: 77]

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 3]

 والإنفاق واسع جداً.
 أيها الأخوة الكرام، كأن هذه الآية:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

[ سورة الفجر : 15]

 كأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا: ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذلك لكرامته عليّ

3 ـ وقسم لضعف توحيده عبد الله ولم يستعن به :

 أيها الأخوة الكرام، القسم الثالث: من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة ، فلم تَنفُذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من " إياك نستعين ". فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، هؤلاء عبدوا ولكن ضعفت استعانتهم، غاب عنهم أن الأمر كله بيد الله، دقيقة هذه الفكرة، هم يعبدون الله، يصومون، ويصلون، ويغضون أبصارهم، ويحررون دخلهم، ولكن غاب عنهم لضعف توحيدهم أن الأمر كله بيد الله، وأن الله بيده مقاليد السموات والأرض، وأنه ليس مع الله أحد يفعل شيئاً، هؤلاء الذين ضعفت هذه السورة عندهم، وضعف هذا التوحيد عندهم، وضعفت استعانتهم فخذلوا واستكانوا، وضعفت معنوياتهم نقول: هؤلاء عبدوا الله ولكنهم لم يستعينوا به كما ينبغي، فإذا وفقوا فلاستعانتهم، وإن لم يوفقوا لضعف استعانتهم.
 أيها الأخوة الكرام، تصور طفلاً صغيراً مع أبويه حاله فيما ينوبه من رغبة أو رهبة متعلق بأبويه وحدهما، فلم يلتفت إلى غير أبويه، وحبس همته على إنزال ما ينوبه بهما، فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولابد، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾

[ سورة الطلاق : 3]

4 ـ وقسم استعان به على شهوات الدنيا فنالها وماله في الآخرة من خلاق :

 القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ذلك ما يحبه ولا ما يرضاه فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطلبها منه، وأنزلها به، فقضيت له، وأسعفه الله بها، سواءً كانت أموالاً أو أولاداً أو جاهاً عند الخلق أو أحوالاً من كشف وتأثير وقوة وتمكين، ولكن لا عاقبة له، قال تعالى:

﴿ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾

[ سورة البقرة: 102]

 هناك من يعمل في حقل لا يرضي ويقول: الله وفقني، استعان بالله ولا يعرف عن منهج الله شيئاً، استعان به على شهواته وعلى حظوظه الدنيئة فنالها: هذا ليس له في الآخرة من خلاق، فالناس حيال إياك نعبد وإياك نستعين أربعة أقسام، قسم عبده واستعان به وهؤلاء من صفوة الخلق، وقسم لم يعبده ولم يستعن به وهؤلاء من شرار الخلق، وقسم عبده ولضعف توحيده ضعفت استعانته، فكل ما يعاني في حياته من ضعف وخذلان إنما بسبب نقص استعانته بالله وقسم لم يعبد الله، ولكن استعان به لأنه رآه هو القوي فاستعان به على حظوظ الدنيا فنالها، وماله في الآخرة من خلاق.

 

تلخيص لما سبق :

 أيها الأخوة الكرام، هذان الآيتان الكريمتان في الفاتحة " إياك نعبد وإياك نستعين "، تبينان أن العبادة لها أصلان: الحب والخضوع، والاستعانة لها أصلان: الثقة والاعتماد، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن العبادة هدف، والاستعانة وسيلة، والناس حيال " إياك نعبد وإياك نستعين " أربعة أقسام، قسم عبد الله، واستعان به، وهؤلاء صفوة الله من خلقه، و قسم لم يعبده، ولم يستعن به، وهؤلاء من شرار الخلق، وقسم لضعف توحيده عبد الله، ولم يستعن به، فكل ما يعانيه من ضعف، وهذا شأن بعض المسلمين، بل شأن جلّ المسلمين بسبب نقص استعانته بالله، وقسم استعان به على شهوات الدنيا فنالها، وماله في الآخرة من خلاق.
 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

 

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإدراك :

 أيها الأخوة الكرام، حينما ندرك الحقائق الكبرى في الحياة، حينما نملك تصوراً صحيحاً للكون والحياة والإنسان، حينما نعرف سرّ وجودنا وغاية وجودنا، حينما نؤمن أن الإنسان هو المخلوق الأول، وأن له خالقاً عظيماً ومربياً حكيماً خلقه ليسعده في الدنيا والآخرة، وأن لهذا الخالق العظيم منهجاً قويماً، وأنه ما من مشكلة يعاني منها الإنسان فرداً أو مجتمعاً على وجه الأرض إلا بسبب خروج عن منهج الله، وأنه ما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل الذي هو أعدى أعداء الإنسان، لأن الإنسان الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، وحينما يعتقد الإنسان أنه أعقد آلة في الكون تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، وأن له صانعاً متقناً له تعليمات، وأن تعليمات الصانع هي التعليمات الوحيدة التي ينبغي أن تتبع، لأنها الجهة الوحيدة الخبيرة، وحينما نعكف على واقعنا فنعرف سلبياته، ونقاط الضعف فيه، ونقاط الخطر، وحينما نعقد العزم على تغييره نحو الأصلح وفق منهج الله، وبالاستعانة بالله وفق ما جاء في هذه الخطبة، وحينما نعتقد أن الإنسان هو الهدف الأول والأخير من كل تغيير، وأنه أثمن شيء في الحياة، وأنه بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله، وحينما نبنيه بناءً صحيحاً فنجعل منه إنساناً متميزاً يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعرون، يتمتع بوعي عميق، وإدراك دقيق له قلب كبير، وعزم متين، وإرادة صلبة، هدفه أكبر من حاجاته، ورسالته أسمى من رغباته، يملك نفسه، ولا تملكه، يقود هواه، ولا ينقاد له، تحكمه القيم، ويحتكم إليها من دون أن يسخرها، أو يسخر منها، سما حتى اشرأبت إليه الأعناق، وصفا حتى مالت إليه النفوس، أما حينما ينقطع الإنسان عن ربه فينقاد لهوى نفسه، أو حينما ينقاد الإنسان لهوى نفسه فينقطع عن ربه، عندئذٍ تفسد علاقته بعقله فيعطله، أو يرفض نموه وتطوره، أو يسيء إعماله فيسخره لأغراض رخيصة دنيئة، عندها يكون الجهل والتجهيل، والكذب والتزوير، وتفسد علاقته بنفسه، فتسفل أهدافه، وتنحط ميوله، ويبيح لنفسه أكثر الوسائل قذارةً لأشد الأهداف انحطاطاً، عندها تكون أزمة الأخلاق المدمرة التي تسبب الشقاء الإنساني، وتفسد علاقة الإنسان بأخيه، فتكون الغلبة لصاحب القوة لا لصاحب الحق، كما هو شأن المجتمع البشري اليوم، عندها تعيش الإنسانية أزمةً حضارية تعيق تقدمها وتقوض دعائمها. حينما نضع أيدينا على هذه الحقائق ونتحرك نحوها بعزم متين وإرادة صلبة نكون قد فهمنا حقيقة ما ينبغي أن يكون.
 أيها الأخوة الكرام، هذه حقائق مصيرية ينبغي أن نعيشها، وينبغي أن نتحرك نحوها، وينبغي أن نعقد العزم من أجل أن نصل إليها.

الدعاء :

 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور