- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الطّبع و التّكليف :
أيها الأخوة الكرام ؛ شاع بين المسلمين عُقوق الوالدين ، وعُقوق الوالدين من الكبائر ، بل إنّ عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر ، ويا أيها الأخوة ليس في الأدْيان ، وليس في الدِّين الإسلامي كلّه أمْرٌ واحدٌ بِتَناوُل الطعام ، ولا توَعُّدٌ لِمَن لا يأكل ، لماذا ؟ لأنّ هذا تَحصيل حاصل ، فقد رُكِّبَ في طبْع الإنسان وأصل تَصميمه دافعٌ إلى الطعام ، وحاجةٌ إليه ، يتمثَّل هذا بالشعور بالجوع ، وذلك الشعور الذي لا يُقاوَم ، كذلك ليس في الدِّين كلّه أمْرٌ للآباء بِرِعاية الأبناء ، لأنّ هذا مركّبٌ في طبْعهم ، وفي أصل تَكوينهم ، ولكنّ برّ الأبناء للآباء تكليفٌ ، ومعنى أنَّه تكليف أنَّهُ ذو كُلْفةً يقتضي كلفةً وإرادةً ، يقتضي بذْلاً ، يقتضي عطاءً ، أن تفْعَلَ شيئًا وفْق طبْعِكَ شيء ، وأن تفْعَلَ شيئًا بِخِلاف طبْعِكَ شيءٌ آخر ، إنَّك لن ترقى إلا إذا فعلْتَ شيئًا بِخلاف طبْعِك ، قال تعالى :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾
فإذا كان الطَّبْعُ يقتضي أن تنظر إلى ما يُمْتِعُ العين فالذي يرقى بك إلى الله أن تغضّ البصر عمّا نُهِيتَ أن تنظر إليه ، وإذا كان الطَّبْعُ يقتضي أنْ تقبضَ المال فإنّ التكليف يقتضي أن تدفعَهُ ، وإذا كان الطَّبْعُ يقتضي أن تتكلَّم بِعَوْرات الناس ، فالتكليف يقتضي أن تسكت ، لذلك أيها الأخوة لا يرقى المسلم عند الله عز وجل إلا إذا خالَفَ هواه وطبْعَهُ ، رعاية الآباء للأبناء في أصْل طبْعِهِم ، مركّبٌ في طبْعِهم من أجل اسْتِمرار الحياة ، وأن تُعْمَرَ الأرض، ولكنّ برّ الأبناء للآباء تكليف ، ومعنى أنَّه تكليف أيْ ذو كُلفَة يقتضي اختِيارًا ، ويقتضي جُهْدًا، ويقتضي وقتًا ، ويقتضي أحيانًا مشَقَّةً .
الإحسان إلى الوالدين و برهما من أعظم الأعمال في الإسلام :
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان يُثابُ على أعماله التي تُخالفُ طبْعهُ أكثر ممَّا يُثاب على أعماله التي توافق طبْعَهُ ، لذلك برّ الوالدين يُثابُ صاحبُه عليه في الدنيا توفيقًا ونجاحًا ، وفي الآخرة سعادةً وخلودًا ، ويا أيها الأخوة الكرام إنّ هذا التكليف - أنت أيها الإنسان مُكَلَّفٌ بِبِرّ والِدَيك - من الأهَمِيَّة بحيث قرَنَهُ الله عز وجل بِعِبادَتِهِ ، والاقْتِران عن طريق العَطْف يُفيدُ التوافُقَ والمشاكلة ، والمشابهة والاشْتِراك ، قال تعالى :
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
ربّنا جلّ جلاله رفعَ الأمر بالإحسان إلى الوالدين إلى مستوى عبادته ، إذًا هو من الأهَمِيَّة بِمَكان ، الله سبحانه وتعالى هو الذي أوْجَدَكَ ولم تَكُنْ شيئًا مَذْكورًا ، أوْجَدَكَ عن طريق هذا الأب وتلك الأمّ ، إذًا قال تعالى :
﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
هذا العطف يقتضي المشاركة والتوافق .
أيها الأخوة الكرام ؛ مرّةً ثانِيَةً : أحْسَنَ في اللّغة العربيّة يتعدَّى بإلى ، لو فتَحْتَ المعاجم على فعل أحْسَن ، يُقال : أحْسنَ إليه ، إلا أنّ هذا الفِعْل في القرآن الكريم يتعدَّى بِحَرْفٍ آخر ، هو الباء ، قال تعالى :
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
أيْ إحْسانًا بالوالدين ، ولا يخفى على كلّ ذي فهْمٍ أنّ هذه الباء تفيد الإلْصاق ، وقد اسْتَنْبطَ علماء التفسير من حرْف الباء أنَّ الإحسان للوالدين لا يُقْبَلُ إلا إذا كان شخْصِيًّا وبالذات من ابنهما لا عن طريق الهاتف ، ولا عن طريق الواسطة ، ولا عن طريق الرسالة ، لا بدّ من أن تحضر إليه ، ولا بدّ من أن تقدِّمَ إليه الخِدْمةَ بِنَفْسِكَ ، لا تُقْبَلُ إلا أن يكون هذا شخصيًّا منك .
أيها الأخوة الكرام ؛ في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عبد الله قال :
((أحب الأعمال إلى الله سبحانه الصلاة على وقتها ، ثم بر الوالدين ، ثم الجهاد في سبيل الله ))
فَبِرُّ الوالدين من خِلال هذا الحديث هو أعظمُ الأعمال في الإسلام بعد الصلاة التي هي عِماد الدِّين ، وعِصام اليقين ، وسيّدةُ القربات ، وغرّة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى ربّ الأرض والسموات .
خابَ وخسر من أدرك والديه عند الكبر ثمّ لمْ يدخُل الجنّة :
أيها الأخوة الكرام ؛ ثمّ يقول الله عز وجل :
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾
يا أخوة الإيمان أرأيْتُم إلى كلمة واحدة في الآية الكريمة ؟ كلمة عندَكَ ، أي هم عندك ، بعدَ أن كنْتَ أنت عندهم ، الطّفل إذا كان صغيرًا ، الطّفل الصغير الضعيف هو عند والدَيْه مكانًا ونفقَةً ورِعايَةً وتربِيَةً ، تقدَّمَتْ السِنّ بالأب ، فأصبحَ الأب عند ابنه مكانًا ونفقَةً ورِعايَةً وترْبِيَةً ، قال عز وجل :
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ﴾
هم الآن عندك ، وقد كنت عندهم ، يوم كنتَ صغيرًا كنت عندهم في بيت أبيك ، هو ينفقُ عليك ، هو يرْعاك ، هو يُربّيك ، أما اليوم فهو عندك في بيتك ، عليك أن ترْعاه ، وعليك أن تنفق عليه ، وعليك أن تُعْطِيَهُ أثْمَنَ ما عندك، قال عز وجل :
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾
ربّما لا يجد الإنسان مشقَّةً في برّ والدِه الشابّ ، ولكنّ الأب إذا تقدَّمَت به السنّ أصْبحَتْ حاجاتهُ كثيرة ، وقد يُصبحُ كلامه كثيرًا ، وقد يصبحُ تدخُّلُه كثيرًا ، فإذا بلغَ من الكِبَر وهو عندك هو في أمسّ الحاجة إليك ، إلى عطْفكَ ، وإلى حِلْمِكَ ، وإلى رحمتك ، وإلى رعايتك ، وإلى ترْبيَتِكَ ، قال تعالى :
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾
برُّ الوالدين تكليف ، ربّما شعرَ الإنسان البعيد عن الله عز وجل أنّ أباهُ عبءٌ عليه ، ربّما شعر الإنسان البعيد عن الله عز وجل أنَّ أُمّه عبءٌ عليه ، ومصْلحتُهُ مع زوْجتهِ ، مصْلحتُه مع رفاقه ومع أصدقائه ، فهذا الأب الذي تقدَّمَتْ به السنّ ، وهو في أمسّ الحاجة إليك ربّما أصبحَ عبئًا عليك ، لذلك جاء الأمر الإلهي ، قال تعالى :
﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
كلمة أف ليسَتْ كلمة ، إنَّها نَفَسٌ مَسْموع ، زفيرٌ مَسْموع ، زفيرٌ بِصَوْتٍ عالٍ ، وردَ في بعض الآثار أنّه لو أنّ في اللّغة كلمة أقلّ من أفّ لذكرها الله عز وجل ، قال تعالى:
﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾
أُفّ اسم فعل مضارع ، بِمَعنى أتضجَّر ، والإنسان إذا تضجَّر قال : أفّ ، أو تنفَّسَ بِصَوٍت مَسْموع ، أو أرْجَعَ الهواء من رئتَيْهِ بِصَوتٍ مَسْموع أيْ كان زفيرهُ مَسْموعًا .
أيها الأخوة الكرام ؛ العلماء حملوا على هذه الكلمة التي وردَت في نصّ القرآن كلَّ فِعْلٍ كإغلاقٍ باب ، وكلّ كلمةٍ ، أو كلَّ نظرةٍ تُساويها في الإساءة إلى الأم والأب ، في القرآن منْطوق ، وفي القرآن مفهوم ، فكَلِمَة ولا تقل لهما أُفٍّ يُساويها أنْ تشُدّ نظرك إلى أبيك ، يُساويها أن تغلق الباب بِعُنْف ، يُساويها أن تحرِّك يدَيْك تضجُّرًا ، أيّ فِعْلٍ ، أو أيَّةُ كلمة ، أو أيَّةُ إشارة، أو أيّة عبارة ، أو أيّة حركة ، أو أيُّ تصرُّفٍ يُساوي كلمة أفّ فهي تأخذ حكمها ، لذلك روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال :
((رغم أنف عبد أدرك والديه عند الكبر))
وفي رواية أخرى : " رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه - أيْ خابَ وخسر - من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثمّ لمْ يدخُل الجنّة " أما معنى قول الله عز وجل :
﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾
مِن النَّهْر أيْ الزَّجْر والغلظة ، قال تعالى :
﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
فسَّره العلماء بِقَول العبد المذنب لِسَيِّدِه القويّ الفظ الغليظ ، تصوَّرْ عبْدًا مُذْنِبًا يتكلّم أمام سيّده الفظّ الغليظ ، ماذا يقول له ؟ كلامٌ أحلى من العسل ، مع تلطّف ، مع ندم ، مع اختيار للألفاظ اللطيفة ، قال تعالى :
﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
كَقَوْل العبد المذنب لِسَيِّدِه القويّ الفظ الغليظ ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾
عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر :
وعن عائشة قالت :
(( لا تمش أمامه ، ولا تقعد قبله ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له ))
معنى تسْتَسِبَّ له أي لا تكن سببًا في سبِّه ، أي لا تفعل أعمالاً سيّئة مع الناس تدْعوهم إلى أن يسبُّوا أباك ، لا تمش أمامه ، ولا تقعد قبله ، ولا تدعهُ باسمه ، ولا تسْتَسِبَّ له.
أيها الأخوة الكرام ؛ وما دُمنا قد وصلنا إلى كلمة : ولا تسْتَسِبَّ له، فقد أكَّدَ العلماء أنّ من العقوق أن يشْتم الرجل والدَيْه ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر . .
(( من الكبائر شتْم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟...))
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام ودقّقوا في هذا الحديث :
((من أحْزَنَ والِدَيْه فقد عقَّهما ))
إذا فعلْتَ فِعْلاً أدْخَلْتَ على قلبهما الحُزن ، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلّم عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر ، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال :
((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور.))
البر و الإحسان للوالدين و لو لم يكونا مسلمين :
أيها الأخوة الكرام ؛ قد يقول قائلٌ : والديّ ليس على الحق ، ليس مستقيماً ، لا يصلّي ويفعل المنكرات ، اسْتَمِع أيها الأخ الكريم إلى رأي الشرع في هذا الموضوع ، يقول العلماء : لا يختصّ بِرُّ الوالدين بأنْ يكونا مسلمين ، ففي صحيح البخاري عن أسماء قالت :
(( قدمت عليّ أمي وهي مشركة ، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت وهي راغبة : أفأصل أمي ؟ قال : نعم صلي أمك? ))
تعني وهي راغبة عن الإسلام ، فبرّ الوالدين لا يختصّ بالوالدين المؤمنين المسلمين ، لأنّهما والدان همْا يسْتحقّون منك البِرّ والإحسان .
وقد قال بعض المفسّرين : إنّ الله سبحانه وتعالى أنْزل عقب هذه الحادثة قوله تعالى :
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
أعظم الناس حقاً على المرأة و الرجل :
وفي الصحيح عن أبي هريرة . . ." من أحقّ الناس بحُسن صحابتي ؟ قال : أمّك ثلاث مرات . . ." فحقُّ الأمّ ثلاثة أمثال حقّ الأب ، وسئل صلى الله عليه وسلّم من أعظم الناس حقًّا على الرجل ؟ فقال : أمّهُ ، فلما سئل : من أعظم الناس حقّا على المرأة ؟ قال : زوجها .
وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنهُ في الجهاد فقال : أحَيٌّ والدك؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهِد ، فَبِرُّ الوالدين يعْدِلُ الجهاد في سبيل الله ، وهذا يذكّرني بِحَديث لِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم حينما جاءتْهُ امرأة تشتكي أنّ الرجال أخذوا كلّ الخير ، فالجهاد لهم ، والأعمال الطيّبة لهم ، والدعوة إلى الله لهم ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " اِعْلمي أيّتها المرأة وأعْلِمي من دونك من النّساء أنّ حُسْن تَبَعُّل المرأة زوجها يعْدِلُ الجهاد في سبيل الله " دقّقوا في هذين الحديثين :" حُسْن تَبَعُّل المرأة زوجها يعْدِلُ الجهاد في سبيل الله " أنْ ترْعَى بيْتَ زوْجها ، أن ترْعى زوْجها ، أنْ ترْعى أولادها ، هذا عند الله جهادُ المرأة ، وأن يبرَّ الرجل والِدَيه ؛ هذا عند الله يعْدلُ الجهاد .
وقد روَتْ الكُتب أنّ رجلاً خاصمّ امرأتهُ على ولدٍ لهما ، أيّهما أحقّ بِحَضانته ، فقالتْ المرأة للقاضي : أنا أحقّ به لأنّني حملْتهُ تسْعة أشهرٍ ثمّ وضَعْتهُ ، ثمّ رضّعته إلى أن ترعْرع بين أحضاني ، فقال الرجل : أيها القاضي أنا حملْتُ قبل أن تحملهُ ، ووضعْتُهُ قبل أن تضعهُ ، فإن كان لها بعض الحقّ فيه ، فَلِيَ الحقّ كلّه أو جلّه ، فقال القاضي : أجيبي أيّتها المرأة قالت : لئِنْ حَمَلَهُ خِفًّا ، فقد حمَلْتُهُ ثقلاً ، ولئِنْ وضَعَهُ شهوةً فقد وضَعْتهُ كُرْهًا ، فقال القاضي : اِدْفَع إلى المرأة غلامها ودَعْني من سَجْعك .
ما ينبغي على الإنسان أن يفعله بعد وفاة والديه :
أيها الأخوة الكرام ؛ وقد يقول قائلٌ : ما دام أبي حيًّا فأنا أسْعى لِبِرِّهِ ، فإذا أخذ صاحب الأمانة أمانتهُ فماذا بقيَ عليّ من بِرِّه ؟ لكن أحكام الشريعة السّمْحاء دقيقة دقيقة ، فقد جاء رجلٌ من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يا رسول الله هل بقي عليّ من بِرِّ والديّ مِن بعد موتهما شيءٌ ؟ فقال : نعم ؛ الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهْدِهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرّحِمَ التي لا رَحِم لك إلا من قبلهما ، أما الصلاة عليهما ففي بعض الآراء هي صلاة الجنازة ، لكنّ بعض العلماء وسَّعَ هذا المفهوم وقال : الصلاة عليهما هي الدعاء لهما بالرحمة ، وقد أمر الله تعالى بذلك فقال :
﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
ففي صحيح مسلم والبخاري:
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ....ولد صالح يدعو له ))
قد نفْهم هو إنسان متفوِّقٌ بِحَياته له دَخْلٌ وذكيّ وحكيم ؟ لا ، العلماء قالوا : الولد الصالح هو الولد المؤمن ، فإذا دعا ابنك المؤمن لك من بعد الحياة فهذا الدعاء اسْتمرار لِعَملك الصالح ، فقد أكَّدَ العلماء أنّ دعاء الولد المؤمن الصالح لأبيه بعد موته اسْتمرار لِعَمله بِشَرْط أنْ يُرَبِّيَهُ تربيَةً ترضي الله تعالى ، إذا أسْهَمَ الأب في إيمانه وتربيَتِهِ ، وجَهِدَ الليالي في تربيته ، وإذا راقبهُ ، وإذا ضبطهُ ، وإذا درسَ سُلوكهُ ، وقدَّم له النصيحة ، إذا أعانه على أمر دينه ، إذا زوَّجَهُ خوفًا أن يقعَ في الفاحشة ، إذا فعلَ كلّ هذا إلى أن استقام عودهُ وأصبح هذا الابن صالحًا مؤمنًا ، الآن هذا الابن إذا دعا لأبيه بعد موته فَدُعاؤُهُ اسْتِمرارٌ له .
وقد قال بعض التابعين : من دعا لِوَالِدَيه في اليوم خمْس مرات فقد أدَّى حقّهما في الدعاء ، أيْ لا بدّ أن تدْعُوَ لِوَالديك في الصلوات الخمس : ربّ اغفر لي ولِوَالديّ ، ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا .
أيها الأخوة ؛ أحدنا أحيانًا يقرأ هذه الأدعِيَة دون أن يعيَ مضمونها ، ودون أن يعي الهدف البعيد منها ، وتصبحُ عادةً من عوائدهِ ، يصبح كلامًا لا يفكّر فيه ، قبل أن تُسلِّم من الصلاة قُلْ : ربّ اغفر لي ولوالِديّ ، ربّ ارْحمهما كما ربَّياني صغيرًا ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؛ إنّ الرجل لَتُرْفعُ درجتهُ في الجنّة ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك ، وهو في الجنّة تُرْفع له درجته ، يقول يا ربّ أنى لي هذا؟ قال : باستغفار ولدك لك .
أعظمَ الأعمال ما اسْتَمَرَّ ثوابها بعد موتِ صاحبها :
أيها الأخوة الكرام ؛ كلمةٌ من القلب : مَن كان له ولد فَجَهِدَ في تربيتِهِ ، وفي توجيهه ، وفي حُسْن تربيَتِهِ ، وفي تعليمه القرآن ، وفي تعليمه أحكام الشريعة ، إلى أنْ أصبح هذا الابن مؤمنًا مستقيمًا برًّا رحيمًا ، هذا الابن هو اسْتمرار إلى الأبد ، اسْتِمرار لك ، وأنت في الجنّة تُرفع منزلتك ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك ، فَكُلّ الأعمال مهما كانت جليلةً تنتهي عند الموت ، ولكنّ أعظمَ الأعمال ما اسْتَمَرَّ ثوابها بعد موتِ صاحبها ، ومن أجلّ هذه الأعمال تربية الأولاد تربيَةً صالحة ، فيَنْبغي أن يأخذ ابنك من وقتك الشيء الكثير ؛ من وقتك وجهدك وتفكيرك وتخطيطك وبذْلك ومالك ، هذا الذي يدعُ ابنه ويقول : أنا كنتُ عصاميًا ، فكُنْ مِثلي عِصامِيًّا ، وهو قادر على تَزْويجهِ ، هذا الأب مُقَصِّرٌ في حقّ أولاده، يجب أن تعينه على طاعة الله ، وعلى غضّ بصره لِتَزويجه ، يجب أن تُعينه على كسب ماله لِتَأمين عملٍ له ، يجب أن يأخذ ابنك من وقتك كلّ الوقت .
الفلاح و النجاح بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما وطاعتهما :
أيها الأخوة ؛ أربعة أشياء ؛ أنْ تَدْعُوَ لهما ، وأن تستغفر لهما ، وأن تنْفذَ عهْدهما، العلماء قالوا : إنفاذ العهْد المُراد منه إنجازهُ والوفاء به ، ما دام هذا العهْد من الأمور التي ترضي الله تعالى ، لو أوْصى الأب بأن يُقْتَطَع من مالهِ جزءٌ لِعِمارة المساجد ، أو لِطَلبة العلم ، أو لِنَشْر بعض الكتب الدِّينيّة ، أو لأعمال البرّ ، فَمِن واجبات الأبناء أن ينْفذوا عهْد أبيهم ، وإلا وقعوا في معصِيَةٍ كبيرة ، إلا أنّ هناك اسْتِثناءً ، لو أنّ الأب أو الأمّ أوْصَيا بِبَعض المخالفات والبِدَع ، فإنّ وصِيَّتهما لا تُنَفّذُ لأنَّه لا طاعة لِمَخلوق في معْصِيَة الخالق ، إذا كان بالوصيّة أشياء لا تُرضي الله عز وجل ، فيها إجحاف ، وفيها بِدَع ، هذه لا تُنَفّذ ، والابن يطمئنّ إلى قوْل النبي عليه الصلاة والسلام :"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" ، ورد في بعض الأحاديث أنّ صِلَة الرحم تنادي وتقول : " اللهم صل من وصلي واقطع من قطعني ، فيقول الله عز وجل : أنا الرحمن الرحيم ، شققْتُ للرَّحِم من اسمي اسمًا فَمَن وصلها وصلْتُه ، ومن قطَعَها قطَعْتُه " وقد ورد في الأثر :" أنْ عبْدي ماتَتْ التي كُنَّ نُكْرمُكَ من أجلها ، فاعْمَل صالحًا نُكْرمْكَ لأجلك " أيْ إنّ جزءاً من إكرام الله لك في حياة أمِّك من أجْل أمِّكَ ، فإذا ماتت الأمّ فأيُّ عملٍ سيّئ يُعاقب عليه الإنسان أشدّ العقاب ؛ لأنّ الله عز وجل لو عاقب الابن في حياة أمّه وأبيه لكان عقابًا للأم والأب أيضًا لما أوْدَعَ الله فيهما من الرَّحْمة .
أيها الأخوة الكرام ؛ خِتامُ هذا الموضوع ، هذا الحديث الشريف رواه أحمد :
((من سرَّه أن يُمَدَّ له من عُمره ، ويُزاد له في رزقه فليبرّ والديه))
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تفسير مظاهر الضَّعْف والتَّخَلّف التي يُعاني منها المسلمون :
أيها الأخوة الكرام ؛ النصوص التي بين أيدينا التي على برِّ الوالدين لا تخفى على أحد ، ولكنّ الأزْمة التي يعيشها المؤمن ، أنّ هناك مسافةً كبيرة بين ما يُحفظ ، وبين ما يُطبّق ، فالإنسان الذي يريد أن يتألّق وأن يرضى الله عنه ، يجب أن يأخذ بعض هذه الأحاديث ، أو كلّها مأْخَذًا جِدِيًّا ، وأن يُحاوِلَ تطبيقها منذ سماع هذه الخطبة ، ولكنّ المحفوظات كثيرة ، والتطبيقات قليلة ، وهذا الذي أهْلك المسلمين ، إذا زاد العلم على العمل صار العلم عبئًا على صاحبهِ ، وصارَ وبالاً عليه ، وصار حِسابهُ حسابًا خاصًّا ، فالأولى أن يُطابق العلم العمل ، فكلُّ موقفٍ يقفهُ الإنسان من أمِّه وأبيه قبل أن يتصرّف ، قبل أن يغضب ، قبل أن يتكلّم ، قبل أن يقف ، قبل أن يقطع ، وقبل أن يصل ، عليه أن يسترجع هذه الأحاديث الشريفة وهذه الآية الكبيرة التي قال الله فيها :
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
هذا القرآن الكريم ما نزل من عند الله عز وجل كيْ نقرأهُ ونكتفي بها ، أو كي نتتبَّعَ معانِيَهُ الدقيقة ونكتفي بذلك ، إنّ هذا القرآن الكريم منهج حياتنا ، وتعليمات خالقنا ، توجيهات سديدة حكيمة مِن ربّنا ، فإذا أخذنا به سَعِدنا في الدنيا والآخرة ، وقد قال الله عز وجل:
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
وقد ورد في بعض الأحاديث : " رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلْعنُهُ " كيف يلْعنُهُ ؟ إذا خالف الأمر والنّهي ، وفي حديث آخر : "ما آمنَ بالقرآن من اسْتحلّ محارمه ، فالذي حرّم الله أن نفعله ينبغي ألا نفعله ، والذي أمرَ به ينبغي أن نأتمِرَ به وإلا انْفصَلَتْ حياتنا عن مبادئنا ، وأصبحَت مبادئنا كلامًا بِكَلام لا تعني شيئًا ، فلِذلك إن أردْتَ أن تُفَسِّر بعض مظاهر الضَّعْف والتَّخَلّف التي يُعاني منها المسلمون أنّ هناك مسافةً كبيرة بين واقعهم وبين معتقداتهم وبين النصوص التي يحفظونها وبين المسالك التي يسْلكونها ، هناك مسافة كبيرة ، فكلّما ضاقت هذه المسافة نجَحْنا وسَعِدنا في الدنيا والآخرة ، والأولى أن تنعدمَ هذه المسافة ، وأن يكون التطابقُ تامًّا بين حياتنا في بيوتنا ، ومع أهلينا ، ومع والِدَينا ، ومع أزواجنا ، وأولادنا ، وبين النصوص التي وردت عن الله عز وجل ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .