وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0725 - تفسير سورة الليل - ذكر الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر. وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر. اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الطاعة سبب سعادتنا في الدنيا و الآخرة :

 أيها الأخوة المؤمنون... لا زلنا في السوَر القصيرة من الجزء الثلاثين، سورة اليوم سورة الليل:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-2]

 أيها الأخوة الكرام... الجزء الأخير جزءٌ مَكِّيّ، وهو طافحٌ بالآيات الكونية، لأن الإنسان يحتاج إلى أن يعرف الآمر، ثم أن يعرف الأمر، فإذا عرف الأمر ولم يعرف الآمر ؛ تفنن في التفلّت من هذا الأمر، أما إن عرف الآمر ثم عرف الأمر؛ تفانى في طاعة الآمر، وكأن مراحل الهُدَى يجب أن تبدأ بمعرفة الآمر، ما عنده إذا أطعته، وما ينتظر العاصي إذا عصاه، إذا عرفت الآمر تفانَيْتَ في تنفيذ الأمر، والطاعةُ سببُ سعادة الدنيا والآخرة..

﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب : 71]

 لأن الله سبحانه وتعالى لا تُدْركه الأبصار، ولكن العقول إذا أُعْمِلَت في خلق الله عز وجل المُعْجِز تعرفه معرفةً تزيد عن المعرفة الفطرية.

 

الليل والنهار من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الكرام: هذه الواو:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-2]

 هي واو القسم عند علماء النَحْو، ولكن الكون ليس بشيء أمام عظمة الله عز وجل، لذلك هناك من يرى أن هذه الواو تَلْفِتُ نظر الإنسان إلى عظمة الأكوان.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾

[ سورة الليل : 1]

 كيف تكون حالنا بلا ليل ؟ نهارٌ دائم.

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة القصص : 71-72]

 أيها الأخوة الكرام... الليل آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته، جعله الله سكناً، وجعله الله هادئاً، وجعله الله ساتراً، هذه الآية ينبغي أن تكون بين أعيننا، آية الليل والنهار، ولكن العلماء يقولون: لماذا أتت كلمة " يغشى " فعلاً مضارعاً بينما " تجلى " جاءت فعلاً ماضياً ؟ النهار أساسه استقبال ضوء الشمس التي تألَّقت ولا تزال مُتَأَلِّقة، ففعل النهار فعلٌ ماض، بينما الليل لا بد من دورة الأرض حول نفسها بشكلٍ مستمر، لذلك جاءت كلمة:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-2]

 أيها الأخوة الكرام... الليل والنهار من آيات الله الدالة على عظمته، لولا دورة الأرض حول نفسها لما كان الليل والنهار، ولولا دورة الأرض حول نفسها على محورٍ ليس موازياً لمستوي دورانها حول الشمس لما كان ليلٌ ولا نهار، لو دارت الأرض على محورٍ موازٍ لمستوي دورانها حول الشمس لبقي نصف الكرة نهاراً أبداً ونصف الكرة ليلاً سرمدياً.

 

عظمة الله من خلال خَلْقِهِ :

 أيها الأخوة الكرام...

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-2]

 ألفٌ وثلاثمئة آيةٍ في القرآن الكريم تشير إلى عظمة الله من خلال خَلْقِهِ، أليست هذه الآيات منهجاً لنا لكي نعرف الله عز وجل ؟ هناك كواكب سيَّارة ليلها يزيد عن ثلاثمئة يوم، وهناك كواكب سيَّارةٌ أخرى ليلها يقل عن ساعتين، فماذا نفعل لو كان الليل ساعتين ؟ وماذا نفعل لو كان الليل ثلاثمئة يوم ؟ من جعلهُ بهذا القدر المناسب لطاقتنا وراحتنا ونومنا وسُباتنا ؟ إنه الله.
 أيها الأخوة الكرام... مَن جعل هذا الليل يطول في الشتاء ويقصر في الصيف ؟ هذا من اختلاف الليل والنهار، اختلافهما في الطول، مَنْ خلق الليل والنهار ؟ وعلى أية صورةٍ كان الليل والنهار ؟ ومَن جعل الليل والنهار بهذا القدر المناسب ؟ ومَن جعل الليل والنهار يختلفان في الطول والقصر بين صيفٍ وشتاء ؟ إنه الله أيها الأخوة، هذه آيات تدل على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً، ومربياً حكيماً، ومسيِّراً عليماً.

 

العلاقة بين الذكر و الأنثى و الليل و النهار :

 أيها الأخوة الكرام:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-2]

 الله عز وجل يلفِت نظرنا إلى هذه الآيات:

﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾

[ سورة الليل : 3]

 نطفةٌ واحدة في بويضةٍ واحدة، كان منها الذكر وكانت منها الأنثى، للذكر بُنْيَةٌ خاصة ؛ الجمجمة كبيرة، الحوض صغير، العضلات مفتولة، أمكنة خاصة ينبُت فيها الشعر، صوتٌ خشن، إدراكٌ عميق، قوة محاكمةٍ كبيرة. أما الأنثى فحوضٌ عريض من أجل الولادة، ورأسٌ صغير، وعاطفةٌ جيَّاشة.
 المرأة تعيش لحظتها، بينما الرجل يعيش هدفه، المرأة تعيش بعاطفتها، بينما الرجل يعيش بعقله، عضلات الرجل مفتولة، خطوط المرأة مستديرة، أماكن الشحم متوضعةٌ في المرأة بخلاف الرجل، بنيتها الجسمية، وبنيتها النفسية، وبنيتها الاجتماعية، وطباعها تختلف كلياً عن طباع الرجل، هذا لا يمنع أن نرى امرأةً مُسْتَرْجِلَة، ولا يمنع أن نرى رجلاً مُخَنَّثاً، هذه حالاتٌ طارئةٌ استثنائيةٌ لا قيمة لها، الأصل أن جنس النساء غير جنس الرجال، قال تعالى:

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران: 36 ]

 أرأيت إلى ابنك وابنتك ؟ ابنك بماذا يلعب ؟ يركب عصاً ويظنها فرساً، بينما البنت تمسك وسادةً وترْبُتُ عليها، من عَلَّم الأنثى أنها ستكون أماً ومن علم الطفل أنه سيكون فارساً ؟ إنه الله.

﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾

[ سورة الليل : 3]

 بل إن علماء التفسير قالوا: هناك مناسبةٌ بين:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-2]

 وبين:

﴿الذكر والأنثى﴾

  الأنثى يجب أن تكون محجبة، هذه لزوجها ولأولادها ولمن حولها من محارمها، وليست مباحةً لكل إنسان، فالليل يعني السَتْر، والليل يعني السُكون، بل إن الله سبحانه وتعالى قال:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾

[ سورة الروم: 21 ]

 وكيف يسكُن الرجل إلى امرأته ؟ لأنه يُكَمِّل فيها نقصه، إنه يشعر بحاجةٍ إلى عطفٍ، وهي تشعر بحاجةٍ إلى فكرٍ عميقٍ قياديٍ، إنهما متكاملان، وليسا متشابهَيْن.

 

اختلاف بنية الإنسان في الليل عن بنيته في النهار :

 أيها الأخوة الكرام... هذه مطالع السوَر في الجزء الأخير من القرآن الكريم، عنواناتٌ ضخمةٌ لمنهجٍ في معرفة الله عز وجل، هل فكر أحدنا في الليل ؟ هل جلس مرةً في ليلةٍ ليلاء وفكر في هذه المظاهر ؟ ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال:

(( سبحان اللّه!! أين الليل إذا جاء النهار ؟ وأين النهار إذا جاء الليل"؟ ))

[ شرح الجامع الصغير ]

 في النهار كل شيءٍ واضح، بل إن بُنية الإنسان في النهار فيها نشاطٌ وحيويةٌ وطاقة، أما بُنيته في الليل ففيها راحةٌ وسكونٌ وسَكينة، بل إن الساعة البيولوجية التي عبَّر عنها العلماء بتفصيلاتٍ رائعة، هي مسؤولةٌ عن وضع الجسم في النهار، وعن وضع الجسم في الليل، ضربات القلب، وجيب الرئتين، إفراز المواد الفعَّالة في الدم، الميل إلى العمل والنشاط هذا في النهار، بينما ضَعْفُ ضربات القلب في الليل، وضَعْف الاستقلاب في الليل، والميْل إلى الراحة والسكون، هذا يكون في الليل.

 

عظمة الله تتجلى من خلال الفروق الدقيقة جداً بين الذكر و الأنثى :

 أيها الأخوة الكرام... أنا أذكر نقاطاً مبعثرة حول هذه الآيات الضخمة، إنها موضوعاتٌ كُبرى للتفكر.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾

[ سورة الليل : 1-3]

 أيها الأخوة الكرام... في بعض البلاد الغربية كتابٌ من أشهر الكُتُب في الفروق بين الذكور والإناث، تقرأ الكتاب من دفَّته إلى دفته فلا تزد عن أن تسجد لله تعظيماً لهذه الفروق الدقيقة جداً جداً بين الإناث والذكور، وكأن الكتاب كُلَّهُ تفسيرٌ لقوله تعالى:

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران: 36 ]

 من نطفةٍ واحدة، في بويضةٍ واحدة، الأنثى أنثى، والذكر ذكر، طباعٌ، وبنيةٌ، وأخلاقٌ، وأصولٌ في الذكر ليست في الأنثى، مع أنهما متساويان في التكليف والتشريف والمسؤولية.

 

الناس رجلان مع اختلاف أهدافهم في الحياة الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام... جواب القسم:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 1-4]

 انظر إلى طريقٍ مزدحم، كل واحدٍ يتَّجه إلى هدف، هذا ليشتري شيئاً، وهذا ليعقد صفقةً، وهذا ليقيم دعوى، وهذا ليصلح بين اثنين، وهذا ليسرق، وهذا ليفعل المنكرات..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 إذا كان على وجه البسيطة ستة آلاف مليون إنسان، فهناك ستة آلاف مليون مسعى، كلٌ يُغَنِّي على ليلاه، كلٌ يتجه لهدفٍ نصبه أمامه، قد تكون هذه الأهداف مشروعة أو غير مشروعة، قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، ولكن كلٌ منا يَتَّجه إلى هدف، ومع هذه الكثرة الكثيرة من الأهداف التي يسعى الناس إليها، ربنا عز وجل - هذه الحركة الواسعة جداً التي تنتظم البشر، والتي تجعلهم يتحركون إلى ستة آلاف مليون هدف - لخصها في هدفين اثنين، كأن تقول: التاجر من أجل أن يربح، والطبيب من أجل أن يربح، والعامل من أن أجل أن يربح، وصاحب الخدمات العالية من أجل أن يربح، كيف أن الربح جمع ألف حرفةٍ وحرفة فربنا عز وجل مع أن سعي الإنسان متفرِّق..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 هذا ليرتكب جريمة، وهذا ليقيم دعوةً لله عز وجل، وهذا ليقتنِصَ المال الحرام، وهذا ليجمع المال الحلال، وهذا ليصلح بين اثنين، وهذا ليفسد بين قبيلتَيْن..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 وهذا ليلتقي مع امرأةٍ في الحرام، وهذا ليلتقي مع زوجةٍ وَفْقَ منهج الله، وهذا يريد أن يتزوَّج، وهذا يريد أن يزني..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 هذا يريد أن يقيم مكراً تخر له الجبال، وهذا يريد أن يُقِرَّ صلاحاً تشرئِبُّ له الأعناق..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 ومع هذا التفرق الهائل من السعي الناس رجُلان، كل هذه الأنواع من السعي، كل هذه الحركة العالية للبشر، لابد من أن تفرَّغ في نموذجين..

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل :5-6]

البشر قسمان قسم يعطي و هو المؤمن و قسم يأخذ و هو الشارد عن الله :

 دقق أيها الأخ:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ﴾

[ سورة الليل :5]

 لم يأتِ المفعول به، من أجل أن يكون العطاء مُطْلَقَاً، هذا الذي بَنَى حياته على العطاء، يعطي من ماله، يعطي من علمه، يعطي من جاهِهِ، يعطي من قوته، يعطي من وقته، يعطي من عضلاته، يعطي من خبرته، المؤمن بنى حياته على العطاء..

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ﴾

[ سورة الليل :5]

 البشر جميعاً ينقسمون إلى قسمين: قسمٌ يُعطي وهم المؤمنون، وقسمٌ يأخذ ولا يعطي وهم الشاردون عن منهج الله عز وجل.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ﴾

[ سورة الليل :5]

الارتباط الوثيق بين العطاء و التقوى :

 لا يكفي أن تعطي، قد تعطي ولست ملتزماً بمنهج الله عز وجل، قد يكون العطاء سهلاً في بعض الأحيان، ثروةٌ طائلة يقول: خذوا هذه المبالغ وسجلوها لي. لكن :

﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾

[ سورة الليل :5]

 اتقى أن يعصي الله، كما قال بعض العلماء وهو التستري:

(( ترْكُ دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام ))

[ ورد في الأثر ]

 أعطى واتقى أن يعصي الله، أيْ استقام وعمل صالحاً، ولن يستقيم ولن يعمل صالحاً إلا إذا آمن، بمَ آمن ؟ آمن :

﴿بالحسنى﴾

[ سورة الليل :6]

 أصل الخلق من أجل أن يحسن الله إلينا، أصل الوجود من أجل أن ننعم بجنةٍ عرضها السموات والأرض..

﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

[ سورة هود : 118-119]

 خلقهم ليرحمهم، أصل الخلق عطاء، أصل الخلق إسعاد، أصل الخلق من أجل الجنة، دقق في هذه الكلمات الثلاث:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل :5-6]

 كل هؤلاء البشر ستة آلاف مليون..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل :4]

 لكن هذا السعي المُبَعْثَر، السعي المُترامي، السعي الذي لا نهاية لأنواعه وتفاصيله، ينتهي إلى مسعيين اثنين..

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل :5-6]

 أي: آمن، واستقام، وعمل عملاً صالحاً، عندئذٍ:

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل :7]

 سلامةٌ في الدنيا، وسلامةٌ في الآخرة، سعادةٌ في الدنيا، وسعادةٌ في الآخرة، فوزٌ كبير، وفلاحٌ عظيم، وتألقٌ كبير..

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل :5-7]

الجنة جزاء من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى :

 الناس رجلان: رجلٌ عرف الله، واستقام على أمره، وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة، ورجلٌ غفل عن الله، فتفلَّت من أمره، وأساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة.
 المؤمن أعطى؛ بنى حياته على العطاء، بنى حياته على العمل الصالح، يعطي مما أعطاه الله، إن أعطاه الله مالاً فعبادته الأولى إنفاق المال، وإن أعطاه الله علماً فعبادته الأولى إنفاق العِلم، إن أعطاه الله جاهاً فعبادته الأولى إنفاق هذا الجاه في نُصْرَةَ الضعيف، إن جعله امرأةً فعبادتها الأولى رعاية زوجها وأولادها، إن كان ابناً فعبادته الأولى برّه بوالديه، إن كان أجيراً فإخلاصه في العمل.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل :5-6]

 النتيجة: في الدنيا، وفي الآخرة.

﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾

[ سورة يونس: 26]

 الجنة..

﴿وَزِيَادَةٌ﴾

[ سورة يونس: 26]

 النظر إلى وجه الله الكريم، " الحسنى " هنا الجنة، فالمؤمن خلق لجنةٍ عرضها السموات والأرض، فكل قضاء الله وقدره بالنسبة إليه تسييرٌ له إلى الجنة، قد يعطي، قد يعطيه الله، وقد لا يعطيه، قد يحجب عنه من أجل أن يصل إلى الجنة..

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل :5-7]

 إلى الجنة. وقد يكون طريق الجنة دخلاً محدوداً، وقد يكون طريق الجنة ضيقاً في الصِحَّة، وقد يكون طريق الجنة مشكلةً في البيت.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل :5-7]

من بخل و استغنى جعل الدنيا غاية عِلْمِهِ و مُنْتَهَى أمله :

 النموذج الآخر:

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾

[ سورة الليل :8]

 أخذ ولم يعطِ، استأثر بما عند الآخرين، بنى مجده على أنقاضهم، بنى غناه على فقرهم، بنى عزَّه على ذُلِّهم، بخل أن يعطي، أخذ ولم يعطِ، إنسان قَدَّمَ كتاباً عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قال: " يا رسول الله، يا من أعطيت ولم تأخذ، يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ - هناك من يعطي ولا يأخذ، وهناك من يأخذ ولا يعطي، وهناك من يعطي ويأخذ - يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قَدَّست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا من زَكَّيْتَ سيادة العقل ونهنهت غريزة القطيع، يا من هَيَّأك تفوقك لتعيش واحداً فوق الجميع، فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مُهْجَتَهُ، والعدل شريعته، والحب فطرته، والسمو حرفته، ومشكلات الناس عبادته ".
 أيها الأخوة الكرام... أرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصِنْف الأول، أن نبني حياتنا على العطاء، أعط من علمك، من جاهك، من وقتك، من عضلاتك، من خبرتك، انصح المسلمين. أعطِ واستقم على أمر الله..

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾

[ سورة فصلت : 30-32]

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ﴾

[ سورة الليل :8]

 بخل، أخذ ولم يعطِ، واستغنى عن طاعة الله..

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

[ سورة العلق : 6-7]

 حينما يغتني الإنسان، حينما يقوى جاهه، حينما تقوى ثروته يستغني عن الله، يستغني عن طاعته، يبحث عن تصريف شهواته في قنواتٍ لا تُرضي الله عز وجل.

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل : 8 -9]

 لم يعمل للجنة، عمل للدنيا فقط، جعل الدنيا غاية عِلْمِهِ، مُنْتَهَى أمله، مَحَطّ رحاله.

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل : 8 - 10]

 حياته كلها مشكلات، مضائق صعبة، إخفاقات، خيبة أمل، ضيق نفسي..

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾

[ سورة طه : 124-126]

سعي الناس يُفَرَّغ في نموذجين فقط :

 أيها الأخوة الكرام...

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 ستة آلاف مليون يتحرَّكون، كل واحدٍ في ذهنه هدف يسعى إليه، قد يكون مشروعاً أو غير مشروع، خَيِّرَاً أو شريراً، حقاً أو باطلاً..

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾

[ سورة الليل : 4]

 ولكن هذا السعي الحثيث والمتنِّوع يُفَرَّغ في نموذجين..

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل :5-6]

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل : 8 -9]

يوم الدين يوم تسوى فيه الحسابات بين الناس :

 أيها الأخوة الكرام... ثم يقول الله عز وجل:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 1-10 ]

 هناك معنى دقيق: أيعقل أن يكون الصادق كالكاذب عند الله ؟ المستقيم كالمنحرف؟ المحسن كالمسيء ؟ المخلص كالخائن ؟ المنصف كالجاحد ؟ ما دام هناك نموذجان أيعقل أن يستويا عند الله عز وجل ؟! أن يستوي هذان النموذجان، هذا لا يتناقض مع عدالة الله فحسب بل يتناقض مع وجوده، لا تقل: في الدنيا ظلمٌ كبير، دولٌ قويةٌ عاتية تجتاح دولاً ضعيفة، ثروات تنهب، شعوبٌ تقهر، لا تقل، لابد من أن يقتص الله ممن بغى وطغى ونسي المبتدا والمنتهى، إلهٌ عادل، العدل من أسمائه الحسنى، اسم العدل سوف يحقق يوم القيامة..

﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾

[ سورة يونس: 4 ]

 هناك يوم الدين، يوم القيامة، يوم الفصل، يوم القارعة، يوم الحاقة، يوم الطامَّة، في هذا اليوم تسوَّى الحسابات، تسوى الحسابات بين الناس.
 أيها الأخوة الكرام..

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة القلم: 35-36 ]

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 18 ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ سورة القصص: 61]

 هذان النموذجان اللذان فُرِّغَ فيهما كل مسعى للبشر لا يستويان عند الله، المؤمن له دُنيا، والكافر له دُنيا، المؤمن له حياةٌ طيبة وعده الله بها، والكافر له معيشةٌ ضَنْك، المؤمن في أعلى عليين، والكافر في أسفل سافلين، المؤمن في جنةٍ عرضها كعرض السموات والأرض، والكافر في نارٍ لا يموت فيها ولا يحيا.

 

الغنى والفقر بعد العرض على الله :

 أيها الأخوة الكرام...

﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 5-10 ]

 الآن: هذه المعاصي التي ترتكب من أجل جمع الأموال، وهذه الأموال التي تُجْمَع من أجل اقتناص الشهوات، كلامٌ دقيقٌ فَيْصَل، المعاصي ترتكب، تغتصب الأموال، تُنهب الثروات، يضطهد أصحاب الحقوق من أجل أن نأخذ أموالهم، ومياهَهم، وثرواتهم، من أجل أن نعيش حياةً غارقةً في الشهوات والموبقات.

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾

[ سورة الليل: 11]

 حينما يأتي ملك الموت، حينما يوضع الإنسان في قبره، يقال له: " عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت ". ساعة الدفن هذه تُنْسِي العاصي كل لذائذ الدنيا.
 يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
 الإمام علي كرم الله وجهه يقول: " الغنى والفقر بعد العرض على الله ". لا يُعَدُّ الغني غنياً هنا في الدنيا، ولا الفقير فقيراً، قد يكون الفقير المؤمن أسعد الناس يوم القيامة، وقد يكون الغني الكافر المُقَصِّر العاصي أشقى الناس يوم القيامة: " الغنى والفقر بعد العرض على الله". هذا الذي شرد عن الله، وأدار ظهره للدين، وأقبل على الدنيا، وانغمس في ملذاتها وقال: نريد أن نعيش العصر، نريد أن نعيش الحضارة، نريد أن نعيش شبابنا، نريد أن نستمتع بالحياة، أن نعيش كما يعيش الآخرون. هذا التواصل بين القارَّات وبين الحضارات كان وبالاً على المسلمين، لأنه أنساهم دينهم، أنساهم غاية وجودهم، أنساهم رسالتهم التي وكَّلَهُم الله بها، أنساهم أنفسهم، أنساهم أنهم المخلوقون الأوائل عند الله عز وجل.

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾

[ سورة الليل: 11]

 ماذا تنفع الملايين المُمَلْيَنَة إذا وضع الإنسان في قبره ؟ ماذا تنفع الثروات الطائلة التي جمعها من حرام وأنفقها في حرام ماذا تنفعه وهو في القبر ؟ يئِنُّ ويصيح:

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾

[ سورة الليل: 11]

 أيها الأخوة الكرام...

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾

[ سورة الليل: 11]

 في القبر. حينما يُدْفَن، يرى الإنسان الذي شرد عن الله مكانه في النار، فيصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا، يقول: لم أر خيراً قط في حياتي..

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾

[ سورة الليل: 11]

إلزام الله عز وجل ذاته العلية بهداية الخلق :

 ثم يقول الله عز وجل جلَّت أسماؤه:

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾

[ سورة الليل: 12]

 وحيثما جاءت " على " مع لفظ الجلالة فهو الإلزام الذاتي، ربنا عز وجل ألزم نفسه بهداية الخلق، ألزم ذاته العلية بهداية الخلق، بهدايتهم عن طريق العقول السليمة، وبهدايتهم عن طريق الفَطَرِ السليمة، وبهدايتهم عن طريق الكَوْن المُعْجِز، هدانا بالكون، وهدانا بالعقل، وهدانا بالفطرة، وهدانا بالأفعال - أفعال الله صارخة - الله جل جلاله ترون كل يوم ماذا يفعل بأولئك الشاردين، بأولئك الطاغين الباغين، تزلزل الأرض من تحتهم، يفقدون في ثوان معدودة ما جَمَّعوه في عقودٍ طويلة، الله جل جلاله يقول:

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾

[ سورة الليل: 12-13]

 هو الذي يهدي وبيده الأمر، وبيده أمر الدنيا والآخرة، لا كما يتوهَّم الناس، الدنيا بيد زَيد أو عُبيد، أو فُلان أو عِلاَّن، أو أن هذه الجهة التي تملك القنابل الذرية أمرها نافذٌ في العالم كله، هذا كلام الضعفاء، هذا كلام الذين غُشِّيَت على أعينهم الغشاوات.

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾

[ سورة الليل: 12-13]

 الأمر في الدنيا بيد الله، بكل تفاصيله..

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾

[ سورة الزخرف : 84]

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة فاطر : 2]

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى ﴾

[ سورة الليل: 12-13]

 الأمر بيد الله، صغيره وكبيره، جليله وحقيره، كل شيءٍ بفعل الله، ولا يقع في الكون إلا ما يشاء الله عز وجل، لذلك ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد..

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[سورة الشعراء: 213]

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ﴾

[ سورة الليل : 14]

الشقي في الدنيا مأواه جهنم أما المؤمن فالله أعزّ وأكرم من أن يخيِّب ظنه :

 النموذجان: الذي أعطى واتقى وصدق بالحسنى، والذي بخل واستغنى وكذب بالحسنى، ما مصير هذين النموذجين - اللذين كانا في الدنيا - في الآخرة ؟

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴾

[ سورة الليل : 14-15]

 هذا الذي يقول: قد تعبُد الله عمرك كله، وتتفانى في طاعته، وخدمة أوليائه، ثم يضعك في النار، لماذا ؟ لأنه فعالٌ لما يريد، لأنه لا يُسْأَل عما يفعل. ماذا يقول الله عز وجل؟

﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴾

[ سورة الليل : 15]

 الذي شقي في الدنيا ببُعده عن الله يصلى النار في الآخرة، أما الذي أطاع الله عز وجل فالله أعزّ وأكرم من أن يخيِّب ظنه.

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾

[ سورة الليل : 14- 16]

 الكُفر أيها الأخوة تكذيبٌ وإعراض، والإيمان: تصديقٌ وإقبال، تكذيبٌ وإعراض، تصديقٌ وإقبال..

﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴾

[ سورة الليل : 16-17]

 الذي اتقى أن يعصي الله، اتقى سَخَطَهُ بطاعته، اتقى النار بالعمل الصالح.

﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾

[ سورة الليل : 17-186]

 الأول يجمع المال لينفقه في شهواتٍ مُنْحَطَّة، الثاني يؤتي ماله ليتزكى بإنفاقه.

﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ﴾

[ سورة الليل : 19]

 هذا هو الإخلاص..

﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾

[ سورة الليل : 20-21]

الحمد لله رب العالمين خلاصة علاقة الإنسان مع الله :

 أيها الأخوة الكرام... مرةً ثانية: هذه السوَر القصيرة التي أكرمنا الله بها في الجزء الثلاثين تنطوي على معانٍ خطيرة، وفيها إرشادات دقيقة، وفيها تصنيفاتٌ عميقة..

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾

[ سورة الليل: 1-21 ]

 ما المعنى المخالف لهذه الآية الكريمة ؟

﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾

[ سورة الليل: 21 ]

 قد لا تكون راضياً في هذه الدنيا، قد تكون في ضائقة؛ في ضائقةٍ مالية، في ضائقةٍ نفسيةٍ، في ضائقةٍ اجتماعيةٍ، في عقباتٍ كؤود، في صوارف مُغْرِيَة، الحياة فيها متاعب كثيرة، فيها مضائق صعبة جداً، لكن يقول الله عز وجل:

﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾

[ سورة الليل: 21 ]

 المؤمن يُلَخِّص علاقته مع الله كلها بكلمة واحدة:

﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة يونس : 10]

 أيها الأخوة الكرام... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكر الله :

 أيها الأخوة الكرام... قلت مرةً : فرقٌ كبيرة بين من يقول ألف مليون وبين من يملكها، مسافةٌ كبيرةٌ جداً أي فقير يقول: ألف مليون. لكن الذي يملكها شيءٌ آخر، كذلك الفرق نفسه بين من يسمع آيات الله ولا يعمل بها، وبين من يعمل بها، الحقيقة هذه الخطبة وأيُّ خطبةٍ في مسجدٍ ينبغي أن تُتَرْجَم إلى سلوك، نأتي إلى هذا المسجد بدعوةٍ من الله عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الجمعة : 9]

 أجمع العلماء على أن كلمة " ذِكْرِ اللَّهِ " تعني خطبة الجمعة.

﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾

[ سورة الجمعة : 9]

 والذي يأتي في الساعة الأولى كأنما قرَّب بدنة، والذي يأتي في الساعة الثانية كأنما قرَّب بقرة، والذي يأتي في الساعة الثالثة كأنما قرَّب شاةً، ثم قرب دجاجةً، ثم بيضةً، فإذا صعد الخطيب المنبر الملائكة جلست تستمع الخطبة. معنى ذلك ينبغي أن تُبَكِّر إلى صلاة الجمعة، من أجل أن تكون هذه الخطبة درساً أسبوعياً يشحنك لأسبوعٍ قادم. فهذه السورة أيها الأخوة إن التقيتم مع من تحبون؛ في وليمةٍ، في سهرةٍ، في ندوةٍ، في سفرٍ، في مركبةٍ عامةٍ، في مكان عملٍ، في وقت راحةٍ، اجعل حديثك ذِكْرَ الله عز وجل، " بلغوا عني ولو آية ". أمرٌ نبوي، يجب أن تكون داعية إلى الله عز وجل شئت أم أبيت، والدعوة إلى الله فرض عينٍ، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 التواصي بالحق رُبْعُ النجاة، أحد أركان النجاة، ويقول الله عز وجل:

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾

[ سورة يوسف : 108]

 فالذي لا يتبع النبي لا يحبه الله..

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 والذي يتبع النبي ينبغي أن يدعو إلى الله على بصيرةٍ.

 

على كل مسلم أن يبني حياته على العطاء لا على الأخذ :

 فيا أيها الأخوة الكرام اجعلوا هذه السورة درساً طوال الأسبوع، في بيتك، مع أهلك، مع أولادك، مع أولاد عمك، مع جيرانك، مع أصدقائك، مع زملائك، في سهرةٍ، في ندوةٍ، في لقاءٍ، في عشاءٍ، في سفرٍ، في مركبةٍ، اجعل حديثك ذكر الله عز وجل.

(( ... فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ...))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾

[ سورة البقرة : 152]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 41]

 فهذه الخطبة أيها الأخوة ينبغي أن تُتَرْجَمَ إلى عمل، وينبغي أن تكون استراتيجية - إن صحَّ التعبير - لحياتنا، ينبغي أن نبني حياتنا على العطاء لا على الأخذ، المؤمن يعطي ولا يأخذ، يعطي، ويستقيم، ويسعى للجنة، آمن بها وسعى إليها من خلال طاعته لله وعمله الصالح، النموذج الآخر الذي لا يرضي الله:

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل : 8 -9]

 الآخرة لم يُدخلها في حساباته أبداً، لذلك انقلبت مقاييسه، كفر بالآخرة كُفْرَاً عملياً، إن سألته يقول لك: الآخرة حق، والجنة حق، والنار حق. هذا كلامٌ لا قيمة له، العبرة أن عمله لا يؤكِّد أنه يعمل للآخرة، هذا هو الكفر العَمَلِيّ؛ ألغى الآخرة من حساباته اليومية، وبخل أن يعطي، واستغنى عن طاعة الله عز وجل، هذا:

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل : 10]

 في الدنيا والآخرة.

 

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهمَّ هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا. أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مَرَدُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين.
 اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور