وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الإنفطار - تفسير الآيات 01-06 ، صور عن أهوال يوم القيامة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مشهد من مشاهد انقلاب الكون من وضعه الراهن إلى وضع آخر :

 أيها الأخوة الكرام: مع الدرس الأول من سورة الانفطار:

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ* وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾

 أيها الأخوة، مشهد آخر من مشاهد انقلاب الكون من وضعه الراهن إلى وضع آخر، فهناك تغييرات جذرية سوف تطرأ على هذا الكون العظيم يوم القيامة، فالسماء تنفطر أي تنشق، قال تعالى:

 

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾

[ سورة الانشقاق: 1 ]

 وقال:

 

﴿ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾

[ سورة الرحمن: 37 ]

آيات كثيرة تؤكد انشقاق السماء أما شكل هذا الانشقاق فالله أعلم به :

 آيات كثيرة تؤكد أن السماء سوف تنشق، والذي يؤكد حتمية انشقاقها كلمة (إذا)، لأن إذا تفيد وقوع الشيء قطعاً وتفيد حتمية الوقوع، أما (إنْ) فهي لاحتمال الوقوع قال تعالى:

﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا َ ﴾

[ سورة الحجرات: 6 ]

 قد يأتي وربما لا يأتي، بينما إذا قال الله عز وجل:

 

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾

[ سورة النصر: 1 ]

 نصر الله لا بد آت، وهو حتميُّ الوقوع، فإذا انفطرت السماء لم تبْق هذه السماء على حالها ووضعها وسوف تنشق، أما كيف تنشق؟ وما صورة انشقاقها؟ وما طبيعة انشقاقها؟ فهذا غيب لا نعلمه، فالانشقاق واقع أما كيفية هذا الانشقاق فلا نعرف عنه مثقال ذرة من علم.
 آيات كثيرة تؤكد هذا الانشقاق، أما شكل هذا الانشقاق فالله أعلم به، وعلى ذكرِ كلمة الله أعلم، الإنسان يكون في أعلى درجة من العلم، وهناك أشياء كثيرة لا يملك لها تفسيراً، فربنا عز وجل يقول:

 

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾

[ سورة الانشقاق: 1 ]

 أي هذه السماء سوف تنشق، وسوف تنفطر، وسوف يختل نظامها، وسوف تغدو في حالة أخرى:

 

﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾

تمدد الكون و انكماشه وفق قانون سنَّه الله له :

 ذكرت أن بعض النجوم تنفجر وأن هذا الكون في حياة مستمرة، يتوسع وينقبض:

﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾

[ سورة الأنبياء: 104 ]

 وهناك آية أخرى:

 

﴿ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾

[ سورة الذاريات: 47 ]

 فهذا الكون يتمدد وينكمش وفق قانون سنَّه الله له:

 

﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾

 أي انفرط عقدها، هناك نظام بديع جداً يحكم الكواكب كلها، كل كوكب يسير في مسار مغلق، وهذه الحركة تجعل هذا الكوكب منفصلاً عن الكواكب الأخرى، لو توقفت هذه الحركة لأصبح الكون كله كتلة واحدة، لأن هناك حركة، وهذه الحركة ينشأ عنها قوى نابذة تكافئ القوى الجاذبة، أي هناك قوانين جذب بين نجوم السماء عجيب جداً، وهذا معنى قوله تعالى:

 

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

[ سورة الرعد: 2 ]

كل كوكب مربوط بمنظومة جذب مع الكواكب الأخرى وهذه المنظومة عجيبة جداً :

 هناك ترابط بين الكواكب، إما بقوى تجاذب لا نراها بالعين، قالوا: إن الأرض مرتبطة بالشمس بقوة جذب تساوي مليون ملْيون حبل فولاذي، قطر كل حبل خمسة أمتار، وكل حبل يحتمل من قوى الشد مليوني طن، مليونان مضروبة بمليون مليون، هذه قوة انجذاب الأرض للشمس، فكل كوكب مربوط بمنظومة جذب مع الكواكب الأخرى، وهذه المنظومة عجيبة جداً:

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

[ سورة الرعد: 2 ]

 أي بعمد لا ترونها، إنما هي قوى الجذب، فكل كوكب منجذب إلى كوكب آخر بقانون الجاذبية، والقانون دقيق جداً، وعوامل الانجذاب الكتلة والمسافة، المسافة تلعب دوراً في الانجذاب، فكلما زادت ضعُفَ الجذب، وكلما نقصت زاد الجذب، والكتلة تلعب دوراً آخر بهذا الجذب، فالكتلة الأكبر تجذب الأصغر، ففي هذا الكون نظام جاذبي يجعل هذا الكون على وضعه الراهن، والكواكب لا يصطدم بعضها ببعضٍ، ولا تخرج عن مساراتها، فكل كوكب له مسار يسبح فيه، وهذه المسارات قد تكون إهليلجية، بيضوية، لها قطر أقصر، وقطر أكبر، فحينما يصل الكوكب إلى القطر الأصغر تقل المسافة بينه وبين النجم المركزي، فبدل أن ينجذب إلى هذا النجم الأكبر يرفع سرعته لتنشأ قوة إضافية نابذة تكافئ القوة الجاذبة، وهذا مِن صُنعِ الله عز وجل.

 

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ*وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾

 أي نظام هذا الكون انفرطت عقده، فهذه النجوم بدل أن تبقى في مسارات مغلقة تدور حول بعضها بعضاً، منضبطة في مساراتها، لا تحيد قِيد أنملة، ينفرط عقد هذا النظام، وتتفلت هذه الكواكب والنجوم، وتسبح في الفضاء الخارجي.

 

يوم القيامة ينفرط عقد هذا النظام وتتبعثر الكواكب والنجوم وتسبح في الفضاء الكوني:

 قال بعض العلماء وهو ليس من المسلمين ولا تعنيه آيات القرآن الكريم: لو أن الأرض فرضاً خرجت من مسارها، وتفلتت من جاذبيتها للشمس، وخرجت في الفضاء الكوني ماذا نفعل كي نعيدها؟ لا بد من مليون ملْيون حبل فولاذي، وكل حبل قطره خمسة أمتار، فلو أن هذه الحبال الفولاذية كل حبل يقاوم من قوى الشد مليوني طن، لو أننا زرعناها في الأرض في الوجه المقابل للشمس، ماذا يحصل؟ يحصل معنا أن بين كل حبلين مسافة حبل واحد، إذاً نحن أمام غابة من الحبال الفولاذية، وهذه الغابة تعيق الحركة، وتعيق الزراعة، وتعيق البناء، وتعيق التنقل، ولأصبحت الأرضُ غابة مظلمة، لو أن هذه الأعمدة كانت مرئية قال تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾

[ سورة الرعد: 2 ]

 فنحن في الأرض، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾

[ سورة فاطر: 41 ]

 كل كوكب له مسار، فالله يمسك هذه الكواكب أن تخرج عن مسارها، وعن سكَّتها، وعن الطريق المرسوم لها، أما يوم القيامة فينفرط عقد هذا النظام، وتتبعثر هذه الكواكب والنجوم، وتسبح في الفضاء الكوني بلا نظام، وبطريقة أخرى.
 أيها الأخوة، لفتُ نظرنا لهذه المظاهر التي سوف تكون من أجلِ أن نقدِّر النظام القائم، أي الشيء يُعرف بضده، والأمور تُعرف بنقيضها، وربنا عز وجل كأنه يلفت نظرنا إلى هذا النظام البديع، النجوم الآن ليست متنافرة، النجوم متماسكة، النجوم منضبطة، النجوم كلها في مساراتها، وهي كلها وفق نظام دقيق، أرأيتم إلى هذه القوة التي تربط الأرض بالشمس، مليون ملْيون مضروبة بمليوني طن، هذه القوة الكبيرة من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمتر كل ثانية، إذا حُرِّفت ثلاثة ميليمتر كل ثانية بقيت في مسار مغلق حول الشمس، أما لو أن الأرض تفلتت فمن ذا الذي يقوى على أن يعيدها إلى مسارها؟ الله جل جلاله:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾

[ سورة فاطر: 41 ]

 الزوال هنا أن تخرج عن مسارها، فالسماء تنشق، والكواكب تنتثر، أي النظام الذي يحكم السموات سوف ينتهي.

 

البحار من آيات الله الدالة على عظمته :

 أحياناً بناء شامل سوف يُهدم؛ إما بقنبلة من داخله فيتهاوى على بعضه البعض، أو بآلة كبيرة جداً تقطعه من أساسه:

﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ﴾

[ سورة النحل: 26 ]

 أي هذا البناء انتهى، انتهت مهمته ودوره، ولا بد أن يُلغى، قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾

 الحقيقة أن البحار من آيات الله الدالة على عظمته، البحار أربعة أخماس اليابسة، فيها تقريباً مليون نوع من السمك، ولا تجد في الأرض كثافة أنواع وأشياء صارخة إما في التوحش، أو في الجمال، أو في الرقة كحيوانات البحر، والأسماك تزيد أنواعها عن مليون نوع في البحر، ولها نظام عجيب، ولها طرائق خاصة في الحياة، وهذه البحار يصل عمقها أحياناً إلى اثني عشر كيلومتراً في خليج مريانا في المحيط الهادي، هذه البحار من أي شيء تتألف؟ من الماء، والماء ما تركيبه؟ أكسجين وهيدروجين، غاز من أعلى أنواع الغازات اشتعالاً، وغاز يعين على الاشتعال، اتّحدا مع بعضهما بعضاً فشكلا ماءً تُطفأ به النيران، هذا دليل على عظمة الله عز وجل، فإذا أراد الله عز وجل أن يفجّر هذه البحار يُلغي هذه العلاقة المُطفئة في الماء، فيتحد الأكسجين مع الهيدروجين، ويكوِّنانِ انفجاراً، أين منه القنابل النووية اليوم؟! قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾

يُبعث الناس من قبورهم ليُحاسبوا حساباً دقيقاً عن كل أعمالهم في الدنيا :

 تصور عندما يُفجَّر بئر نفط! الألسنة تصل إلى أعلى السماء، وعندما تلتهب ناقلة بنزين ماذا يحصل؟ تصور هذه البحار التي هي أربعة أخماس اليابسة تتفجر، ماذا تكون المحصِّلة؟!! قال تعالى:

﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾

 لعل البحار تمتلئ فتطغى على اليابسة، أو لعل الحواجز بين البحار تتهدم، أو لعل ماء البحار يشتعل، كل هذه المعاني وردت في التفاسير، قال تعالى:

 

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ*وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ*وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ*وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾

 حينما أبعثر حاجات هذه الغرفة، وأقلِّبها رأساً على عقب، وأجعل عاليها سافلها فقد بعثرت أشياءها كلّها، ومعنى بعثرت القبور أيْ أصبحَ ما فيها على ظهرها، أي يُبعث الناس من قبورهم ليُحاسبوا حساباً دقيقاً عن كل أعمالهم في الدنيا، قال تعالى:

 

﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾

 أيها الأخوة، عالم من العلماء الأجلاء أتى ببرهان على أن الإيمان باليوم الآخر أصله عقلي، ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا فيها حظوظ متفاوتة، فمِن إنسان غني إلى إنسان فقير، ومن إنسان قوي إلى إنسان ضعيف، ومن إنسان ظالم إلى مظلوم، ومن إنسان طويل العمر إلى إنسان قصير العمر، ومن امرأة مُنحت مسحة من الجمال عالية إلى امرأة دميمة، فهناك تفاوت كبير في الحظوظ، والآن مع حركة البشر هناك من يظلِم، وهناك من يُظلَم، وهناك من يأكل حق أخيه، هناك من يَقتُل، وهناك من يُقتَل، هناك من يُعتدى عليه، وهناك من يعتدِي، هناك من يَستغل، وهناك من يُستَغَل، هذا الوضع غير طبيعي، فلا بد أن تؤمن بيوم آخر، يوم القيامة، في هذا اليوم تسوَّى فيه الحسابات، ويؤخذ حق الضعيف من القوي، ويؤخذ حظ المظلوم من الظالم، وكل إنسان يُجزى بعمله.

 

الإيمان بالآخرة يعكس الموازين :

 الحقيقة حينما تؤمن باليوم الآخر لا بد أن تنعكس عندك المقاييس رأساً على عقب، فتصور إنساناً لم يؤمن باليوم الآخر، يرى التفوق في ابتزاز أموال الآخرين، وفي السيطرة عليهم، وفي استهلاك جهودهم، وفي الهيمنة عليهم، وحينما يؤمن باليوم الآخر تنعكس موازينه، فيرى التفوق في رعايتهم وخدمتهم ونفعهم والتواضع لهم وإعطائهم حقهم، لذلك ترى بوناً شاسعاً بين المؤمن والكافر، المؤمن يعطي، والكافر يأخذ، المؤمن يعيش للناس، والكافر يعيش الناس له، المؤمن كل همِّه أن يقف عند منهج الله عز وجل، والكافر لا يعبأ بمنهج الله، ويتحرك وفق شهوته، لذلك صنَّف الله عز وجل البشرَ إلى نموذجين على اختلاف مللهم، ونِحلهم، وعلى اختلاف أعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، ودياناتهم، قال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 5-6]

 أي بنى المؤمنُ حياته على العطاء، وبناها الكافر على البخل:

 

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ﴾

[ سورة الليل: 8]

 فأما مَن أعطى، وأما مَن بخل، أعطى واتقى أي اتقى أن يعصي الله عز وجل، والآخر بخل واستغنى عن طاعة الله، الأول:

﴿ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 6]

 صدَّق أنه مخلوق للجنة، وأن ثمن الجنة الانضباط والعطاء، والآخر:

 

﴿ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[ سورة الليل: 9]

 فلما كفر بالحسنى استغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على أن يأخذ ما عند الناس، لا أن يعطيهم شيئاً، لذلك أعطى الأنبياء كلَّ شيء، وأخَذَ الأقوياء كلَّ شيء، وملَكَ الأنبياءُ القلوب، ومَلَك الأقوياء الرقاب، فكان سلاح الأنبياء الكمال، وسلاح الأقوياء البطش، فلذلك الإيمان بالآخرة يعكس الموازين.

 

إن لم تنعكس موازينك كانت حياتك معكوسة وفطرتك معكوسة :

 بصراحة إن لم تنعكس موازينك كانت حياتك معكوسة، فطرتك معكوسة، فالمؤمن بالآخرة يستوي عنده التبر والتراب، أي المئة مليون تحت قدمه إذا كانت فيها شبهة، فلا يبحث إلا عن دخل حلال، ولا يفعل إلا فعلاً يرضى الله عنه، أمّا غير المؤمن فهو دابة متفلتة، لا انضباط له إطلاقاً، فالذي يعنينا من قول الله عز وجل:

﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾

 معنى (بُعثِر)، أي بعثر ما فيها من مخلوقات، وخرجوا إلى ظاهرها ليُحاسبوا على أعمالهم، إنْ خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ:

 

﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ*عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾

[ سورة المدثر: 9-10 ]

 يوم الامتحان عسير على الكسول، لأنه لم يدرس، ويحاول أن يغشّ، فإذا به أمامَ مَن يردعه، وهناك مَن يكتب ضبطاً بحقه، فيحرمونه ستّ سنوات أحياناً، والامتحان عنده مشكلة، أما الطالب المجتهد فالامتحان متعة له، لأنه سوف يُعبِّر عن جهده بهذه الكتابات المنضبطة، إذاً:

 

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ*وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ* وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ*عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾

الإنسان حركته في الحياة تتلخص بشيئين شيء فعَلَه وشيء لم يفعله :

 الإنسان حركته في الحياة تتلخص بشيئين؛ شيء فعَلَه، وشيء لم يفعله، فالشيء الذي فعله ليته لم يفعله، والشيء الذي لم يفعله ليته فعله، هذا هو الكافر، أمّا المؤمن فشيء فعله ليته فعلَ أضعافه، وشيء لم يفعله ليته ابتعد عنه أضعافاً:

﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾

 أنت ماذا قدمت لله عز وجل؟ سوف نُعرَض على الله يوم القيامة، وسيقف كل إنسان بين يدي الله، ماذا فعلت من أجلي يا عبدي؟ هيئ الجواب مِن الآن، يا رب أنا اعتنيتُ ببيتي عناية بالغة وزيَّنته، فهل هذا الكلام مقبول عند الله عز وجل؟ يا رب أنا استمتعت بالحياة إلى أعلى درجة، وكان لي ذوق عالٍ في الطعام جداً، وكان لي رغبة في السفر والانطلاق، فهل هذا الكلام مقبول؟ ماذا فعلت؟ جئتُ بك إلى الدنيا كي تأتيني بعمل صالح، فما هو العمل الصالح الذي فعلتَه من أجلي؟ هل ربيت أولادك؟ هل أخذتَ بيد الناس إلى الله عز وجل؟ هل فهمتَ كلامي؟ هل عملتَ به؟ هل تعلمتَ القرآن؟ هل علّمته؟ هل كنتَ وقّافاً عند حدودي؟ هل آمنتَ برسلي؟ هل رعيتَ اليتيم؟ هل عطفتَ على الأرملة والمسكين؟ هل أنفقت من مالك الذي جمعته بكدك في سبيلي؟ هل أنفقت من علمك؟ ماذا فعلت؟ ماذا قدمت؟
 وقد قيل: الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، فلو أنك وقفت بين يدي الله عز وجل ليسألك: منحتك الكون، قال تعالى:

 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾

[ سورة الجاثية: 13 ]

 منحتك الكون، منحتك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، منحتك زوجة وأولاداً، ذكوراً وإناثاً، وبيتاً ومأوىً، ماذا فعلت من أجلي؟ ماذا قدمت؟

 

ما الذي قدمناه في سبيل الله؟ سؤال ينبغي ألا يغادرنا ولا لثانية واحدة :

 هذا السؤال أيها الأخوة الكرام ينبغي ألا يغادرنا ولا ثانية واحدة، ماذا قدمت في سبيل الله؟ إنسان قدّم علمه، وغيرُه قدّم ماله، وآخرُ قدّم خبرته، ورابعٌ قدّم جهده، ومنهم مَن قدّم النصيحة للمسلمين، وغيره نفع المسلمين باختصاصه وخبرته وعلمه، يا رب فعلت هذا في سبيلك، امرأة عمران ماذا فعلت؟

﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾

[ سورة آل عمران: 35 ]

 هل هناك أمٌ تقول: يا رب هذا الحمل الذي في بطني هو نذر لك، سأعتني به ليكون عبداً من عبادك الصالحين، واللهِ الأم إذا فعلت هذا، فنذرت ما في بطنها لله محرراً، وربّت أولادها تربية عالية جداً، واللهِ هذه هي الأم الأولى في الأرض، وهي الأمّ المثالية، أنت معك اختصاص لغة أجنبية، هذا الاختصاص ماذا فعلت به؟ هل وظّفته في نشر الحق؟ في ترجمة بعض الكتب الإسلامية إلى اللغات الأجنبية؟ أنت رزقك الله مالاً، فماذا فعلت به؟ هل أنفقته على مُتَعك الدنيوية، أم خصصت منه للأيتام والفقراء والمساكين وطلبة العلم؟ هذه هي النقطة الدقيقة، اسأل نفسك كل يوم: ما العمل الذي سوف تعرضه على الله عز وجل؟
 يا عبدي ماذا فعلت؟ يا رب علّمت العلم في سبيلك، فإن كنت صادقاً في هذا ومخلصاً قَبِله الله منك، وإلا يقال لك: كذبت، تعلمت العلم، وعلَّمته ليقال عنك: عالم، وقد قيل، خذوه إلى النار، يا رب قرأت القرآن، فإن كان صادقاً قبِله الله منه، وإن لم يكن كذلك يقول: عبدي قرأتَ القرآن ليقال عنك: قارئ، وقد قيل، خذوه إلى النار، يقول: ماذا فعلت أنت في سبيلي؟ يا رب قاتلتُ الكفار والمنافقين، قاتلتَ ليقال عنك: شجاع، وقد قيل خذوه إلى النار.
 هذا السؤال اليومي: ماذا فعلت في سبيل الله؟ هل احتسبت اختصاصك وحرفتك، وهل وظّفتها في الحق؟ مالُك هل أنفقته على كل محتاج ومسكين؟ علمُك هل بذلته أم لم تبذله؟ أولادك هل ربَّيتهم؟ هل كان يهمك طعامهم وشرابهم وشهاداتهم، أم كان يهمك إيمانهم واستقامتهم؟ هذا سؤال يومي؛ فما العمل الذي ادخرته لله عز وجل؟

 

مِن عظمة هذا القرآن أنه يخاطب العقل تارة والعاطفة تارة أخرى :

 هناك أناس في الستين وفي السبعين يمضون سهراتهم في لعب النرد، ومتابعة المسلسلات، يقال: ماذا ادّخرت لله عز وجل؟ ماذا خبأت لليوم الآخر؟ هذا السؤال أيها الأخوة سؤال يوميّ، ما العمل الذي ادخرته لآخرتك؟

﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾

 الآن يخاطب الله هذا الإنسان:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 بالمناسبة مِن عظمة هذا القرآن أنه يخاطب العقل تارة، والعاطفة تارة أخرى، والذين خاطبوا العقل فقط لم ينجحوا في دعوتهم، والذين خاطبوا العاطفة وحدها لم ينجحوا في دعوتهم، ولكن الدعاة الناجحين هم الذين وفَّقوا بين العقل والعاطفة، فكانوا يخاطبون العقل تارة، والعاطفة تارة أخرى، لكن هذه الآية من أدقِّ الآيات في القرآن الكريم، هناك آية واحدة يتوجه الله إلى عقل الإنسان وإلى عاطفته في وقت واحد، قال سبحانه:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 بالمناسبة ما هو الغرور؟ أن تعطي الشيء حجماً فوق حجمه، فقد يجد الإنسان علبة غاليةً على الرصيف، فيتوهم أن فيها حاجات ثمينة، فإذا فتحها وجدها فارغة، فيصاب بحالة غرور، اغترّ بها، وتوهم أن فيها قطعة ألماس، أو قطعة من الحليّ الثمينة، فإذا فتحها وجدها فارغة، فهذا الإحباط وخيبة الأمل هي الغرور، فالإنسان قد يغتر بالدنيا، وقد يعطيها حجماً أكبر من حجمها، وقد يظنها في أول حياته هي كل شيء، فإذا امتد به العمر رآها شيئاً، وليست كل شيء، فإذا كان على وشك مغادرتها يراها ليست بشيء.
 اجلس مع شخص بالعشرينات، وآخر بالأربعينات، وآخر بالسبعينات فترى أن الدنيا عند الشاب هي له كل شيء، في بيوتها، ونسائها، ومركباتها، وشركاتها التجارية، حتى جعل ساحة نفسه كلها الدنيا، في الأربعين أو الخامسة والأربعين يهتم بالدين، وبقراءة القرآن، ومعرفة ربه، أما بالسبعين فيهتم بالآخرة، فكان المال في أول حياته هو كل شيء، في وسطها شيء، في آخرها ليس بشيء، وقِس على ذلك كل شيء، قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

قد يغتر الإنسان بالدنيا فيعطيها حجماً كبيراً وهي أقل من هذا بكثير :

 أيها الأخوة، حقيقة مهمة جداً، كما قال الله عز وجل:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف: 103-104]

 وقع في الغرور، قد يغتر الإنسان بالدنيا فيعطيها حجماً كبيراً، وهي أقل من هذا بكثير:

(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِناً فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ))

[ الترمذي وابن ماجة عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ]

 بعض الأخوة الكرام يدخلون في تجارة كبيرة جداً، ويصابون بأزمات خارقة، يقول لي أحدهم: واللهِ أتمنى أن آكل خبزاً يابساً، وألا أكون في هذه التجارة، الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الاقتصاد في المعيشة خير من بعض التجارة، هناك تجارة متعبة وضاغطة، وقد تصيب صاحبها بمرض عضال:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 قد نغتر بالدنيا فنعطيها حجماً فوق حجمها، لكن ما معنى أن نغتر بالله؟ الأمر يختلف، أي ظننتَ اللهَ عز وجل بشيء، وهو ليس كذلك! هذا المعنى لا يستقيم مع الله عز وجل.

 

العقيدة الفاسدة تشلُّ حركة الإنسان :

 ما معنى أن نغترّ بالله؟ الإنسان له عند قاضٍ دعوى، فتوهم أن هذا القاضي لو قدّم له هدية قبل الحكم لأصدر حكماً لصالحه، والقاضي أنزه وأعظم من ذلك، فلما اكتشف الحقيقة المُرَّة خسر خسراناً مبيناً، نقول: هذا المتهم اغترّ بالقاضي، أي ظن أنه يصدر حكماً لصالحه على بطلانه وهو ليس كذلك، اغتر الإنسان بالله أي ظن أنه لا يحاسب عباده أبداً ففوجئ بالعكس، ظن أن هذا المبلغ الذي أخذه سوف يُسامَح فيه، فإذا ربنا عز وجل يحاسبه عليه حساباً عسيراً، فيجب على الإنسان أن يعلم الحقيقة المرّة، ويجب أن يؤثرها على الوهم المريح، لأن معظم المسلمين يعيشون وهماً مريحاً باعتبار أنّ النبي سوف يشفع لهم، فيقترفون المعاصي والآثام، وهكذا يسمعون من بعض الدعاة؛ أن النبي سوف يشفع لهم على كل أخطائهم، هذا فهْم ساذج وهذا الفهم يُقعِد الإنسان عن العمل، وهذه العقيدة الفاسدة تشلُّ حركة الإنسان.
 يا فاطمة بنت محمد يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم:

(( حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 هذه حقيقة، عوّد نفسك أن تكون مع الحقيقة المرة لا أن تكون مع الوهم المريح، إنسان في جيبه شيك بمئة ألف دولار، لكنه مزوّر، الأولى أن يعلم أنه مزور، أو ألا يعلم، دعه مرتاحاً، يظن نفسه غنياً كبيراً، ولو أبرز هذا الشيك، لاعتُقِل به، وفَقَدَ حريته، وتلاشت كل آماله، لا، فالأولى به أن يعرف هذا في وقت مبكر حتى يسعى، فكم من مسلم يعيش أوهاماً ليست صحيحة.

 

المسلمون وقعوا في الأماني التي وقع بها اليهود :

 قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾

[ سورة الزمر: 19 ]

 مستحيل، لقد فعلت اليهود هذا، قال تعالى:

 

﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ﴾

[ سورة البقرة: 80 ]

 وقال:

 

﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 111 ]

 كلها أماني، والمسلمون وقعوا أيضاً في مثل هذه الأماني، والله عز وجل يقول:

 

﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ﴾

[ سورة النساء: 123 ]

كل إنسان ينسى عقاب الله وحسابه فهذا إنسان اغتّر بالله :

 قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 قد يغتر الإنسان بأنّ الله لن يُحاسِب، يقول لك: لا تدقق، إنّ الله لن يحاسبك هذا الحساب الشديد، وإنّ الله لغفور رحيم، لمجرد أن تقول: إن الله غفور رحيم بسذاجة فأنت قد اغتررتَ بالله عز وجل:

 

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾

[ سورة الحجر: 49-50 ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ*وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾

[ سورة الزمر: 53-55]

 فجأة يأتي العذاب، فكل إنسان ينسى عقاب الله، وينسى حساب الله، وينسى عدل الله، ويتحرك على مزاجه وعلى هوى نفسه، ويقول الله غفور رحيم، فهذا إنسان اغتّر بالله.

 

الله عز وجل عدلٌ يعطي كل ذي حق حقه :

 قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 ولْنضْربْ على هذا مثلاً؛ ابن والده أستاذ في الرياضيات، وفي شعبته، يقول: ليس من المعقول بأن يرسِّبني أبي، ولكنّ أباه نزيهٌ جداً، لم يدرس الابنُ فرسب، اغتّر بوالده، وظن أن أباه سيُحابيه، أو سيسرب له الأسئلة:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 إنّ الله عز وجل عدلٌ، قال تعالى:

 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

 وإنّ الله عز وجل يعطي كل ذي حق حقه:

 

﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء: 47 ]

 قال له: يا رسول الله عظني ولا تُطِل، قال له: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، قال: كفيتُ يا رسول الله، فقال النبي: فَقُهَ الرجل.

 

الاغترار بالله عز وجل أن تظن أنه لن يحاسب ولن يعاقب :

 الاغترار بالله عز وجل أن تظن أنه لن يحاسب وأنه لن يعاقب، قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

 أي شاب متفلت، منحرف الأخلاق، يفعل كل شيء، ويأكل كل شيء، ويجلس مع من يشاء، ليس عنده قيد، وشاب مستقيم، مِن رواد المساجد، يخشى الله، ويتوجه إليه، ويخلص إليه، ويخطب ودّه، أيعقل أن يُعامل هذا كهذا، أو هذا كذاك؟ مستحيل:

 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

 وقال:

 

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 18 ]

 وقال أيضاً:

 

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة القلم:35-36]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ سورة القصص: 61 ]

الله عز وجل يُمهِل ولا يُهمل :

 إن لم تؤمن بهذه الآيات فأنت مغترّ بالله عز وجل، أن تغتّر به ألاّ تتيقن مِن عدله، أن تغتّر به ألاّ تتيقن أنه سيحاسب، وسيعاقب:

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 أيعقل أن يحابيك الله عز وجل، وتظلم الناس، وتبتز أموالهم، فالقضية بهذه البساطة، إنسان عاش على أنقاض الناس، وجمع أموالاً طائلة من ابتزازهم، ومن استغلال غفلاتهم وجهلهم، فهل من الممكن لإنسان له مهنة راقية، والناس يثقون به، أن يحتال عليهم ليأخذ أموالهم، فهل هذا ممكن؟ والأمر يتم هكذا من دون عقاب، من دون فضيحة؟‍‍!! مستحيل:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

 إلا أنَّ الله يُمهِل ولا يُهمل، ويُرخي الحبل إلى أن يتوهم الإنسان الجاهل أن الإله لن يعاقب، ولن يحاسب، وفي لحظة واحدة يُشدُّ هذا الحبل، فإذا هو في قبضة الله عز وجل.
 نقطة دقيقة جداً، معظم الناس الآن بحسب قوته يبتزّ أموال الناس، بحسب ذكائه، فإذا كان عنده مهنة راقية، ويوقن يقيناً قطعياً أن هذه الدعوى خاسرة يعِده أنه سيربحها، فيبتز أمواله لسنوات طويلة، والله عز وجل موجود ويعلم فهو:

 

﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾

[ سورة طه: 7 ]

 يعلم ما أسررتَ وما خفي عنك، فكل إنسان يغتر بالله، أي لا يقيم وزناً لمحاسبة الله له فهو إنسان لا عقل له ولا فطنة.

 

عظمة الخلق تدلّ على دقة المعاملة وكمال الخلق يدّل على كمال التصرف :

 قال عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾

 إنّ عظمة الخلق تدلّ على دقة المعاملة، وكمال الخلق يدّل على كمال التصرف، هذه قاعدة، أنت دخلتَ إلى شركة ضخمة جداً، فما دامت ضخمة جداً، وإنتاجها عال جداً، معنى ذلك أن عندها حساب دقيق، عندها هيئة محاسبة، ووسائل دقيقة، وإيصالات، وصفحات، وأجهزة حاسوبية، فكمال الخلق يدل على كمال التصرف، وهذا موضوع الدرس القادم إن شاء الله:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾

 فهذه الآية نقف عندها وقفة متأنية إن شاء الله في الدرس القادم، وسنعرف لماذا لا يغتر المؤمن بالله عز وجل، بل يربط بين عظمة الخلق، وعظمة الحساب الدقيق.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور