- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تمتع النبي الكريم بصفات العظمة الإنسانيّة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في شهر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كانت موضوع الخطبتين السابقتين حول عبادته صلى الله عليه وسلم ، وحول علاقاته الاجتماعية التي بَيَّنت لكم من خلال الخُطبة السابقة الأخلاق الرفيعة التي كان يتمتع بها صلى الله عليه وسلم .
واليوم أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الإمام عليٌ كرم الله وجهه :
((يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها))
((خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس))
((فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى الله بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))
أيها الأخوة الكرام ؛ ما منكم واحدٌ إلا وله أتباع ، أولاده أتباعه ، إن كان صاحب متجرٍ فالموظفون الذي في معيَّته أتباعه ، وإن كان صاحب معملٍ فالعُمال الذي عنده أتباعه ، ما منكم واحدٌ إلا وله أتباع ، هكذا رَتَّبَ الله الخلق ، وجعل بعضكم فوق بعض .
أيها الأخوة الكرام ؛ نستعرض في هذه الخطبة كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع أتباعه ؟ كيف تعامل مع أصحابه ؟ كيف تعامل مع من يلوذ به ؟ كيف بناهم بناءً إيمانياً صحيحاً ؟ كيف رسَّخ فيهم قيَم الخير والحق والعدل ؟ كيف فجَّر طاقاتهم ؟ كيف دفعهم إلى البطولات ؟ هذا كله من رعايته صلى الله عليه وسلم ، ومن عنايته ، ومن بطولته في بناء نفوس أصحابه .
أيها الأخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء النبي عليه الصلاة والسلام يتمتَّع بكل صفات العظمة الإنسانية ، يتمتَّع بكل صفات الكمال ، جمع المَجْدَ من كل أطرافه ، ومع ذلك هذا التفوّق الأخلاقي و هذا التفوق البُطولي ما جعله يغفل عن أصحابه ، ولا عن إمكاناتهم ، ولا عن تضحياتهم ، ولا عن المَجالات التي يمكن أن يبدعوا فيها . لذلك من صفات النبي عليه الصلاة والسلام أنه عرف قدر أصحابه ، وأعطى كلاً منهم ما يستحق ، وصف كلاً منهم الصفة اللائقة به ، وعرف المجال الذي يبدعُ فيه ، وأناطه بالعمل الذي يعبِّر به عن ذاته ، هذه بطولةٌ وأيّما بطولة ، أن يكون البطل بطلاً ، وأن يعرف من حوله من الأبطال ، أن يكون الزعيم زعيماً وأن يعرف من حوله من المتفوِّقين .
الوضوح من صفات بناء النبي لنفوس أتباعه :
أيها الأخوة الكرام ؛ من صفات بناء النبي لنفوس أتباعه الوضوح ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))
أهل مكة الذين أرسل إليهم ، والذين كلف أن يبلغهم ، ظنوا به الظنون ، فقال قولته الشهيرة :
((يا قوم ما جئتكم بهذا الأمر أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا المُلك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل إليّ كتابه ، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، فإن تقبلوا فهو حظُّكم من الدنيا والآخرة ، وإن تردوا فإن عليّ أن أصبر حتى يحكم الله بيننا ))
وضوحٌ ما بعده وضوح ، النبي عليه الصلاة والسلام في توجيهاتٌ أخرى قال : " البيان يطرد الشيطان ".
الأساليب الملتوية ليست من السنة النبوية ، إخفاء الحقائق ليس من السنة النبوية. الوضوح إلى درجة الصراحة ، تَقَبُّل كل انتقاد ، وتوضيح كل أمر ، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يتعامل مع من حوله .
تثبيت النبي الكريم قلوب أصحابه و بثّ العزيمة في نفوسهم :
شيءٌ آخر : كان عليه الصلاة والسلام يثبِّت قلوب أصحابه ، أحياناً يدِبُّ الوهن إليهم ، يدب الضعف فيهم ، يستبطؤون نصر الله عز وجل ، فكانت من مهماته صلى الله عليه وسلم أن يثبتهم ، وأن يرفع معنوياتهم ، أن يبشرهم ، وأن يعدهم بنصر الله القريب .
دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فرآه ينام على الحصير ، وقد أثَّر الحصير في خده الشريف ، فبكى عمر ، ما الذي أبكاه ؟ـ قال : يا عمر ما يبكيك ؟ . قال عمر : رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟ هذا الكلام يحتمل معانٍ عدة . فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : أفي شكٍ أنت يا بن الخطاب؟ أفي شكٍ من النبوة ؟ قال عليه الصلاة والسلام : يا بن الخطاب أنا لست ملكاً هذه نبوةٌ وليست ملكاً .
وشتان بين الملك والنبوة ، وفي رواية أخرى قال : يا بن الخطاب أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا ؟
إذاً من مهمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه يبثُّ العزيمة في نفوس أصحابه ، يرفع من معنوياتهم ، لأن الله سبحانه وتعالى وعده بالنصر . عدي بن حاتم ملكٌ من ملوك الحيرة ، جاءه مسلمًا ، قال : يا عدي أرأيت الحيرة ؟ قال : نعم . قال :
(( فإن طالت بك حياةٌ فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً - وهذه كنايةٌ عن أن الأمر سوف يتسع ، وسوف ينتشر ، وسوف يستتب الأمر للمسلمين - ولئن طالت بك حياةٌ لتفتحن كنوز كسرى ، ولئن طالت بك حياةٌ لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله فلا يجد أحداً يقبله ))
وهذا حصل في عهد عمر بن عبد العزيز ، كان صاحب مال الزكاة يجوب الآفاق بحثاً عن رجلٍ يقبل زكاة ماله ، قال بعضهم : لقد أغنى عمر الناس ، والأصوب أن نقول : لقد أغنى الإسلام الناس ، حينما عرفوا ربهم ، وحينما استقاموا على أمره ، فتح الله عليهم بركات السماء والأرض ، فكان من الصعوبة بمكان أن تجد رجلاً يأخذ منك زكاة مالك.
من صفات هذا النبي العظيم إدراك الفروق بين الناس :
أيها الأخوة الكرام ؛ كان عليه الصلاة والسلام يرفع معنويات أصحابه ، ويبث فيهم الثقة بالله عز وجل . جاءه المُخَلَّفون في غزوة تبوك ، وطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً ، فقبل منهم علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ـ هذا موقف ، منافقون قبل اعتذارهم ، وقبل ما هم عليه ، واستغفر لهم وبايعهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ـ فلما جاءه المؤمنون المتخلفون كان له معهم موقفٌ آخر ، جاءه المؤمنون المتخلفون وسلَّم عليه أحدهم فتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الغاضب وقال : ما خلفك ؟ قم حتى يقضي الله فيك وفي إخوانك . ونهى المسلمين عن كلامهم ، فاجتنبهم الناس خمسين ليلة ، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، أرسل إليهم النبي أن اعتزلوا نساءكم ، وبقي أمرهم كذلك حتى أنزل الله توبته . إذاً إدراك الفروق بين الناس من صفات هذا النبي العظيم ، المنافقون لهم طريقةٌ في التعامل ، والمؤمنون لهم طريقةٌ في التعامل .
استضافه رجل فقدَّم له خبزاً وخلاً ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((نعم الإدام الخل))
جبراً لقلبه ، فلما قدم له غنيٌ خلاً قال :
((بئس الإدام الخل))
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الفروق الدقيقة التي يقفها النبي عليه الصلاة والسلام هذه تؤكِّد حكمته صلى الله عليه وسلم .
تنمية النبي شخصية أصحابه و رفع قدرهم :
أحياناً كان عليه الصلاة والسلام يدع الأمر لأصحابه ، وهذا من حكمته البالغة ، يُنَمِّي بهذا شخصيتهم ، يرفع بهذا قدرهم ، يشعرهم أنه واحدٌ منهم ، فمثلاً : قال عليه الصلاة والسلام لوفد هوازن حين جاء هذا الوفد يطلب ردّ ما أخذ منهم من الغنائم ، قال عليه الصلاة والسلام : " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأسأل لكم الناس ". جعل الأمر لأصحابه ، وجعل الموافقة بيد أصحابه ، وجعل لأصحابه كياناً ، فإن رضوا فهذا من شيَمِهِم ، وإن أمسكوا فهذا من حقهم .
أيها الأخوة جاءته امرأةٌ مرةً تشكو زوجها فقالت للنبي عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله أتأمرني بذلك ؟ فقال : إنما أنا شفيع له ، فقالت : لا والله لا أرجع إليه أبداً .
ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يضع مكانته العظيمة للضغط على امرأةٍ تكره زوجها ، ما أراد أن يضع مكانته العظيمة لشأنٍ شخصيٍ في أصحابه ، قالت : أفتأمرني ؟ قال : لا إنما أنا شفيع .
احترامه للآخرين :
علمنا عليه الصلاة والسلام كيف نحترم الآخرين ، كيف نقدِّر مشاعرهم ، كيف نعطيهم حقَّهم ، كيف نثني على بطولاتهم ، كيف نعرف قدرهم ، كيف نفجِّر طاقاتهم ، كيف ندفعهم إلى البطولة .
كما قلت في أول الخطبة : كان عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وحبيب الحق ، وما جاراه أحدٌ من الخلق في البطولة ، ما من بطلٍ أيها الأخوة إلا وتفوَّق في جانب ، إلا النبي عليه الصلاة والسلام كان في كل القِمَم ، وكان في كل الجوانب بطلاً ، ومع ذلك لأحد أصحابه يقول :
(( أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ))
لصاحبٍ آخر :
(( خالد بن الوليد سيف من سيوف الله ))
لصاحبٍ ثالث : " ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك " .
لصاحبٍ رابع :
((يا معاذ إني لأحبك))
ما من صحابيٍ إلا وأعطاه حقه ، وفجّر طاقاته ، ودفعه إلى البطولة ، لذلك عدّ عصر النبي صلى الله عليه وسلم بحقٍ عصر الأبطال .
أيها الأخوة الكرام ؛ لما استجارت ابنته زينب لزوجها بالمسلمين ، ترك الأمر لأصحابه ، وقال :
((الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ ...))
دققوا أيها الأخوة في هذا الموقف الرائع : يقول أنسٌ رضي الله عنه : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، منا الصائم ، ومنا المُفطر ، فنزل منزلاً في يومٍ حار فسقط الصوَّام من شدة التعب والجوع والعطش ، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الناس . فقال عليه الصلاة والسلام مُثْنِيَاً على المفطرين - طبعاً صيام نفل - قال :
(( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ))
أو يحق للمسلم أن يفطر في السفر ؟ بعضهم أخذ بهذه الرخصة وبعضهم لم يأخذ ، ما لامَ أحداً ، ولا أثنى على أحدٍ دون أحد تطييباً لقلب الجميع ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ))
ما الذي رجَّحه ؟ رجَّح خدمة الخلق على الأخذ بالعزائم ، طيَّب خاطرهم لأنهم بذلوا ، وتعبوا ، ونصبوا الخيام ، وقدموا الطعام ، وأداروا الماء .
أيها الأخوة ؛ قال عليه الصلاة والسلام :
(( إنكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بَسْط الوجه وحسنُ الخلق ))
قد يضيق الإنسان ذرعاً عن بذل كل ماله ، قد لا يملك المال الذي يُنفقه على الناس ، ولكن الأخلاق الرفيعة ، ولكن التواضع ، ولكن البشاشةَ ، ولكن الطلاقة ، ولكن حُسْنَ الجوار ، ولكن الأدب الرفيع ، هذا يُغني عن بذل المال .
حرص النبي الكريم على مكانة أصحابه :
وكان يحرَص على مكانة أصحابه صلى الله عليه وسلم فكان يقول :
((ليليني منكم أولو الأحلام والنهى))
كان يحب أن يقرِّب أولي الأحلام ، أصحاب العقول ، أصحاب الحكمة ، هؤلاء كان يدنيهم منه صلى الله عليه وسلم ، وقد تعلمون أن الذي يصحب إنساناً سيئاً ، هذا يجر له سمعةً سيئة ، لذلك عدَّ الفقهاء من الأشياء التي تجرح العدالة صُحبة الأراذل ، كان عليه الصلاة والسلام يقول :
((ليليني منكم أولو الأحلام والنهى))
شجاعته صلى الله عليه و سلم :
كان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الشجاعة ، طرق عمر بن الخطاب باب دار الأرقم ، فخَشِيَهُ الصحابة وظنوا أنه إنما جاء ليقتل محمداً ، فنهض عليه الصلاة والسلام ، نهض إليه ، وأخذه بتلابيبه ، ثم جذبه جذبةً شديدة وقال : ما جاء بك يا بن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى تنزل بك قارعة ؟ قال عمر : جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله ، فكبر عليه الصلاة والسلام تكبيرةً عرف أصحابه أن عمر قد أسلم ، أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أن الشدة أنفع لعمر من غير الشدة . أما حينما جاءه عدي بن حاتم وكان ملكاً . . ـ قال عدي : دخلت على محمد صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فسلمت عليه . فقال : من الرجل ؟ قلت : عدي بن حاتم . فقام وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامدٌ بي إليه إذ لقيته امرأةٌ ضعيفة كبيرة فاستوقفته ، فوقف طويلاً تكلمه في حاجاتها ، فقلت : والله ما هذا بأمر ملك - لينٌ ما بعده لين ، تواضعٌ ما بعده تواضع ، حكمةٌ ما بعدها حكمة - استقبله في بيته ، ودفع إليه وسادةً من أدمٍ محشوةً ليفاً . . قال : اجلس عليها . قلت : بل أنت . قال : بل أنت . فجلست عليها - هكذا يقول عدي - وجلس هو على الأرض ، لم يكن في بيته إلا وسادةٌ واحدة قدمها لضيفه . قال : يا عدي لعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم - من فقر المؤمنين - فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى أن المُلْكَ والسلطان في غيرهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحُجُّ البيت على بعيرها لا تخاف ، ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم -ـ كما هي الحال الآن - فوالله ليوشكن أن ترى القصور في بابل مفتحةً للمسلمين .
ولقد عاش عدي بن حاتم وأدرك بنفسه كل هذه البشارات التي بشَّر بها النبي عليه الصلاة والسلام .
حبّ النبي الصادق لأصحابه :
أيها الأخوة الكرام ؛ حينما كانت غزوة العُسْرَة ، جاء سيدنا الصديق بماله كله ، قال له النبي الكريم : يا أبا بكر ماذا أبقيت ؟ قال : الله ورسوله . وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء العباس بتسعين ألفاً ، وحمل عبد الرحمن بن عوف مئتي أوقيةً ، وتصدق عاصم بتسعين وسقاً من التمر ، وجهز عثمان ثلث الجيش ، ثم جاء بألف دينار فأفرغها في حجر النبي ، فجعل يقلِّبها ويقول :
((ما ضرّ عثمان ما فعل بعد هذا))
كان يعرف قيمة المال ، وكان يثني على الذي يبذلون ، وكما يقال : المال شقيق الروح ، فهذا الذي يبذل ماله من أجل نُصرة هذا الدين ، يبذل ماله لبناء مسجد ، يبذل ماله لتزويج شابٍ فقير ، يبذل ماله لرعاية أخٍ فقير ، كان عليه الصلاة والسلام يعرف تمام المعرفة ماذا يعني المال ؟ المال يعني جهداً طويلاً وتعباً شاقاً ، فإذا بذله الإنسان في سبيل الله فكان عليه الصلاة والسلام يقدِّر ذلك قال :
((ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا))
وكان عليه الصلاة والسلام ينطوي على حبّ حقيقي ، حبّ صادق لأصحابه ، كانوا أقرب الناس إليه ، وكان أقرب إليهم من أنفسهم .
نظر عليه الصلاة والسلام إلى مُصْعَبَ بن عُمَير ، وكان شاباً وسيماً من أغنى فتيان قريش حينما كان مشركاً ، فلما أسلم حَرَمَهُ أهله كل شيء ، فصار فقيراً فقراً مدقعاً ، مرّ عليه الصلاة والسلام على مصعب بن عمير وقد قُتل في بعض الغزوات وكان مُسَجًّى في بُرْدِهِ فقال عليه الصلاة والسلام : " لقد رأيتك بمكة وما بها أحدٌ أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك ".
كان شاباً وسيماً أنيقاً إلى أقصى الحدود ، فلما أسلم ركل بقدمه مُتَعَ الحياة ، وركل بقدمه جمال الثوب ، وركل بقدمه كل ما يحلو للشباب مثله ، والتحق بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وكان من أكبر الدعاة في المدينة ، بل إن جُلّ الأنصار أسلموا على يد مصعب بن عمير ، ثم أنت اليوم أشعث الرأس في بردةٍ مرقعة .
وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان فيه مصعب من النعمة ، ولم يبكِ رثاءً لحاله ، بل بكى فرحاً بهذا الموقف النبيل الذي أوصله إلى التضحية بكل شيءٍ في سبيل الله .
النبي الكريم بنى نفوس أصحابه فأحبوا الموت على الحياة :
أيها الأخوة الكرام ؛ إن لم تحب الناس فلن تستطيع أن تكون داعيةً لهم ، إن لم تحبهم حباً عميقاً لن يميلوا إليك ، عليه الصلاة والسلام عقب معركة أحد تفَقَّدَ أصحابه ، فسأل عن سعد بن الربيع فلم يجده ، فقال عليه الصلاة والسلام : من رجلٌ ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ فقال أحد الأنصار : أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد . فاتجه إلى ساحة المعركة ، فنظر بين الجرحى فرآه أحدهم - أي به رمق لم يمت بعد -فقال لسعد : إن رسول الله قد أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ؟ فقال سعد بن الربيع : أنا في الأموات ، أبلغ رسول الله السلام عني ، وقل لأصحابه : لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عينٌ تطرف.
ما الذي تركه في نفس أصحابه ؟! هو على فراش الموت ، أو هو في النزع الأخير ، هو يغادر الدنيا ، وهل يكون الإنسان في أسعد حالاته إذا غادر الدنيا ؟ هكذا بنى النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه . الآن إذا شعر الإنسان أنه قد اقترب أجله ينهار عصبياً ، يفقد اتزانه ، يفقد عقله ، والذين يعملون مع المرضى الذين يوشكون أن يموتوا يعرفون هذه الحقيقة ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام بنى نفوس أصحابه حيث إن الموت كان أحب إليهم من الحياة ، بحيث أن لقاء الله كان أحب إليهم من كل شيء ، بحيث أن الدار الآخرة يشتاق إليها الصحابي شوقاً لا حدود له .
معاملة النبي الراقية لأصحابه :
أيها الأخوة الكرام ؛ من حكمته البالغة أنه صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان - زعيم الشرك بعد أن أسلم - أرسله إلى الطائف ليحطم أصنام الطائف ، الحكمة بالغة ، هذا الذي حارب النبي عشرين عاماً ، هذا الذي اعتز بالأصنام وعبدها من دون الله عشرين عاماً هو نفسه كلَّفه أن يحطم أصنام الطائف .
أيها الأخوة الكرام ؛ هل في الأرض رجلٌ أغلى على الشاب من أبيه وأمه ؟ سيدنا زيد بن حارثة ، حينما جاء أبوه وعمه ليأخذاه من النبي عليه الصلاة والسلام ، وعرضا على النبي أي مبلغٍ يريد . فقال عليه الصلاة والسلام : لا أريد شيئاً ، سلوه إن ذهب معكم فله ذلك . فلما عرضا عليه الذهاب إلى أمه وأبيه رفض ، وأبى أن يترك النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان هذا قبل البِعثة ، فهل يستطيع الإنسان أن يُعامل الناس معاملةً يُنسيهم أمهاتهم وآباءهم ، هكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام .
المجتمع الإسلامي مجتمع مترابط كالبنيان المَرْصوص :
أيها الأخوة الكرام ؛ عودٌ على بدء الخطبة : ما منكم واحد إلا وله أتباع ؛ الأب له أتباع - أولاده أتباعه - مهما كان عملك متواضعاً تحت يدك أُناس ، عمال ، موظفون ، هؤلاء بالخلق الرفيع ، والقدوة الكاملة ، والرحمة البالغة ، والحكمة البالغة ، والعطف الشديد ، والإنصاف ، هؤلاء تجعلهم يدينون بدينك ، تجعلهم يؤْثرون الله على كل شيء ، أنت تكون في واد ، فإذا أنت في وادٍ آخر ، تدعو إلى الله وأنت لا تدري ، تشد الناس إلى الدين وأنت لا تدري، تحملهم على طاعة الله وأنت لا تدري ، تُريهم الحق حقاً وأنت لا تدري ، لذلك أقلّ ما في الدعوة المعلومات ، وأكثر ما فيها القلب الكبير ، وبُعد النظر ، والحكمة البالغة ، والصدق ، والإخلاص ، والحب الحقيقي للإنسان .
أيها الأخوة الكرام ؛ حينما حدَّث أصحابه عليه الصلاة والسلام عن سيدنا الصديق ماذا قال ؟ قال :
((ما أحد أعظم عندي يداً من أبي بكر ؛ واساني بنفسه وماله ، وأنكحني ابنته))
أيْ إذا قُدِّمَت لك خدمة ينبغي ألا تنساها ، ينبغي أن تذكرها ، ينبغي أن تشكر صاحبها ، ينبغي أن تكون أسيراً له ، نبي هذه الأمة ، سيد الخلق ، وحبيب الحق ، يقول عن سيدنا الصديق :
((ما أحد أعظم عندي يداً من أبي بكر ؛ واساني بنفسه وماله ، وأنكحني ابنته))
(( ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ))
و : " تسابقت أنا وأبو بكر فكنا كهاتين " عرف قدر أصحابه ، عرف ودَّهم له ، عرف بذلهم من أجله ، عرف إنفاق مالهم عليه .
سيدنا بلال حينما جاءه ملك الموت ، فرح فرحاً شديداً ، قال : " غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه " .
هذا المجتمع الإسلامي مجتمع مترابط ، مجتمع كالبنيان المَرْصوص ، مجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
العبرة من القصص و المواقف التالية أن نعيش مواقف النبي وأخلاقه وشمائله :
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه القصص ، وهذه المواقف ليست للاستمتاع الفِكري ، إن اكتفيتم أن تعجبوا بها دون أن تعيشوها والله ما استفدنا منها ، نحن في عيد المولد ، والعبرة من هذا العيد أن نعيش مواقف النبي ، أن نعيش أخلاقه ، أن نعيش شمائله ، أن نعيش أسلوبه في تربية أصحابه ، أن نعيش العلاقات الراقية التي كانت بينه وبين أصحابه ، كان عليه الصلاة والسلام جواداً حين يسأل ، حليماً حين يستجهل ، براً بمن يعاشر ، واثقاً بالله ثقةً لا حدود لها .
أيها الأخوة الكرام ؛ أحد أصحابه اسمه ثوبان ، دخل عليه مرةً فرآه شاحب اللون سأله : يا ثوبان ما شأنك ؟ وما حالتك ؟ فقال ثوبان رضي الله عنه : يا رسول الله ما بي من وجعٍ غير أني لم أرك اليوم ، اشتقت ، واستوحشت وحشةً عظيمة ، فذكرت الآخرة حيث لا أراك هناك أبداً ، لأني إن دخلت الجنة تكون أنت في درجات النبيين فلا أراك ، فابتسم عليه الصلاة والسلام ، وأنزل الله في عُلاه قرآناً بحق هذا الصحابي الجليل ، قال :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ حاطب بن بلتعة صحابي ، لكنه زلَّت قدمه زلةً أوقعته في الخيانة العُظمى ، حينما عزم النبي على فتح مكة ، أرسل حاطب بن بلتعة كتاباً مع امرأةٍ إلى قريش يُنَبِّهُهُم من أن محمداً سوف يغزوكم فخذوا حذركم ، أليست هذه خيانةً عظمى في كل المقاييس ، وفي كل المجتمعات ، وفي كل الأحوال ؟ فلما جاءه الوحي عليه الصلاة والسلام أخبره جبريل بخيانة بَلْتَعَة ، فدعاه النبي وقال : يا حاطب ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ كان عمر واقفاً قال : " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق " ، قال : لا يا عمر ، إنه شهد بدراً .
قال كُتَّاب السيرة : إن عمر نظر إلى الذنب فرآه خيانةً عظمى ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى صاحب الذنب فرأى ذلك لحظة ضعفٍ طارئة ، أعانه على نفسه، سأله : ما حملك على أن فعلت ؟ فعلّل ذلك تعليلاً قال : " والله ما كفرت ولا ارتددت ، لكن أصحابك لهم عند قريش صنائع ، أما أنا فليس لي عندهم هذه الصنيعة ، أردت أن أحمي أموالي هناك بهذه الطريقة . فما زاد عليه الصلاة والسلام على أن قال : إني صدقته فصدقوه ولا تقولوا فيه إلا خيراً ".
هذا الموقف العظيم جعل هذا الصحابي الذي زلَّت قدمه يقف ويتابع السير مع رسول الله ، وقد أرسله النبي عليه الصلاة والسلام فيما بعد رسولاً إلى بعض المُلوك ، وهذا دليل أنه وثَقَ به ، وأنه رجع إلى مكانته ، هذا القلب الكبير ، وهذه الحكمة البالغة ، وهذا الإدراك الدقيق لأحوال النفس البشرية .
بناء النبي أصحابه على الخشونة في العيش ليبقى الهدف هو الأصل :
أيها الأخوة الكرام ؛ الحديث عن أصحابه ، وعن وفائه لهم ، وعن حبه لهم ، وعن إنصافه ، وعن حكمته لا ينتهي . النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة دخل على أم هانئ وكان جائعاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : " يا أم هانئ أعندكِ طعام ؟ قالت : إن عندي كسرة خبزٍ يابسة ، وإني لأستحيي أن أقدمها لك ، فقال : هلُمِّيها - أي هاتها - فكسرها في ماءٍ وجاءته بملحٍ . فقال : أما من إدامٍ عندكِ ؟ قالت : ما عندي شيءٌ إلا خل . فقال : فهلميه ، فلما جاءت به صبَّه على طعامه ، فأكل منه ، ثم حمد الله تعالى وأثنى عليها ، وقال : نعم الإدام الخل : اللهم بارك في الخل ، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي ، ولم يقفر بيت فيه خل ".
كانت هذه مائدة النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة . لماذا ؟ قلت هذا قبل أسبوعين : بنى أصحابه بناءً حيث إن نقص الطعام والشراب لا يزلزلهم ، لا يغيرُ اتجاههم ، لا يبيعون دينهم لعرضٍ من الدنيا قليل ، الذي يعبد على حَرْف إذا أصابه خيرٌ اطمأن به ، فإن أصابه شرٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، يجب أن تبني النفوس بناءً حيث إن الهدف هو كل شيء ، وأن طاعة الله هي كل شيء ، وأن ابتغاء رضوانه هو كل شيء ، وأن الجنة هي كل شيء ، وأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، فكان عليه الصلاة والسلام قدوة ، جاءه جبريل ، قال : يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبيا عبداً ؟ قال :
(( أكون عبداً أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فإذا جعت صبرت ، وإذا شبعت شكرت ))
أيها الأخوة الكرام ؛ يشكو الشاكون من نقص بعض الكماليّات ، الإنسان إذا ابتعد عن الله عز وجل شقي لا إذا قلَّت عنده الأساسيات ، بل إذا قلَّت الكماليات ، هذا ليس منه جدوى ، ولا ينفع الأمة في شيء ، هذا الذي لا يستطيع أن يعيش من دون الكماليات ، هذا لا يعتمد عليه ، ولا تنهض أمةٌ هكذا أبناؤها ، بنى النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على الخشونة في العيش ، حتى يبقى الهدف هو الأصل . علَّم أصحابه الوفاء ، كان في بعض الغزوات ، فسأل عن أحدهم ؟ فقالوا : نافق يا رسول الله ، تخلف عنك . فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله - دققوا في هذا الكلام - إنا قد تخلف عنا قومٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولا أطوع لك منهم ، لهم رغبةٌ في الجهاد ونية ، ولو ظنوا يا رسول الله أنك ملاقٍ عدواً ما تخلفوا ، ولكن إنما ظنوا أنها العير .
ما هذا الدفاع ؟! واحد يقول : منافق فلان ، لأنه تخلف عنك ، والثاني يقول : يا رسول الله لقد تخلف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولسنا أطوع لك منهم ، ولهم رغبةٌ في الجهاد ونية ، ولو ظنوا أنك ملاقٍ عدواً ما تخلفوا عنك ، بنى أصحابه بناءً هكذا ، كان أصحابه كالبُنيان المَرْصُوص ، أما كل واحدٍ يتكلَّم على الآخر ، وكل واحدٍ يطعن في الآخر ، وكل واحدٍ يشمت في الآخر ، ما هذا المجتمع الذي انطلق به المسلمون !!
وأقول مرة ثانية وثالثة : لو فهم أصحاب النبي الإسلام كفهمٍ سقيمٍ لنا اليوم ، لما خرج الإسلام من مكة المكرمة .
بناء النبي أصحابه على التضحية والإيثار
:
أيها الأخوة الأكارم ؛ لا أذكر هذه المواقف من أجل أن نستمتع بها ، ولا من أجل أن نطرب لها ، الإنسان يطرب للكمال ، ولكن أذكُرها من أجل أن نعيشها ، من أجل أن يكون المسلم مسلماً حقاً ، من أجل أن نطبِّقها ؛ في بيوتنا ، مع إخوتنا ، مع زملائنا ، مع من هم دوننا في العمل ، من أجل أن نكون قدوةً لهم .
سيدنا سعد - رضي الله عن سعد - حينما أزمع النبي أن يحارب سأل الأنصار لأنهم نصروه ، هم أولى أن يأخذ رأيهم ، فقال له سعد : " يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق ، فأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا نبي الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجلٌ واحد ، صل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وسالم من شئت ، وعاد من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ".
هكذا بنى أصحابه على التضحية والإيثار ، ولماذا نذكر هذا ؟ لأن الأمر يمكن أن يكون كذلك ، ليس هذا مستحيلاً .
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
هذا في مقدور الإنسان أن يكون مسلماً حقاً ، أن يعيش الإسلام في بيته ، وفي عمله ، وفي مركز عمله ، وإذا كان له الولاية على من دونه ، بإمكانه أن يأخذ بيد هؤلاء ؛ بكماله ، وحلمه ، وإنصافه ، وحكمته ، ورحمته ، وبطولته ، وقدوته ، بإمكان أن يأخذ بهم إلى الله عز وجل ، قد تكون في عملك داعيةً وأنت ساكت ، بعملك الإخلاص ، والصدق ، والحكمة، يجعلك داعيةً فعّالاً لا قوّالاً .
يا أخوة الإيمان ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الحوار الذي دار بين هرقل و أبي سفيان :
أيها الأخوة الكرام ؛ وجه النبي عليه الصلاة والسلام دُحْيَةَ الكَلْبِيّ صحابياً جليلاً إلى هرقل مَلِك الروم ، يدعوه فيه إلى الإسلام ، وصدف أن كان في حاضرة هرقل قومٌ من قريش ، على رأسهم أبو سفيان ، فاستدعى هؤلاء القوم في حضرة دُحية الكَلبي ، ودار الحوار بينه وبين أبي سفيان على النحو التالي : ـ قال هرقل : أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ . فقال أبو سفيان : أنا . فقال هرقل : إني سائلٌ هذا الرجل- الآن وجَّه كلامه إلى العرب الذين مع أبي سفيان القرشيين - فإن كذبني فكذبوه . السؤال الأول : كيف حسبه فيكم ؟ قال أبو سفيان : هو فينا ذو حسب . قال : هل كان من آبائه ملك ؟ قال أبو سفيان : لا . قال هرقل هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ . قال : لا . قال : أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : هل هم يزيدون أن ينقصون ؟ قال : بل يزيدون . قال : هل يرتد أحدٌ منهم عن دينه بعد أن دخل فيه ؟ قال : لا . قال : هل قاتلتموه؟ قال : نعم . قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال : الحرب بيننا وبينه سِجال نصيب منه ويصيب منا . قال : هل يَغْدِر ؟ قال : لا ، ونحن منه في مُدَّةٍ لا ندري ما هو صانعٌ فيها . قال هرقل : هل قال هذا القول أحدٌ قبله ؟ قال أبو سفيان : لا . قال هرقل : يا أبا سفيان سألتك عن حسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرُسُل تبعث في أحسب أقوامها ، وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا . فقلت : لو كان في آبائه ملك قلت رجلٌ يطلب مُلك آبائه، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرُسُل عادةً ، وسألتك هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله ، وسألتك هل يرتد أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حين يتم ، وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون العاقبة لهم ، وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك هل قال هذا القول قبله أحدٌ ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان قال هذا أحدٌ قبله ، قلت رجلٌ ائتم بقول من قبله . ثم قال هرقل : بما يأمركم ؟ قال أبو سفيان : يأمر بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. فقال هرقل : إن يك ما تقول حقاً فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ ولم أكن أظنه منكم ، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي هذه .
هذه قصةٌ أثبتتها كُتب التاريخ ، تبين رجاحة عقل هرقل ، وبعد نظره ، والأسئلة الدقيقة التي سألها أبو سفيان .
اللهم اجعلنا من أتباع هذا الرسول العظيم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .