- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الحكمة من عبادة الله عز وجل :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في موضوع العبادة لأن العبادة علَّة وجودنا ، وهدف وجودنا . .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
أيها الأخوة الأحباب ؛ في خطبٍ سابقة تحدثت بفضل الله عز وجل وبتوفيقه عن أن رسالة الإنسان في الوجود هي عبادة الله وحده . ومن تعريفات العبادة : أنها غايةٌ في الخضوع ، مع غاية في الحب ، طاعةٌ طوعية ، أساسها معرفةٌ يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية، طاعة طوعيةٌ ممتزجةٌ بمحبةٍ قلبية ، أساسها معرفةٌ يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
وبيَّنت في خطبٍ سابقة أن العبادة تشمل الدين كله ، وتشمل الحياة كلها ، وتشمل كيان الإنسان كلِّه . ولكن موضوع الخطبة اليوم : لماذا نعبد الله عز وجل ؟ لماذا نعبد الله ؟ أو لماذا فرض الله علينا أن نعبده وحده مع أنه غنيٌ عن عبادتنا ؟ ما الغاية من هذه العبادة المفروضة ؟ هل يعود نفع العبادة علينا نحن أم يعود نفعها على الله عز وجل ؟ هل عبادتنا لله عز وجل ، وخشوعنا له ، ووقوفنا ببابه ، وانقيادنا لأمره ونهيه ، نفع هذا كله يعود علينا نحن المخلوقين ؟ وإن كان كذلك فما حقيقة هذا النفع ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من الثابت أن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه عبادة مَن عبده ، ولا يضره إعراض مَن أعرض عنه ، لا يزيد في ملكه حمدُ الحامدين ، ولا ينقصه جحود الجاحدين ، ونحن الفقراء إلى الله عز وجل ، وهو الغنيُّ الحميد ، وهو الودود الكريم ، وهو البَرُّ لرحيم ، لا يأمرنا إلا بما فيه خيرنا وصلاحنا ، نحن المخلوقين مفتقرون إليه ، واقفون على بابه، مضَّطرون إلى عطائه ، قيامنا به ، رزقنا من عنده ، حياتُنا بأمره .
الله تعالى لا ينفعه حمد الحامدين ولا يضره جحود الجاحدين :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى له حقٌ علينا ، حقه عليه أن نعبده لأنه خلقنا . .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾
ومع ذلك نحن مضَّطرون إليه طواعيةً وقسراً ، لأن الله سبحانه وتعالى هكذا شاءت حكمته أن يخلق الإنسان هلوعاً . .
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ النقطة الأولى : هو أن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه عبادتنا ، ولا يضره إعراضنا عن هذه العبادة ، لا ينفعه حمد الحامدين ، ولا يضره جحود الجاحدين ، ولقد ورد في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول :
(( عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، إن هي أعمالكم أُحصيها عليكم ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد في مُلْكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص في ملكي شيئاً ))
النقطة الأولى : هو أن الله سبحانه وتعالى حينما أمرنا أن نعبده ، أمرنا أن نعبده من أجلنا نحن ، من أجل أن نربح عليه ، لا من أجل أن يربح علينا ، العبودية لله معناها أن خير السيِّد كله للعبد ، بينما عبودية العبد للعبد معناها أن خير العبد كله لسيده ، كن للحق عبداً فعبد الحق حُر .
أيها الأخوة الأكارم ؛ في القرآن الكريم بعض الآيات الكريمة تشير إلى هذا المعنى، يقول الله سبحانه وتعالى على لسان سيدنا سليمان :
﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾
غنيٌ عن شكر عباده له ، كريمٌ لا يعاملهم على عملهم .
آيةٌ أخرى تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى لا ينفعه حمد الحامدين ، ولا يضره جحود الجاحدين ، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾
الحكمة كلّها أن تشكر الله عز وجل .
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾
﴿ غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾
في الآية الأولى غنيٌ عنهم ، ولا يعاملهم بعملهم ، غنيٌ عنهم ولو استغنوا عنه لحمدوه على أفعاله معهم .
آيةٌ ثالثة ، ونحن على مشارف عبادة الحج :
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾
لماذا أمرنا أن نعبده ؟ لماذا فرض علينا الصلوات الخمس ؟ لماذا فرض علينا الصيام ؟ لماذا فرض علينا الحج ؟ لماذا فرض علينا الزكاة ؟ لماذا فرض علينا أن نطيع رسوله عليه الصلاة والسلام ؟ لماذا كان كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ؟ لماذا ؟
سعادة الإنسان و سكينته تتجلى بعبادة الله :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ نقطةٌ ثانية في الخطبة ، الأولى : الله غني ، ولا تنفعه عبادتنا ، ولا يضره ألا نعبده .
النقطة الثانية : من الثابت أن الإنسان جسمٌ ونفس ، فكما أن الجسم يحتاج إلى هواء ، ويحتاج إلى ماء ، ويحتاج إلى غذاء ، كما أن الهواء والماء والغذاء قِوام هذا الجسد ؛ فعبادة الله سبحانه وتعالى غذاءٌ لهذه النفس ، لا يسعد الإنسان ، ولا يطمئن ، ولا يشعر بالسكينة إلا إذا عبد الله عز وجل .
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه النفس حياتها ، وزكاتها ، وسعادتها في القرب من الله ، إما أن تجرِّبوا - ولا أتمنى لكم أن تجربوا - وإما أن تصدقوا . .
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
حياة النفس ، سعادتها ، طمأنينتها ، سكينتها ، استقرارها ، تفاؤلها ، رضاها ، في القرب من الله عز وجل .
شقاؤها ، ضجرها ، قلقها ، ضياعها ، عذابها ، خوفها في البعد عنه . أنت إذا تناولت الطعام والشراب فقد حققت وجود جسدك ، ولكنك إذا عبدت الله عز وجل حققت وجود ذاتك .
صدأ القلوب نتيجة الغفلة والبعد والانغماس في الدنيا :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ بعض الناس تراكمت على نفوسهم المطامع - مطامع المادة - شغلتهم الدنيا فغفلوا عن ربهم جلَّ وعلا ، أحياناً تَهُبُّ عليهم عواصف المِحَن لتزيح الغبار ، أحياناً تندلع بهم نار الشدائد لتجلو الصدأ ، الغفلة ، والبعد ، والانغماس في الدنيا ، والتعلُّق بما هو أرضي هذا يجعل قلوبهم في غفلةٍ عن ربها ، يجعل قلوبهم صدئة . .
(( إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ، قيل : وما جلاؤها ؟ قال : تلاوة القرآن ))
لو أن الإنسان جاءته الدنيا كما يريد ، ولو أنه حقق فيها ما يريد ، وكان بعيداً عن الله عز وجل ، لا يشعر إلا بالضيق ، لا يشعر إلا بالتفاهة ، لا يشعر إلا بالضَياع ، لا يشعر إلا وأن حياته لا معنى لها ، إنه في طريقٍ ينتهي بالموت ، ينتهي بفقد كلِّ شيء ، هذا وحده يشقي الإنسان ، يسعى ويسعى فإذا أبلغ أوجه ، جاءه مَلَك الموت ، وقال له : تفضل معي. إلى أين ؟ إلى حفرةٍ تحت الأرض .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أصعب شيءٍ أن يسير الإنسان في طريق مسدود ، وأصعب من الطريق المسدود أن يسير في طريقٍ ينتهي بهاوية ، ومن أعرض عن ذكر الله ، وترك عبادة الله ، فهو في طريق الهاوية ، فهو في طريقٍ أقلُّ ما يقال فيه إنه ينتهي بفقد كل شيء ، في ثانيةٍ واحدة ، ما جمعه في عمرٍ مديد يفقده في ثانية واحدة ، أما الذي عرف الله قبل فوات الأوان ، في الوقت المناسب . .
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
فالشَيْب هو النذير .
(( عبدي شاب شعرك ، وضعف بصرك ، وانحنى ظهرك ، وضعفت قوتك ، فاستح مني فأنا أستحي منك ))
الشيب هو النذير ، والقرآن هو النذير ، والنبي عليه الصلاة والسلام بسنَّته التي نُقِلَت عنه هو النذير ، والمصائب هي النذير ، وموت الأقارب مِنَ النذير ، وسِنّ الستين مِنَ النذير .
الإيمان بالله عز وجل جزء من البنية النفسية للإنسان :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ طبيعة النفس لا تركن إلا بالله ، لا تستريح إلا إذا أطاعت الله عز وجل ، الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، قد تتراكم الهموم ، قد تنطَمِس البصيرة، فتأتي الشدائد فتوقظ الإنسان من غفلته .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه المعاني أشارت إليها آيةٌ كريمة في سورة يونس، الآية الثانية و العشرون ، الإنسان في فطرته ، في بُنيته النفسيَّة ، في أعمق أعماقه ، في عقله الباطن مؤمنٌ بالله ، فإذا جاء في حياته ما يشوِّه هذه الفِطْرَة شعر بالقلق ، فإذا عاد إلى فطرته شعر بالراحة ، يقول الله عز وجل :
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾
في السفينة . .
﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾
عندئذٍ :
﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾
ما من مخلوقٍ مسلمٍ أو كافر ، مؤمنٍ بوجود الله أو جاحدٍ بوجوده ، إذا جاءته الشدَّة ، وأحيط به يدعو الله وحده ، وكأن في فطرته أن الإيمان بالله عز وجل جزءٌ أساسيٌ من بُنْيَتِهِ النفسية .
لذلك ثبت عند العلماء أن قلب الإنسان دائم الشعور بالحاجة إلى الله ، وأن فراغ الإنسان لا يمله إلا الله ، وأن سعادة الإنسان في إحكام الصلة بالله ، أنت بدافعٍ من فطرتك ، بدافعٍ من حبك لذاتك ، بدافعٍ من سَعْيِكَ لسلامتك ، بدافع من سعيك لبقاء وجودك ، بدافعٍ من سعيك لكمال وجودك يجب أن تعبد الله عز وجل .
فقر القلب إلى الله من جهتين :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيء آخر في هذا الموضوع : بعض العلماء الأجلاء يقول في هذا الموضوع : القلب فقيرٌ بالذات إلى الله عز وجل من جهتين ، من جهة العبادة ، ومن جهة الاستعانة والتوكُّل ، ما من إنسانٍ إلا والأخطار تحيط به من كل جانب ، أنت إذا استيقظت صباح كل يوم ؛ استيقظت لأن جميع الأجهزة تعمل بانتظام ، عشرات الأجهزة ، عشرات النُسُج ، عشرات الغُدَد ، عشرات الأعضاء تعمل بأكمل وضع ، وأيّ عضوٍ مهما بدا لك جليلاً أو مهما بدا لك حقيراً ، مهما بدا لك كبيراً ، أو مهما بدا لك صغيراً ، إذا تعطَّل عن وظيفته شعر الإنسان بأن حياته جحيمٌ لا يطاق ، فأنت مفتقر إلى الله عز وجل .
من بيده قلبك ؟ من بيده شرايينك ؟ من بيده ضغطك ؟ من بيده كليتاك ؟ من بيده جهاز الهضم ؟ من بيده الكبد ؟ من بيده الدماغ ؟ من بيده الأعصاب ؟ فإذا لم تعبد الله عز وجل شعرت بالخطر ، فإذا عبدته شعرت بالأمن والراحة ، فأنت فقيرٌ بالذات إلى الله عز وجل مِن جهتين ، من جهة العبادة ومن جهة الاستعانة بالتوكل . فالقلب كما قال بعض العلماء لا يصلح ، ولا يفلح ، ولا ينعم ، ولا يُسَرُّ ، ولا يتلذذ ، ولا يطيب إلا بعبادة ربه وحده ، وحبه له، والإنابة إليه - دققوا فيما أقول- ولو حصَّل له كل اللذائذ بالمخلوقات لم يطمئن ، ولم يسكن ، إذ فيه فقرٌ ذاتيّ إلى ربه ، لو تنعَّم بكل المخلوقات ، لو أتاح له دخله أن يأكل ما يشتهي ، وأن يذهب إلى أي مكانٍ يشتهي ، لو تنعَّم بكل المخلوقات في قلبه فقرٌ أصيلٌ إلى ربه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لأن الله معبوده ، ومحبوبه ، ومطلوبه ، فإذا عبده وأحبه وطلبه ، شعر بالفرح والسرور ، وشعر باللَّذة والنِعمة ، وشعر بالسكون والطمأنينة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا لا يحصل إلا بمعونة الله أيضاً ، من هنا قال الله عز وجل في سورة الفاتحة التي نقرأها في اليوم أكثر من خمسين مرة :
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
تستعين على عبادته به ، لك أن تطلب أن تعبده ، لك أن تُصِرَّ على طلب عبادته ، لك أن تتمنَّى أن تعبده ، وبعد ذلك ربنا سبحانه وتعالى يعطيك سؤلك .
إخلاص العبودية لله تهدي إلى سرّ الوجود :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لو أن الله سبحانه وتعالى أعان العبد على تحصيل كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ، ولم تحصل له عبادةٌ له عز وجل ، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب .
الأدلة النقلية كثيرة ، والأدلة الواقعية كثيرة ، والأدلة العقلية كثيرة ، لا تسعد إلا بالله . .
إلى متى وأنت باللذات مشــغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
* * *
فلو شاهدت عيناك من حســـننا الـذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
* * *
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كلما أخلص المَرْءُ العبودية لله عز وجل وجد نفسه ، واهتدى إلى سرّ وجوده ، من هو الضائع ؟ نقول : فلان في ضياع ، فلان ضائع أيْ لا يعرف لماذا خلق ، لم يهتد إلى سرّ وجوده ، هو كالناقة حبسها أهلها ثم أطلقوها ، فلا تدري لا لِمَ عقلت ولا لِمَ أطلقت ؟
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الذي نتحدَّث عنه سمَّاه النبي عليه الصلاة والسلام حلاوة الإيمان .
(( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا ))
أطيب ما في الدنيا معرفة الله ومحبَّته :
شيءٌ آخر في هذا الموضوع : إنه لا شيء - كما قال بعض العلماء - أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها ، فهو إلهها ومعبودها ، ووليها ومولاها ، وربها ومدبرها ورازقها ، ومميتها ومحييها ، فمحبته نعيمٌ للنفوس ، وحياةٌ للأرواح ، وسرورٌ للقلوب ، ونورٌ للعقول ، وقرةٌ للعيون ، وعمارةٌ للباطن .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ليس عند القلوب السليمة ، والأرواح الطيبة ، والعقول الذكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من محبة الله عز وجل ، والشوق إلى لقائه ، والحياة التي يجدها المؤمن بالإقبال على ربه تفوق كل نعيم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول بعضهم العارفين بالله : إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ يقول فيها : إذا كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم إنهم لفي عيش طيب .
يقول بعضهم الآخر : إنه ليمر بقلب الإنسان وقتٌ يهتز فيه طرباً بأنسه بالله عز وجل ، وحبه له .
قال بعضهم : مساكين أهل الغفلة ، لأنهم خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ـ أكلوا ، وشربوا ، وتزوجوا ، وذهبوا إلى النُزُهات ، وأكلوا ألذ الطعام ، وتلذذوا بما أباح الله لهم ، ولكنهم مساكين ، لكنهم لم يتذوقوا أطيب ما في الدنيا ، فقيل : يا رجل وما أطيب ما فيها؟ قال : محبة الله والأنس به .
قال بعضهم الآخر : أطيب ما في الدنيا معرفة الله ومحبَّته ، وأطيب ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه . .
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
أهل جهنَّم ، وهم يتعذبون فيها ، فوق عذابهم الجسدي :
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
والذي قال : والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
موضوع الخطبة كله حول أن النفس غذاؤها عبادة الله عز وجل ، غذاؤها محبته، غذاؤها طاعتها له ، غذاؤها الإقبال عليه ، غذاؤها العيش في ظله ، غذاؤها التوكل عليه ، هذا غذاء النفس ، إذا كان الهواء ، والماء ، والغذاء من ضرورات الجسد ، فالإقبال على الله ومحبته وطاعته من ضرورات النفس .
محبة الله تغني الإنسان عن كل شيء :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ أخير يتعلَّق بالمحبة : هذه المحبة التي قلتها لكم هي كلامٌ بكلام ، فرقٌ كبير بين أن تقولها ، وبين أن تسمعها ، وبين أن تذوقها ، فرقٌ شاسع قل: ألف مليون . بين أن تقول هذا الرقم وبين أن تملكه بونٌ شاسعٌ جداً ، كل إنسان مهما افتقر بإمكانه أن يقول : ألف مليون . بين أن تقول هذا الرقم ، وبين أن تملكه فعلاً . لذلك المحبة تُدَّعى ، قد يخوض الإنسان بحار الهوى ولم تبتل قدماه . . وخاضوا بحار الهوى دعوى وما ابتلوا . فالمشكلة ليست في سماع هذه الكلمات ولا في أن أقولها لكم أنا أيضاً ، المشكلة هل قلب أحدنا في مستوى هذه المحبة ؟
بحسب قوة محبته لله ، وبحسب إدراك جمال محبوبه ، يشعر بهذه الأحاسيس ، يجب أن يقول الإنسان : ليس في الأرض من هو أسعد مني - إذا كان محباً لله ، ولو أن الناس كلَّهم تفوقوا عليه في المادة - إلا أن يكون أتقى مني . هل تصرخ أحياناً وتقول : ليس في الأرض من هو أسعد مني ؟ إذا كنت متَّصلاً بالله حقيقةً فأنت تستغني بهذه الصلة عن كل شيء ، تغنيك عن كل شيء .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من كان بالله ؛ بأسمائه وصفاته أعرف ، وفيه أرغب، وله أحب ، وإليه أقرب وجد هذه الحلاوة في قلبه ، بحيث لا يمكنه التعبير عنها ، ومتى ذاق القلب ذلك لا يمكن أن يقدِّم حباً على هذا الحب ، هذا الذي يطيع امرأته ويعصي ربه ، يحبها أكثر من ربه ، هذا الذي يطيع من هو فوقه ويعصي ربه ، يطيع الذي فوقه أكثر من ربه ، هذا الذي يستجيب لشهوته التي لا تُرضي الله ، يحب قضاء شهوته أكثر من حبه لله ، فالكلام سهل، ولكن البطولة أن تكون في مستوى هذا الكلام .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإمام الغزالي يقول : " من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها ، وثقل عليه الاشتغال بغيرها "فالكمال محبوب ، الإنسان إذا استنار قلبه بالله ، وشرف لسانه بذكر الله ، وتجمَّلت أعضاؤه بخدمة عباد الله ، هذا الإنسان يُحِسُّ بأتمّ أنواع السعادة ، لأن هذا هو أكمل أوضاع الإنسان ، أكمل أوضاعك أن تشتغل بمعرفة الله ، وأن ينطق لسانك بذِكْرِه ، وأن تتجمل أعضاؤك بخدمة خلقه ، إذا شعرت بهذا الشعور فأنت أسعد الناس .
العبادة أمانة :
شيءٌ آخر . . العبادة أيها الأخوة أمانة :
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾
إذا أدَّيت الأمانة فالله سبحانه وتعالى لابد من أن يقابلك ، روى بعض الصحابة أن أعرابياً أتى باب المسجد ، فنزل عن ناقته ، ودخل المسجد ، وصلّى بسكينة ووقار ، ودعا بما شاء ، فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد ناقته . فقال : يا رب أدَّيت أمانتك فأين أمانتي ؟
فقال الراوي : فزدنا تَعَجُّباً ، فلم يلبث أن جاء رجلٌ على ناقته وسلم النَّاقة إليه ، فقال أحد أصحاب رسول الله : إنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته . وهذا المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه :
(( يا غلام احفظ الله يحفظك . ..))