- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا .
الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
مَن توكَّل على غير الله ذَل ، ومَن توكل على ماله ضل ، أما مَن توكَّل عليك يا رب فلا ذل ، ولا ضلَّ ، ولا اختل .
وإذا قال العبد : يا رب لقد أذنبت .. قال الله عزَّ وجل : وأنا قد سَتَرت .
وإذا قال العبد : يا رب لقد تبت .. قال الله عزَّ وجل : وأنا قد قبلت .
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له .
القائل في كتابه العزيز :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾
و ..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، الذي قال :
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((كل أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أبى . فقالوا : يا رسول الله ومَن يأبى؟! قال : مَن أطاعني دخل الجنة ، ومَن عصاني فقد أبى ))
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين ، الهُداة المهديِّن ، الذين كانوا علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
اللهم نسألك علماً نافعاً ، وقلباً خاشعاً ، ولساناً ذاكراً ، وعملاً مُتَقبَّلاً ، والفوز مِن كل بِر ، والنجاة مِن كل إثم ، ونسألك حبك ، وحب مَن يحبك ، وحب عملٍ صالحٍ يقرِّبنا إلى حبك .
علامة الإيمان الاستقامة على أوامر الله
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في أواخر سورة يوسف قول الله عزَّ وجل :
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى الخبير بأعمالنا ، الخبير باتجاهاتنا يقول :
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾
فمَن كان مع أكثر الناس لم يكن مؤمناً ، يجب أن تكون مع القِلَّة التي تُعْرَف بصلاحها .
(( بدأ الدين غريباً وسيعود كما بدأ ، فطوبى للغرباء ))
يجب أن تكون مع القِلَّة الورعة ، مع القلة المؤمنة الطائعة ، مع القلة المؤمنة الموحِّدة ، مع القلَّة المؤمنة الخاشعة ، مع القلة المؤمنة الداعية .
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾
إيمانهم لا يكفي ، لقوله تعالى :
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾
فالإيمان مستويات ، بعض مستوياته لا يكفي ، لا يُنَجِّي صاحبه من النار ، بعض مستوياته لا يحجزه عن محارم الله .
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة . قالوا : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ))
عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( عظني وأوجز . قال : قل آمنت بالله ثم استقم ))
الإيمان الذي يَحْمِلك على الاستقامة هو الإيمان المقبول .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾
علامة صحَّة الإيمان استقامة العمل وصلاحه ، فالإيمان الذي لا يحْمِلك على تَرك المَخالفات ، ولا على فعل الصالحات ، هذا الإيمان لا يكفي ، لا يكفي ، لا يكفي .
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾
ذلك الإيمان المُجْدي ، ذلك الإيمان المُثْمِر ، ذلك الإيمان الذي عَرَّفه النبي عليه الصلاة والسلام ؛ شيءٌ وقر في القلب ، وأقرَّ به اللسان ، وصدَّقه العمل .
ليس الإيمان بالتمني وبالتحلي ، أن تقول : ليتنا ندخل الجنة ، ليس هذا إيماناً ، هذا تمنِّي ، وعظام الأمور لا تكون بالتمنِّي بل بالسعيّ .
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾
لها سعيٌ خاص ، لو أن الله سبحانه وتعالى قال : ومَن أراد الآخرة وسعى لها ، أيُّ سعيٍ يكفي ، لكن :
﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾
لها سعيٌ ، لها شروطٌ دقيقةٌ دقيقة ، لن تصل إليها إلا إذا توافَرَت هذه الشروط .
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾
ليس الإيمان بالتحلي ، أن تضع آياتٍ في بيتك ، أن تضع آيةً في مدخل محلّك التجاري ، أن تعلِّق مصحفاً في سيارتك .
ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولا أن يكون في بيتك مكتبةٌ إسلاميةٌ عامرة ، ولا أن تلبس ثياباً إسلامياً يوم الجمعة ، ولا أن تقلِّد المسلمين في مظاهر حياتهم ، ولكن الإيمان ما وقر في القلب ، وأقرَّ به اللسان ، وصدَّقه العمل ، ذاق طعم الإيمان ، الإيمان يذوقه الإنسان .
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا ))
من علامة الإيمان أن يكره أحدنا أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار .
﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
ما أكثر الآيات التي بثَّها الله في السماوات والأرض ، كلما تحرَّكت حركة ، حيثما وَقَعَت عينك تقع على آيةٍ لله عزَّ وجل ؛ دالَّةٍ على عظمته ، دالَّةٍ على أسمائه الحسنى ، دالةٍ على أن بعد الحياة موتاً ، وبعد الموت حساباً ، وبعد الحساب جنَّةٌ ونار أبديَّتين .
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾
آية النبات ، هل فكرت فيها ؟ بذرةٌ لا تُرى بالعَيْن تصبح شجرة ، من التراب تأكل ألذَّ الثمار ، مِن الحشيش الأخضر تشرب لبناً سائغاً للشاربين ، من خشاش الأرض تقدِّم لك الدجاجة بيضةً كاملة الغذاء ، من البحر الأُجاج تشرب ماءً عذباً فراتاً ، مِن نطفةٍ لا تُرى بالعين تصبح طفلاً سويَّاً ؛ يتحرك ويتكلَّم ، ويحفظ ، ويهضم الطعام ، أجهزةٌ ، وعضلاتٌ ، وعظامٌ ، وأعصابٌ ، وشرايين ، وأوردة .
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَن علَّق تميمةً فقد أشرك ))
هذا الذي يعلِّق حافراً على مركبته ، لئلا تصاب بالعين ، فقد أشرك ، هذا الذي يتطيَّر من ردَّته كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَن ردَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ))
تشاءم مِن يوم ، أو تشاءم من إنسان ، أو تشاءم من رَقَم .
(( من ردَّته الطيرة - أي التشاؤم - عن حاجته فقد أشرك ))
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
(( الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ))
شركٌ موسَّع ، وشركٌ دقيق . الإمام الحَسَن رضي الله عنه قال : " الشرك هو النفاق ، والنفاق هو الشرك " .
﴿ أَفَأَمِنُوا﴾
هؤلاء غير المؤمنين ، وهؤلاء المشركون .
﴿ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
الغافل ماذا ينتظره ؟
المُعْرِض ماذا ينتظر ؟
المقطوع عن الله عزَّ وجل ما الذي أمامه ؟
أمامه غاشيةٌ من عذاب الله ، أو الساعة ، ساعة الموت ، إما مصيبةٌ قبل الموت ، أو موتٌ مجهز ، لذلك :
(( بادروا بالأعمال سبعاً ؛ فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غنىً مطغياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو مرضاً مفنِّداً ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجَّال فشر غائبٍ ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر ))
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾
علامة المُتَّبِع لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه يدعوك على بصيرة .
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ))
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه الآيات في أواخر السوَر نوعٌ من أنواع التلخيص ، سورةٌ طويلة ؛ فيها قِصَص ، وفيها آيات ، وفيها مواعظ ، وفيها مشاهد ، وفيها دعوةٌ للإيمان ، وتنتهي السورة بآياتٍ تلخِّص فحوى السورة كلها .
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع السُنَّة المطهرَّة . كلنا يصلي ، لاشكَّ في هذا ، ولكن شتَّان بين صلاةٍ وصلاة .
ركعتان لا تعدلان عند الله جناح بعوضة ، ركعتان تلفَّان كما يلف الثوب الخلق ويضرب بهما وجه صاحبهما ، وركعتان تعدلان عند الله ألف ركعة .
ما هما هاتان الركعتان التي أخبر عنهما النبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
(( ركعتان من عالِم أفضل من سبعين ركعةً من غير العالِم ))
لابدَّ من أن تكون عالِماً ، ليس في الإسلام طبقة اسمها طبقة رجال الدين ، كل واحدٍ منكم يجب أن يكون عالماً .
(( ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه ))
(( وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله ))
إذا خشيت الله فأنت عالم بنوعٍ من أنواع العلم ، هذا الذي يقود سيارةً ، ويحرص على سلامة مُحَرِّكها ، فإذا تألَّق ضوءٌ أحمر ، توقَّف فجأةً ، وأضاف زيتاً للمحرك ، هذا السائق على علم بخصائص هذا المحرك ، أما الذي يحمل شهادة عُلْيا في ميكانيك السيارات ، ولا ينتبه لهذا الضوء ، ويحرق المحرك ، على علمه النظري ؛ هذا جاهلٌ ، وجاهلٌ ، وجاهل .
وهناك تعريفٌ للعلم آخر : إذا حصَّنت نفسك من المساوئ ، وحفظت نفسك من المعاصي ، فهذا نوعٌ من العلم ، وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله .
(( ركعتان من عالِم أفضل من سبعين ركعةً من غير العالِم ))
(( كن عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً ولا تكن الرابعة فتهلك ))
(( إن الله عالمٌ يحب كل عالم ))
(( وركعتان من رجلٍ ورع أفضل من ألف ركعةٍ من مخلِّط ))
والمُخَلِّط هو الذي خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
(( وركعتان في جوف الليل يكفِّران الخطايا ))
(( وركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها ))
(( وركعتان من المتأهِّل خيرٌ من اثنتين وثمانين ركعة من العزب ))
أي غير المتأهل . وفي هذا الحديث حَضٌ من النبي عليه الصلاة والسلام على الزواج .
(( من تزوج فقد ملك نصف دينه فليتقِ الله في النصف الآخر ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ليست كل ركعتين ركعتين ، شتان بين ركعتين وركعتين ، ركعتان مِن عالم ، وركعتان مِن رجل وَرِع ، وركعتان في جَوْف الليل ، وركعتا الفجر ، وركعتان من مُتَأَهِّل ، هذه الركعات الثُنائيَّة أفضل عند الله عزَّ وجل من سبعين ، إلى ألف ، إلى اثنتين وثمانين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أبو جهلٍ معروفٌ لديكم ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام في أول عهد الرسالة ، طرق بيته ، ففتحت ابنته فاطمة رضي الله عنها ، وكانت طفلةً صغيرة .
فقال : أين أبوكِ ؟
قالت : لا أدري ، فلطمها على وجهها .
ودخل أبو سفيان فرآها تبكي .
فقال : يا بنت محمد ما يبكيك ؟
قالت : أبو جهلٍ لطمني على وجهي .
فحمل أبو سفيان فاطمة بنت محمد ، وكانت صغيرةً جداً ، على كتفه ، وتوجَّه إلى بيت أبي جهل وقال : أضربت بنت محمد ؟ اضربيه كما ضربكِ .
وفي المساء لقيت أباها عليه الصلاة والسلام ، وحدَّثته بما جرى ، هنا موطن الشاهد ـ رفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه إلى السماء وقال :
(( يا رب لا تضيِّع عمل أبي سفيان ))
وفي روايةٍ :
(( يا رب لا تنسها لأبي سفيان ))
هذا العمل البسيط الذي يأخذ على شكل دُعابة ، هذا العمل البسيط
(( لا تنسها لأبي سفيان ))
النبي عليه الصلاة والسلام تزوَّج بنت أبي سفيان ، ولما جاء أبو سفيان إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام جلس على فِراش رسول الله ..
فقالت له : قم يا أبا سفيان عن هذا الفراش ، عجب أشد العجب ، أنا أبوكِ ما الذي حدث ؟
قال : ما حدث يا أم حبيبة ، أبخلت بالفراش عليّ ، أم بخلتي عني بالفراش ؟!!
قالت : والله لا يجلس عدو الله على فراش حبيب الله .
وحينما فُتِحَت مكة ، أقبل النبي عليه الصلاة والسلام على أبي سفيان ، وقال له :
(( يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أنه لا إله إلا الله ؟))
أي :
إلى متى أنت في المعاصي تســير مُرْخى لك العنانُ ؟
* * *
أيا غافلاً تبـدي الإســـاءة والجهلا
متى تشكر المولى على كل ما أولى ؟
عليك أياديه الكرام وأنت لا تراها
كأن العـيـن حـولاء أو عـمـيـا
لأنت كمزكومٍ حوى المسك جيبه
ولـكنه المحروم ما شـمَّه أصلا
* * *
(( إلى متى يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أنه لا إله إلا الله ؟ ))
فنظر أبو سفيان في النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
با ابن أخي ما أعقلك ، وما أكرمك ، وما أحلمك ، وما أوصلك .
علاقةٌ مع النبي دامت قرابةً من ثلاثةٍ وعشرين عاماً ، ملخَّصها :
أن يا محمد ما أعقلك ، وما أكرمك ، وما أحلمك ، وما أوصلك .
ثم قال هذه الكلمة الشهيرة :
لو كان معه آلهةٌ أخرى لنصرتنا عليه ، أشهد أن لا إله إلا الله .
ثم قال له النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أو ما آن لك أن تشهد أني رسول الله ؟ ))
قال :
أما هذه ففي النفس منها شيء .
قال : تعال غداً .
في صبيحة الغد جاء أبو سفيان ..
وقال : أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
فالعباس عم النبي قال : يا رسول الله ، إن أبا سفيان يحب الفخر في قومه فاجعل له شيئاً .
عندها قال عليه الصلاة والسلام :
(( من دخل البيت الحرام فهو آمن ، ومن دخل بيته فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ))
عودٌ على بدء ، هذا الموقف الأخلاقي الذي فعله في الجاهلية ، حينما رَقَّ لابنة محمدٍ وحملها على كتفه ، وأخذها إلى دار أبي جهلٍ ، وعاتبه على ضربه إيَّاها ، وقال لها جبراً لخاطرها : " اضربيه كما ضربكِ " . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : " لا تنسها يا رب لأبي سفيان " .
هذه الحادثة تصاعدت حتى حملته على الإسلام في آخر حياته ، لكنه إسلامٌ ضعيف ، وقف ساعاتٍ طويلة أمام دار عمر ، فلم يؤذن له ، وبلال وصهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان ، فلما دخل عليه .
قال : سيد قريش يقف في بابك ساعات ، وبلال وصهيب يدخلان بلا استئذان ؟!
قال : " أنت مثلهما ؟ " . هذا كان جواب عمر ، شتان بينك وبينهما.
أيها الإخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخُلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إبداع الله بخلق الحوت
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مِن آيات الله الدالَّة على عظمته هذه الحيتان التي تجوب المُحيطات ، الشيء الذي يلفت النظر أن من تقدير بعض العلماء لعددها ، في بعض الأوقات أنها تزيد عن مئة وخمسين ألف حوت ، من نوعٍ واحد وهو الحوت الأزرق ، وهذا الحوت الذي يزن مئةً وثلاثين طناً ، ويبلغ طوله خمسةً وثلاثين متراً .
فلو ضربت وزن هذا الحوت بعدد الحيتان ، لكان الرقم مذهلاً ، ولو قُسِّم على أهل الأرض ، لأصاب كل إنسان من الستة آلاف مليون أربعة كيلو غرامات في كل عام .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا الحوت يولد ولادة ، فبينما ترى جنينه في رحمه لا يزيد عن واحد سنتيمتر ، حين الولادة يصل طوله إلى سبعة أمتار ، ويزن طنَّين .
الحوت يستطيع أن يبقى في البحر أكثر مِن ثلاثين دقيقة ، كيف أن الإنسان لا يستطيع أن يبقى بلا تنفُّس أكثر من ثلاث دقائق ، قال : لأن طريقة بناء جسم الحوت ، تجعل هذا الأكسجين الذي استنشقه خزَّن في عضلاته ، وفي دمه ، وفي أنسجته ، وعشرة في المئة يخزن في رئتيه.
وكيف يجوب هذا الحوت الكرة الأرضية في البحار ، طبعاً من الشمال إلى الجنوب ، يذهب إلى القطبين ويعود إلى خط الاستواء ، وتعلمون أن هناك فروقاً كبيرةً في درجات الحرارة ؟
قال : إن طبقةً من الدهن تقيه من البرد ، تصل سماكتها إلى المتر، فإذا توجه نحو خط الاستواء ، قلت هذه الكميات الدهنية إلى النصف تقريباً حيث المياه الدافئة .
والحوت أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا يشبع بوجبةٍ أقلَّ من أربعة طن، أي ليسند بها معدته كما يقولون ، هذا الحيوان الكبير ، لو نظرت إلى أحواض السمك ، إلى أسماك صغيرة فيها من الأجهزة ما في الحوت ، ولكن على شكلٍ مصغَّر . فتبارك الله الخلاق لما يشاء .
هذه آيةٌ من آيات الله ، أي أن البحر وما فيه من حيوانات ، تزيد أنواعها عن المليون ، في البحر ما يزيد عن مليون نوع من السمك ، هذه كلها خُلِقَت لنا .
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾
الله سبحانه وتعالى خلق هذه الآيات لوظيفتين ، الوظيفة الأولى : وظيفة دلالية ، والثانية : دنيوية .
﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ﴾
في كل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل تذكرة ومتاع .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، واقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنَّتك ، ومن اليقين ما تهِّون به علينا مصائب الدنيا .
ومتِّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا ، وانصرنا على مَن عادنا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا مَن لا يخافك ولا يرحمنا .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
اللهم كما هديتنا للإسلام فثبِّتنا عليه ، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً ، واهدنا لصالح الأعمال لا يَهدي لصالحها إلا أنت .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .