- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
حقيقة الدين:
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾
حقيقة الدين : أن تستسلم لله ربِّ العالمين ، أن تنقاد له في كل أفعالك ، في كل أقوالك ، في كل تصرُّفاتك ، في كل مواقفك ، حقيقة الدين ..
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ ﴾
جوهر الأديان الإسلام .
ماذا يعني ؟ أن تكون مسلماً لله عز وجل ، فجميع الأديان جوهرها الإسلام ، وجميع الرسالات جوهرها الإسلام ، وجميع النبيين مسلمون ، وإليكم الأدلة :
﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ﴾
إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام :
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾
سيدنا إبراهيم وإسماعيل :
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
الحواريون ، أصحاب سيدنا عيسى كانوا مسلمين ..
﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾
سيدنا نوح كان مسلماً ..
﴿ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
سيدنا موسى :
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
لكن بعد فوات الأوان ، الآن !!
سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام :
﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾
إذاً :
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾
حقيقة الدين ، جوهر الدين ؛ أن تنقاد إلى الله جل وعلا في أعمالك ، وأقوالك ، ومواقفك ، وتصرُّفاتك ، ومشاعرك ، هذا هو الدين.
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾
فالديانات كلّها فحواها الإسلام ، والأنبياء كلهم مسلمون ..
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾
﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾
﴿ فَمَنْ أَسْلَمَ ﴾
الجن ..
﴿ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ﴾
﴿ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ﴾
المخلوقات كلها ..
﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
الهدى أن تكون مسلماً ..
﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾
النبيون جميعاً مسلمون ، والدليل ، دليلٌ جامع بعد أن أتينا بالأدلة الفرعية
﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾
﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾
أي أن هذه الآيات التي بثَّها الله في الكون لعلكم تسلمون .
﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
﴿ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
خالق السماوات والأرض يقول :
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾
من أشد ظلماً ، وخسارةً ، وهلاكاً :
﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ﴾
خلاصة حقيقة الإسلام :
أيها الإخوة الأكارم ؛ أردت من هذه الآيات أن أؤكد لكم أن حقيقة الدين أن تستسلم لله رب العالمين ، أن تنقاد له كُلِّياً ؛ بكل أعمالك، بكل أفعالك ، بكل تصرفاتك ، بكل مشاعرك ، بكل مواقفك ، بكل أقوالك، هذا هو الدين .
فيا أيها الأخ الكريم ؛ لا ينبغي أن تظن نفسك مسلماً إذا كنت منتمياً إلى المسلمين انتماءً شكلياً ، وفق هذه الآيات لا ينبغي أن تسمّى نفسك مسلماً إلا إذا كنت منقاداً لأوامر الله سبحانه وتعالى ، صغيرها وكبيرها .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ روي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( النادم ينتظر التوبة ، والمعجب ينتظر المقت ))
النادم ينتظر من الله الرحمة ؛ أي أن هذا الذي يُقَصِّر ، أو يسهو ، أو يقع في مخالفة ، ويندم عليها أشد الندم ، يلوم نفسه ..
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾
النادم ينتظر من الله الرحمة ، والمعجب بنفسه ، على أنه يعصي الله ، يزهو بها ، يستعلي بها على الناس ، ينتظر مِن الله المَقْت ، واعلموا عباد الله أن كل عاملٍ سيقدم على عمله ، سوف تجده أمامك حينما تساق إلى الله عز وجل ، لا رفيق سواه ، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حُسن عمله وسوء عمله ، وإنما الأعمال بخواتيمها ، والليل والنهار مطيّتان ، فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة ، واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتةً ، واحذروا التسويف ، أن تقول : سوف أفعل كذا ، غداً أتوب ، على أول الصيف أبدأ بالصلاة ، بعد انتهاء الامتحان أتوب إلى الله ، بعد أن أتزوَّج أقلع عن المخالفات ، ولا يغترَّن أحدكم بحِلْم الله عز وجل ، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم مِن شِراك نعله . قال تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
النادم ينتظر مِن الله الرحمة ، والمعجب ينتظر من الله المَقْت ، واعلموا عباد الله أن كل عاملٍ سيقدُم على عمله ، ولا يخرج مِن الدنيا حتى يرى حُسن عمله وسوء عمله ، وإنما الأعمال بخواتيمها ، والليل والنهار مطيّتان ، فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة ، واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتةً ، ولا يغترَّن أحدكم بحِلم الله عز وجل ، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم مِن شراك نعله ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ أردت من هذا الحديث الشريف أن أبيّن لكم أن قوام الرجل عمله ، فمَن كان عمله كريماً أكرمه الله ، ومَن كان عمله لئيماً أسلمه الله ، وإن العمل يدفن معك وأنت ميّت ، وتدفن معه وهو حي ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، وأن كل إنسانٍ إذا قَدِمَ على الدار الآخرة فإن عمله أمامه ، وإن الله سبحانه وتعالى يُلْبِسُهُ ثوباً مِن عمله ، فإما أن يكون وجهه نضراً ..
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
وإما أن تكون الوجوه مسودَّةً عليها غبرة .
أيها الإخوة الأكارم ؛ يقول سـيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه ، دققوا في هذا القول :
من حمل ذنبه على الله فقد فجر .
مَن قال : الله عز وجل قدر عليّ هذا ، هو الذي قدر علي هذه المعصية ، هو الذي وضعني في هذا الظرف ، هو الذي شاء لي أن أفعل هذا .
من حمل ذنبه على الله فقد فجر ، إن الله تعالى لا يُطاع استكراهاً ، ولا يعصى بغَلَبَة ، فإن عمل الناس بالطاعة لم يَحُل بينهم وبين ما عملوا ، لن يمنعهم من الطاعة ، وإن عملوا بالمعصية ، فليس هو الذي أجبرهم عليها ، ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزاً في القُدْرَة ، فإن عملوا بالطاعة فله المِنَّةُ والفَضل ، وإن عملوا بالمعصية فله الحُجَّة عليهم .
الإمام الحسن رضي الله عنه يقول :
من حمل ذنبه على الله فقد فجر ، إن الله تعالى لا يطاع استكراهاً ، ولا يعصى بغلبة ، فإن عمل الناس بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا ، وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم على المعصية ، ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزاً في القدرة ، فإن عملوا بالطاعة فله المنة والفضل عليهم ، وإن عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم .
أيها الإخوة الأكارم ؛ لا أريد أن أطيل عليكم ، ففي الخطبة السابقة لفت نظري بعض الإخوة الأكارم إلى أن أناساً أصيبوا بالبرد وهم في صحن المسجد ، فسأختصر ما أمكنني الاختصار .
قصة هاشم الأصم مع البلخي :
هاشم الأصم كان مِن أصحاب شقيق البَلْخِيّ رحمه الله ، فسأله يوماً :
يا هاشم صاحبتني ثلاثين سنةً فماذا حصلت فيها ؟
قال : حصلت فيها ثماني فوائد من العلم وهي تكفيني لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها .
قال : وما هي ؟
قال هاشم الأصم :
الفائدة الأولى :
إني نظرت إلى الخلق لكل منهم محبوباً يحبه ويعشقه ، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبه إلى مرض الموت ، والبعض الآخر إلى شفير القبر ، ثم يرجع هؤلاء جميعاً ، ويتركونه وحده فريداً وحيداً ، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد ، فتفكرت وقلت : أفضل محبوب المرء ما يدخل معه قبره ، ويؤنسه فيه ، فما وجدته في غير الأعمال الصالحة ، فاتخذتها محبوباً لي ، لتكون لي سراجاً في قبري ، ومؤنساً لي ، ولا أبقى بدونها وحيداً .
الفائدة الثانية :
فإني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم ، ويتبادرون إلى مراد أنفسهم ، فتأملت قوله تعالى :
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
فتيقَّنت أن القرآن حق صادقٌ ، فبادرت إلى خلاف نفسي ، وتشمَّرت بمجاهدتها ، وما متَّعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالى وانقادت ـ وهذا هو الإسلام ـ
الفائدة الثالثة :
فإني رأيت كل واحد مِن الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ، ثم يمسكه قابضاً عليه بيديه ، فتأمَّلت قوله تعالى :
﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾
فلذت بالإيثار ، واستودعت عند الله إعانة البائس ، وإسعاف الفقير لعلي أحشر في ظل صدقتي يوم يقوم الناس لرب العالمين .
الفائدة الرابعة :
ثم إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزَّه في كثرة الأقوام والعشائر ، فاعتز بهم ، وزعم آخرون أنه في حيازة الأموال وكثرة الأولاد ، فافتخروا بها ، وحسب بعضهم العز والشرف في غصب أموال الناس ، واعتقدت فئةٌ أنه في إتلاف المال ، وإسرافه ، وتبذيره ، فتأمَّلت قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
فأقبلت على ربي ، ونفضت يديّ مِن هذه المُلهيات والأباطيل .
الفائدة الخامسة :
ثم إني رأيت الناس يذمّ بعضهم بعضاً ، ويغتاب بعضهم بعضاً ، فوجدت ذلك مِن الحسد في المال والجاه والعلم ، فتأمَّلت قوله تعالى :
﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
فعلِمت أن القِسْمَة مِن الله تعالى ، وأن الضيق بها حُمْق ، فما حسدت أحداً ورضيت بقسمة الله تعالى .
الفائدة السادسة :
ثم إني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضاً بشتى الأغراض والأسباب ، فتأملت قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾
فعلمت أنه لا يجوز غير عداوة الشيطان .
الفائدة السابعة :
ثم إني رأيت كل واحدٍ يسعى بجدِّه ، ويجتهد في طلب القوت والمعاش بحيث يقع في شُبهةٍ أو حرام ، وقد يذل نفسه وينقص قدره فتأمَّلت قوله تعالى :
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾
فعلمت أن رزقي على الله تعالى ، وقد ضمنه ، فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه ، وترفعت عن الشبهات والدنايا .
الفائدة الثامنة :
ثم إني رأيت كل واحدٍ منهم يعتمد على مخلوق ، بعضهم على الدينار والدرهم ، وبعضهم على المال والمُلْك ، وبعضهم على الحِرْفة والصناعة ، وبعضهم على مخلوقٍ مثله مِن الكبراء أصحاب الحوْل والطَوْل فتأملت قوله تعالى :
﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾
فتوكلت على الله فهو حسبي ونِعم الوكيل .
فقال شيخه : وفقك الله يا ولدي لقد أصبت .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم .
البصمة :
أيها الإخوة الأكارم ؛ لو أن توأمين تَخَلَّقا من بويضةٍ واحدة ، هناك توأمان يتخلَّقان مِن بويضتين ، وهناك توأمان يتخلقان من بويضةٍ واحدة ، لو أن توأمين تخلقا مِن بويضةٍ واحد ، فإن بصمة الأول تختلف عن بصمة الثاني ، لأن الله سبحانه وتعالى يشير في كتابه العزيز إلى هذه الحقيقة :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾
استطاع العلماء أن يكتشفوا في هذه البصمة مئة علامة ، فلو أن اثنتا عشرة علامة توافقت في بصمتين ، لكانتا لشخصٍ واحد ، اثنتا عشرة علامة ، توافقت في بصمتين ، مِن مئة علامة ، لكانتا لشخصٍ واحد ، واحتمال أن تتشابه البصمتان بواقع الصدفة ، واحد مِن أربعة وستين مليار ، أي إذا كان في الأرض أربعة وستين مليار إنسان ، فهناك احتمال واحد أن تأتي البصمتان متشابهتين ، عدد سكان العالم ستة آلاف مليون ، أي ستة مليارات فقط .
شيءٌ آخر ؛ البصمة لها شكلٌ خاص ؛ أقواس ، منحنيات ، منحدرات ، زوايا ، تفرُّعات ، خطوط ، جزر ، أخاديد ، هذه البصمة ، في بعض معاهد الطب عرضت بصمةٌ ، وعرض تحتها خمسة عشر ألف بصمة ، فلم تتشابه ولا اثنتان ولو في سبع نقاط .
أيها الإخوة الأكارم ؛ تتكون البصمة والطفل في رحم أمه ، في الشهر السادس مِن الحمل ، وتبقى حتى الموت ، وإذا أزيلت هذه القطعة مِن اللحم إزالةً كلية ، نَبَتَ لحمٌ جديد عليه البصمة التي أزيلت ، لو أن عمليةً جراحيةً أجريت لرجلٍ ، وأزيلت بصمته كلياً ، أزيل هذا الجلد ، وأخذ جلدٌ له مِن مكانٍ آخر ، وطُعِّم هنا ، ما هي إلا أشهر حتى تبدو ملامح البصمة مرةً ثانية ، على هذا اللحم الجديد الذي أخذ مِن مكانٍ آخر.
أيها الإخوة الأكارم ؛ البصمة ؛ سجلٌ ، وهويةٌ ، وتوقيع ، توقيعٌ مِن صُنْع الله عزَّ وجل ، لا تستطيع قوى البشر أن تمحوه .
أجرى بعض المجرمين عملياتٍ جراحية ، على بصماتهم ، وطعَّموها بجلدٍ مِن مكانٍ آخر ، بعد أشهر ظهرت هذه البصمات ثانيةً ، توقيعٌ رباني منحك إياه ، لا تستطيع قوى البشر أن تمحوه ، ولا بالموت، بعد الموت ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾
أي حينما يبعثنا الله سبحانه وتعالى ، فهذا التوقيع ، هذه الخطوط، هذه الأخاديد ، هذه الجزر ، هذه التفرُّعات ، هذه التشجيرات ، تعود كما كانت ..
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه آيةٌ مِن آيات الله سبحانه وتعالى ، كيف تخلق هذه البصمة وأنت في رحم أمك ؟ وكيف يعيد الله سبحانه وتعالى ملامحها حينما يبعثنا بعد الموت ؟ .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك مِن الخوف إلا منك ، ومِن الفقر إلا إليك ، ومِن الذل إلا لك ، نعوذ بك مِن عُضال الداء ومِن شماتة العداء ، ومن السَلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .