- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا في ما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
معاني الإصلاح ذات البين
أيها الإخوة المؤمنون ؛ بعض المسلمين يظن أن أوامر الله سبحانه وتعالى قاصرة على الصلاة والصيام والحج والزكاة ، ولكن الحقيقة أن كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، فلو أن الله سبحانه وتعالى قال : إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، أمرٌ إلهي ، ولو أنك قصرت في باب الإحسان ، لكنت عاصياً لهذا الأمر ، في سورة الأنفال قوله تعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
يعني الغنائم التي تؤخذ في الحرب ، هذه الله سبحانه وتعالى عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام يتولى توزيعها وفق الحكمة الإلهية ، بيت القصيد عند تتمة هذه الآية :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
المعنى الأول : إصلاح أنفسنا
أمرٌ إلهي ، الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نصلح ذات بيننا ، ما هي ذات البين ، قال بعض العلماء : ذات البين هي النفس كما أن الناس اليوم يصلحون بيوتهم ، يطلونها بالطلاء الجيد ، يؤسسونها بأفخر الأساس ، يحسنون مداخل بيوتهم ، كما أن الإنسان ينظف جسده ، كما أنه يعطره ، كما أنه يرتدي أجمل الثياب ، كما أنه ينظف مركبته هو يصلحها يصلح منظرها الخارجي ، الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نصلح ذات بيننا ، حسنت منظر الخلق سنين ، هذا الجسد منظر الخلق إذا التقيت بإنسان ينظر إليك ، يرى نظافتك ، يرى أناقتك ، يرى انسجام الألوان في ثيابك ، إذا دخل بيتك يتأمل البيت يتفحصه ، يتأمل ذوقك في اختيار الأثاث مثلاً ، فهذا منظر الخلق ، ابن آدم طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة ، أنا أنظر إلى قلبك ، أنا أنظر إلى هذا القلب ، ألا تستحيي مني ، تطهر البيت ، تنظف البيت ، تجمل البيت قد لا يعجبك تزيين المحل التجاري ، وكان قد كلفك آلافاً مؤلفة ، تقول سأغير هذا النظام كله ، طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ، هذا القلب الذي ينظر الله إليه ، هل فيه غشٌ لأحد ، هل فيه احتيال على أحد ، هل فيه حقد على أحد ، هل فيه غلٌ على أحد ؟ هذا القلب الذي تسعد به إلى أبد الآبدين ، قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
ماذا فعل أحدنا بقلبه هل أبقاه على حاله ؟
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
هل شعر بحقدٍ على أحد ، مرضٌ خطير ؟ هل شعر بالأثرة يعني يؤثر نفسه على حساب الآخرين ؟ هل شعر بالاستكبار ؟ إن هذه أمراضٌ نفسية فتاكة تهلك صاحبها في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة ، لذلك الله سبحانه وتعالى يأمرنا في هذه الآية التي في سورة الأنفال ، يأمرنا أن نصلح ذات بيننا ، يعني أن نصلح نفوسنا ، أن نجعلها طاهرة ، قال عليه الصلاة والسلام : إن الصلاة طهور .
إن الصلاة وحدها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، لكن الثقافة وحدها لا تفعل هذا ، إن المطالعة وحدها لا تفعل هذا ، قد تكسب المرء ذكاءً اجتماعياً ، لكن الثقافة وحدها لا تكفي لردع النفس عن غوايتها ، لكن الصلاة ، قال تعالى :
﴿وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
فإذا أحكمت الصلة بالله عز وجل تطهر القلب من الأدران ، عن أبو هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه في اليوم خمس مرات، ترى هل يبقى من درنه شيء ، قالوا: لا يا رسول الله ، قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا))
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
هذا القلب الذي هو قلب النفس ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
وهذا الحديث من روائع بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام ، إن قلب الإنسان المادي ، إن كان نشيطاً فصِحته بخير ، وإن كان قد أصيب بعطب فصحته تنبئ بالخطر ، وكذلك قلب النفس إن كان طاهراً من الخطايا أو كان طاهراً من المعاصي ، أو كان طاهراً مما سوى الله .
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾
إما أن تحب الدنيا ، وإما أن تحب الآخرة ، من أحب دنياه أضر بآخرته ، هذا القلب لا يتسع إلا لشيءٍ واحد فإما أن تملأه حباً لله عز وجل ، فيفيض عليك ، وعلى الناس سعادة ، وإما أن يملأ بحب الدنيا ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة ، وحبك الشيء ، يعمي ويصم ، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا ، جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، ولم يؤتيه إلا ما قدر له ، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا ، وهي راغمة .
فنحن أمام أمرٍ إلهي يقتضي الوجوب .
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أصلح هذا القلب ، طهره ، عليك أولاً أن تطهره ، وعليك ثانياً أن يصطبغ بصبغة الله ، تخلقوا بأخلاق الله .
﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾
إذا استقمت على أمر الله طهرته من المعاصي ، فعاد إلى فطرته السليمة ، وإذا أقبلت على الله إقبالاً عالياً اصطبغ بالكمال ، فصار هذا القلب يفيض رحمةً ، يفيض حناناً ، يفيض تواضعاً ، يفيض حكمةً يفيض رقةً ، يفيض لطفاً ، يفيض عدلاً ، قال أحد الأعراب : اعدل يا محمد ، فغضب عليه الصلاة والسلام ، ونبض عرق له في جبينه ، وكان هذا العرق لا ينبض إلا إذا غضب ، وقال :
(( ويلك من يعدل إن لم أعدل ، من يعدل في الأرض من بعدي إن لم أعدل ))
قالها ، ولا يعني ما يقول ، ولا يعرف مدى هذه الكلمة ، إذا أقبلت على الله فاض قلبك عدالة ، تقول الحق ولو على نفسك ، فاض قلبك تواضعاً ، هذه صبغة الله ، لذلك الأنبياء سحروا أقوامهم ، كيف سحروهم ؟ بالسحر ، لا والله !!. سحروهم بكمالهم ، كان الصحابي الجليل يتمنى أن يفدي رسول الله بنفسه ، وقف أحدهم فوق النبي عليه الصلاة والسلام يحميه من السهام التي أتته غزيرة في بعض المعارك ، قال : يا رسول الله صدري دون صدرك ، نحري دون نحرك ، وجهي دون وجهك ، لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ارم سعد فداك أبي وأمي؟ ))
من شدة إخلاص أصحابه له ، من شدة حبهم له ، لماذا أحبوه ؟ لعظم كماله ، لعظم رحمته ، لعظم حكمته ، لعظم ألفته ، لعظم تواضعه ، هذا كله من محصلات الصلاة ، هذا كله من بركات الصلاة ، الصلاة تسمو بالنفس لذلك :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
صلوا بالليل والناس نيام ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل ، والناس نيام ، اتصل بالله تذلل له ، مرِّغ وجهك في أعتابه ، قل له : يا رب طهر قلبي مما سواك ، لا تشغلني بأحد سواك ، إذا فعلت هذا سمت نفسك .
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : تعاهد قلبك ، هذا القلب يعني ؛ كيف أن أحدنا لا سمح الله ، ولا قدر ، إذا شعر أن شيئاً في عينه غير طبيعي ، إذا شعر أن عينه ضعف بصرها ، إذا شعر أن ذبابةً سوداء تتحرك مع حركة عينه ، ماذا يفعل ؟ أول ما يفعل يذهب إلى الطبيب ، يقول لك باللغة الدارجة : عين ليس معها لعبة ، والله الذي لا إله إلا هو ، ينبغي أن تقول هذا الكلام لقلبك ، قلب ليس معه لعبة ، لو أن هذا القلب امتلأ بحب الدنيا ، أو أضمر غشاً لأحد ، وأضمر حقداً على أحد ، فإن هذا القلب سيخزي صاحبه إلى الأبد .
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
من العيوب ، سليم من السوء ، سليم من المعاصي ، فالله عز وجل يقول :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
المعنى الثاني : إصلاح بيننا وبين الآخرين
وبعضهم فهم الآية فهماً آخر ، والقرآن ذو وجوه ، بعضهم فهم الآية أن العلاقة التي بينكم ، وبين الآخرين يجب أن تصلحوها ، إن كنت مؤمناً حقاً فينبغي أن تصلح العلاقة بينك وبين إخوانك ، بينك وبين جيرانك ، بينك وبين من هو أعلى من منك ، بينك وبين من هو أدنى منك ، بينك وبين زملائك في العمل ، بينك وبين زوجتك ، بينك وبين أولادك .
﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
كن محسناً ، ليس في الأرض إنسان يستعصي بالإحسان ، بالبر يستعبد الحر ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( عجبت لمن يشتري العبيد بماله ليعتقهم، لماذا لا يستعبدهم بإحسانه ))
إذا فعلت الخير يحبك الناس ، إذا أعطيتهم يحبوك ، إذا سألتهم يبغضوك ، إذا سألت الله يحبك ، فالمعنى الآخر لهذه الآية أصلح العلاقة بينك وبين الآخرين ، ما عبد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أكرموا النساء، فوالله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم يغلبن كل كريم ويغلبهن لئيم وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً ))
هذه زوجتك ، أما ابنك له عليك حق ، له عليك حق أن تنفق عليه ، وأن تزوجه إن كان هذا في إمكانك .
﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أصلح العلاقة بينك وبين ابنك ، إن كنت ميسوراً فهيئ له بيتاً يسكنه ، فهو ابنك وبضعة منك ، أصلح العلاقة بينك وبين جيرانك ، لا تؤذهم ، لا تؤذهم بقتار قدرك ، لا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده ، أتدرون ما حق الجار؟ إذا استعان بك أعنته ، وإذا استنصرك نصرته ، وإذا استقرضك أقرضته وإذا مرض عدته ، وإذا أصابه خير هنأته ، وإذا أصابته مصيبة عزيته وإن مات شيعته ، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه وإذا اشتريت فاكهة ، فأهد له منها ، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ، ولا يخرجن بها ولدك ليغيظ ولده ، ولا تؤذه بقتار قدرك ، يعني ؛ برائحة الطعام النفيس ، إلا أن تغرف له منها.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أصلح العلاقة بينك وبين جيرانك ، لا تؤذهم بأصوات الإذاعة ، لا تؤذهم بالصياح ، لا تؤذهم بالأقذار .
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
إصلاح ذات البين إصلاح العلاقة فيما بينك وبين الآخرين ، هذا هو المعنى الآخر للآية ، وكل منا بالفطرة والبديهة يعرف أن هذه الكلمة الطيبة تصلح ذات البين ، وأن هذه الكلمة الخبيثة تفسد ذات البين ، عن أبو هريرة رضي الله عنه ، أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :
(( إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة ))
عن الزبير رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((ليس حالقة الشعر، ولكن معناها أنه حالقة الدين))
يا أيها الآباء ؛ إن جاءت ابنتك إلى بيتك تشكو زوجها ، إن كنت مؤمناً ، فينبغي أن تصلح بينها وبين زوجها بذكر محاسنه ، بذكر صفاته الطيبة ، بذكر استقامته ، بذكر أن دخله حلال ، بذكر أنه مخلص ، بذكر أنه لا يعرف غيرك ، ولو أنه غضب منك ، لا يزال يذكر لابنته مناقب زوجها حتى تتعلق به ، وحتى تذهب مساءً إلى البيت .
﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أما هذا الأب الذي يقول لها : ابقي هنا ، وسأغيظه ، هذا ليس مؤمناً ، لا ينتمي إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، لا ينبغي أن يكون كذلك .
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ إصلاح ذات البين واسعةٌ جداً ، تبدأ من نفسك ، مروراً بزوجتك وبأولادك ، وبجيرانك ، وبإخوتك ، وبأخواتك ، وبأصهارك ، وبمن معك في العمل ، بمن هو دونك ، بمن هو فوقك .
﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
المعنى الثالث : إصلاح بين أثنين
والمعنى الثالث الذي تحتمله الآية ؛ هو أنك عليك أن تصلح علاقة بين اثنين لست أنت طرفاً فيهما ، قد لا تكون أنت طرفاً في هذه العلاقة أنت صديق ، ولك صديقان ، إياك وفساد ذات البين لا تنقل كلاماً من فلان عن فلان ، فتوقع بينهما ، لقد أفسدت ذات البين لقد جعلت الشقاق بينهما مكان الوفاق ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يدخل الجنة نمام ))
لو تتبعت معظم ندوات الناس ، وسهراتهم ، في حفلاتهم ، ماذا يقولون : يشرح بعضهم بعضاً ، يغتاب بعضهم بعضاً ، ينهش بعضهم من لحم بعضهم بعضاً ، هذه المجالس لا ينبغي أن تجلس فيها ، لا ينبغي أن تسكت ، لو أنك جلست وسكت ، لشاركتهم في الإثم ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الذنب شؤم على غير صاحبه ، إن رضي به فقد شركه في الإثم ، وإن عيره ابتلي به ، وإن ذكره فقد اغتابه ))
فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الكافرين ، هذا المجلس مجلس غيبة لا تجلس فيه ، هناك غيبة واجبة يا أيها الإخوة ؛ إن سئلت عن شخص لزواج ، يجب أن تقول الحقيقة ، وإن كتمتها لكنت آثماً ، هل يشرب الخمر ؟ نعم ، أيصلي ؟ لا يصلي ، إن كتمت حقيقة في موضوع الزواج فقد وقعت في الإثم ، وهذه هي الغيبة الواجبة ، في موضوعات مصيرية في موضوعات لاصقة بالإنسان ، كزواجٍ ، أو شراكةٍ ، أو بيعٍ ، أو شراء لكن في موضوعات أخرى عليك أن تسكت ، وعليك ألا تسمع ، وعليك أن تنهض من هذا المجلس إذا كان فيه غيبة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هناك غيبة في القلب ، من حدثته نفسه عن أخيه شيئاً ، ولم يفاتحه فيه ولم يسجل حقيقة الأمر ، فقد اغتابه ، ومن أساء الظن بأخيه ، فقد أساء الظن بربه ، فالآية الكريمة :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أي أصلح العلاقة بين الناس ، إن دخلت إلى بيت ، وكان متواضعاً ، بيت أختك لا تنتقد هذا البيت ، لأنك إذا انتقدت هذا البيت ، انتقدت مساحته ، انتقدت أثاثه ، أسأت العلاقة فيما بين أختك ، وزوجها ، إن دخلت امرأة على امرأة ، وقالت لها : ماذا أهداك زوجك في هذا العيد ؟ وكان زوجها ضيق الدخل ، مخلصاً لها ، وفر لها الطعام والشراب ، و لكنه لم يقدم لها قطعة ذهبية ثمينة في هذا العيد ، فإن قالت لها : ماذا أهداك زوجك في هذا العيد ؟ تقول لها : لم يهد لي شيئاً ، هذا السؤال فقط ، طرح هذا السؤال ، يفسد العلاقة بين الزوجين ، والتعليق على إجابتها أنه لم يقدم لها شيئاً يفسد العلاقة بين الزوجين ، إياكم وفساد ذات البين ، إياكم !.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
المعنى الأول :
عليك أن تصلح نفسك ، عليك أن تطهر قلبك ، لأنه هو المعول عليه في سعادتك الأبدية .
المعنى الثاني :
عليك أن تصلح العلاقة فيما بينك وبين الناس .
المعنى الثالث :
عليك أن تصلح العلاقة فيما بين شخصين ، أو أخوين أو صديقين ، أو شريكين ، أو أمٍّ وابنها ، أو أختٍ وأخته ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس منا من فرَّق ))
وأي شيءٍ أعظم من هذا أن ينخلع الإنسان عن انتمائه للإسلام ، هذا الذي يفرق بين الأحبة ليس منا لا ينتمي إلي لا أتعرف عليه ، أرفضه ، ليس من أمتي ، ليس منا من فرق ، وبلاغة هذا الحديث في إيجازه ، فرق ماذا ؟ أي صديقين ، أي شريكين ، أي أخوين ، احرص على أن يكون كلامك مفيداً ، على أن يبعث كلامك الطمأنينة في النفس ، يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول ؟ قال :
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ))
لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، هذا اللسان ! أنا أتصور أن معظم المسلمين لا يشربون الخمر ، ومعظمهم لا يزنون ، ومعظمهم لا يسرقون ، ولكن هذا اللسان الذي يهلكهم ، هذا اللسان الذي يشقيهم ، هذا اللسان هو الذي يحجبهم عن الله عز وجل ، من علامة إيمان الرجل ، انضباط سلوكه ، وفي مقدمة السلوك انضباط لسانه ، لا يسخر ، لا يغتب ، لا يدخل فيما لا يعنيه ، لا يشغله عيبه عن عيوب الناس ، لا يتجسس ، ولا تجسسوا ، أي لا تتبعوا الأخبار السيئة ، ولا تحسسوا ، في حديث لا تحسسوا والتحسس ، تتبع الأخبار الطيبة ، حشريٌّ هذا الذي يفعل هذا ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس .
عن عليّ بن الحسين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ))
فلو طبق الناس كلام الله عز وجل ، لو طبقوا هذه الآية ، هذا أمرٌ يقتضي الوجوب .
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
وظائف الكليتين ونعمها على الإنسان
أيها الإخوة الكرام ؛ في الأحاديث الشريفة حديثٌ ، ذكرته لكم كثيراً ، كان عليه الصلاة والسلام ، إذا دخل بيت الخلاء ، وخرج منه يقول :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي ))
وفي دعاءٍ آخر ، كان يقول إذا أكلَّ الطعام :
(( الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى فيَّ قوته ، وأذهب عني أذاه ))
قرأت اليوم مقالةً في مجلةٍ شهريةٍ ، تعنى بالشؤون العلمية عن الكلية ، هالني أن الكليتين ، تصفيان في اليوم الواحد ، ما حجمه ألف وثمانمئة لتر ، كدت لا أصدق هذا الرقم ، تأملت فيه ملياً ، عدت إلى مصدرٍ آخر ، الرقم صحيح ، ألف وثمانمئة لتر .
أعتقد أنَّ أسرَّة متوسطة تستهلك هذا الحجم ، كوقود طوال السنة ، ألف وثمانمئة لتر ، هذا يستهلك طوال العام .
ما قولك أنَّ هاتين الكليتين ، تصفيان في اليوم الواحد من الدم ، ما حجمه ، ألف وثمانمئة لتر ، وأن في الكليتين طريقاً من الأنابيب ، من النفرونات ، دقيقٌ ، وطويلٌ طويل ، طوله ستين كيلو متر في الكليتين ، وأن هاتين الكليتين فيهما طاقةٌ لتصفية عشرة أمثال حاجة الإنسان ، يعني الإنسان يحتاج إلى طاقة من التصفية في الكليتين عشرة أمثال حاجته .
لذلك إذا التهبت الأولى تستأصل ، ويعيش الإنسان حياةً مديدة بكليةٍ واحدة ، أليس هذا من رحمة الله عزَّ وجل ؟ أليس هذا من رحمة الله ، لأن الكلية جهازٌ خطيرٌ خطير ، جعل لك قطعةً زائدة ، أو كليةً زائدة عن حاجتك .
من منا يصدق ، أن الدم بكامله يمرُّ في الكليتين في اليوم ، ستاً وثلاثين مرة ، الدم بكامله ، يمر في الكليتين في كلِّ أربعة وعشرين ساعة ، ستاً وثلاثين مرة .
وأن هاتين الكليتين تقومان بعمليةٍ في منتهى التعقيد ، تأخذان هي من الدم ، المواد السكرية ، والمعادن ، والبروتينات ، تأخذها ، وتطرحها في الوريد الخارج منها ، والباقي ما زاد من السكريات عن حاجة الدم يطرح في البول .
إذا أصيب الإنسان بمرض السكر ، كيف يعرف ذلك ؟ من وجود السكر في البول ، معنى ذلك أن الكلية ، تأخذ نسبةً نظامية للسكر ، وتطرح الباقي مع البول ، وإذا أكل الإنسان ملحاً كثيراً ، وفحصنا بوله ، نجد أنَّ جزءاً من هذا الملح طرح مع البول .
الكلية كما قال بعض العلماء : تتيح لكَّ أن تأكل كلَّ شيء ، ولولا الكلية لو ارتفعت نسبة الأملاح في الدم عن ثمانية بالألف ، لمات الإنسان ، من الذي يضمن ثبات هذه النسبة في الدم ؟ الكليتان .
إذا مصفاةٌ عاقلة ، كما وصفها بعض العلماء ، مصفاةٌ عاقلة ، تأخذ نسباً نظامية ، وما بقي من هذه النسب النظامية ، من نسب زائدة ، من سكريات ، من أملاح ، من بقايا أدويةٌ ، هناك أدويةٌ تطرح في البول ، يتغير لون البول ، بسبب أن هذا الدواء مادة غريبة ، تطرحها الكلية مباشرةً .
فهذه الكلية التي لا يزيد حجمها عن الكمثرى ، تعمل بصمت ، بلا مقابل ، بلا أجر ، بلا تعطيل عن العمل ، كما يفعل الإنسان إذ ذهب ليصفي دمه في كليةٍ صناعية ، يعمل ، ينام ، يدرس ، يتاجر ، يبيع ، يشتري ، يسافر ، وهذه الكلية تعمل بصمت ، ستة وثلاثين مرة ، يدخل الدم إلى الكليتين في اليوم الواحد ، وفوق هذا وذاك ، اكتشف العلماء أن الكليتين غدتان ذواتا إفراز داخلي ، أي أنهما تفرزان هرمونات تضبط ضغط الدم .
إذا التهبت كلية الإنسان يختل ضغطه ، هذه الكلية تفرز هرمونات ، لتنظيم ضغط الدم ، وتفرز هرمونات لتلاشي فقر الدم ، وتفرز هرمونات لضبط السوائل .
حدثني أخ كريم ، قال لي : قبل سنوات ، على أثر تناول طعام سكري كثير ، صرت أشرب في اليوم عشرين ، أو ثلاثين مرة ، أو مئة مرة ، وكان شغلي الشاغل ، أن أذهب لدورة المياه لأفرغ الماء الزائد ، أصاب الكلية التهابٌ ، فاضطرب ميزان السوائل ، ولو اضطرب ميزان السوائل ، لوجب أن يبقى الإنسان إلى جانب الصنبور والمرحاض طوال حياته ، ألا يقتضي أن يشكر الإنسان ربه على نعمة الكلية ؟
إذا دخل النبي إلى بيت الخلاء وخرج ، كان يقول :
(( الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني ))
أي البولة ، إذا ارتفعت البولة في الدم ، لو أن الكلية توقفت عن العمل ، وارتفعت نسبة البولة في الدم ، اسألوا الأطباء ماذا يحدث ؟ يتشنج الإنسان ، تضعف ذاكرته ، يختل عمله ، يغضب لأتفه الأسباب ، يحطم أساس البيت ، يا لطيف ، إذا ارتفعت نسبة البولة في الدم ، هؤلاء الذين تتوقف كليتهم عن العمل ، فجأةً وترتفع نسبة البولة في دمهم ، لهم أطوارٌ غريبة ، لا يحتملهم أهلهم ، لشدة غلظتهم ، ولشدة عنفهم ، ولشدة غضبهم لأتفه الأسباب ، وإذا استمر ارتفاع نسبة البولة ، يموت الإنسان فوراً .
لذلك هاتان النعمتان ، ونعمة المثانة ، أنها تستقبل كل ثانيةٍ نقطتين من البول ، كل عشرين ثانية ، تجمعها لك ، حتى تصبح بحجم لترٍ ، عندئذٍ تفرغها ، لولا هذه المثانة لكانت حياة الإنسان صعبةً جداً ، إذا كان الطريق مفتوحاً ، وكل عشرين ثانية نقطتين بول ، والله حياة لا تطاق .
إن كرامة الإنسان مرهونةٌ بهذا الجهاز ، وأحياناً يصاب الإنسان في سنٍ متقدمة ، ببعض الضعف في العضلات ، ماذا يسمعه الأهل ؟ كلماتٍ قاسية ، هذا الذي لا يستطيع أن يضبط نفسه ، يصبح موقفه حرجاً جداً .. فنعمة المثانة ، نعمةٌ ثانية .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا يكن الإنسان كالبهيمة ، كالدابة ، تأكل
﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾
هكذا ربنا وصف الكفرة يتمتعون ، ويأكلون ، كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لكم .
الحمد على النعمة أمانٌ من زوالها ، يعني إذا الإنسان خرج من بيت الخلاء ، وقال : الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني .
الحمد لله الذي جعل هذين العضوين ، الكليتين ، يعملان بانتظام ، فهذا الحمد على نعمة على سلامة الكليتين ، أمانٌ من التهابهما ، وأمانٌ من عطبهما ، وأمانٌ من توقفهما توقفاً مفاجئاً .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك اللهم هب لنا علاً صالحاً يقربنا إليك .