- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الهدف الذي رسم في القرآن للإنسان عليه أن يسعى إليه بخطا ثابتة وعزم أكيد :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الخطبة السابقة وضحت بعضاً مما تشير إليه الآيات الكريمة في أول سورة البقرة ، فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب ، والغيب ما غاب عن حواسك وما غاب عن عقلك ، الغيب الأول أو قمة الغيب أن تؤمن بالله عز وجل الذي لا تدركه الأبصار ، إلا أن العقل يصل إلى الله تعالى ، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ، وأن تؤمن أيضاً بما أخبر الله به ، وما أخبر الله به يخرج عن دائرة حسك ، وعن دائرة عقلك ، ولا سبيل لليقين به إلا الخبر الصادق .
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
وبينت أن الإنفاق أن تنفق شيئاً ينتفع الناس به ، فالعلم رزق ، والقوة رزق ، والجاه رزق ، والخبرة رزق ، والعضلات رزق ، وأي شيء ينتفع به الناس رزق .
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
أما الهدى فهو الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، ومن لوازم الهدى أن هناك من يهدي وهناك من يُهدى ، وهناك هدف تسعى إليه ، هذا الهدف إذا رسمته أنت ، أو رسم لك من بني البشر ربما اهتزت قيمته في منتصف العمر ، وربما تلاشت قيمته وأنت على شفير القبر، ولكن إذا أخذت هذا الهدف ممن خلق السموات والأرض كان هذا الهدف ثابتاً وسعيت إليه ولم تصب بخيبة أمل ، وما من شعور أيها الأخوة أمض في حياة الإنسان من الشعور بالندم ، ومن الشعور بالخسارة ، فالمؤمن لم يتخذ هدفاً رسمه هو بدافع من شهواته ، ولا بدافع من نزواته ، ولا بدافع من أهوائه ، ولكن الهدف الذي رسم في القرآن لهذا الإنسان جعله هدفاً ، لذلك هو يسعى إليه بخطا ثابتة ، وبعزم أكيد ، وبتفاؤل كبير .
فالمؤمنون يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ، جانب عقلي وجانب انفعالي وجانب سلوكي .
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾
جاءت كلمة [ على ] كما ذكرت في الأسبوع الماضي لتبين أن المهتدي أعظم من الهدى ، وأن الهدى جاء ليرفعك لا ليذلك ، جاء ليطلقك من أسر الشهوات لا ليقيدك ، الهدى جاء ليجعلك مكرماً ، لكن الكفر فوق الكافر ، من كفر فعليه كفر ، والضلال يأتي ليجعلك مقيداً .
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
أصناف البشر ثلاثة ؛ مؤمن و كافر و منافق :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا ملخص ما جاء في الخطبة السابقة ، ربنا سبحانه وتعالى في مطلع سورة البقرة رسم ثلاثة نماذج بشرية موجودة في كل زمان ومكان : المؤمنون والكافرون والمنافقون ، الشيء الذي يلفت النظر أن المؤمنين وردت أوصافهم في أربع آيات ، وأن الكفار وردت أوصافهم في آيتين فقط ، وأن المنافقين وردت أوصافهم في ثلاث عشرة آية ، لماذا ؟ لأن النفاق داء عضال لكنه باطني ، أي أن المنافق يكون غارقاً في النفاق ولا يدري أنه منافق ، وهذا من خطورة المرض ، الأمراض الخطيرة هي التي لا أعراض ظاهرة لها ، أما أي مرض يرافقه ألم شديد ، أو أي شعور معين فهذا المرض يتنبه له الإنسان في الوقت المناسب ، فربنا سبحانه وتعالى بيّن في هذه السورة أصناف البشر الثلاثة .
ثمرات الإيمان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ المؤمن لأنه آمن بالله ، آمن بخالقه ، آمن بربه ، آمن بمسيره ، آمن بالوجود ، وآمن بالوحدانية ، وآمن بالكمال ، هذا المؤمن شعر بانسجام مع ذاته ، لأن فطرة الإنسان تقتضي الإيمان ، ولأن عقل الإنسان يقتضي الإيمان ، فأول ثمرة من ثمرات الإيمان سلام مع ذات الإنسان ، القلب يعقل ، والفكر يؤمن ، والعين ترى ، واللسان ينطق ، والأذن تسمع ، وهناك انسجام بين هذه الحواس وبين القلب والفكر ، ليس في الحياة شيء أشدّ إيلاماً من التناقض ، من التذبذب ، من احتقار الذات ، من الانهيار الداخلي ، المؤمن في سلام مع نفسه ، لأنه آمن بقلبه ، وأدرك بعقله ، وتكلم بلسانه ، ورأى بعينه .
هذا الانسجام بين القلب وبين الفكر وبين الجوارح انسجام يورث طمأنينة وسلاماً مع نفسك ، وفضلاً عن هذا الانسجام الذي يقطفه المؤمن كثمرة من ثمار إيمانه هناك سلام مع مجتمعه ، لماذا ؟ لأنه سار على منهج الله عز وجل ، هذا لي وهذا ليس لي ، هذا حلال وهذا حرام ، هذا يرضي الله وهذا لا يرضي الله ، لمجرد أنه يطبق منهج الله عز وجل الناس كلهم يحبونه ، لأنه ما اعتدى ولا طغى ولا بغى ولا تجاوز الحدود .
الثمرة الثانية أن المؤمن يجني سلاماً مع مجتمعه ، في بيته مع أهله وأولاده ، مع طلابه ، مع زبائنه ، مع مرؤوسيه ، مع من رافقه ، مع زملائه ، سلام مع نفسك وسلام مع مجتمعك ، فإذا جاء ملك الموت فأنت في سلام مع ربك .
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴾
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾
أولى ثمرات الإيمان التي تجنيها في الدنيا أنك تكتشف فطرتك وتنسجم معها ، تهتدي بعقلك إلى الله فينسجم إيمانك مع ما يعطيه عقلك من أدلة وبراهين .
الكافر يحقق السلام مع نفسه و لكنه يفقد السلامة مع مجتمعه :
ولكن الكافر ؟
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
ربما بدا لأول وهلة أن الكافر في سلام مع نفسه ، بمعنى أنه أنكر وجود الله عز وجل ، أو أنكر بعض أسمائه وتكلم بهذا ، ليس هناك تناقض ولكن حين كفر بالله عز وجل من لوازم كفره بالله أنه كفر بمنهجه ، فإذا كفر بمنهجه تحرك حركة عشوائية بلا قيد ولا شرط وبلا منهج ، بلا قاعدة ، بلا قانون ، بلا قيم ، بلا أمر ، بلا نهي ، هذه الحركة التي بدافع من نزواته ومصالحه ومطامحه وشهواته أوقعته في العدوان . إذاً الكافر وإن بدا لك أول وهلة أنه في سلام مع نفسه لكنه وقع في حرب طاحنة مع من حوله .
وهناك شيء آخر : من جانب الله عز وجل وقع تحت العقاب الإلهي ، وتحت آلام الحسرة ، وتحت الندم ، وتحت مشاعر الخسران ، ومشاعر خيبة الأمل ، فإن حقق الكافر الذي أعلن عن كفره ما يسمى سلاماً مع نفسه لكنه فقد السلامة مع مجتمعه ، وفقد السلام مع ربه .
المنافق ازدواجي في عقيدته و خواطره و سلوكه :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أما المنافق فهذا الذي وقع في تناقض مع نفسه :
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
ربنا عز وجل نفى عنهم الإيمان ، ودقة القرآن أيها الأخوة الله سبحانه وتعالى لم يقل : ومن الناس من يؤمن بالله ، لا ، بل قال : من يقول آمنا ، هو يدّعي الإيمان ، يفتري على الله كذباً ، يزعم ، يوهم ، يكذب ، يدلس ، يزور ، وكل إنسان يدّعي أنه مؤمن وأن إيمانه كإيمان الصحابة ، وأنه ذو إيمان قوي يجب أن يوضع على إيمانه إشارة استفهام ، لأن المؤمن في وجل ، لأن المؤمن في قلق شريف ، لأن المؤمن يخاف من النفاق .
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا عز وجل يقول :
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾
أي إذا شعر الإنسان بأعراض مرض معين وتوجه إلى الطبيب وأمره أن يحلل ، فذهب إلى المحلل وأعطاه أن النتائج سلبية ، وأن الأرقام عالية جداً عن الحد الطبيعي ، فهذا المريض إذا زور هذه الأرقام للطبيب وجعلها طبيعية يكون قد خدع من ؟ ما خدع إلا نفسه ، إذا قرأ الطبيب التحليل ورأى أن النسب كلها طبيعية يقول : جيد والأمر بسيط ليس هناك مرض ، أي هذا الذي يخدع الله أو يخدع المؤمنين هو في الحقيقة يخدع نفسه .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان إذا أراد أن يمدحه الناس وهو ليس كذلك إنما يحتقر نفسه ، إنما يحترم الناس على حساب احتقار نفسه ، شعور دقيق جداً لا يعرفه إلا من فقده ، هذا الشعور يسمى احترام الذات ، المنافق يحتقر ذاته لأنه يسعى لسمعة جوفاء ، لأنه يسعى لمدح الناس ، يستجدي مديحهم ، يستجدي استحسانهم ، يستجدي ثنائهم وهو ليس كذلك، إنه في حرب مع نفسه ، باطنه في واد وظاهره في واد ، سريرته في واد وعلانيته في واد ، أفكاره في واد وما يعلن عنه في واد ، هذا أكبر مرض يعاني منه المنافق أنه في حرب مع نفسه ، لأنه ازدواجي في عقيدته ، ازدواجي في خواطره ، ازدواجي في مشاعره ، ازدواجي في سلوكه .
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
نفى عنهم الإيمان .
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ المؤمن في بداية الطريق يحتاج لمصارحة مع نفسه ، ويجب ألا يعنى كثيراً بأقوال الناس فيه ، لأنه إذا أراد سمعة بين الناس كان ذلك على حساب بنيانه الداخلي ، فالمنافق يسعى لمديح الناس ، يسعى لعلاقته الطيبة مع الناس ، ولكنه أمام نفسه محتقر ، احترام الذات شعور ثمين جداً لا يعرفه إلا من فقده .
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
نفى عنهم الإيمان مع أنهم ادعوا هذا الإيمان ، كلّ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاك .
صفات المنافقين :
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾
الله سبحانه وتعالى ما قال : يخادعون الله ويخادعون الذين آمنوا ، قال : يخادعون الله والذين آمنوا ، أي إذا خدعت الذين آمنوا فكأنما خدعت الله عز وجل ، وإذا خدعت الله عز وجل فكأنما خدعت الذين آمنوا ، والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما سيكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، يعلم السرّ وأخفى ، يعلم علانيتك ، ويعلم سرك ، ويعلم ما خفي عنك أنت أيضاً .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قال الله تعالى متابعاً صفات المنافقين :
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
قال بعض المفسرين : هذا المرض هو حبّ الدنيا ، وقال عليه الصلاة والسلام: " حب الدنيا يعمي ويصم " وقال عليه الصلاة والسلام : " حب الدنيا رأس كل خطيئة " وقال عليه الصلاة والسلام : " الدنيا جيفة طلابها كلابها " وقال عليه الصلاة والسلام : " ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر " وقال عليه الصلاة والسلام : " لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ".
دخل عمر الفاروق عليه رضوان على النبي صلى الله عليه وسلم وكان مضطجعاً على حصير ، وقد أثر الحصير في خده الشريف ، فبكى عمر ، فقال النبي الكريم : يا عمر ما يبكيك ؟ قال : رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ، هناك روايتان : الأولى تقول : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا عمر أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا ؟ والرواية الثانية تقول : قال يا عمر : إنما هي نبوة وليست ملكاً .
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
أي إذا سعيت إلى تأمين طعامك وشرابك . . وإلى تأمين مواد عيشك . . وإلى زواج مشروع كما أمر الله عز وجل . . وإلى شراء منزل تأوي إليه ، هذه ليست الدنيا التي ذمها الله عز وجل ، إذا سعيت إلى مقومات حياتك فأنت في عبادة ، إذا سعيت إلى مقومات حياتك من دون أن تخرج عن منهج الله عز وجل فأنت في عبادة ، ولكن إذا حملتك الدنيا على معصية . . إذا حملك طلب الدنيا على معصية . . إذا دفعك حب الدنيا إلى ارتكاب فاحشة . . إذا دفعك حب الدنيا إلى اقتناص ما ليس لك ، فهذا هو الحب الذي ذمه الله عز وجل في قرآنه الكريم ، قال تعالى :
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾
حينما تحول هذا الحب إلى انحراف ، حب الدنيا شيء كامن في النفس إذا أصرّ عليه الإنسان انقلب إلى عمل ، فالشيء الكامن أصبح سلوكاً ، والشيء الكامن أصبح انحرافاً ، والشيء الكامن أصبح عدواناً ، والشيء الكامن أصبح طغياناً .
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾
هناك ازدواجية في حياتهم ، هناك إعلان وهناك إبطان ، هناك علانية وهناك سر، هناك ما يقال وهناك ما لا يقال .
الحكمة من إفاضة الله سبحانه وتعالى في وصف المنافقين :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لماذا أفاض الله سبحانه وتعالى في وصف المنافقين ؟ لأنه المرض الخطير الذي يستشري بين المؤمنين ، لأن الله جلً جلاله يقول في كتابه العزيز:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾
هذا وعد الله عز وجل ، هذا وعد خالق الكون ، فإن لم يحقق الوعد يجب أن نشك في إيمان المؤمنين ، يجب أن نشك في مصداقية دعوتهم ، لا أن نشك في مصداقية وعد الله عز وجل ، يا أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾
المؤمن كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام قال : " ليس منا من فرق " ليس من طبع المؤمن الإفساد ، ولكن الإفساد من طبع المنافق ، سمة أساسية من سمات المنافق ، يفسد العلاقات ، يفسد الترابطات بين الزوج وزوجته ، وبين الأخ وأخيه ، وبين الشريك وشريكه ، وبين الجار وجاره ، دائماً يسعى لإفساد العلاقات بين الناس .
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾
يدعون الإصلاح وهم في الحقيقة مفسدون ، يدعون الصواب وهم في الحقيقة مخطئون ، يدعون أنهم على حق وهم في الحقيقة على باطل .
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾
نظرة المنافق للمؤمن على أنه سفيه ، على أنه ضعيف العقل ، على أنه من المرتبة الدنيا الاجتماعية ، النظرة الطبقية أيها الأخوة ليست من صفات المؤمن ، المؤمن أخو المؤمن ، المسلم أخو المسلم ، لا يحقره ، ولا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يسلمه ، المسلم أخو المسلم ، إن لم تشعر أنك أنت وأخوك في مرتبة واحدة فليس من الإسلام في شيء ، كلكم يسمع أن صحابياً جليلاً من أصحاب النبي عليهم رضوان الله في ساعة غضب تكلم بكلمة ما ينبغي أن يتكلمها ، خاطب سيدنا بلالاً فقال : يا بن السوداء ، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا فلان إنك امرؤ فيك جاهلية ، طف الكيل ، فما كان من هذا الصحابي وقد شعر بخطئه الكبير إلا وضع خده على الأرض ليدوس عليه بلال .
هكذا ، حينما افتدى سيدنا الصديق سيدنا بلالاً من أمية بن خلف قال له : والله لو دفعت به درهماً واحداً لأعطيتك إياه ، رأى الصديق في هذا الكلام إهانة لهذا المؤمن الصادق فقال : والله لو طلبت مئة ألف درهم لأعطيتك ، نقده الثمن ووضع يده تحت إبطه تعبيراً عن المساواة التامة بين المؤمنين وقال : هذا أخي ، وكان سيدنا عمر إذا علم أن بلالاً قد قدم المدينة كان يخرج إلى ظاهرها لاستقباله .
الخلق كلهم عند الله سواسية ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الإسلام سوى بين الناس ، كلكم من آدم وآدم من تراب، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، النبي عليه الصلاة والسلام خاطب سيدنا سعد بن وقاص هذا الذي ما فدى النبي واحداً من أصحابه إلا هو ، قال : " ارم سعد فداك أبي وأمي " قال : " هذا خالي أروني خالاً مثل خالي " ماذا قال عنه سيدنا عمر ؟ قال : يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له . يجب أن تشعر أنك عبد لله ، وأن أي إنسان مهما علت مرتبته هو عبد لله ، وأن أي إنسان مهما دنت مرتبته فهو عبد لله ، وبإمكان هذا الإنسان أن يكون أعلى منك عند الله ، هذا الشعور الموضوعي يجعلك متواضعاً ، يجعلك ذا منطق واضح ، وذا قيم ثابتة .
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾
قل لي من تقدر أقل لك من أنت ، إذا كنت تعظم أصحاب الأموال فأنت على شاكلتهم ، أما إذا كنت تعظم المؤمنين وترى فيهم مكانة كبيرة فأنت مؤمن ورب الكعبة .
الإسلام واضح نقي و ظاهر جلي :
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾
إذا لقوهم في أماكن عامة قالوا : نحن مؤمنون ،
﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾
الذي يقال في الخلوة ليس حقاً ، الحق ما قيل في الجلوة ، ما قيل على ملأ ، ما قيل أمام الناس ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))
ليس في الإسلام عمل يعمل في السر ، ليس في الإسلام عمل يعمل في الخلوات، الإسلام واضح نقي ، ظاهر جلي ، الحق ما أمكنك أن تقوله على رؤوس الأشهاد لأن معك الدليل ، الحق لا يخشى من البحث فيه لأنه حق ، ولأن دليله معه ، لكن الذي يقال في الخلوات ويقال في الاجتماعات المغلقة هذا ليس حقاً ، بمعنى أن الإنسان إذا التقى مع أخ وأسرّ له سريرة لا يستطيع أن يبوح بها أمام الناس ، هذا شيء قد لا يرضي الله عز وجل .
﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
استهزاء المنافقين بالمؤمنين و تفضيلهم الضلالة على الهدى :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أنت تستهزئ بالمؤمن هذا الذي عرف ربه ، أنت تستهزئ باستقامته ، أنت تستهزئ بحبه لربه ، أنت تستهزئ بمؤاثرته طاعة الله على طاعة خلقه ، إذا استهزأت به فقد تجرأت على خالقه ، من أكرم مؤمناً فكأنما أكرم ربه ، ومن أساء الظن بأخيه فكـأنما أساء الظن بربه ، هؤلاء المنافقون يؤتون باللغة الدارجة ، يتحدثون عن المؤمنين في خلواتهم كلاماً لا يرضي المؤمنين ، أجدب عرض عليه كذا وكذا فرفض أين عقله ؟ جاءته فرصة سانحة فلم يستغلها لأنها تخالف أمر الله عز وجل .
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾
خالق الكون يستهزئ بهم ، وكيف يستهزئ بهم ؟ الله عز وجل يقول :
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ﴾
من الرابح ؟ استهزأ في حياته بالمؤمنين ، رآهم ضعاف العقول ، رآهم في سذاجة على حسب زعمه ، رآهم قد ضيعوا دنياهم من أجل آخرتهم ، رآهم في مؤخرة الركب على تقديره هو .
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾
أي نصيبه من الدنيا أنه كان ضالاً ، وأما الهدى فكان متاحاً له ، كان ممكناً من الهدى ، جاءه كتاب الله ، جاءه من يفسره له ، أودع الله فيه عقلاً ، زوده بفطرة نقية ، جعل الحوادث كلها تؤكد ما في كتاب الله ، إن تأمل في الحوادث عرف الله ، وإن أعمل عقله عرف الله ، وإن أصغى إلى فطرته عرف الله ، يكفي أن تراقب الحوادث ترى أن الله عز وجل يحدث هذه الحوادث كآيات دالة على وجوده ، وعلى عدالته ، وعلى كماله ، وعلى وحدانيته ، من أي طريق شئت فالطريق سالك ، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، الكون طريق ، والعقل طريق ، والقرآن طريق ، والأحداث طريق ، والفطرة طريق ، والمصائب طريق ، وكل شيء في الكون يدل على مكون الكون .
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإسلام واضح ، الإسلام نقي ، الإسلام صفحة بيضاء ، الإسلام يعمل تحت الأضواء ، الإسلام دين الله ، الإسلام منهج الله ، الإسلام مرتكز إلى قوانين العقل ، الإسلام مرتكز إلى قوانين الفطرة ، الأحداث كلها تؤكد ما في القرآن .
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
كل الأحداث تؤكد ما في القرآن ، والقرآن يكشف لك سرّ الأحداث ، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾
سرّ نجاح المؤمن أنه أحسن الاختيار :
هؤلاء ضعاف العقول ، هؤلاء غيبيون ، هؤلاء ليسوا واقعيين ، هؤلاء حالمون، هؤلاء ضيقو الأفق ، هؤلاء ما رأوا مباهج الدنيا ، من قال لكم ذلك ؟ سيدنا عمر عرف كيف يختار الباقية على الفانية ، بطولة المؤمن في حسن اختياره ، لو أنه اختار الدنيا لكان متفوقاً على كل أهل الدنيا ، ولكن عرف الباقية وعرف الفانية فاختار الباقية على الفانية ، سرّ نجاح المؤمن أنه أحسن الاختيار ، اختار خالق الكون :
﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
خير منك وأبقى في سعادتنا معه ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة .
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
البطولة فيك أيها الأخ الكريم في حسن اختيارك ، إذا اخترت شيئاً ينتهي عند الموت لم تحسن الاختيار ، إذا اخترت جمع المال وآثرته على معرفة الله ما أحسنت الاختيار، إذا اخترت اقتناص اللذائذ على ما عند الله من سعادة ما أحسنت الاختيار ، إذا اخترت دنيا عاجلة بين يديك على آخرة آجلة لا تنقضي ما أحسنت الاختيار ، قل لي ماذا تختار أقل لك من أنت ، أين عقلك ؟ أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ، لأن الله يبقى وما سواه يفنى .
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ﴾
الدنيا مرحلة تتاجر بها .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
إذا لم يربح التاجر هل بقي له رأس ماله ؟ نقول نعم ، أما هنا :
﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾
وذهب رأس مالهم ، الخسارة الماحقة أن يذهب ربحك مع رأس مالك .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ في القرآن الكريم آيات كثيرة جداً في سورة التوبة وفي سورة المنافقون وفي سور أخرى كلها تصف أحوال المنافقين ، والمرض الخطير الذي يمكن أن يستشري بين المؤمنين هو مرض النفاق ، فإذا قرأت أوصاف المنافقين في كتاب الله فليكن هذا الوصف معياراً دقيقاً تزن فيه نفسك ، وقد قال الحسن البصري : من صفات المؤمن أنه يخاف النفاق ولا يطمئن من النفاق إلا المنافق .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فوائد الصلاة و الحجامة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ روى الإمام البخاري : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ ))
حديث صحيح ورد في البخاري ، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث أخرى يقول :
((إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة ، لا يتبيغ الدم بأحدكم فيقتله ))
يقول العلماء : تبيغ الدم هو تهيج الدم ، وبالمصطلح الحديث ارتفاع الضغط ، أو ارتفاع التوتر الشرياني ، هناك علاقة بين الدورة الدموية وبين الدورة الفلكية ، فإذا اشتد الحر كما قال عليه الصلاة والسلام فاستعينوا بالحجامة لا يتبيغ الدم بأحدكم فيقتله ، رواه الحاكم في المستدرك عن أنس مرفوعاً وصححه وأقره الإمام الذهبي .
أيها الأخوة الأكارم ؛ في الإنسان كما تعلمون معامل لكريات الدم الحمراء ، هذه المعامل متوضعة في نقي العظام ، ولا أبالغ إن قلت إن حياة الإنسان متوقفة على عمل هذه المعامل وعلى نشاطها ، وهناك مرض خطير تعرفونه جميعاً هو فقر دم اللامصنع ، أي هذه المعامل تتوقف فجأة عن صنع كريات الدم الحمراء بلا سبب معروف عند الأطباء ، واكتشف حديثاً أن هذه المعامل معامل كريات الدم الحمراء التي تنتج في الثانية الواحدة مليونين ونصف المليون من الكريات ، هذه المعامل كلما نقص الدم من الأوعية الدموية زاد نشاطها وصانت نفسها ، والحجامة في ظاهرها إنقاص لكمية الدم في الأوعية الدموية ، لذلك إذا ارتفع التوتر الشرياني وإذا هاج الدم في الأوعية مع قدوم الحر قال عليه الصلاة والسلام : " إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله" .
شيء آخر : النبي عليه الصلاة والسلام ما كان أحد يشتكي إليه وجعاً في رأسه إلا قال له : احتجم ، الصداع أو الشقيقة هو في حقيقته احتباس الدم في أوعية المخ ، أو ضعف التروية الكافية لأوعية المخ ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الطب النبوي أشار لمن يعاني من الصداع المزمن . . لمن يعاني من الشقيقة . . لمن يعاني وجعاً في رأسه أشار عليه بأن يحتجم .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أخرج البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ))
كلكم يعلم أيها الأخوة أن الإنسان حينما يصلي ، حينما يركع وحينما يسجد ينخفض رأسه عن مستوى قلبه ، هذا الانخفاض يسبب ارتفاعاً في الضغط الشرياني ، فإذا رفع المصلي رأسه فجأة هبط الضغط إلى أدنى مستوياته ، من ارتفاع الضغط وانخفاضه في الركعة ثلاث مرات ، في الركعتين ست مرات ، في الأربع ركعات إلى آخره ، هناك عدد كبير من ارتفاع رأسه وانخفاضه في الركعة الواحدة ، هذا يكسب الشرايين مرونة ، هذه المرونة تقي انفجارها في المخ ، أي إذا قلنا : إن الصلاة هي صحة إضافة إلى أنها عبادة لا نكون قد بالغنا في هذا الأمر ، هي صحة وهي في الوقت نفسه عبادة ، فالذي يصلي يدفع بدمه إلى أسفل عند السجود ، فإذا رفع رأسه انخفض الضغط ، من ارتفاع الضغط وانخفاضه يتولد ما يسمى بمرونة الشرايين ، بلين الشرايين ، وهذه المرونة وهذا اللين يقيان الإنسان انفجار الشرايين عند ارتفاع الضغط المفاجئ .
إذاً الحجامة وقاية والصلاة أيضاً وقاية ، وقد ذكرت سابقاً في خطبة قديمة أن امرأة ذهبت إلى بلد أوربي تستطبب من وجع في رأسها مزمن ، فما كان من الطبيب إلا أن قال لها : هل أنت مسلمة ؟ قالت : نعم ، قال : أتصلين ؟ قالت : لا ، قال : صلي يذهب ما بك ، امتلأت غيظاً ، قدمت من بلاد بعيدة وتجشمت المتاعب ودفعت الأموال الطائلة لتقول لي : صلّي ، هنا أجابها الإحابة العلمية : الإنسان إذا صلى ارتفع مستوى تروية الدم لشرايين المخ ، هذا كله أيها الأخوة من المسلمات في الطب ، أي إذا عبدت الله عز وجل وأديت الصلاة كما أراد الله فضلاً عن أنها عبادة هي وقاية من الأمراض التي يشعر الناس بخوف منها .
عباد الله ، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .