وضع داكن
22-11-2024
Logo
المؤلفات - كتاب مقومات التكليف – المقوم الثالث - الفقرة : 4 - الفطرة والطبع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

ولكن هناك نقطةٌ دقيقةٌ جداً يجب ألاّ تغيبَ عن أذهاننا، وهي أنّ الفطرةَ شيءٌ، والطبعُ شيءٌ آخرُ، الطبعُ مرتبطٌ بالجسمِ، فهذا الجسمُ يُرِيحُه أنْ يبقى نائماً إلى ما بعد طلوعِ الشمسِ، لكنّ التكليفَ يأمرُه أنْ يستيقظَ، وفي هذا مشقّةٌ على الجسمِ، فإذا استيقظَ، وصلّى صلاةَ الفجرِ في وقتِها ارتاحتْ نفسُه، فكأنّ الأمرَ الإلهيَّ يريحُ النفسَ، ويُتعِبُ الجسمَ، هذا التناقضُ بين خصائصِ طبعِ الإنسانِ والتكليفِ هو ثمنُ الجنّةِ،

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النازعات: الآية 40 - 41 ]

فالفطرةُ متطابقةٌ تطابقاً تاماً مع خصائصِ هذا المنهجِ، لذلك حينما تستقيمُ على أمرِ اللهِ تشعرُ براحةٍ، لذلك قالوا: " في الدنيا جنّةٌ مَن لم يدخلها لم يدخلْ جنّةَ الآخرة "، وقيل: " المؤمنُ عنده شعورٌ بالأمنِ لو وُزِّع على أهلِ بَلَدِ لكفاهم "، هذا أمنُ الإيمانِ، وهذا ينقلنا إلى قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم :

(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ))

[ الترمذي ( 2346 )، ابن ماجة ( 4141 ) عن عبد الله بن محصن الخطمي ]

إنه آمِنٌ لا لأنه غني، ولا لأنه قويٌّ، إنه آمِنٌ لأنه واثقٌ من وعدِ الله له بالحسنى،

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ القصص: الآية 61 ]

يشعر أنّ اللهَ يحبّه، وأنه على منهجِ الله سائرٌ، وأنه موعودٌ بالجنةِ، وأنه لم يؤذِ مخلوقاً كائناً مَن كان، وأنه بنَى حياتَه على العطاءِ، والطرفُ الآخرُ بنَى حياتَه على الأخذِ

فالمؤمنُ يسعِدُه أن يعطيَ مِن كلِّ ما أعطاه اللهُ، مِن وقتِه، من مالِه، مِن جهدِه، من علمِه، من خبرتِه، يسعدُ بالعطاءِ، لأن الأنبياءَ جاؤوا إلى الدنيا فأعطوا كلِّ شيءٍ، ولم يأخذوا شيئاً، والطغاةُ أَخذوا كلَّ شيءٍ، ولم يعطوا شيئاً، ليس في الأرض إلا رجلان ؛ رجلٌ عرفَ اللهَ، وعرفَ منهجَه، فانضبط بمنهجِه، وأحسنَ إلى خَلْقهِ، فسعدَ في الدنيا والآخرةِ، ورجلٌ غفلَ عن اللهِ، وبالتالي تفلَّتَ من منهجِه، ومن لوازمِ التفلّتِ من المنهجِ الإساءةُ إلى الخَلْقِ، فشقيَ في الدنيا والآخرةِ .
إذاً الطبعُ متعلِّقٌ بالجسمِ بعضَ التعلُّقِ، أما الفطرةُ فمتعلِّقةٌ بالنفسِ .
الفطرةُ تتوافقُ مع منهجِ اللهِ، والطبعُ يتناقضُ مع منهجِ اللهِ، وحينما يصطلحُ الإنسانُ مع اللهِ عز وجل يريحُ نفسَه راحةً عاليةً .
السيّارةُ السياحيّةُ مصنوعةٌ للسيرِ على طريقِ معبَّدٍ، فحينما تركبُها على الطريقِ المعبَّدِ تأخذُ كلَّ ميزاتِها، صوتٌ ناعمٌ، سرعةٌ جيّدةٌ، كلُّ الأمورِ التي صُنِعَتْ لها تقطفُ ثمارَها، وهي على الطريقِ المعبّدِ، أما لو سِرْتَ بها في طريقِ وَعْرٍ فيه أكماتٌ وصخورٌ وحُفَرٌ فإنها تتكسرُ، ولا تنطلقُ، وتنزعجُ منها، وقد تصابُ بالعطبِ، لأنها مصنوعةٌ للطريقِ المعبّدِ، فلا ترتاحُ بهذه المركبةِ، ولا تنطلقُ بها، ولا تشعرُ بميزاتِها إلا في الطريقِ المعبّدِ، أما المدرّعةُ مثلاً فمصنوعةٌ للطريقِ الوعرِ .
حينما أتيقّنُ أنّني متوافقٌ مع منهجِ اللهِ، وأصطلحُ مع اللهِ، وأتوبُ إليه، أشعرُ براحة، وما مِن راحةٍ في بني البشرِ تفوقُ راحةَ التائبِ إلى اللهِ،

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ الأنعام: الآية 81 – 82 ]

لو قال الله عز وجل: أولئك الأمنُ لهم أي: ولغيرهم أيضاً، ولكنه سبحانه قال:

﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾

وَحْدَهم، فليس على وجهِ الأرضِ إنسانٌ آمنٌ حقيقةً إلا المؤمنُ، أمّا الذي أشركَ باللهِ عز وجل فإنّ اللهَ يقذفُ في قلبِه الخوفَ .

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور