- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه يا رب العالمين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
حقيقة الإنسان في القرآن :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن في سلسلةٍ من الخُطَب تتمحْوَر حول محورٍ واحد وهو : حقيقة الإنسان في القرآن .
هل هناك موضوع أيها الأخوة أقرب إلينا من أن نعرف أنفسنا ؟ هل من موضوعٍ أيها الأخوة أقرب إلى الإنسان من أن يعرف ذاتَه ؟ هذا التعريف مِن قِبَلِ مَن ؟ مِن قِبَل الخالق ، من قبل الصانع ، افترض أن الإنسان آلةٌ معقدة ، التعامل مع هذه الآلة لا يكون صحيحاً ، ولا سليماً ، ولا نافعاً ، ولا مُجدياً إلا إذا تعاملت مع هذه الآلة وفق تعليمات الصانع .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ من الموضوعات المُهمة جداً أن تعرف من أنت ؟ ما جِبِلَّتُك ؟ ما طبيعتك ؟ ما حقيقتك ؟ ما خصائصك ؟ تحدثنا في خطبٍ سابقة عن أن الإنسان حادث . .
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
ولكُلِّ حادثٍ مُحدث ، والمُحدث سيسأل ، وتحدثنا في خطبٍ سابقة عن أن الإنسان مُمْتَحَن . .
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾
وتحدثنا في خطبٍ سابقة عن أن الإنسان كادِح ، أي أن طبيعة الحياة تقتضي بذل الجُهد في أيّ اتجاه . .
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾
وتحدثت في خطبٍ سابقة عن أن الإنسان مبين . .
﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾
وعن أن الإنسان أودع الله فيه قدرةً على التعلُّم والإدراك .
الإنسان حرٌ في اتخاذ قراره و اختياره و اتجاهِهِ :
واليوم موضوع الخطبة آيةٌ كريمة تتحدث عن طبيعة الإنسان قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
خالُقنا ، ربُّنا ، إلهُنا يصف الإنسان الذي خلقه وهو أخبر به أنه كثير الجَدَل ، فماذا تعني هذه الآية ؟
يا أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾
أيّ بيَّنا ، فصَّلنا ، نوَّعنا ، التصريف التبيين ، التصريف التفصيل ، التصريف التنويع ، أيْ تارةً بالأمر ، وتارةً بالنهي ، وتارةً بالقصة، وتارةً بالمَثَل ، وتارةً بالتاريخ ، وتارةً بالتحذير ، وتارةً بالتبشير ، وتارةً بصور أهل الجنة وصور أهل النار ، فالموضوعات والأساليب التي اتبعها القرآن لهداية الإنسان كثيرةٌ جداً ، متنوعةٌ جداً ، تُغَطِّي كل الشرائح ، تغطي كل أنماط التفكير ، تغطي كل الاتجاهات .
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ﴾
كتاب ربنا ، كتاب الهداية ، تارةً ترى الوعد والوعيد ، وتارةً ترى الأمر والنَهي ، وتارةً ترى الحلال والحرام ، وتارةً ترى الماضي والمُستقبل ، تارةً ترى أهل الجنة في الجنة يتنعَّمون ، وتارةً ترى أهل النار في النار يتصايحون ، تنوّع الموضوعات ، وتنوع الأساليب هذا من خصائص القرآن ؛ لأنه كِتاب هدايةٍ ورشد ، لأنه كتاب الله إلى خلقه ، لأنه خِطاب السماء إلى الأرض ، لأنه الكتاب المُقَرَّر .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أما معنى قول الله تعالى :
﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾
فلحكمةٍ أرادَها الله عز وجل جعل نبياً عظيماً ، وجعل آباه كافراً ، إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام :
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾
فلئلا يحتجّ الإنسان بأنه نشأ هكذا ، وتربى هكذا ، وربّاه أبوه هكذا ، أوردَ القرآن قصةً مُفادها أنه : يمكن أن تكون إنساناً عظيماً والأب ليس كذلك . مثلٌ آخر : جعل من نسل سيدنا نوحٍ عليه الصلاة ولداً كافراً قال :
﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
أيْ أنَّ الإنسان له اختياره ، له شخصيّته ، له قناعاته ، له إيمانهُ ، لا يمنعهُ من الإيمان أن يكون والده غير مؤمن ، ولا يمنعه من الإيمان أن يكون ابنُه غير مؤمن ، أما امرأة فرعون . .
﴿قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
امرأةٌ آمنت بالله عز وجل ، واستقامت على أمره ، وأحبت ، وأعطت ، واشتاقت إلى ربها ، وزوجها يدَّعي الألوهية . وامرأة لوط . .
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
زوجةٌ مؤمنة وزوجها كافر ، زوجٌ نبيّ وزوجةٌ كافرة ، أبٌ نبيّ وابنٌ كافر ، ابنٌ نبيّ وأبٌ كافر ، معنى هذا كله أن الإنسان حرٌ في اتخاذ قراره ، حرٌ في اتخاذ اختياره ، حرٌ في اتجاهِهِ ، هذا :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾
القِصَص و العبر والحقائق في القرآن الكريم من أجل هدايتنا :
شيءٌ آخر : ربنا سبحانه وتعالى ضرب لنا في القرآن آلاف الأمثلة ، تلك قصص ، وهُناك الأمثال
كيف أن العَبد المملوك الذي لا يقدر على شيء له شركاء متشاكسون ، وبين عبدٍ سَلَم لعبد هل يستويان ؟ إنسان سَلَّمَ أمره إلى الله ، عرف الله وحده ، عبده ، أخلص له ، علاقته مع جهةٍ واحدة ، قال تعالى :
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
حالة هذا الإنسان حالة الاستسلام والطُمأنينة ، حالة الشعور أن مصيره بيَدِ جهةً واحدة ، أن مصيره ، وحياته ، ومماته ، ورزقه ، وعلاقاته ، أن كل شيءٍ فيه متعلقٌ بجهةٍ واحدة، هذا التوحُّد في التوجُّه شيءٌ مريحٌ جداً ، بينما التبعثر ، والتشرذم ، والشرك :
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لو تتبعتم الآيات التي ضرب الله فيها الأمثال للناس ، بيَّن طريق الخير وطريق الشر ، قال :
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾
ربنا عز وجل قصّ علينا القِصَص ، ضرب الأمثلة ، وبيَّن العبَر ، وبيَّن الحقائق، وبيَّن الطرائق ، وبيَّن الأساليب ، كل هذا من أجل هدايتنا .
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
الله جل جلاله وصف الإنسان بأنه كثير الجدل ، فالله أتى الإنسان قدرات فكرية، آتاه قدرات في التحليل ، في الفهم ، في الاستنباط ، في الإدراك ، في التخيّل ، في التصوّر ، في الاستنتاج ، في الاستنباط ، في الاستقراء ، هذا كله نشاطٌ فكري أودعه فيه ليصل به إلى الله .
الإنسان مخير ذو قدرات حيادية يستخدمها في الخير أو في الشر :
لكن من شأن الاختيار أيها الأخوة أن يعطيك الله قدراتٍ حيادية ، يمكن أن تستخدمها في الحق ، كما يمكن أن تستخدمها في الباطل ، يمكن أن تستخدمها في الخير ، كما يمكن أن تستخدمها في الشر ، يمكن أن ترقى بك ، ويمكن أن تهوي بها .
فلذلك جاءت طبيعة الجَدَل في الإنسان من أنه مزودٌ بقدراتٍ فكرية ، هذه القدرات زوّده الله بها ليصل بها إلى الله ، فإذا أعرض عن الله عز وجل يستطيع أن يستخدمها لترويج الباطل ، يستطيع أن يستخدمها لقَلْب الحق باطلاً ، وقَلْب الباطل حقاً ، هذا من خطورة الإنسان ؛ أنه مخير ، وأنه مزودٌ بقدراتٍ ، واستعدادتٍ ، وطاقاتٍ ، وقابلياتٍ ، فلو وجَّه هذه القدرات في طريق الحق تفوق ، وارتفع ، وأفلح ، وفاز ، ونجح ، وإذا وجهها في طريق الباطل شقي وأشقى ، وهلك وأهلك ، وسار في طريقٍ يؤدي به إلى جهنم ، وبئس المصير .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يستخدم العلماء والأدباء والشعراء أساليب حينما يريدون أن يجسدوا معنىً دقيقاً عن طريق مثلٍ حِسِّيّ ، مثلاً قال الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت أتاح لها لسان حسودِ
* * *
قد يكون الحاسد هو الوسيلة لنشر الفضيلة ، وهو لا يدري ، هذه فكرةٌ دقيقة ربما لا نقبلُها ، ربما لا نقنع بها ، أن يسخر الحاسد لنشر فضل المحسود ، قال :
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عُـرف العود
* * *
قضيب البخور يجب أن تحرقه لتفوح رائحته ، إذاً ما هو المثل ؟ أن تأتي بمسلّمات تنطبق على مغيَّبات ، فإذا سلَّمت بالمثل سلَّمت بالأصل ، هذا معنى الآية :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾
الأساليب المتنوِّعة والمضامين الغنيّة في القرآن لمعرفة الله و السعادة بقربه :
إذا قرأت القرآن واستنبطت أمثاله ، عرفت أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجسِّد لك كل المعاني التي غابت عنك بأمثلةٍ حسيةٍ تقربها إليك ، هذه أساليب القرآن ، هذه أساليب النبي عليه الصلاة والسلام . .
((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهن الخطايا))
لو قرأتم القرآن ، وتتبعتم أقوال النبي العدنان من زاوية الأمثال لرأيتم العَجب العُجاب ، لرأيتم بلاغة ما بعدها بلاغة ، لرأيتم بياناً ما بعده بيان ، لرأيتم ما يسميه علماء البلاغة : " بالسهل الممتنع " ، شيءٌ قريب قريب . النبي عليه الصلاة حينما وصف قوماً ركبوا سفينةً ، واستهموا فيها ، فأصاب أحدهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فأراد الذي في أسفلها أن يخرق خرقاً ، وقال : هذا مكاني أفعل به ما أشاء ، إن أخذ على يديه نجا ونجوا ، وإن تركوه هلك وهلكوا . هل من مثلٍ أوضح للتضامن الاجتماعي من هذا المثل ؟
يا أيها الأخوة الكرام ؛ قد نقرأ القرآن ، وقد نقرأ السنة ، ونحن في غَفْلةٍ عن بلاغة القرآن ، ربنا عز وجل يقول :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
البعرة تدلُّ على البَعير ، والماء يدل على الغدير ، والأقدام تدل على المسير ، أفسماءٌ ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟! شيءٌ مألوف ، إن رأيت آثار أقدام تقول : لقد سار في هذا المكان أشخاصٌ ، شيءٌ مألوف إن رأيت جدولاً تقول : هناك نبعٌ ، البعرة تدل على البعير ، والأقدام تدل على المسير ، والماء يدل على الغدير ، أفسماءٌ ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟!
كل هذه الأساليب المتنوِّعة ، وكل هذه المضامين الغنيّة من أجل أن يأخذ الله بيدك إليه ، من أجل أن تعرّف إليه ، من أجل أن تؤمن به ، من أجل أن تسعد بقربه . .
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
الله سبحانه وتعالى ضرب للإنسان في هذا القرآن من كل مثل :
لكن الآية موطنها في موضوعٍ آخر . .
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
القسم الأول : أن الله سبحانه وتعالى ضرب للإنسان في هذا القرآن من كل مثل؛ قِصَص منوعة ، سيدنا سليمان أتاه الله المُلْك ، لا يمنع هذا المُلك أن تكون مؤمناً ، نبي عظيم وهو مَلِك ، سيدنا نوح ، سيدنا إبراهيم ، الأنبياء كلهم ، كل نبيٍ له قصةٌ تعد نموذجاً بشرياً . ثم فضلاً عن ذلك ضرب الله الأمثلة ، وضَّح فيها كل شيء ، وضح حالة المشرك ، وضَّح حالة المؤمن ، وضَّح حالة الإنسان المهتدي . .
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾
﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾
﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾
لو قرأت القرآن ؛ وقفت عند التشبيهات ، عند الاستعارات ، عند الكنايات ، عند الأمثلة ، عند الصور ، عند الأساليب المتنوعة ، عند الصور الوصفية ، لرأيت العَجب العُجاب.
الإنسان يتبع الحق الذي جاء من عند الله أو يستخدم عقله لتزيين الباطل :
قال :
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
ما معنى هذه الآية ؟ يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان حينما يؤْثِر شهوته ، ويؤثر مصلحته ، ويؤثر أن يأخذ ما ليس له ، أيْ أَنَّ الإنسان حينما يتجاوز دائرة الحقّ ، ودائرة العدل، ودائرة الخير ، ودائرة الفضيلة ، ليحقق شهواته عن طريق الباطل ، وعن طريق الظُلم ، وعن طريق الشرِّ ، وعن طريق الرذيلة ، اختار الشهوة ، اختار المُتعة ، اختار المال ولو كان حراماً ، اختار الاستمتاع بمباهج الحياة ولو كانت من طرقٍ غير مشروعة ، حينما يختار الإنسان شهوته دخل إلى مَنْطقة الباطل ، دخل إلى منطقة الظُلم ، دخل إلى منطقة الشَر ، دخل إلى منطقة الرَذيلة
ولأن الإنسان مزودٌ بقدراتٍ فكرية ، بقدراتٍ إدراكية ، عنده تفكير ، ومحاكمة ، وجدل ، وعنده إدراك، واستنباط ، واستقراء ، وتذكُّر ، وتخيل ، لأنه كذلك ، ولأنه يحب أن يظهر بمظهرٍ كامل ، ماذا يعمل ؟ يأتي يستخدم قدراته الفكرية ليُزَيِّن باطنه ، وليبرر تصرفه ، وليغطي انحرافه ، إذاً هذا الفكر الذي أودعه الله في الإنسان ليرقى به إلى الله ، استخدمه الإنسان استخداماً آخر ، فصار يبرِّر ، وصار يُفَلْسِف الباطل ، وصار يزَيِّن المعصية، فكل ما تقرؤونه ، وكل ما تسمعونه من باطلٍ مزيف إنما هو من وحي هذه الآية :
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
فالإنسان إما أن يتبع الحق الذي جاء من عند الله ، وإما أن يستخدم عقله لتزيين الباطل ، لأن هذا الإنسان زوِّد بهذه القدرات لترقى به ، لكنها قدراتٌ حيادية ، فلما اختار طريق الشر ، فلما اختار طريق الشهوة استخدمها استخداماً لا أخلاقياً ، استخدم هذا القُدرات ليُغَطِّي بها انحرافه ، ليعيد بها توازنه النَفْسِي ، فحينما تستمعون إلى نظرياتٍ وضعيةٍ تروِّج للمعصية ، تروج للانحراف ، حينما تستمعون إلى مبدأ من صنع الإنسان يقوم على إطلاق حريته ، وعدم انضباطه ، حينما يزيّن مبدأ لإنسان أن يعيش لحظته ، حينما يزين مبدأ لإنسانٍ أن ينكر خالقه، هذا الإنسان الذي اختار الانحراف استخدم فكره لتزيين انحرافه ، ولتغطية كفره ، ولتبرير سلوكه المُنحرف .
أنماط المُجادلة التي ساقها الله في القرآن الكريم :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ المُجادلة هذه بالباطل ، وقد وردت بنَصِّ القرآن الكريم ، قال تعالى :
﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾
انظروا إلى أنماط المُجادلة التي ساقها الله في القرآن الكريم :
﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾
لكي يستريح الإنسان ، وينطلق في شهواته كما يريد ، حتى يأخذ ما ليس له ، حتى يعتدي على أموال الناس ، وعلى أعراضِهم ، حتى يعيشَ ويموت الناس ، حتى يحيا وينهار الناس ، حتى يطمئنّ ، ويخاف الناس ، إذا أراد الإنسان أن يبني مجده على أنقاض الآخرين هو مضطرٌ إلى أن ينكر يوم الدين ، مضطر لكي يتوازن ، كيف يتوازن ؟ هذه الدنيا ولا شيء بعد الدنيا . .
﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾
يجيبه الله عز وجل :
﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾
الذي خلقه بعد أن لم يَكُ شيئاً أليس قادراً على أن يعيد خَلْقَه ؟ هذا نمطٌ من مجادلة الإنسان .
﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾
يريد الشهوة ، يريد أن يأخذ ما ليس له ، يريد أن ينغمس في الملذَّات إلى قمة رأسه .
﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾
يسأل استهزاءً :
﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾
هذه مجادلته ، هذا الفكر الذي أودعه الله فيه حينما ينحرف يستخدمه لتبرير انحرافه ، يستخدمه لتزيين شهواته ، يستخدمه لتغطية سلوكه ، يستخدمه لترويج أفكاره الباطلة، والله سبحانه وتعالى يصف هؤلاء المُجادلين بأنهم :
﴿ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾
الإنسان أحياناً يهتدي بفطرته ، وأحياناً يملك علماً أصولياً ، علماً صحيحاً يقينياً، وأحياناً يهتدي بهداية الله التي جاءت من خلال الكُتب المُنَزَّلة ، فربنا عز وجل وصف هؤلاء المجادلين :
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾
لا عِلْمَ عنده ، لا يوجد عنده علم مطابق للواقع . .
﴿وَلَا هُدًى﴾
ولا يحتكم إلى فطرته السليمة . .
﴿وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾
ولا إلى نقلٍ صحيح ، لا نقل صحيح بين يديه ، ولا فطرة سليمة يحتكم إليها ، ولا علمٌ متينٌ يعتَمد عليه ، فكيف يجادل ؟
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾
آية ثانية :
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
هناك تلازمٌ بين إنكار الحق واتباع الهوى ، بين تكذيب الحق والانغماس في الشهوة ، هذا التلازم ضروري ، وقد أكده القرآن الكريم :
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
الإنسان كثير المجادلة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربُّنا جل جلاله لم يصف الإنسان بأنه مجادل ، بل وصف الإنسان بأنه كثيرُ المُجادلة ، أيْ مؤلفاتٌ طويلة ، موسوعاتٌ كبيرة ، مراجع طويلة كلها من أجل تزيين الباطل . .
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
فُسِّرَت الكثرة تفسيراً كَمِّيَّاً ، مئات المؤلفات ، آلاف المؤلفات ، مئات ألوف المؤلفات ، كلها تروّج الباطل ، كلها تدعو إلى الانحراف ، كلها تدعو إلى المعاصي ، كلها تجعل الدنيا هي كل شيء ، كلها تكذب بالآخرة ، هذه كثرةٌ كمية .
وهناك كثرةٌ نوعية ، فأحياناً يعتمد على قولٍ مُزَخْرَف ، وعلى احصاءاتٍ مزيفة ، من أجل أن نُثْبِتَ الباطل ، من أجل أن نروِّجه ، من أجل أن نلغي الحق ، هؤلاء الذين جاؤوا بنظرياتٍ تهدم الأديان ما رأوا هذه الحقائق ، وذكروها ، وأخطؤوا في رؤيتهم ، ليتهم كذلك ! لا ، إنهم افتعلوها ، إنهم تكلموا كلاماً هم ليسوا قانعين فيه ، أضافوا إلى أخطائهم العلميَّة أخطاءهم الأخلاقية ، هم روَّجوا الباطل ليهدموا الأديان ، وهم يعلمون قبل غيرهم أنهم مفترون .
ترويج المشركين الباطل من أجل مصالحهم :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه المجادلة في الدنيا ، فهل في الآخرة مُجادلة ؟ قال تعالى :
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾
أين هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله ؟ أين هؤلاء الذين ظننتم أنهم بيدهم كل شيء ؟ أين هؤلاء الذين اعتمدتم عليهم ؟ أين هؤلاء الذين جعلتموهم الأداة المُحَرِّكة لما يجري في العالم ؟
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
أَتَاهَا أَمْرُنَا ، لا أمرهم .
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾
كنا نفتعل هذا افتعالاً يا رب ، كنا نقول كلاماً لسنا مقتنعين به ، أردنا ترويج الباطل من أجل مصالحنا ، قلنا ما لم نقتنع ، وأرينا أعيننا ما لم تر ، وأسمعنا آذاننا ما لم تسمع. .
﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾
يقول الله عز وجل :
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾
أحياناً أيها الأخوة أترنَّم بكلمة أقول : فلان صادقٌ مع نفسه ، الإنسان إذا كذب على نفسه سقط من عين الله ، هل الجُرْأة أن تقول ما في نفسك ؟ أن تقول ما أنت قانعٌ به ؟ لا تروِّج باطلاً ؟
هذا الذي تقوله قانعٌ به ؟ لو خَلَوْتَ مع نفسك تقول : هذا صحيح أم باطل ؟ قال:
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾
هؤلاء الذي يجهلون ، ويتكلَّمون ، وينطقون بالباطل ، ويتحمَّسون له ، ويأتون بالأدلة الواهية ، وبالحُجَج الضعيفة ، وبالاحصاءات الكاذبة ، وهؤلاء الذين يجعلون المعصية سلوكاً سوياً ؛ كثيرٌ ممن ذهبوا إلى أطباء نفسيين ، فنصحوهم أن يقيموا علاقاتٍ مع فتيات ، هكذا درسوا أن الصحة النفسية تقتضي أن يكون للشاب صديقة ، هكذا ، هؤلاء الذين روَّجوا للباطل ، وخالفوا منهج الله عز وجل ، ولم يعبؤوا بأمر الله ونهيه ، هؤلاء يوم القيامة يكذبون ، يتضح كذبهم ، ويقول الله عز وجل :
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
قوة المُبْطِل بلسانه والمنحرف بمنطقه :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر يوم القيامة مخيف هو أن الإنسان في الدنيا قد يكون ذكياً ، وقد يكون طليق اللسان ، ويستطيع أن يبرِّر أعماله ، وأن يغطي سلوكه ، وأن ينسحب من التُهمة كما تُسْحَب الشعرة من العجين
هذا يظنه الناس ذكياً وشاطراً ، واستطاع أن ينجو ، وأن ينال كل حظوظه دون أن يكون مداناً ، هذا النموذج لا يُفْلِح يوم القيامة ، لأن قوة هذا الإنسان في مَنْطِقِه ، لأن قوة هذا الإنسان في فلسفته ، في جَدَلِهِ ، في قدرته على الإقناع ، قال : مثل هذا الإنسان يوم القيامة يقول الله عز وجل :
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾
لا يوجد كلام . .
﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
كل قوة المُبْطِل بلسانه ، كل قوة المنحرف بمنطقه المنحرف ، كل قوة العاصي بزخرَفة كلامه ، هذه القوة تُلغْىَ يوم القيامة . .
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
الجَدَل شيءٌ من خصائص الإنسان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ نقطةٌ دقيقةٌ جداً : الجَدَل شيءٌ من خصائص الإنسان ، لماذا جعله أكثر شيءٍ جدلاً ؟ لأنه أعطاه قدرات فكرية عالية جداً من أجل أن يصل إلى الله . الإنسان حينما يركب مركبةً ، تنطلق به بسرعةٍ هائلة ، هذه القدرات الرائعة في السيّارة ، من أجل أن تهبط بها في الوادي ؟ لا ، صُنِعَت لهدفٍ نبيل ، فإذا قاد الإنسان مركبةً ، وكان ثملاً ، هبطت به إلى الوادي ، فتكسَّرت أضلاعه ، أيحق له أن يقول : إنما صُنِعَ هذا المحرك لأكون هكذا ؟ لا ، صنع هذا المُحَرِّك لتنطلق بك إلى أهدافٍ سليمة ، لكنك استخدمتها أسوأ استخدام ، وهذه القدرات الفكرية التي أودعها الله فينا ، أودعها فينا من أجل أن نعرفه ، وأن نتَّبع منهجه ، وأن نسعد بقربه ، فإذا عطَّلنا هذا الاتجاه ، واستخدمنا هذه الطاقات الفكرية من أجل ترويج الباطل ، من أجل تزيين المعصية ، من أجل فلسفة الانحراف ، من أجل تغطية العُدوان ، عندئذٍ نكون كما وصف الله الإنسان قبل أن يؤمن :
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
إساءة الإنسان استخدام الجدل :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الجدال واقعٌ وهو في الأصل في مصلحة الإنسان ، ولكن الإنسان أساء استخدامه
لذلك جاء نهيٌ عن الجدال بالباطل ، قال تعالى :
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
أيْ اختر الموضوعات الصحيحة ، والأساليب الرقيقة ، والأساليب البَليغة ، فأحسن اسم تفضيل ، إذا كان هناك آلاف الأساليب للمجادلة ، اختر أحسنها ، اختر أقربها إلى قلوبِهم ، اختر أقربها إلى الصِحَّة ، اختر أقربها إلى الحِكْمَة . .
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
الحظوظ التي أودَعها الله في الإنسان حظوظٌ حيادية ترقى به أو تهوي به :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ عودٌ على بدء :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾
لماذا ؟ لأن الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً ، لئلا يقوده جدله إلى الباطل ، كل منافذ الباطل قد سُدَّتْ عليه ، أمثلةٌ كثيرة ، قصص كثيرة ، مواعظ كثيرة .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه حقيقة الاختيار ، أن تزوَّد بطاقات حيادية ؛ إما أن ترقى بك وإما أن تهوي بها ، الشهوات كذلك إما أن ترقى بها إلى رب الأرض والسموات ، وإما أن تدمَّر بها ، الشهوة قوةٌ دافعة ، أو قوة مدمرة ، العقل قوةٌ هادية أو قوةٌ مُهلكة ، كل الحظوظ التي أودَعها الله في الإنسان حظوظٌ حيادية ترقى به أو تهوي به ، المَنْطِق ، البيان..
((إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعالى ما يُلْقِي لَهَا بالاً يَرْفَعُ اللَّهُ تَعالى بها دَرَجاتٍ ، وَإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخْطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقِي لَها بالاً يَهْوِي بِها في جَهَنَّمَ))
العقل قدرة حيادية ترقى بها وتهبط بها ، الشهوة قوة مدمرة ، أو قوة مُعَمِّرة ، البيان إما أن ترقى به إلى رب الأرض والسموات ، وإما أن يهوي به الإنسان في جهنم سبعين خريفاً ، الزوجة كذلك ، القوة العضلية كذلك ، السمع والبصر كذلك .
ملخص المُلَخَّص : أن كل الحظوظ التي أكرمك الله بها حظوظٌ حيادية ؛ إما أن ترقى بها وإما أن تهوي بها ، ومنها الجَدَل . .
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني . والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
علم النفس الإسلامي :
أيها الأخوة الأكارم ؛ بدأنا نسمع بشيءٍ اسمه : " علم النفس الإسلامي " ، علمٌ بكل ما في هذه الكلمة من معنىً ، علمٌ ، أيْ علاقات ثابتة ، قواعد ، قوانين ، علم النفس ، وأنت نَفْس ، هي التي بين جَنْبَيْك ، هي ذاتك ، هي الخالدة التي لا تموت ، هي التي تسمو ، وهي التي تفسد ، علم النفس الإسلامي ، أيْ حقائق النفس المستنبطة من كتاب الله وسُنة رسوله، وما هذه الخُطَب الثلاث إلا من هذا القبيل .
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان إذا اتصل بالله عز وجل حقق ذاته ، وحقق فطرته، فإذا انقطع عنه أصيب بما يسميه علماء النفس أو الأطباء النفسيون : اضطراباتٍ نفسية ، تُعَدِّد هذه الكُتب من الاضطرابات النفسية اليأس . .
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً﴾
الإنسان العادي :
﴿ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً﴾
فاليأس اضطرابٌ نفسيّ ، سببه الانقطاع عن الله عز وجل ، عدم الإيمان به أو الانقطاع عنه ، هذا السبب يؤدّي إلى هذا الاضطراب ، فاليأس والقنوط اضطراب نفسي ، من لوازم عدم الإيمان ، وعدم الاتصال بالله عز وجل ، ولكن المؤمن يغلب عليه التفاؤل ، يغلب عليه الثقة بما عند الله عز وجل ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق مما بين يديك ، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله .
يَعُدُّ علماء النفس الإسلامي النفاق اضطراباً نفسياً سببه الشرك ، الإنسان إذا أشرك بالله ، ورأى مع الله آلهةً بيدهم أمره ، وبيدهم نفعه وضرُّه ، إذا انطلق من هذه النظرة ، من لوازم هذا الخطأ الإيمانيّ اضطرابٌ نفسي ، إنه النفاق . .
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾
فالنفاق ظاهرةٌ مَرَضية ، النفاق اضطرابٌ نفسي ، سببه الشِرك .
الإحباط : الإنسان حينما يعلق آماله بغير الله ، ثم يجد أن هذا الشيء لا قيمة له ، لمْ يحقق هدفه ، يُصاب بحالةٍ نفسية مؤلمةٍ جداً إنها الإحباط ، قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
حالة الإحباط أن تظن هذا الشيء عظيماً ، تُقْبِلُ عليه ، تضيِّع من أجله شبابك، وشيخوختك ، ثم تكتشف بعد فوات الأوان أنه لا شيء ، وأنه ليس مسعداً .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من أنواع الاضطراب النفسي الناتج عن ضعف الإيمان، وعن ضعف الصلة بالله ما يسمى بالصراع المستمر
الصراع إذا استمر انقلب إلى لامبالاة ، وهذا مرضٌ من أمراض العصر ؛ صراعٌ بين الحق والباطل ، صراعٌ بين الحاجة والقيَم ، صراعٌ بين الدنيا والآخرة ، صراعٌ بين العقل والشهوة ، عدم قوة الإيمان يصبح الإنسان ضحيّة هذا الصراع ، قال تعالى :
﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾
فالصراع ، والإحباط ، والنفاق ، واليأس ، وسوء الظن - يغلب على المنقطع عن الله سوء الظن بكل شيء - والبغضاء ، والغضب ، والسلبية ، والاكتئاب ، والاكتئاب مرض العصر ، مجموع الذين يعالجون في العيادات النفسية في مجتمعات الكفر بالمئة مئة وخمسة وخمسون أي بالمئة مئة وخمسة وخمسون يعالجون مرَّتين ، وبعض الأطباء النفسيين يعالجون عند زملائهم ، فالاكتئاب ، مرض العصر الاكتئاب ، والاكتئاب بسبب أن فطرتهم سليمة ، فلما انحرفوا ، عذبتهم فطرتهم فاكتأبوا ، هذا سماه العلماء : الشعور بالذنب ، عقدة النقص ، أو الاكتئاب .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا آمنا بالله عز وجل عشنا حالةً اسمها الصحة النفسية، نفسٌ رضية ، نفسٌ مطمئنة ، نفسٌ متفائلة ، نفسٌ متوازنة ، نفسٌ صادقة ، نفسٌ صريحة ، هذه الصِفات الراقية هي من ثمار الإيمان ، إن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلُقَاً حسناً .
الوقت أثمن شيءٍ يملِكه المسلم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ سأقطع الموضوع المتسلسل في الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى لأعالج موضوع الزمن ، لأننا في اليوم الأول من العام الجديد ، فموضوع الخطبة القادمة متعلِّقٌ بموضوع الزمن ، وقيمة الوقت في حياة المسلم ، بل إن الوقت هو رأس ماله ، إن أثمن شيءٍ يملِكه المسلم هو الوقت ، لأن مضيَّ السنوات يعني مضي الوقت ، والإنسان وقت .
الاستقامة على أمر الله عز وجل :
وهناك شيءٌ آخر أتمنى على الله عز وجل أن يكون واقعاً في حياتكم ، هو أن الناس مُقدمون على أعياد رأس السنة ، ومن سمات هذه الأعياد أن ترتكب فيها المعاصي والآثام، أنا لا أعتقد أن واحداً يرتاد بيوت الله عز وجل ، من رواد المساجد ، من المؤمنين الملتزمين ، يخطر في باله لثانيةٍ واحدة أن يحضر هذه الحفلات ، فمن تحصيل الحاصل ، أنا بعض الأخوة يلومونني في كل عام : لماذا لا تطرح هذه الموضوعات ؟ أقول لهم : الذي يأتي إلى المسجد لا يذهب إلى هذه الحفلات ، فمن تحصيل الحاصل أن أمتنع عن ذكر هذه التحذيرات ، ولكن قد رجاني بعض الأخوة أن بعض الإخوان الكرام يقيمون حفلات في بيوتهم ، يبتعدون عن الأماكن العامة خوفاً من الله عز وجل ، ولكن هذه الحفلات التي في البيوت أحياناً فيه اختلاط لا يرضي الله عز وجل ، فماذا علينا لو أحيينا هذه الليلة بذكر الله عز وجل ؟ ماذا علينا لو أحيينا هذه الليلة بتلاوة القرآن ؟ ماذا علينا لو جمعنا أخوتنا الذكور ، أو جمعنا أنفسنا في وضعٍ ليس فيه معصيةٌ إطلاقاً ، وتذاكرنا في العِلم الشَرْعِيّ ، وتذاكرنا في القرآن الكريم . ألا تجد معي أيها الأخ الكريم أنه من خصائص المسلم أن يتميّز عن غير المسلم في بيته ، في احتفالاته ، في أفراحه ، في أتراحه ، في كَسْب ماله ، في عمله ، في نزهاته ، فإذا اختلط المسلم وغير المسلم ، وإذا جمعتهم عادات وتقاليد ، فما قيمة المسلمين ؟ .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ دائماً وأبداً أقول لكم هذه الكلمة : ما لم نستقم على أمر الله ، فلا يحق لنا أن نطالب الله بوعوده ، أدِ الذي عليك واطلب من الله الذي لك .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .