وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الشمس - تفسير الآيات 7 - 15 النفس البشرية وأمراضها.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

كل الأديان والدين الإسلامي بشكل خاص جوهره السيطرة على الذات أو على النفس :

وصلنا في الدرس الماضي في سورة الشمس إلى قوله تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

ربنا سبحانه وتعالى قبل ذكر النفس ذكر الشمس وضحاها، وذكر القمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، وذكر الليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، وذكر الأرض، وبعد هذه الآيات الكبيرة ذكر النفس، وقد تكون النفس أعظم من كل هذه الآيات، ورد في الأثر أن: " ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن "، ربما كانت النفس الإنسانية هي المقصودة من تسخير السموات والأرض:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾

[ سورة الجاثية: 13 ]

وسخر لكم السماوات والأرض، والسماوات والأرض وما فيهن مسخرة لهذه النفس الإنسانية، فربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

كيف سوى ربنا سبحانه وتعالى هذه النفس؟ نحن اليوم نُعنَى بالجسد، والحضارة الغربية بأكملها وبكل أنواعها مَعنية بالجسد، والجسد مصيره إلى ما تعلمون، فكل هذه الجهود الجبارة التي تبذل من أجل العناية بهذا الجسد تنتهي عند الموت، وعند الموت سيواجه الإنسان نفسه التي دساها وأهملها ولم يسمُ بها ودنسها وسوف تعذبه إلى أبد الآبدين، حتى إن بعضهم لخص الحضارة القائمة على الدين بأنها حضارة تسيطر على ذات الإنسان المؤمن المنضبط، وفسر بعضهم الحضارة المادية بأنها سيطرة على المادة، لكن الأديان والدين الإسلامي بشكل خاص جوهره السيطرة على الذات أو على النفس.

فرق دقيق بين الفطرة والصبغة :

قال تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

كل الآلات التي تخطف الأبصار وكل هذه المخترعات الحديثة هدفها ترفيه هذا الجسد والجسد مصيره التراب، فربنا عز وجل في هذه الآية وجهنا إلى النفس. فالإنسان يعتني بجسده، ويرتدي ثياباً جميلة، ويعتني ببيته، وبأثاثه، ولكن أين العناية بنفسه؟ سيدنا عمر كان يقول: تعهد قلبك، فالناس الآن يتعهدون أُمورهم المادية ويخجلون من بيت ليس فيه نظام، ويخجلون من أثاث قديم، ومن بيت طلاؤه قديم، ومن بيت مدخله غير مرتب، أما النفس التي ينطوون عليها فقد تركوها، تركوها هملاً. فإذا جاء الموت تظهر عورة النفس وسوف تعذب صاحبها إلى الأبد، فربنا عز وجل جذب النظر إلى هذه النفس.

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

كيف سواها؟ لقد فطرها فطرة عالية، لقد خلقها تحب الكمال، وأن تحب الكمال شيء وأن تكون كمالاً شيء آخر، وأن تحب العدالة شيء وأن تكون عادلاً شيء آخر، أن تحب العدالة فهذه فطرة وأن تكون عادلاً فهذه صبغة، فرق دقيق بين الفطرة والصبغة، أن تحب معالي الأمور فهذه فطرة، فهذه الفطرة العالية هي التي تعذب صاحبها، لماذا يحس الإنسان بوخز الضمير؟ ولماذا يحس بالضيق إذا انحرف وإذا اعتدى واستعلى وبنى مجده على فقر الآخرين؟ فما تفسير هذا الضيق؟ إن الفطرة السليمة التي فطر عليها الإنسان هذه الفطرة التي تتجه نحو الكمال، فإن وجدته استرحت وإن قصرت عنه تعذبت، هذا قانون عام ينطبق على النفس التي خلقها الله عز وجل.

النفس تذوق الموت ولا تموت لأن النفس خالدة :

قال تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

ما هذه التسوية؟ الإنسان مفطور على حب من أحسن إليه. فإذا رأى نفسه في الآخرة قد أساء إلى عباد الله والله عز وجل سبقت له منه الحسنى إنه يتعذب عذاب الخجل، الفطرة الأولى أن النفس مجبولة على حب من أحسن إليها، الفطرة الثانية أن النفس تحب الكمال فإذا حادت عنه تعذبت وإذا بلغته استراحت لذلك، الناس نيام، الإنسان في الدنيا مخَّدر بالشهوات فإذا اقترب الموت ذهبت عنه هذه الشهوات وظهرت حقيقته كما رآها رأي العين فتعذب بها.

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من نفس ومن روح ومن جسد، فالنفس هي ذات الإنسان، مَن فلان الفلاني؟ نفسه هي التي تحب وهي التي تكره والتي تغضب وترضى وتقصر وتحس أنها خالدة لا تموت أبداً، وربنا عز وجل يقول:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾

[ سورة العنكبوت: 57]

فرق كبير بين أن تقول كل نفس تموت وبين أن تقول:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾

[ سورة العنكبوت: 57]

النفس تذوق الموت ولا تموت، النفس خالدة.

أمراض النفس أخطر بكثير من أمراض الجسد :

قال تعالى:

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 77]

الإنسان مخلوق من نفس هي ذاته هي التي تسعد وهي التي تتعذب، وكلها أعين وآذان وأحاسيس، ولكن الله سبحانه وتعالى جعلها داخل الجسد فترى من خلال نافذتين هما العينان، وتسمع من خلال الأذنين، وتنتقل عن طريق الرجلين، وتبطش وتحس باليد، وتحاكم بالفكر، فالجسد وعاء للنفس تتحرك به، وترى به، وتسمع به، وتدرك به، وتحس به، وتسيء به، ولكن هذا الجسد يتحرك بالروح التي أودعها الله فيه. فالحركة تعبير عن ذات الإنسان وبقوة الله، والعين ترى بقوة الله ترى بالروح، والأذن كذلك، وحقيقة الموت انفصال النفس عن الجسد، عن الروح، والروح قوة الله المحركة، فلو نزعت المأخذ من الكهرباء لآلة تتوقف فوراً وهي كما هي، من الذي جعلها تقف؟ انقطاع القوة المحركة، انقطاع الطاقة؟ فالروح التي أودعها الله فينا إذا مات الإنسان تنقطع فوراً فإذا انقطعت عرجت النفس إلى بارئها إن كانت مؤمنة وبقيت رهينة إن كانت فاسقة، والروح هي قوة الله عز وجل قطعت عن هذه النفس. فالأمر الخطير أن النفس هي نفسك لا جسدك، والناس الآن يقلقون على أجسادهم وعلى قلوبهم ويخافون من تسرع في القلب ومن بعض الأزمات القلبية وفاتهم أن أمراض النفس أخطر بكثير لأن أمراض الجسد كلها تنتهي بالموت وأمراض النفس كلها تبدأ بعد الموت، وبعد الموت هناك أبدٌ لا ينقطع إلى أبد الآبدين، فأيهما أخطر أن تُعنى بهذا الجسد الفاني أم أن تعنى بهذه النفس الخالدة؟

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

خلقها على فطرة سليمة كصفحة بيضاء إما أن يكتب على هذه الصفحة كلام جميل تفخر به وإما أن يكتب على هذه الصفحة كلامٌ بذيء تخجل منه، لذلك ربنا عز وجل قال:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

الله سبحانه وتعالى أودع في هذه النفس حبّ الشهوات :

هذه النفس جعلها تحب الكمال وحبها للكمال هو الذي يعذبها إذا حادت عنه، وجعلها تحب من أحسن إليها، وجعل لها جسداً في خدمتها تتحرك به، وصيرها خالدة تذوق الموت ولا تموت، وجعل الروح قوة محركة لها:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

وشيء آخر الله سبحانه وتعالى أودع في هذه النفس هذه الشهوات.

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾

[ سورة آل عمران: 14 ]

والله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة أودع في هذه النفس هذه الشهوات، لماذا؟ فلولا هذه الشهوات لا ترقى النفس إلى ربها، وكيف ترقى؟ إنها تبذل ما هو غالٍ عليها، حينما تبذل المال ترقى. لولا أن الله عز وجل أودع فيها حب المال فما قيمة الصدقة؟ وما قيمة الزكاة وما قيمة المساعدة؟ ولولا أن الله عز وجل أودع فيها حب المال فما قيمة ترك المال الحرام؟ قد يكون المبلغ مغرياً جداً ومع ذلك تقول: إني أخاف الله رب العالمين، ولولا أن الله سبحانه وتعالى أودع في نفس الإنسان الجنس الآخر فما قيمة غض البصر؟ وما موقف سيدنا يوسف حينما قال:

﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾

[ سورة يوسف: 23]

لولا الشهوات التي أودعها الله فينا لما كانت جنة ولا نار :

لاحظوا أيها الأخوة أن هذه الشهوات التي أودعها الله فينا لا يمكن أن نرقى إلى الله إلا بها، وطريقنا إلى الله شهوات حيادية، يمكن أن تكون قوة دافعة إلى الله عز وجل ويمكن أن تكون قوة دافعة إلى جهنم، والشهوة هي هي، وحب النساء طريقك إلى الله عز وجل، وكيف ذلك؟ غض البصر، تحس أنك تعارض نفسك وتنهاها عن الهوى فهذه طريق، وإذا سلكت الطريق التي شرعها الله عز وجل أيضاً فهذا طريق آخر إلى الله، وحب المال طريق إلى الله عز وجل، دافع يدفعك إلى الله عز وجل بإنفاقه أو بالترفع عن المال الحرام.
إذاً لولا هذه الشهوات التي أودعها الله فينا لما كانت جنة ولا نار، أولاً الفطرة سليمة جعلك تحب الخير، وتحب الرحمة، والعدالة، والإنصاف، والحلم، وجعلك تحب من أحسن إليك وجعل فيك نقاط ضعف:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾

[ سورة المعارج: 19]

﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾

[ سورة النساء: 28]

﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾

[ سورة الأنبياء: 37]

هذه النقاط وإن كانت نقاط ضعف في الإنسان إلا أنها لمصلحة إيمانه ولمصلحة سعادته وهي تعينه على معرفة الله، وهي تعينه على التوكل على الله وعلى الالتجاء إلى الله.

الشهوات حيادية لكنها مِحَك للإنسان وبها تكشف النفس على حقيقتها :

قال تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

خلقها على فطرة عالية وخلقها تحب من أحسن إليها وخلقها ذات قوانين وأودع فيها الشهوات، وهذه كلها دوافع إلى الجنة، بها ترقى إلى الله عز وجل وبها تنحدر إلى جهنم:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

لكن المدنية اليوم في العالم كله لا تعنى إلا بالجسد، بيت مريح ومركبة مريحة وطعام نفيس وثياب أنيقة فهذه أشياء تجذب ضعاف العقول، ولكن إذا جاء الموت انقطعت فجأة كل هذه المكتسبات التي حصلها الإنسان في الدنيا، كل المال تنتهي وظيفته عند الموت، فإن مات الإنسان وترك آلاف الملايين وإن مات ولا يملك شروى نقير فكلهما سيٌان، وأمراض الجسد تنتهي عند الموت بينما أمراض النفس تبدأ عند الموت ولذلك:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

من الذي سوى هذه النفس؟ جعلها تخاف وجعلها تغضب، بهذه الفطرة تصبر أو لا تصبر، وترقى أو لا ترقى، وتصدق أو تكذب، وتخلص أو تخون، وتحلم أو تنتقم، وتعفو أو لا تعفو، فهذه الشهوات حيادية لكنها مِحَك لها، بهذه الشهوات تكشف النفس على حقيقتها.

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

النفس البشرية مخيرة وليست مكرهة :

الإنسان عنده استعداد أن يكون مؤمناً أو غير مؤمن، وعنده استعداد أن يكون رحيماً أو قاسياً، وأن يكون كريماً أو بخيلاً، وأن يكون ودوداً أو مجافياً، وأن يرقى أو يَسْفُل، وأن يسمو أو ينحط، وأن يقوى أو يضعف، هذه كلها في متناول يده عن طريق هذه الشهوات التي أودعها الله فينا:

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 3]

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

[ سورة الكهف: 29 ]

و شيء آخر الله سبحانه وتعالى من معاني:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

إضافة إلى الفطرة السليمة وإضافة إلى حب من أحسن إليها وإلى الشهوات التي أودعها الله فيها كذلك جعلها مختارة، فالنفس البشرية مخيرة وليست مكرهة:

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

[ سورة البقرة: 148]

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

[ سورة البقرة: 256 ]

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

[ سورة الكهف: 29 ]

الله عز وجل أعطى النفس الاختيار وجعلها مسؤولة :

إضافة إلى كل ذلك جعل ربنا سبحانه وتعالى معاملته لهذا الإنسان في ضوء موقفه هو:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾

[ سورة المدثر: 38 ]

أعطاها الاختيار وجعلها مسؤولة، " أكان مسيرنا إلى الشام ـ هكذا سأل أحدهم سيدنا علياً كرم الله وجهه ـ بقضاء من الله وقدر؟ قال: ويحك لو كان قضاءً لازماً حتماً إذاً لبَطَلَ الوعد والوعيد ولانتفى الثواب والعقاب ولكان أنزل القرآن لعباً، إن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً، أعطاك اختياراً وجعلك مسؤولاً "، وأعطاك شهوات مزروعة في نفسك، وهذا ليس عيباً فيك إنما هو لمصلحتك ولسعادتك الأبدية، فهل ترقى أم تسفل بها؟ وأعطاك نفساً تحب الخير وتحب الرحمة وتحب العدالة وقد يكون المرء غير ذلك، في بحث آخر إن اللصوص إذا اجتمعوا ليقتسموا ما سرقوه يقسمونه بالعدل لِأنهم في الأصل يحبون العدل؟ لا بل هذه الفطرة، أي إنسان على وجه الأرض من أقصى الأرض إلى أقصاها، من شمالها إلى جنوبها فطرته هي هي، إذا أساء لمن أحسن إليه يعذب أشد العذاب من دون أن يعذبه أحد، فلذلك:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

بذل الوقت وبذل الجهد والمال وصون النفس عن المحرمات هذا كله يرقى بالإنسان :

جعلك حراً وجعلك مسؤولاً ومعاملته لك مرتبطة بموقفك منه:

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

[ سورة الرعد: 11 ]

ومن الأسوأ إلى الأحسن:

﴿ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

[ سورة الرعد: 11 ]

من الأحسن إلى الأسوأ:

﴿ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

[ سورة الرعد: 11 ]

إنها القوانين، وأنت مفطور فطرة سليمة تحب المحسن وتكره المسيء، وأنت حر مسؤول، عندك شهوات حيادية ترقى بك، إذ زرعت فيك لترقى بك، ولولا هذه الشهوات كيف السبيل إلى التقرب إلى الله عز وجل؟ مستحيل، إنه فعل شيئاً عاكس نفسه التي تريد ميل النظر، وعاكس هذا الميل وارتقى إلى الله عز وجل، وآثر امرأة صالحة على امرأة جميلة نبتت في منبت سوء. فبماذا ترقى؟ جاءك مبلغ كبير فقلت: إني أخاف الله رب العالمين هذا فيه شبهة، بماذا ترقى؟ لا ترقى إلا بترك المحرمات ونيل الطاعات ومخالفة الشهوات التي لا ترضي الله عز وجل واتباع ما شرعه الله لك، أحياناً الإنسان يسأل سؤالاً ساذجاً: لماذا أودع الله عز وجل في أنفسنا هذه الشهوات لو لم يودعها فينا لاسترحنا وأرحنا؟ لا، هذا كلام ساذج، فلولا هذه الشهوات لما كانت جنة، بها ترقى بغض البصر وبإنفاق المال، وأن تقوم من فراشك وأنت مستريح، وأن تشد رجليك مع أخ تساعده في حاجة، ولا ترقى إلا بالعمل الصالح، والعمل الصالح يحتاج مالاً وجهداً ووقتاً، فبذل الوقت وبذل الجهد والمال وصون النفس عن المحرمات هذا كله يرقى بالإنسان.

الله تعالى أعطانا حرية الاختيار و

جعل علاقتنا معه واضحة تماماً :

 

 

قال تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

جعلك على الفطرة السليمة تحب الخير، زرع فيك الشهوات من أجل سعادتك، أعطاك حرية الاختيار وجعلك مسؤولاً عن أعمالك كلها:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

جعل علاقته معك واضحة تماماً:

﴿ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

[ سورة الرعد: 11 ]

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 56 ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة النحل: 97 ]

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه: 124 ]

بعد الفطرة و الصبغة و قوة التمييز إذا انحرفت يلهمك الله أنك منحرف :

جعل علاقته معك واضحة جداً وفوق كل ذلك جعل في نفسك طبيعة تملكها أنت وهي أنك تميز بين الخير والشر، أعطاك هذه القدرة، فهذه طاقة:

(( الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات))

[البخاري عن النعمان بن بشير]

استفت قلبك ولو أفتاك المفتون وأفتوك، أنا أذكر لكم أن أي إنسان عنده بفطرته السليمة حاسة سادسة تنبئه أن هذا العمل صحيح وهذا غير صحيح، ولذلك فإن كل المنحرفين معذبون نفسياً لأن فطرتهم تحاسبهم، فوق هذا وذاك لقد أعطاك قوة إدراكية موجهة وهي الفكر، أعطاك قوة إدراكية وجعل لها سلطان المنطق وسلطان الفكر، وفوق هذا وذاك أعطاك كوناً هو تجسيدٌ لأسمائه الحسنى، كل أسمائه الكامنة في ذاته مجسدة في هذا الكون، ترى من خلال الكون رحمته وعلمه وقدرته وحكمته ولطفه وإبداعه وعدله، أبداً، هل بقي شي لك عليه؟ شيء بقي عليه أنه أرسل لك أنبياء وأنزل معهم كتباً من عندك، ما الذي بقي؟ فطرة سليمة وشهوات لمصلحة الرقي وقوة إدراك للتمييز بين الخير والشر وفكر مسيطر عنده قدرة على التوجيه وكون معجز وأنبياء دعاة وكتب:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

وبعد كل هذا فبعد الفطرة وبعد الصبغة وبعد قوة التمييز وقوة الفكر والكون والضياء والأنبياء والقرآن وإذا انحرفت ألهمك أنك منحرف:

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

النفس التي سواها الله تعالى قد تفوق كل الآيات السابقة :

إذا رشدت ألهمك أنك مصيب؛ يشرح الله صدرك، وإذا استقمت تحس براحة لا توصف، وتحس بأن جبلاً كان جاثماً على صدرك فانزاح عن كاهلك، وإذا وقعت في خلل وانحراف في نية سيئة تحس بالضيق:

﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾

[ سورة التوبة: 25 ]

كل شيء ذكرناه:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

إن هذه النفس التي سواها قد تفوق كل هذه الآيات السابقة.

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا*وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا*وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا*وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا*وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا*وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا *وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

فعلى تسوية النفس هنالك أشياء كثيرة، دعونا من الجسد ومن دقة العين ودقة الأذن ودقة الفكر والسمع والبصر والذوق والغدد الصماء والجملة العصبية والدماغ دعونا من هذا الجسد المعجز الذي هو أعقد آلة في الكون وتعالوا إلى النفس التي لا تزال ذلك المجهول، هناك كتاب أُلِّف عنوانه "الإنسان ذلك المجهول" ومحوره كله أن غلط العصر الأكبر أن الناس اتجهوا إلى الجسد على حساب النفس، رفاهية مادية وشقاء نفسي.

الإنسان الذي

نجح في حياته وحقق الهدف الذي خلق من أجله هو الرابح الأول في الحياة:

 

سألت أحد الأطباء: هل تستطيع أن تلخص لي الأمراض التي تصيب القلب بكلمات؟ قال: نعم راحة جسدية وتوتر نفسي. أما أجدادنا فتعب جسدي وراحة نفسية، وكل هذه الأدوات التي أحالت حواسنا إلى راحة واسترخاء ووفرت أعصابنا، وجعلت التدابر والتناقض والتباعد والحسد والحقد والخوف على زوال الدنيا ولهاث وراءها، وهذه كلها توترات عصبية أرهقت القلب والإنسان ذلك المجهول، الغلطة الكبرى التي ارتكبتها أوربا أنها اعتمدت رفاهية الجسد على حساب النفس.
وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام على أن حياتهم كانت خشنة وطعامهم خشن حفنة من الطحين يأكلونها، وكأس حليب يشربونه، وجمل يركبونه غير مكيف ومع ذلك كانوا سعداء. وكان الواحد منهم كالكوكب الدري إن أتيح لإنسان أن يجلس معهم طار سعادة والآن ترى الرفاهية في قمتها والناس في حضيض الشقاء.

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

ومع ذلك مع وجود الأنبياء والكتب المقدسة والكون المعجز الذي هو تجسيد لأسماء الله تعالى وهذا الفكر العظيم وهذا الضياء وهذه القوة المميزة والفطرة السليمة وحب المحسن وحب الخير وهذه الشهوات التي أودعها الله فينا إذا انحرف الإنسان:

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

طالب يأخذ علامات عالية في الشهادة الثانوية، يقول لك: صرت طبيباً ولم يدخل كلية الطب بعد، فاستخدام الفعل الماضي مكان الفعل المضارع أو الأمر أو المستقبل معناه في اللغة تحقق الوقوع. والإنسان في الدنيا إذا زكى نفسه ولو كانت حياته متواضعة وخشنة وعمله صغير ومكانته الاجتماعية صغيرة قد أفلح ومعنى أفلح فاز، فاز بماذا؟ مطلقة، هذا مطلق النجاح فلا داعي أن تقول فاز بمَ؟!!
هذا الإنسان نجح في حياته، ونجح في وجوده، وحقق الهدف الذي خلق من أجله، هذا الإنسان هو الرابح الأول في الحياة.

ربنا عز وجل عندما أغفل المفعول به أعطى معنى الفلاح المطلق :

قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

أحياناً الإنسان يركب سيارة وتتعطل المكابح فجأة والطريق منحدرة وتنتهي بمنعطف خطر، يقول لك: انتهينا، بثانية يقول لك: انتهينا، حينما يشعر أن هذا الحادث مصيري فيستخدم الفعل الماضي لا الفعل المضارع ( قد أفلح ). هذا الذي عرف ربه قد أفلح وهذا الذي استقام على أمره قد أفلح، وهذا الذي عمل الصالحات قد أفلح، وهذا الذي قال إني أخاف الله رب العالمين قد أفلح، أفلح بماذا؟ جميع أنواع النجاة مقيدة؛ نجح بعمله ويكون في بيته شقياً، ونجح بزواجه ويكون بعمله شقياً، ونجح بدراسته ويكون عنده خمسون علة في جسمه، فكل أفعال النجاح نستخدمها مقيدة، أما إذا قلت: فلان نجح بكل شيء فيكون قد حقق التكامل البشري، فربنا عز وجل عندما أغفل المفعول به أعطى معنى الفلاح المطلق، أي:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

فاستخدام الفعل الماضي أي تحقق الوقوع واستخدام (قد) هذه تزيد من تحقيق الوقوع، ( قد ) حرف تحقيق ( قد أفلح )، والآن لنصغِ إلى الله عز وجل من الذي أفلح؟ قال:

﴿ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

الـ (ها) على من تعود؟ على النفس.

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

والحقيقة إذا اعتقدت قيمة أخرى أن المال هو كل شيء فما أشد الضلال، وإذا اعتقدت أن الشهوات هي كل شيء فما أبعد الضلال.

الهدف الأكبر من الخلق :

قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

كيف يزكيها؟ ولماذا يزكيها؟ سؤال كيف ولماذا ومتى؟ متى؟ في الدنيا، ولماذا؟ لأن هذه النفس الإنسانية خلقت لتسعد بالله عز وجل، خلقت السموات والأرض من أجلك فلا تتعب وخلقتك من أجلي فلا تلعب، أنت مخلوق من أجل أن تسعد بالله عز وجل، هذا هو الهدف الأكبر من خلقك، خلقت لتعرف الله فما معنى تعرفه؟ أي تسعد بقربه إلى أبد الآبدين في جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لكنك لن تستطيع أن تسعد بالله وأن يكون لك مقعدَ صدق عند مليك مقتدر إلا إذا كنت مؤهلاً لهذا المنصب.
التأهيل في الدنيا، والجزاء في الآخرة، فما هو التأهيل؟ زكاها يجب أن تزكي نفسك لكي تصبح مؤهلة لأن تكون في كنف الله إلى الأبد، وربنا عز وجل بعدما ذكر النفس وما سواها وألهمها فجورها وتقواها قال:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

وقد نجح نجاحاً مطلقاً هذا الذي توجه إلى نفسه فزكاها.

كلمة (زكاها) لها ثلاثة معانٍ :

ما معنى زكاها؟ لها ثلاثة معانٍ:

1 ـزكاها أي طهرها من الأمراض التي سوف تعذبه إلى أبد الآبدين :

المعنى الأول: طهرها من الحقد والحسد والكبر والضغينة والأثرة وحب الذات والاستعلاء واللؤم والبخل والنفاق والمحاباة:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

هنالك أمراض تصيب النفس لا تعد ولا تحصى، وهذه الأمراض كلها أعراض الإعراض، تُعرض فتظهر عليها هذه الأعراض، فلان لئيم! عجيب ذلك، لا، العجيب إذا كان كريماً يكون عجيباً، وإذا كان مقطوعاً عن الله وكان كريماً فهذا هو العجيب، وإن كان مقطوعاً عن الله فلا بد من أن يكون لئيماً، ولا بد من أن يكون بخيلاً وقاسياً ويحب ذاته وحدها، ولكن هنالك أذكياء نقول هذا ذكاء مصلحة فإذا وضع في موقف حرج وإذا ضيقت عليه ظهر لؤمه على حقيقته. فالإنسان إن لم يكن له صلة بالله عز وجل فلا بد من أن يشكو من معظم هذه الأمراض، وهذه اسمها أعراض الإعراض:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

أي من طهر نفسه من هذه الأمراض، فلو كنت تسكن أفخم بيت وأنت لئيم فهذا هو الشقاء بعينه لأن البيت ينتهي عند الموت ولكن اللؤم سيبدأ فعله المؤلم بعد الموت إلى الأبد، ولو كان عندك ألف مليون فعند الموت تنتهي أما البخل فيبدأ بعد الموت.
مثلاً تجد رجلاً غنياً جداً وتقام عليه دعوى النفقة، إذا مات هذا الغني ترك المال وبقي هذا الموقف اللئيم الذي وقفه إلى الأبد يعذبه، فمعنى زكاها أي طهرها من الأمراض التي سوف تعذبه إلى أبد الآبدين وهذا هو المعنى الأول.

 

2 ـمعنى (زكاها) أي سما بها :

معنى (زكاها) أي سما بها لأن الإيمان فيه تخلية وتحلية، وتطهير وتعطير، فالمعنى الثاني لا يكفي أن تكون مستقيماً بل يجب أن تكون رحيماً كريماً ودوداً لطيفاً حليماً هذه هي الصبغة، فالصبغة عندما يتخلق الإنسان كقطعة معدن كانت موضوعة في ثلاجة ضعها في الشمس تفقد شيئاً وتكسب شيئاً آخر إذ تفقد برودتها وتكسب الحرارة.
فالإنسان إذا اتجه إلى الله عز وجل يتخلص من أدرانه وأمراضه النفسية ويكسب الكمالات الإلهية.

3 ـالمعنى الثالث الزيادة والنمو :

المعنى الثالث الزيادة والنمو، فلا ينبغي لك أن تبقى في مرتبة واحدة بل لا بد من أن ترقى، والمغبون من تساوى يوماه، من لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
أول معنى الطهارة من كل أمراض النفس، والمعنى الثاني التحلي بالكمالات الإلهية، التخلق بأخلاق الله، والمعنى الثالث الرقي والنمو، فما معنى زكَّى؟ متى؟ هي في الدنيا ثمن الجنة، ثمنها لمقعد صدق عند مليك مقتدر، ثمنها السعادة الأبدية التي لا تنقضي:

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

فضل الصلاة :

متى؟ في الدنيا، هذا طريقها الصلاة، الصلاة نور والصلاة طهور، فبالصلاة تشفى من كل أمراضك، وبالصلاة تتحلى بالكمال، وتتقلب في معارجه، ولذلك الصلاة معراج المؤمن، الصلاة ميزان، من وفى استوفى، فلا خير في دين لا صلاة فيه، الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد ترك الدين، وبين الرجل والدين ترك الصلاة، أساس الدين الصلاة:

﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾

[ سورة مريم: 31 ]

إنها صلة بالخالق وإحسان بالمخلوق هذا التعريف المختصر للدين، إذاً إذا قلنا:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

أي قد حقق النجاح المطلق لا في الآخرة فحسب بل في الدنيا، فمن هذا؟ هذا الذي زكى نفسه وطهرها من الأمراض النفسية وحلاها بالكمالات الإلهية وجعلها تنمو مع الأيام، فمن هو الإنسان؟ إنها بضعة أيام كلما انقضى منه يومٌ انقضى منه بضعٌ.

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

معنى كلمة (أفلح) :

لذلك إذا كنت أنت أيها الأخ الكريم مطبقاً لهذا الكتاب العظيم، أي إن لم تكن في هذا الطريق فأنت في خسارة كبيرة:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

لقد اشترى أرضاً فازداد ثمنها ثمانين ضعفاً! إنه خاسر، وله دخل يومي يعادل ثلاثين ألفاً، وكل عملية بثمانية آلاف، وعنده خمس عمليات في اليوم وعيادته تكتظ بالناس:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 2 ]

حسابه في المصرف ثلاثة آلاف مليون:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2 ]

كلام الله الذي خلق السماوات والأرض:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2 ]

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف: 103-104]

شيء خطير جداً أن تمشي في طريق مسدود، ومعنى قد أفلح؛ لو تخيلنا عشرة أشخاص عطشى على وشك الموت، وهناك نبع وهؤلاء العشرة توجه كل واحد منهم إلى المكان الذي ظن أن فيه ماء فتسعة ماتوا وواحد وصل إلى النبع فقط فهذا ( قد أفلح ).
إمبراطور اليابان بعث سبعة طلاب إلى فرنسا في أول النهضة اليابانية، فواحد منهم أحضر شهادة وستة طافوا في متاحفها وملاهيها وحدائقها وشوارعها وما درسوا، فأعدم الستة، فهذا الذي عرف مهمته في الحياة من هذه البعثة وحقق الهدف وضعه في منصب عال وأكرمه إكراماً شديداً.

الخاسر الأكبر :

معنى ( قد أفلح ) أي هذا الإله العظيم خلقك لهدف محدد، فإذا عرفته وكنت في اتجاهه وبالسرعة المناسبة فقد أفلحت، إلا في حالات نادرة، فهناك إنسان هدفه معرفة الله ولكنه سائر في طريق لا يؤدي إلى ذلك فهذا يتأدب ويُعالج، وآخر هدفه معرفة الله وهو على طريق معرفة الله ولكن سرعته بطيئة فهذا له مصائب دفع، ومصائب ردع، ومصائب كشف، إنها أنواع المصائب:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

من هو الخاسر الأكبر؟ الذي دس نفسه أو وضعها في التراب أو وضعها في الوحل في وحول الشهوات، وآثر ما يفنى على ما يبقى، وفضَّل المال ومتع الدنيا والنساء والطعام: تعس عبد البطن، تعس عبد الفرج، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الدرهم والدينار، جعل نفسه عبداً لعبيد الله حباً بالمال وحباً بالشهوات:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

ومعنى دساها وضعها في مكان لا يليق بها، خلقت من أجل أن تعرفه فاستهوتك النساء، وخلقت من أجل أن تعرفه فعشت فقيراً لتموت غنياً أي بخيلاً، ومن أجل أن تعرفه فغرقت في شهوة تافهة لا قيمة لها فجعلت عملك قبراً لك من الصباح إلى المساء في العمل التجاري وحسابات، فهو لا يصلي ولا يفعل خيراً، يأتيه الموت فجأة وهو صفر اليدين:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

خاب وخسر وشقي.

الجنة هي استمتاع بذات الله :

هذه الآية خطيرة جداً إنها آية مصيرية، فأنت على الطريق الصحيح تعرف الهدف الذي خلقت من أجله لتسعد بالله، وأحدنا إذا دخل إلى غرفة دافئة في أيام البرد، وإلى غرفة مكيفة في أيام الحر، وشرب من الماء العذب كأساً إثر العطش الشديد، ورأى منظراً جميلاً، وتناول طعاماً طيباً يستمتع به، فبماذا استمتع؟ بمسحة من جمال أودعها الله هذه المخلوقات، فما قولك أن الجنة هي استمتاع بذات الله:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

[ سورة القيامة: 22-23]

إنكم سوف ترون ربكم في الجنة، ينظر الإنسان إلى ربه فيغيب خمسين ألف سنة من نشوة النظرة، أنت خلقت لهذه السعادة العظمى فأنا صرت في الثمانين وقد ضعف بصري فلا شباب ولا شيخوخة معك، ولا حر ولا قر، ولا خوف ولا قلق، ولا حزن ولا مشكلة، ولا مشاحنة ولا قلق على المواد الأولية أن تنتهي، وعلى المياه، وكل شيء متوفر، وفوق هذا وذاك كل نظرة إلى الله عز وجل يغيب فيها الإنسان خمسين ألف عام من النشوة.

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ*هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ* لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ* وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ*أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾

[ سورة يس: 55-60 ]

هذا هو الهدف فهل أنت في طريق هذا الهدف؟ هل تزكي نفسك؟ هل تقول إن هناك أمراضاً، هناك مؤمن صادق لاحظ بنفسه غيبة فقال: هي مرض خطير فيجب أن أراقب نفسي، فأنا أنقل حديثاً سيئاً لإنسان ما ورأى أنه يخطف بصره بعض المناظر في الطريق هي مخالفة.

ثمن السعادة هو أن تزكي نفسك في الدنيا :

هل عندك رقة مع الله وهل عندك ورع:

((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط))

[الجامع الصغير عن أنس]

(( من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله تعالى بسائر عمله ))

[ مسند الشهاب عن أنس بن مالك]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ ﴾

إنه فلاح مطلق ونجاح مطلق، الآن أنت إنسان عادي ولكنك عرفت الله فكأنك في الجنة:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

أنت مخلوق لتسعد بالله عز وجل لكن هذه السعادة لها ثمن وهو أن تزكي نفسك، متى؟ في الدنيا عن طريق الاختيار والمسؤولية والشهوات التي أودعها الله فيك، وعن طريق كل هذا الكون وهذا الفكر.

أكبر خسارة في الدنيا تبقى محدودة أما خسارة الآخرة فهي خسارة أبدية :

قال تعالى:

﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

أي حبط عمله وشعر بالخسارة الكبرى، والإنسان في الدنيا قد يخسر ولكن أكبر خسارة تبقى محدودة أما خسارة الآخرة فهي خسارة أبدية. والآن ربنا عز وجل أراد أن يبين لنا صورة من صور الخسارة قال:

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾

أي بطغيانها الباء للسببية لأنها كانت طاغية، والطغيان تجاوز الحد المعقول وتجاوز الحق:

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾

طغت فكذبت، فالتكذيب ملازم للطغيان، فإذا تجاوز إنسان حده مع شريكه فلا بد أن يكذب بحقائق الدين، فما دام هناك طغيان فيحصل تكذيب، وإذا تجاوز حده مع زوجته فهو طغيان، ويخلق تكذيباً ويتجاوز حده مع زبائنه فكذلك:

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾

ما هو هذا التكذيب؟

عقاب الاشتراك في القتل :

قال تعالى:

﴿إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴾

هؤلاء سألوا سيدنا صالحاً ناقةً تخرج لهم من الجبل وعلقوا إيمانهم على هذه المعجزة، وفي القرآن الكريم قانون وهو أن قوماً إذا طلبوا من نبيهم معجزة خارقة وتحققت ولم يؤمنوا استحقوا الهلاك. لأن هذا آخر سهم، ومعنى ذلك أنه لا رجاء من إيمانهم، فهؤلاء طلبوا ناقةً تخرج من الجبل، فمن فعل هذا فهو نبي، فلما خرجت هذه الناقة كذبوه وأرادوا أن يعقروها فقال الله عز وجل:

﴿إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا*فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾

أي احذروا أن تقتلوها فهذه ناقة الله:

﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾

فهل من المعقول إذا قوم سيدنا صالح قوم ثمود عددهم عشرة آلاف إنسان أن يشتركوا بقتل ناقة؟ لا، لكنهم رضوا بقتلها. وسيدنا عمر استنبط من هذه الآية، أن أهل قرية لو اجتمعت على قتل رجل واحد لقتلوا جميعاً به. الذي قتله واحد لكنهم دفعوه جميعاً، وهذا هو الاشتراك في القتل، فربنا عز وجل قال:

﴿إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾

هو الذي عقر الناقة:

﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا*فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾

أي تآمروا على قتلها فاستحقوا الهلاك وهو آخر سهم.

العدالة في عقاب الله سبحانه :

قال تعالى:

﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا*فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ﴾

هذا فعل ثنائي مضعَف مثل زلزل، قلقل، عسعس، جرجر، كل فعل ثنائي مضعَف فيه تكرار زلزل، عسعس، قلقل، القلقلة ( دمَ ) أي أهلك:

﴿ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ﴾

أي هلاك بعد هلاك، هلاك بعد هلاك متلاحق، زلازل متلاحقة، صواعق متلاحقة، براكين متلاحقة:

﴿ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ﴾

لكن القرآن الكريم مُعلل:

﴿ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ ﴾

هناك عدالة:

﴿ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ﴾

أغادير مدينة على الساحل الأطلسي من أجمل المدن الساحلية ومن أفسق المدن دمدم عليها ربهم بذنبهم في ثلاث ثوان أصبحت حجراً فوق حجر، وبعد أسابيع جاءت الجرافات وسوتها، فجعلتها أرضاً مسواة.

﴿ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ﴾

الآن هناك فنادق وأبنية شاهقة أصبحت أرضاً مستوية.

للآية الأخيرة تفسيران :

قال تعالى:

﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾

فهذا الإنسان لا يخاف عقبى عمله، بعضهم فسرها أن الله سبحانه وتعالى أمره هو النافذ ولا أحد في الكون يحاسبه فهذا معنى، والمعنى الثاني هذا العاصي لا يخاف عقبى عمله، وهذا الزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم والطاغي الذي يطغى على حقوق الناس لا يخاف عقباها عجباً له.

﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾

هذا مثل مجسد:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا*كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا*إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾

لأنها طغت كذبت.

﴿ إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾

هو الذي عقر الناقة:

 

﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا*فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾

اشتراكهم في الإثم والرضا والدفع:

﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور