- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله ، سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
التلبية استجابةٌ لنداءٍ ودعوة يقعان في قلب المؤمن :
أيها الأخوة الأكارم ؛ حُجَّاج بيت الله الحرام ، يرفعون أصواتهم بالتلبية ، يقولون : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لبيك لا شريك لك" .
أيها الأخوة الأكارم ؛ يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام ، ويُخَلِّف في بلدته هموم المعاش والرزق ، هموم العمل والكسب ، هموم الزوجة والولد ، هموم الحاضر والمستقبل ، وبعد أن يُحْرِم من الميقات يبتعد عن الدنيا كُلياً ، ويتجرد إلى الله عز وجل ويقول : " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والمُلك لا شريك لك " . هذه التلبية أيها الأخوة تقول : لبيك يا رب ، كأن الله يخاطبك ، هذه إجابة ، فما هي الدعوة ؟ كأنها استجابةٌ لنداءٍ ودعوة يقعان في قلب المؤمن : أن يا عبدي خَلِّ نفسك وتعال ، تعال يا عبدي لأريحك من همومٍ كالجبال تجثم على صدرك ، تعالَ يا عبدي لأطهرك من شهواتٍ تنغص حياتك .
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤول ؟
* * *
تعالَ يا عبدي وذق طعم محبتي ، تعالَ يا عبدي وذق حلاوة مناجاتي . يقول العبد: " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك "
تعالَ يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات ، تعال لأريك ملكوت الأرض والسموات ، تعالى لأضيء جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظُلمات ، تعالَ لأعْمُر قلبك بسكينةٍ عزَّت على أهل الأرض والسموات ، تعالَ لأملأ نفسك غنىً ورضاً ، شقيت بفقدهما نفوسٌ كثيرات ، تعالَ لأخرجك من وحول الدُنيا ، من وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات ، تعالَ لأنقذك من وحشة البُعد إلى أُنس القُرب ، تعالَ لأخلِّصك من رعب الشِرك ، وذلّ النفاق ، إلى طمأنينة التوحيد وعِز الطاعة . يقول العبد : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " . تعالَ يا عبدي لأنقلك من دُنياك المحدودة ، وعملك الرتيب ، وهمومك الطاحنة ، إلى آفاق معرفتي ، وشرف ذكري ، وجنة قُرْبي ، تعالَ يا عبدي وحُطَّ همومك ومتاعبك ومخاوفك عندي فأنا أضمن لك زوالها ، تعالَ يا عبدي واذكر حاجاتك وأنت تدعوني فأنا أضمن لك قضاءها .
(( إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عمّارها ، فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني وحُق على المزور أن يكرم الزائر ))
كيف يكون إكرامي لك ؟ إذا قطعت المسافات ، وتجشمت المشقات ، وتحملت النفقات ، وزرتني في بيتي الحرام ، ووقفت بعرفة تدعوني وتسترضيني : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " ؟ تعالَ يا عبدي وزرني في بيتي لتنزاح عنك الأوهام ، ولتعاين الحقائق ، ولتستعد للقاء :
(( فإن عبداً أصححت له جسمه ، ووسعت عليه في المعيشة ، فمضت عليه خمسة أعوام لم يفد إلي لمحروم ))
تعالَ يا عبدي وطُفْ حول الكعبة طواف المحب حول محبوبه ، واسعَ بين الصفا والمروة سعي المشتاق لمطلوبه ، تعالَ يا عبدي وقَبِّل الحجر الأسود يميني في الأرض ، وازرف الدمع على ما فات من عمرٍ ضيعته في غير ما خلقت له ، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات ، والإقبال على الطاعات والقُربات ، وكن لي كما أريد لأكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تُعلمني بما يصلحك ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، خلقت لك ما في الكون من أجلك ، فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك . . " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " .
تعالَ يا عبدي إلى عرفات ، فهو يوم اللقاء الأكبر ، تعالَ للتعرض لنفحةٍ من نفحاتي تُطَهِّر قلبك من كل درنٍ وشهوة ، وتصفي نفسك من كل شائبةٍ وهَم ، هذه النفحات تملأ قلبك سعادةً وطمأنينة ، وتشيع في نفسك سعادةً لو وزِّعت على أهل بلدٍ لكفتهم ، عندئذٍ لا تندم إلا على ساعةٍ أمضيتها في قيلٍ وقال ، وكثرة سؤال ، وإضاعة مال ، تعالَ إلى عرفات لتعرف أنك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات ، ولك وحدك سُخِّرَت الأرض والسموات ، وأنك حُمِّلْتَ الأمانة التي أشفقت منها الجبال والأرض والسموات ، وأني جئت بك إلى الدنيا لتعرفني ، ولتعمل العمل الصالح الذي يؤهِّلُك لجنة الخلد ، تعالَ إلى عرفات لتعرف :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
وأنك إن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء .
مشاعر الحاج وهو يُلَبِّي في عرفات وما بعدها :
وبعد أن يذوق المؤمن أيها الأخوة في عرفات من خلال دعائه وإقباله واتصاله ؛ روعة اللقاء ، وحلاوة المناجاة ، ينغمس في لذَّة القرب ، عندئذٍ تصغر الدنيا في عينيه ، وتنتقل من قلبه إلى يديه ، ويصبح أكبر همِّه الآخرة ، فيسعى إلى مقعد صدقٍ عند مليكٍ مُقْتَدِر ، وقد يكشف للحاج في عرفات أن كل شيءٍ ساقه الله له مما يكره هو محضٍ عدلٍ ، ومحض فضلٍ ، ومحض رحمة ، ويتحقق من قوله تعالى :
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
وبعد أن يفيض الحاج من عرفات ، وقد حصلت له هذه المعرفة ، واستنار قلبه ، وصحَّت رؤيته ، يرى أن السعادة كلها في طاعة الله ، وأن الشقاء كله في معصيته ، عندئذٍ يرى عداوة الشيطان ، وكيف أنه يأمره بالسوء والفحشاء ، ويوقع بينه وبين إخوته العداوة والبغضاء ، وأنه يَعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنفقوا ، ويخوّفهم مما سوى الله إذا أنابوا وتابوا ، ويعدهم ويمنِّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً . . قال تعالى :
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
عندئذٍ يُعَبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار ، ليكون الرمي تعبيراً مادياً وعهداً موثَّقاً عن عداوة الشيطان ورفضاً لوساوسه وخطراته .
يقول الإمام الغزالي : " اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة ، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان ، وتقصم ظهره ، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله تعالى" .
وحينما يتجه الحاج لسوق الهَدْي ونَحر الأضاحي ، وكأن الهدي هديةٌ إلى الله تعبيراً عن شكره على نعمة الهُدى التي هي أثمن نعمةٍ على الإطلاق ، وكأن ذبح الأضحية ذبحٌ لكل شهوةٍ ورغبةٍ لا تُرضي الله ، وتضحيةٌ بكل غالٍ ورخيص ونفسٍ ونفيس ، في سبيل مرضاة الله رب العالمين ، قال تعالى :
﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾
ثم يكون طواف الإفاضة ؛ تثبيتاً لهذه الحقائق وتلك المشاعر ، ثم يطوف طواف الوداع ؛ لينطلق منه إلى بلده إنساناً آخر استنار عقله بحقائق الإيمان ، وأشرقت نفسه بأنوار القُرب ، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه ، وإذا صَحَّ أن الحج رحلةٌ إلى الله فإنه يصح أيضاً أنه الرحلة قبل الأخيرة ، لتجعل من الرحلة الأخيرة مُفْضِيَةً إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض .
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه بعض مشاعر الحاج وهو يُلَبِّي وهو في عرفات ، وهو يطوف ، وهو يسعى ، وهو يطوف طواف الإفاضة ، إنه لقاءٌ حميمٌ بين العبد وربّه ، إنه اتصالٌ وثيق ، إنه انكشافٌ للحقائق ، إنه عقد العزم على طاعة الله ، إنه صلحٌ مع الله عز وجل .
قصص تبين أن طاعة الله سعادةٌ و معصيته خسارة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سأنتقل من هذا الموضوع موضوع اليوم ، موضوع الحج إلى موضوعٍ آخر ، قد لا تبدو بين هذين الموضوعين صلةٌ وثيقة ، ولكن في الحقيقة هناك أشد الاتصال بين الموضوعين ، لماذا نعبد الله ؟ من أجل أن نسعد ، وكيف نعبده ؟ لابد من أن نعرفه . نعرفه فنعبده فنسعد بقربه ، فلو لم نعرفه وبالتالي لم نطعه ندفع الثمن باهظاً ، ندفع سلامتنا ، وندفع سعادتنا .
في الأسبوع قبل الماضي ، إحدى الصحف اليومية- صحيفة تشرين- نشرت قصةٌ مؤثّرةً جداً في العدد الخامس والثلاثين بعد الستمئة والخمسة آلاف ، في تاريخ الثامن من الشهر الحالي عام ألف وتسعمئةٍ وثلاثة وتسعين ، نشرت قصةً مفادها :
أن أحد المواطنين سافر إلى أمريكا في عام ألفٍ وتسعمئة وسبعةٍ وثمانين ، لزيادة معلوماته وخبراته في مجال اختصاصه وعمله ، مُدَّة المهمة كانت ثلاثة أشهر ، تعرَّف من خلالها- دققوا ما العلاقة بين الحج ، بين الصلاة ، بين الصوم ، بين معرفة الله وبين السلوك ؟ لو أنك عرفت الله لأطعته ، وإن أطعته سَلِمْتَ في الدنيا والآخرة ، سلمت وسعدت - إلى فتياتٍ زَلَّت قدمه مَعَهُن ، ولا أطيل عليكم ، ولا أدخل في التفاصيل .
بعد انتهاء فترة العمل والتدريب ، عاد هذا المواطن إلى وطنه ، ولم يُحِس بشيءٍ غير طبيعي إطلاقاً ، لا في جسمه ولا في قوَّته ، وجلب الهدايا لزوجته الوفية وطفلته الوحيدة ، التي كان عمرها خمس سنوات ، ولأصدقائه ، ولكنه لم يدرِ أنه كان يحمل بين ضلوعه مصيبةً وكارثة ، تابع حياته العادية كرب أسرةٍ وكزوجٍ ، وبعد سنةٍ من عودته أنجبت زوجته طفلاً ، وبعد الولادة بدأ يشكو من اعتلالٍ وضعفٍ في صحَّته ووهنٍ عامٍ في جسمه .
تردد على أكثر الأطباء لكن دون جدوى ، أحد الأطباء طلب منه إجراء الفَحْص المخبري ضد مرض العصر ( الإيدز ) وكانت النتيجة المخبرية أنه مصابٌ بهذا المرض ، وأن إصابته في مراحل متقدِّمة ، ومخابر الصحة جزاها الله خيراً على عادتها تُتابع هذه الحالة بشكلٍ دقيق ، ضيَّقت عليه ، واستجوبته فذكر أنه زلَّت قدمه في هذه الرحلة مع بعض فتيات الهوى .
ما الذي حصل ؟ توصل الباحث والذي كتب هذه المقالة إلى أن هذا المرض بلغ درجةً متقدمةً في جسم المصاب ، وأنه انتقل إلى زوجته ، وأن الطفل الذي أنجبه بعد ذهابه إلى هذا البلد مصابٌ أيضاً بهذا المرض ، بعد سنتين قضت الزوجة نحبها ، وقبل السنتين قضى هو نحبه ، ولم يبق من هذه الأسرة إلا فتاة أنجبها قبل السفر ، وطفلاً أصيب بهذا المرض أنجبه بعد هذه الرحلة ، وحالياً بقي من هذه الأسرة البنت البالغة أحد عشر عاماً ، وهي سليمةٌ معافاة ، لأنها ولدت قبل أن يصاب والدها بهذا المرض ، وهناك الطفل الذي ولد ومعه هذا المرض والبالغ من العمر سبع سنوات .
يقول الأطباء عن حالته : إن حالة هذا الطفل أصبحت خطيرة جداً ، وأن موته بات مُحَتَّماً ؛ فالسرطنات تنتشر في كل أنحاء جسمه ، ولن تطول به رحلة الحياة أكثر من أشهرٍ معدودات ، وبذلك يكون هذا المرض الذي أساسه المعصية ، قد حصد هذه الأسرة كلها عدا بنتٍ يتيمةٍ نشأت على موت أبيها ، وموت أمها ، ومرض أخيها .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ماذا يقول الزوج قبل أن يموت ؟ عمره لا يزيد عن اثنين وثلاثين عاماً ، وزوجته لا يزيد عمرها عن خمسةٍ وعشرين عاماً ، قضت منها ثلاث سنواتٍ بين الألم والمرض والحُزن والبكاء الشديد . هذا الإنسان قبل أن يموت قال هذه الكلمات : أتمنى أن يتوصَّل العلم إلى اكتشاف دواءٍ لهذا المرض ، ليس لأتداوى به أنا - كما يقول هو - بل لأدفع المرض عن زوجتي وطفلي البريئين ، وكان يقول : إنني مستعدٌ لدفع حياتي كلها ، وكل ما أملك ثمناً لهذا الدواء ، لأنه قضى على زوجته وقضى على ابنه ، وابنته تعاني من موت أبيها ، وموت أمها ، وموت أخيها .
لماذا نحن نتعلم ؟ لماذا العلم ؟ لماذا ينبغي أن نعرف الله عز وجل ؟ ولماذا ينبغي أن نطيعه ؟ لنسعد في الدنيا والآخرة ، وبعد أسبوعٍ نشرت القصة الثانية ، حول هذا المرض .
القصة الثانية : تقدم شابٌ لخطبة فتاةٍ من أسرةٍ - هكذا يقول كاتب المقالة- مستواها الاجتماعي والثقافي جيد ، وافق الأهل والفتاة على هذا الشاب ، وتمت الخطوبة ، وكتب العقد الشَرْعِيّ ، وبقي هذا الشاب مع هذه الفتاة ينعُمان بأجمل ساعات الحياة خلال عام ، خطر في باله أن يتعلَّم قيادة السيارات ، تقدم بالأوراق المطلوبة ، فإذا من بين هذه الأوراق شهادة للتبرعٍ بالدم ، ذهب وتبرع بدمه ، فوجئ في اليوم التالي أنه مصابٌ بهذا المرض ، تردد كثيراً بأن يخبر زوجته -لأن العقد عقد عليها - وبين ألا يخبرها ، استقر على أن يخبرها ، وأخبرها ، وتمت فسخ الخطوبة ، وأصيبت الأسرة وهذه الفتاة بإحباطٍ شديد ، الزوج مصاب بهذا المرض ، وهو ينتظر أيّامه الأخيرة . هذه قصةٌ ثانية نشرت بعد أسبوع .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أردت من هاتين القصتين أن أبيِّن لكم ، يقول هذا الشاب- يلعن تلك اللحظات التي زلَّت بها قدمه وانساق وراء غريزته - أتمنى الموت اليوم قبل غَد ، لأنه أصبح قدراً محتوماً عليّ ، وطلب أن ننقل نصيحته إلى جميع الشباب أن يفكروا بعقولهم ويتمهَّلوا كثيراً قبل أن تزل أقدامهم . طلب العلم فريضة على كل مسلم ، أنت تطلب العلم من أجل أن يكون العلم حارساً لك ، طبعاً هاتان القصتان كُتبتا في الصُحُف اليومية ، وأما القصص التي لم تكتب فهي كثيرةٌ جداً وكثيرة ، والمواعظ بين أيديكم ، طاعة الله سعادةٌ في الدنيا والآخرة .
رحمة الله ثمنها أن تتقي أن تعصيه :
دققوا في هذه الآيات أيها الأخوة ، قال تعالى :
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
من رحمة الله أن يحفظك من هذه الأمراض ، من رحمة الله أن يحفظك من هذه الآفات ، من رحمة الله أن تعيش حياةً مستقرة ، يقول الله عز وجل :
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
إذاً رحمة الله ثمنها أن تتقي أن تعصيه ، إذا اتقيت أن تعصيه لعل الله سبحانه وتعالى يرحمك ؛ فيتجلى عليك بالحفظ والرعاية والتوفيق .
آيةٌ ثانية :
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
منهج الله عز وجل بين يديك ، أنت إنسان تُعَدُّ أعقد آلةٍ في الكون ، وهناك للصانع تعليماتٌ دقيقةٌ دقيقة ، منهجٌ دقيق موضوعٌ بين يديك ، كيف تغفل عن دراسة القرآن ؟ كيف تغفل عن سنة النبي العدنان ؟ كيف ليس في حياتك وقتٌ لمعرفة الله ؟ تدمرت حياته ، المرض حصد الأسرة كلها ، والثاني : الزوجة لم تُصَب ولكن الزوج أصيب ، وهو ينتظر أيام موته .
بعض أسباب رحمة الله التي منها حفظك :
أيها الأخوة الأكارم ؛ في القرآن خمس آيات ، الآية الأولى :
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
أي اتقوا أن تعصوا ، والآية الثانية :
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
والآية الثالثة :
﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
والآية الرابعة :
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
والآية الخامسة :
﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
أن تتقي المعصية ، وأن تبادر إلى الطاعة ، وأن تقرأ القرآن ، وأن تصلّي ، وأن تستغفر عما كان مِنْك ، هذه بعض أسباب رحمة الله التي منها حفظك ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في دعائه الشهير :
(( ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ))
الدعاء بعض ملامح المنهج التفصيلي والآيات التي تنهى المؤمن عن أن يقترب المُنكر :
1 ـ غض البصر :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ في هذا الموضوع ، موضوع أن تزل قدم الإنسان في معصيةٍ متعلِّقة بالنساء ، ما منهج الله التَفْصِيلِيّ ؟ أول مواد هذا المنهج :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾
قال العلماء : ما قدَّم الله غض البصر على حفظ الفرج إلا ليؤكِّد أن طريق حفظ الفرج غض البصر . فيا أيها الشباب . . . إذا أردتم أن تكونوا في حصنٍ حصين ، وفي حرزٍ حريز ، وفي مناعةٍ ما بعدها مناعة ، تجاه هذه المعاصي والمُنْزَلقات فعليكم بغض البصر.
(( من غض بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه))
((من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم ))
(( والنظرة سهمٌ مسموم من سهام إبليس . . .))
النظرة طريقٌ إلى المنزلق ، هذا بعض منهج الله التفصيلي في هذا الموضوع .
2 ـ الابتعاد عن الطرق التي تفضي إلى الزنا :
الشيء الثاني . . قال تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
أليست هذه القصة تأويلٌ دقيقٌ دقيق لهذه الآية :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
كلمة " لا تقربوا " لا تعني ألا تزنوا ، " لا تقربوا " لا تسلكوا طريقاً يُفضي بكم إلى الزنا ، فالابتعاد عن أي مكانٍ موبوء من تطبيق هذه الآية ، الابتعاد عن صديقٍ منحرف من تطبيق هذه الآية ، الابتعاد عن مطالعة أدبٍ رخيص من تطبيق هذه الآية ، الابتعاد عن مشاهدة عملٍ فنيٍ رخيص من تطبيق هذه الآية :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ﴾
مشاهدة الأعمال الرخيصة ، وقراءة الأدب الرخيص ، وصحبة الأراذل ، وكما تعلمون هناك ثلاثون حالة يفقِد الإنسان بها عدالته ، من هذه الحالات صحبة الأراذل ، التنزه في الطرقات ، والحديث عن النساء ، هذه أشياء ثلاثة تفقد الإنسان عدالته ، ويفقد بها حقوقه المدنية بالتعبير الحديث .
3 ـ الافتقار إلى الله :
شيءٌ آخر : ربنا عز وجل علمنا الأدب ، فعلى لسان سيدنا يوسف :
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾
كيد المرأة في إظهار فتنتها ، فأنت إذا استعنت بالله قبل أن تخرج من البيت : " اللهم إني أعوذ بك من أضِل أو أضَل ، أو أذِل أو أذَل ، أو أجهَل أو يُجهل علي ، أو أظلِم أو أظلَم " إذا استعنت بالله من أن تقع في ضعفٍ نفسي يقودك إلى منزلق ، فأنت قد اعتصمت بالله عز وجل ، واعتصمت بحبل الله المتين ، واعتززت بعظيم . فالاعتزاز بالله ، والالتجاء له ، والبعد عن كل ما من شأنه أن يوصل إلى الانزلاق ، وغض البصر ، هذه بعض ملامح المنهج التفصيلي ، والآيات التي تنهى المؤمن عن أن يقترب المُنكر ، لابد من أن يبقي بينه وبين المنكر هامشاً واسعاً .
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
اجعل بينك وبين حدّ الله هامش أمان .
فيا أيها الأخوة . . . غض البصر طريق حفظ الفرج ، ألا تقرب الزنا ، أي ألا تقرب مكاناً ، أو زماناً ، أو صديقاً ، أو أدباً ، أو عملاً فنياً من أجل أن يقرِّبك من هذا المُنْزَلَق، هذا أيضاً من منهج الله التفصيلي . والشيء الأساسي أن تفتقر إلى الله عز وجل حيث تشعر أنك عبدٌ ضعيف ما لم يتولَّ الله حفظك ، فقد لا تستطيع أن تقاوم ، هذا الافتقار بِحَدِّ نفسه يحفظك من كل سوء ، هذا ما على الفرد .
على المجتمع تيسير الزواج و تسهيل العقبات :
ماذا على المجتمع يا أيها الأخوة ؟ يا أيها الآباء ، يا أيها الأمهات قال تعالى :
﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾
هذا أمر عند بعض العلماء واجب ، وعند بعض العلماء مندوب ، الأب والأم وأولو الأمر مأمورون من قبل الله عز وجل أن ينكحوا أبناءهم . .
﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى ﴾
" الأيامى " مفردها أيِّم ، والأيِّم ذكراً كان أو أنثى ، من لا زوج له أو من لا زوجة له ، وكيف يكون هذا الأمر ؟ بتسهيل العقبات ، بتيسير الأمور ، بالرضا باليسير ، هذا هو الأمر ، بإرخاص الحاجات ، إذ الزواج مسؤولية المجتمع بأكمله ، المجتمع كله مسؤولٌ عن هذه الظاهرة الخطيرة .
تعاضد المجتمع هو الخطوة الأولى في طريق السلامة والسعادة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ما أردت من هاتين القصتين إلا أن أؤكد لكم أن طاعة الله عز وجل ضرورة لسلامتك ولسعادتك ، وأن طاعة الله عز وجل لن تكون إلا بمعرفته ، وأن طلب العلم هو الخطوة الأولى في طريق السلامة والسعادة ، وأنك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما فعليك بالعلم .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لا أريد أن أطيل عليكم ، ولكن أريد أن أضع أيديكم بفضل الله عز وجل على موطن الداء . الإنسان كل شهوةٍ أودعها الله فيه ، جعل لها قناةً نظيفةً ، إذ لا حرمان في الإسلام ، لكن الإسلام حرم عليك الطُرق الخبيثة ، والاتجاهات السيّئة ، فكل شهوةٍ أودعها الله في الإنسان لها طريقٌ مشروع ، فعلى المجتمع أن يتعاضد .
(( إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ))
أيُّ شيءٍ يفسِد العلاقة في البيت ؛ بعض المجلاَّت ، بعض أجهزة اللهو ، الذي من شأنه أن يثير ما عند الشباب من شهوة كامنة ، هذا يدمِّر الأسرة ، ويدمر شبابها ، ويدمر فتياتها .
يا أخوة الإيمان . . . حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن مَلك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حِذْرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
طلب العلم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإمام علي كرم الله وجهه يقول في نصيحة يسديها إلى كُمَيْل . يقول : " يا كميل العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك " هذا ترك معرفة الله ، كان جاهلاً في هذه الموضوعات ، فزلت قدمه ، وانهارت أسرته ، وحُطِّمَت كل أماله ، " العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، يا كميل مات خُزَّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ".أيها الأخوة الأكارم ؛ يجب أن تعلموا أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، والفريضة الشيء الذي تتوقف حياتك عليه ، تنفّس الهواء فريضة لهذا الجسد ، كذلك طلب العلم فريضة ، طلب العلم فريضة على كل مسلم ، تعلَّم ، والعلم الحقيقي يحملك على الاستقامة التامة، والاستقامة تعني سلامتك وسعادتك في الدنيا وفي الآخرة .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .