- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النشاط الاجتماعي من نشاطات الإنسان الأساسية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ من نشاطات الإنسان الأساسية أن يلتقي مع أخيه الإنسان لأن الإنسان - كما يقول علماء الاجتماع - كائنٌ اجتماعي ، فجزءٌ كبيرٌ من وقت الإنسان يمضيه في لقاءاته مع بني جنسه ، إذاً أن تلتقي مع أقربائك ، مع أصدقائك ، مع جيرانك ، مع زملائك ، مع من تحب ، مع من ترجو ، مع من تخاف ، أن تلتقي مع الإنسان ، نشاطٌ أساسيٌ في حياة الإنسان . هذا النشاط الأساسي إما أن يرقى بك إلى أعلى عليِّين ، وإما أن يهوي بك إلى أسفل سافلين ، هذا الوقت الذي تمضيه مع أخيك ، مع قريبك ، مع جارك . هذه السّهرة ، هذه النّدوة ، هذه النّزهة ، هذا اللّقاء ، هذا الاجتماع . النّشاط الاجتماعيّ لقاء الإنسان بأخيه الإنسان ، هذه الممارسة - إن صحّ التعبير لهذا النشاط - إما أن ترقى بك إلى أعلى عليّين ، وإما أن تهوي بك إلى أسفل سافلين . لماذا ؟ لأن نوع هذا اللقاء من نوع ما يجري فيه ، مستوى هذا اللقاء من مستوى ما يجري فيه ، وما يجري فيه من نوع ما يُقالُ فيه ، فالذي يقال في هذا اللقاء ، وفي هذا المجلس ، وفي هذه الندوة ، وفي هذه السهرة ، وفي تلك الوليمة ، وفي هذه النزهة . ما يقال إما أن يرقى بالنفوس ، وإما أن يَسفُلَ بها .
تلاوة كتاب الله و السمو به أثناء الاجتماعات و اللقاءات :
لذلك نرى النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة حضّنا على أن نَسمُوَ في هذه اللقاءات . قال عليه الصلاة والسلام :
((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم . . ))
هذا الحديث الأول . النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون- أيها الأخوة - سيّدُ الفُصحاء . لم يَقُل : ما اجتمع بنو فلان ، أو بنو علان . قال : ما اجتمع قومٌ ، ونكّرَ كلمة القوم ، وحينما تُنَكّر الكلمة تفيد الشُّمول . أيّ قومٍ ذكوراً أو إناثاً ، صغاراً أو كباراً . بأيّة علاقة، علاقة جِوار ، علاقة زمالة ، علاقة قرابة ، علاقة سِن ، علاقة حِرفة ، علاقة مِهنة.
ما اجتمع قومٌ . أيّ قومٍ في أي عمرٍ ، من أي جنسٍ ، لأيّ سببٍ . كلمة قوم التي جاءت نَكِرَةً . تُفيد أيّ قومٍ ، وأي اجتماع . ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله تعالى ، وبيوت الله المساجد . إنّ بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوّارها هم عمّارُها ، فطوبى لعبدٍ تطهّر في بيته ، ثم زارني ، وحُقّ على المزور أن يُكرِم الزائر . وقد قال شرّاح الحديث : هذا تقييدٌ غالبيّ . أي لو اجتمعت مع أصهارك ، لو اجتمعت مع زملائك ، لو اجتمعت في مكان عملك ، لو اجتمعت في نزهة . حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام : " ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله " هذا ليس تقييداً مطلقاً ، ولكنه تقييدٌ غالبيّ .
أي الأغلب أن يكون هذا الاجتماع في بيتٍ من بيوت الله ، ولو حصل في بيتٍ من بيوت أصحاب الدعوات ، لو حصل في بيتٍ تُتلى فيه سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، ويُمدح فيه النبي . لو حصل في نزهة أي اجتماعٍ ، ولكن يغلب على هذا الاجتماع الذي يُرجى نفعه أن يكون في بيت من بيوت الله . ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله . ما أفضل شيءٍ يفعلونه ؟ أي كلامٍ يتحدثون به ؟ أي قولٍ يقولونه ؟ أي نشاطٍ يمارسونه ؟ أي قصةٍ يتلونها ؟ أي خبرٍ يذيعونه ؟ يتلون كتاب الله تعالى . الكتاب المقرّر ، الكتاب الذي فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، الكتاب الذي فيه منهجهم ، الكتاب الذي يهدي للّتي هي أقوَم ، الكتاب الذي لا يأمر إلا بالخير ، الكتاب الذي من اتّبعه فلن يَضِلّ ولا يشقى ، الكتاب الذي من تَبِعَه فلا يخاف ظلماً ولا هضما ، الكتاب الذي من تبعه لا خوفٌ عليهم ولاهم يحزنون ، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . يتلون كتاب الله ، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أن كتاب الله يجب أن يُتلى ، يجب أن يتلى تلاوةً صحيحةً ، وقد ذكر الله عز وجل في آيةٍ أخرى حيث وصف المؤمنين بأنهم يتلونه حق تلاوته ، وقد وجه المفسّرون هذه الآية إلى أن حقّ التلاوة يعني أن تنطقه صحيحاً ، وأن تفهمه صحيحاً ، وأن تطبقه تماماً . حق التلاوة يشمل سلامة اللفظ ، وفهم المعنى ، وتطبيق الأمر والنهي . فهؤلاء القوم . ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله .
تدبر آيات القرآن الكريم :
الآن ويتدارسونه ، لأن تدبّر القرآن شيءٌ عظيم ، أن تفهم ماذا أراد الله بهذه الآية، أن تفهم ما مُؤدّاها ؟ إلى أين تمضي بك هذه الآية ؟ ما القصد الإلهي منها ؟ ما الحكم الشرعيّ الذي يُستنبط منها ؟ لماذا ذكرها الله عز وجل ؟ تلك القصة ما الموعظة التي تُؤخذ منها؟ ما الموقف الذي يجب أن تقفه بعد أن فهمتها ؟ هذه المدارسة ، ولعلّ النبي عليه الصلاة والسلام كان فصيحاً ، وبليغاً ، وحكيماً ، حينما أورد فعل يتدارسونه ، والتدارس صيغة مشاركة ، أي ليس المجلس مجلس استماعٍ لمتكلمٍ واحد ، لابد من أن يدور الحديث بين الحاضرين ، لابد من أن يسأل هذا ، ويجيب هذا ، لابد من أن يستفهم زيد ، ويجيب عُبيد ، لابد من أن نقف عند آية ، عند كلمة ، عند حكمٍ شرعي . هذه المُدارسة تعني المشاركة ، والمجلس الذي فيه مشاركة، وفيه مدارسة ، وفيه سؤالٌ ، وفيه جوابٌ ، وفيه استفهامٌ ، وفيه تعليقٌ ، وفيه تذييلٌ . هذا يعجّ كما يقولون بالحيوية ، والنشاط . فلذلك وردت كلمة يتدارسونه على صيغة المشاركة ، صيغة المفاعلة .
السكينة شعور خاص بأصفياء الله المؤمنين :
((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا ))
هذه الصيغة تفيد القصر ، أي لمجرّد أن يجتمع هؤلاء على كتاب الله تعالى ، وعلى تلاوته حق التلاوة ، وعلى مدارسته حق المدارسة بنيّةٍ صافية ، وبإخلاصٍ شديد ، وبطلب من الله جزيل ـ إلاّ ـ علاقةٌ حتميّة ، علاقة قصرٍ . ما اجتمع قوم إلا نزلت عليهم السّكينة ، والسكينة أيها الأخوة لا يعرفها إلا من ذاقها ، يقول بعض الناس بلغتهم الدارجة : هذا هو التّجلي ، أحياناً تجلس في مجلس قد يكون متواضعاً ، في بيتٍ متواضع ، في مسجدٍ متواضع ، لكن تشعر براحةٍ لا توصف ، تشعر بسعادةٍ لا توصف ، تشعر بسرور ، تقول : والله سُرِرنا ، هذه السكينة . قال بعضهم : إن الله يعطي الصّحّة ، والذّكاء ، والمال ، والجمال للكثيرين من عباده ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين . السكينة هذا الشعور الذي لا يوصف . تراه فقيراً وهو من أسعد الناس ، تراه يشكو عدة أمراضٍ في جسمه وهو من أسعد الناس ، ترى له زوجةً من الدرجة الثانية وهو من أسعد الناس بها ، ترى له أولاداً ليسوا متفوقين وهو سعيدٌ بهم ، ترى له منزلاً صغيراً وهو سعيدٌ بهذا المنزل . يوجد سرّ . ما هو السر ؟ هو أن الله عز وجل تجلّى عليهم بالسكينة ، تجلى عليهم برحمته . فلذلك إذا تجلى الله عليك كل شيءٍ صار تافهاً أمام هذا التجلي . أي يا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ - إلا نزلت عليهم السكينة - والله الذي لا إله إلا هو حدثني أخٌ قبل يومين ، أن له جلسة قرآنٍ أسبوعية منذ أذان الفجر وحتى شروق الشمس ، قال لي : والله أشعر بسعادةٍ لا توصف .
((...يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ...))
فيا أيها المسلمون ، يا أيها المؤمنون . أليست لكم سهرات ؟ أليست لكم ندوات؟ أليست لكم زيارات ؟ أليست لكم لقاءات ؟ أليس لكم اجتماعات ؟ في هذه الجلسات أنت وأصحابك ، أنت وأقرباؤك ، أنت وإخوتك ، أنت وأخواتك ، أنت وجيرانك ، أنت وزملائك ، أنت ومن تحب ، أنت ومن ترجو ، أنت ومن تخاف . هذه اللقاءات استثمرها لا تجعلها تمضي أدراج الرياح ، لا تجعلها تمضي في سفاسف الأمور ، لأن الله يحب معاليَ الأمور ، ويكره سفسافها ، ودنيّها . لا تجعلها تمضي فيما هو فان ، اجعلها تمضي فيما هو باق .
من يسير في طريق مرضاة الله عز وجل يحقق التوازن :
أيها الأخوة الأكارم . يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة . . ))
قال لي أحدهم ، وقد حجّ البيت الحرام ، قال لي كلمةً أعجبتني ، قال : ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني . قد تضيع منك الدنيا ، وتفوز برضوان الله . قد تضيع منك الدنيا ، و تفوز بالإقبال على الله . قد تضيع منك الدنيا ، وتفوز بالقرب من الله . إذا فزت بهذا ما فاتك شيء . لهذا يوصف سيدنا الصّديق رضي الله عنه بأنه ما نَدِم على شيءٍ فاته من الدنيا قط . بينما معظم الناس يندبون على خطبة ، أو على شراكةٍ فاتتهم المساهمة فيها. ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط . ولعل هذا لسان حال بعض العارفين الذين تمثلوا قول أحد الشعراء :
فليتك تحلو و الحياة مريـــــرةٌ وليتك ترضى والأنام غضــاب
وليت الذي بيني وبينك عامــــرٌ وبيني وبين العالمين خـــراب
وليت شرابي من ودادك سائــغٌ و شربي من ماء الفرات سراب
أقول لعذّالي مدى الدهر اقصروا فكل الذي يهوى سواه يعــاب
***
إلا نزلت عليهم السكينة . . ولعل السكينة حالة توازن . الإنسان أحياناً يقلق كلما دنا من أجله يقلق ، فإذا سار في طريق مرضاة الله عز وجل يحقق التوازن ، تتوازن نفسه ، يشعر أن الزمن لمصلحته ، يشعر أن خطه البيانيّ في صعودٍ مستمر ، يشعر أنه كلما ازدادت سنّه ازداد قرباً من ربه ، وازداد عقله ، وازدادت مكانته ، وازداد خيره ، وازداد إقباله .
بطولة الإنسان أن يكون في خريف عمره متألقاً لمّاح الذكاء :
هذا القلق المدمّر الذي يدمر النفوس التائهة ، والطائشة ، والمنحرفة ، والعاصية . هذا القلق المؤمن بريءٌ منه ، مادام قد حفظ نفسه في الصِّغر فالله سبحانه وتعالى يحفظها له في الكبر . قيل لرجلٍ بلغ السادسة والتسعين وهو يتمتع بأقوى وبأعلى درجة من درجات الصحة ، سمعٌ مرهف ، وبصرٌ حاد ، وذكاءٌ لماع ، وقامةٌ منتصبة ، ورشاقة . قيل له : يا سيدي ما هذه الصحة التي أكرمك الله بها ؟ قال : يا بني حَفِظناها في الصِّغر ، فحفظها الله علينا في الكبر . من عاش تقيّاً عاش قوياً ، ومن تعلّم القرآن متّعه الله بعقله حتى يموت .
ولهذا الحديث الشريف تفسير علميّ دقيق لأن العضو الذي لا يعمل يضمر ، والدماغ من أنبل أعضاء الإنسان ، من أنبل أجهزته ، فما دام هذا الدماغ مشتغلاً بتلاوة القرآن، مشتغلاً بحفظ القرآن ، مشتغلاً بمدارسة القرآن ، مشتغلاً بأداء الصلوات ، فإن هذا الدماغ ينمو ولا يضمر . لذلك أرذل العمر الذي وصف في القرآن الكريم المؤمن معافى من هذه المرحلة التي سماها القرآن الكريم .
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾
وقد نجد أناساً بلغوا التسعين ، وكان بعض علماء مصر قد بلغ الثلاثين بعد المئة، وهو في أعلى درجات اليقظة .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ ليست البطولة أن تكون في شبابك قوياً ، ولكن البطولة أن تكون في خريف عمرك متألقاً ، أن تكون في خريف عمرك لمّاح الذكاء ، يَقِظ الضمير ، دقيق الفهم ، حصيف الحركة ، سديد الفكر .
من اشتغل بذكر الله نزلت عليه السكينة و غشيته الرحمة و حفته الملائكة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ إلا نزلت عليهم السكينة . هم في سكون ، في طمأنينة ، القلق لا يسحقهم ، والهمّ لا يفتتهم ، والخوف لا يمزقهم . إنهم قد اطمأنوا إلى الله عز وجل . لأن الله سبحانه وتعالى يتجلى عليهم بالسكينة . من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة . والآية الكريمة :
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
والمؤمن في رضوان الله . لكن :
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
((....إلا نزلت عليهم السكينة ، و غشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ))
بالإلهام مادمت قد أمضيت وقتاً من وقتك الثمين في بيت من بيوت الله تتلو كتاب الله ، وتتدارسه مع إخوانك ، أو تستمع إلى تفسيره . فلابد من أن الملائكة تحفّك بالرعاية. هم في مساجدهم ، والله في حوائجهم .
معنى تحفهم الملائكة تُلهِمُهم رُشدهم ، تلهمهم ما ينبغي أن يفعلوه لصالحهم . والإنسان كما تعلمون بين وسوسة شيطان ، وبين إلهام ملك ، فإما أن يستجيب لوسوسة شيطان سيكون حتفه في هذه الوسوسة ، وإما أن يستجيب لإلهام ملك .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ـ وذكرهم الله فيمن عنده ـ
((لا يذكرني أحد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى))
إذا اشتغلت بالله اشتغل الناس بالثناء عليك ، واشتغل الناس بحبك ، واشتغل الناس بخدمتك ، إذا خفت من الله خاف الناس منك ، إذا هبت الله هابك الناس ، إن اشتغلت بالله اشتغل الناس بك ، إذا أخلصت لله أخلص الناس لك ، إذا أُلقِي في قلبك حب الله ألقى الله حبك في قلوب الخلق . كلها معادلات رياضية دقيقة جداً . حديث آخر في الموضوع نفسه . هذا الحديث أشمل . يقول عليه الصلاة والسلام :
(( وما اجتمع قومٌ على ذكرٍ . .))
أي ذكر . لو ذكرت قصة مفادها أن الله بالمرصاد ، لو تلوت قصة أن الله عز وجل عدلٌ لا يغيب عنه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ، لو ذكرت قصةً مفادها أن المستقيم يكرمه الله ، وأن المنحرف يخذله الله ، وأن الذي ينفق ماله تنمو أمواله ، وأن الذي يرابي يمحق الله أمواله .
إذا ذكرت قصة ، إذا أمرت بالمعروف ، إذا نهيت عن المنكر ، إذا ذكرت حكماً شرعياً ، إذا تلوت قصةً عن أصحاب رسول الله ، واستنبطت منها حكماً ، إذا تدارست مع أخيك عملاً صالحاً ، خدمةً للمجتمع . ما اجتمع قوم - لم يذكر أين اجتمعوا ، في أي مكان ، في مقر جمعيةٍ ، في بيتٍ من بيوتٍ - :
(( ما اجتمع قوم على ذكر - أي ذكر - فتفرقوا عنه إلا قيل لهم : قوموا مغفوراً لكم ))
مقارنة بين مجلس يرقى بك ومجلس يلقيك في الحضيض :
لذلك أيها الأخوة ؛ بعض الأخوة الأكارم إذا اجتمعوا في مجلس يتحدثون عن الله عز وجل ، وعن القرآن ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم ينتقلون إلى الحديث عن الدنيا . فبعد أن كانوا مجتمعين ، بعد أن كانت قلوبهم منعقدة على الله عز وجل ، بعد أن كانوا في صفاء ، لما دخل موضوع الدنيا تفرقت القلوب ، وانزعجت النفوس ، وتلمّضت الأفواه ، وتحسرت القلوب . فإذا انفضوا على هذه الحالة ، فكأنهم ما ذكروا الله . لذلك ينبغي أن نبدأ ، وأن ننتهي بذكر الله ، أن تقوم من هذا المجلس على ذكر الله ، وذكر نبيه ، وذكر صحابة رسول الله ، وذكر ما ينفعنا . ما اجتمع قوم على ذكرٍ فتفرقوا عنه إلا قيل لهم : قوموا مغفوراً لكم ، وما اجتمع قوم عن غير ذكر الله في الدنيا ، في حطام الدنيا ، في المال ، في شهوات الدنيا ، في قصص الناس التافهة ، في مغامرات الناس ، في سفاسف الأمور . و :
(( ما جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ))
وصلاة على النبي إلا قاموا عن أنتن من جيفة ، ما من شيءٍ أنتن رائحة من الجيفة ، لو أن الإنسان صادف جيفة لولى منها هارباً ، لأن رائحة الجيف لا تقابل ، لا تحتمل. مجلسٌ فيه غيبة ، فيه نميمة ، فيه فحش ، فيه افتراء ، فيه ذكر عورات المسلمين ، فيه ذكر النقائص ، فيه الطعن بفلان ، وبعلان . مجلس فيه التشويق للدنيا ، الحديث عن النساء . هذا المجلس يقوم الناس عنه عن أنتن من جيفة:
((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرٍ إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ))
هذه الرواية ذكرت فيها كلمة حمار ـ وقال شرّاح الحديث إن هؤلاء الذين اجتمعوا ، واغتابوا ، وافتروا ، وطعنوا ، وتحدثوا عن النساء ، وتحدثوا عن الشهوات ، وعن المسرّات الرخيصة ، وعن زيد وعن عبيد ، وطعنوا بهذا ، وسبّوا هذا ، وسخروا من هذا ، وقلدوا هذا ، وحاكوا هذا . إن هذا المجلس يقوم الناس عنه عن أنتن من جيفة حمار ، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام كلمة حمار إشعاراً بأن هؤلاء الذين تحدثوا في هذه الموضوعات ضعاف العقول، متبلّدون الحسّ ، بعيدون عن صالحهم . وهناك إضافة للترمذي لهذا الحديث .
((كَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
لماذا الحسرة ؟ لأنك بمجلسٍ قد ترقى إلى أعلى علّييّن . ربما جلست مجلساً فانعقدت توبة ، ربما جلست مجلساً فأحببت الله ، ربما جلست مجلساً فاتخذت قراراً حكيماً ، ربما جلست مجلساً فعقدت العزم على إنفاق المال ، ربما جلست مجلساً فعقدت العزم على أن تحجّ البيت ، ربما جلست مجلساً فعقدت العزم على أن تضحي ببعض مالك ، في سبيل أخيك المحتاج ، ربما فاضت عيناك بالدموع ، ربما توقد قلبك حباً لله . مجلسٌ يرقى بك ، ومجلسٌ يلقيك في الحضيض .
استغلال الوقت و الابتعاد عن القيل و القال :
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ قبل أن توافق على حضور جلسةٍ ، أو سهرةٍ ، أو لقاءٍ، أو نزهةٍ ، أو مشاركةٍ ، أو وليمةٍ . فكّر هل هذا المجلس يُرضي الله عز وجل ؟ هل فيه ذكرٌ لله؟ هل بإمكانك أن تتحدث فيه عن الله عز وجل ؟ هل بإمكانك أن تنفع الناس فيه ؟ هل هناك من يستمع إليك ؟ أو هل فيه من تستمع إليه ؟ لا فرق إما أن تستمع ، وإما أن تُسمِع . أما أن تمضي هذا الوقت الثمين في القيل ، والقال ، وإضاعة المال ، وخذ ، وهات ، فهذا ليس من شأن المؤمن . إذاً :
((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرٍ إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فيتامين د :
أيها الأخوة الكرام ؛ دققوا في خطورة الاستفادة من أشعة الشمس فوق البنفسجية. حيث يتكون فيتامين ـ د ـ تحت الجلد ، يستقلب في الكبد والكليتين ليصبح فعالاً فيعين على امتصاص الكلس ، والفسفور من الأمعاء ، ويرسبها في العظام ، ولهذا الفيتامين أيضاً دورٌ خطير في إفراز الأنسولين من البنكرياس ، ولهذا الفيتامين دورٌ خطير في نمو خلايا النخاع الشوكي العظمي ، ولهذا الفيتامين دور خطير في نموّ الخلايا خلايا البشرة ، الطبقة العليا من الجلد ، هذا معروف عند الأطباء ، ولا نضيف جديداً ، ولكن الجديد أيها الأخوة أن أفضل وقتٍ للاستفادة من أشعة الشمس برأي الأطباء وقت البزوغ ، ووقت الغروب . من هنا كانت صلاة الفجر لها شأنٌ خطير في صحة الإنسان ، لأن الشعوب التي لا تتعرّض لأشعة الشمس ، وتنام نوماً مديداً تُصاب بلين العظام ، وكساح العظام . وأمر الله عز وجل ، ولو كان أمراً تعبديّاً ، ولو أنه عبادة ، إلا أنه لا يمكن أن نُغفِل فيه النواحي الصحيّة ، وقد يستنبط هذا المعنى من قوله تعالى :
﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾
فمن كان يقظاً قبل الشروق وقبل الغروب استفاد من أشعة الشمس فوق البنفسجية، وقد يقول العلماء : ليس المهم أن تتعرض للأشعة مباشرةً بل إن الأشعة المنتثرة في هذين الوقتين تفيد الجلد في تكوين فيتامين د ، الذي يُسهم في نموّ العظام ، وفي عمل البنكرياس ، وفي نمو مخّ العظام ، وخلايا البشرة .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ما من أمرٍ في الدين إلا وله فوائد عظيمة ، أسوق لكم على سبيل المثال أن الذي يصلّي ، ويُحني رأسه في الركوع ، والسجود في كل صلاةٍ خمس مراتٍ في اليوم . العلماء أجروا تجربة على أن الرأس إذا انخفض احتقن الدم فيه ، فازداد ضغط الشرايين ، وإذا رُفع الرأس فجأةً هبط الضغط فجأة ، من ازدياد الضغط ، ومن هبوطه ينشأ في الأوعية الدموية ما يسمّى بمرونة الأوعية ، هذه المرونة لو أن ضغط الإنسان ارتفع إلى ثلاث وعشرين درجة زئبقية ، هذه الأوعية المرنة تحتمل هذا الضغط المرتفع ، بينما إنسان لا يصلّي لو ارتفع ضغطه حتى ثماني عشرة درجة ربما تمزقت شرايين الدماغ ، وأصيب بسكتةٍ دماغية . فهذه الصلاة من ركوعٍ ، وسجودٍ ، حتى إن بعض أمراض الشقيقة سببها ضعف تروية المخ بالدماء ، وإن السجود وحده هو الذي يزيد من تروية المخ بالدماء .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ الأوامر التي أُمِرنا بها من عند خالقنا ، من عند صانع الإنسان ، من عند العليم ، من عند الخبير . فأن يكون الإنسان يقظاً قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، وأن يتعرض لهذه الأشعة المفيدة - الأشعة فوق البنفسجية – هذا عملٌ فيه مرضاةٌ لله عز وجل ، وفيه فائدة للجسم . بل إن أحدث اكتشافٍ في الطب أن الأورام السرطانية سببها ضعف جهاز المناعة ، وجهاز المناعة سببه الشدة النفسية ، والتوحيد وحده يُعفي الإنسان من تلقي هذه الشدائد . بإمكانك أن تصيح ، وتقول : الإيمان صحة ، إنك إذا رأيت أن الله وحده المتصرّف ، وأنه حكيمٌ ، وأنه عليمٌ ، وأنه رحيمٌ ، وأنه قديرٌ ، حتى المصائب لها حِكَم بالغة . إذا أيقنت هذا ، ورأيت يداً واحدة ارتاحت نفسك ، فإذا ارتاحت نفسك خفّت عليها الشدة النفسية ، قوِيَ جهاز المناعة . إن أكثر نموّ الخلايا العشوائيّ أي ما يسمّى بالسرطان سببه ضعف المناعة ، وضعف المناعة سببها الشدة النفسية التي تضغط على النفس ، ولا شيء يشفي الإنسان من الشدة النفسية إلا توحيده . لذلك ما تعلّمت العبيد أفضل من التوحيد . فلا تدعو مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذّبين .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .