وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0241 - ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام - قانون الماء .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

اصطفاء الله سبحانه وتعالى الرسل وفق حكمةٍ بالغة وعدالةٍ مُطْلَقة :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ قبل أيامٍ عَديدة ، مرَّت ذكرى ميلاد سيدنا عيسى عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام ، لو تتبعنا قصة هذا النبي الكريم في القرآن الكريم ، لاستخلصنا منها حقائق مُفيدة ، ومواعظَ جمَّة ، فالله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران ، وفي الآية الثالثة والثلاثين يقول جلَّ وعلا :

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾

[ سورة آل عمران : 33]

قد يسألُ سائل : لماذا كان هذا الاصطفاء ؟ وما مُرَجِّح هذا الاصطفاء ؟ لا شك أن اصطفاء الله سبحانه وتعالى وفق حكمةٍ بالغة ، ووفق عدالةٍ مُطْلَقة ، يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾

هؤلاء البَشَر خُلقوا من نفسٍ واحدة ، هؤلاء البشر خُلِقَت فيهم استعداداتٍ واحدة ، هؤلاء البشر جبلوا جبلةً واحدة ، هؤلاء البشر فُطروا على فِطرةٍ واحدة ، لأنهم فطروا على فطرة واحدة ، كان التسابق بينهم ، فالسابق يصطفيه الله سبحانه وتعالى . .

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾

[ سورة آل عمران : 33]

وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة أخي عيسى ، ولما ولدت خرج من أمي نور أضاء ما بين المشرق والمغرب ))

[ من شرح الجامع الصغير عن ابن أبي أسامة ]

فاستنبط بعض العلماء أن الشام معقل الإيمان في آخر الزمان .

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران :33-34]

الله عز وجل سميعٌ لقولنا عليمٌ بحالنا :

إن الله سبحانه وتعالى يسمع قَوْلنا ، فإذا كان قولُنا ليس مطابقاً لما في بواطننا يعلم ذلك . .

﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

سميعٌ لقولنا ، عليمٌ بحالنا ، سميع لقولنا ، عليمٌ بمكنون أمرنا ، سميعٌ لقولنا ، عليمٌ بذات الصدور ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، يعلم السرَّ وما هو أعمق من السر . .

﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

تجسيداً لهذه الحقيقة ، من أن الله سبحانه وتعالى خَلَق الخَلْقَ على فطرةٍ واحدة ، خلقهم من نفسٍ واحدة، جبلهم جبلةً واحدة ، أودع فيهم استعداداتٍ واحدة ، خلقهم وأهَّلَهُم ليرقوا إلى أرقى الدرجات ، ولكن الناس متفاوتون في اختيارهم ، الله سميعٌ لقولهم ، عليمٌ بحالهم ، تجسيداً لهذه الحقيقة ، وتأكيداً لها ، وتوضيحاً لها ، تأتي الآية التالية :

﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾

[ سورة آل عمران : 35 ]

امرأة عمران امرأةٌ مُتَقَدِّمَةٌ في السِن ، أرادت أن تتقرب إلى الله عز وجل ، لقد حملت من زوجها عمران ، وتوفي زوجها عمران ، ليس بيدها ، ولا بِمُلْكِها إلا هذا الغلام الذي في أحشائها ، فماذا قالت ؟

 

حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :

قالت :

﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾

[ سورة آل عمران : 35 ]

هذا النَذر ، أيْ أن يُلْزِم الإنسان نفسه ما لا يلزم ، إنسانٌ يقدم ماله في سبيل الله، إنسانٌ يقدِّم علمه ، إنسانٌ يقدم جاهَه ، إنسانٌ يقدم ولده ، إنسانٌ يقدم ساعِدَه ، إنسانٌ يبذل وقته، إنسانٌ يبذل خِبْرَتَه ، لابد مِن أن تقدِّم شيئاً لله ، لأن حجمك عند الله بحجم عملك ، وحجم تضحيتك ، وحجم بَذْلِك ، وحجم عطائك . من أنت ؟ حينما يأتِي ملك الموت كيف تقَوَّم ؟ تقوَّم بصالح عملك ، الفقر فقر العمل ، والغنى غنى العمل ، والغنى والفقر بعد العرض على الله .
هذه المرأة ؛ امرأة عمران وردت قصتها في القرآن ، ليس المقصود أن نعلم قصتها ، القصة في القرآن ليست مقصودةً لذاتها ، إنما لنستنبط منها حقيقةً نهتدي بها في حياتنا ، ماذا يملك العَبْد ؟ يملك هذا الطلب ، ماذا طلبت من الله عز وجل ؟

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلي السماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له ؟ حتى يطلع الفجر))

[أحمد عن أبي هريرة]

ما طلبك من الله عز وجل ؟ ماذا طلبت منه ؟ هل طلبت منه الهدى ؟ هل طلبت منه أن تعرفه ؟ هل طلبت منه أن يعينك على تنفيذ أمره ؟ هل طلبت منه أن يمدَّك بالمال كي تتقرَّب إليه ؟ هل طلبت منه أن يعطيك علماً تنفقه في سبيل الله ؟ هل طلبت منه ولداً صالحاً ينفع الناس من بعدك ؟ ماذا طلبت منه ؟ طلبت طعاماً وشراباً ؟

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾

[ سورة التوبة : 38]

الحقائق الباهرة التي يُمْكِن أن تضيء لنا طريق الحياة :

ليست هذه القصة مقصودةً لذاتها ، المقصود تلك الحقائق الباهرة التي يُمْكِن أن تضيء لنا طريق الحياة . امرأة عمران لا تملك إلا أن طَلَبت مِن الله عز وجل أن يكون هذا الغلام الذي في أحشائها نذراً لله عز وجل . .

﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾

[ سورة آل عمران : 35 ]

تقبَّل مني يا رب ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله ))

[ من الجامع الصغير عن علي ]

ألا يكفيك أن الله سبحانه وتعالى يتقبَّله منك ؟ ألا يكفيك أن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد المسكين ؟ ألا يكفيك أن الله يعلم ما تعمل ؟ ألا يكفيك أن الله يعلم حجم عملك ؟ ومبلغ تضحيتك ؟ ومقادير بَذْلِك ؟

﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾

[ سورة آل عمران : 35 ]

هل دعوت الله بهذا الدعاء ؟ هل عملت عملاً خالصاً لوجه الله ودعوت الله أن يتقبَّله منك ؟ فهو جهد مُقِل كما قال سيد الخلق وحبيب الحق .

﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾

[ سورة آل عمران : 35 ]

ألم يقل الله عز وجل قبل قليل :

﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

[ سورة آل عمران : 34 ]

يا ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً ، كأنها توقعت أن يأتيها غلام ، وقد نذرت أن يأتيها هذا الغلام خادماً في دور العبادة ، ورجت الله عز وجل أن يتقبل هذا العمل ، لأنه سميعٌ لقولها ، عليمٌ بحالها . .

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾

كانت المفاجأة . .

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36 ]

والأنثى ليست كالذَكَر ، لا تصلح للخدمة . .

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36 ]

هذا درسٌ بليغ ، قد يحزن الرجل إذا جاءَتْهُ أنثى ، هل أنت تعلم علم الغيب ؟ قد يكون الخير كله من هذه الأنثى .
يروى أن رجلاً تزوَّج امرأةً ، فلما دخل بها انقبض ، لم يعجبه شكلها ، ففي صبيحة اليوم التالي خرج من المدينة هائماً على وجهه ، وغاب عنها عشرين عاماً ، حَنَّ إلى بلدته - المدينة المنورة - فعاد إليها بعد هذه الأيام الطويلة ، فدخل إلى المسجد ، فرأى شاباً تحلَّق الناس من حوله - حينما انقبض منها قالت له كلمة : يا فلان - اسمه عامر - قد يكون الخير كامناً في الشر - حينما عاد إلى المدينة بعد عشرين عاماً ، دخل إلى المسجد فإذا عالمٌ شاب تحلَّق الناس حوله ، سأل عنه ؟ فإذا هو الإمام مالك رضي الله عنه ، فلما عرف أنه ابنه قال : قل لأمك يا بني إن بالباب رجلاً يقول لكِ قد يكون الخيرُ كامناً في الشر ، هذا الذي يتشاءم ، من فتاةٍ رُزِقَ بها ، أو من زوجةٍ اقترن بها ، هل تعلم علم الغيب ؟ .

﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36 ]

قال الله عز وجل :

﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾

[ سورة آل عمران : 36 ]

الله أعلم كم سيكون الخير من هذه الأنثى .

 

الذكر والأنثى متساويان في التكليف والتشريف :

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36]

فعلاً ، الذكر والأنثى متساويان في التكليف وفي التشريف ، ولكن الذَكَرَ ذكرٌ ، والأنثى أنثى ، الذكر له طبيعة ، وله إمكانات ، وله بُنْيَة ، تتناسب مع مهمَّته في الحياة ، والأنثى أوْدَعَ الله بها عاطفة جيَّاشة ، ورِقةً تتناسب مع وظيفتها في الحياة ، قال الله عز وجل :

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36]

جاء قول امرأة عمران :

﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾

[ سورة آل عمران : 36-37]

يقول عليه الصلاة والسلام :

(( أفضل كسب الرجل ولده . . .))

[ الجامع الصغير عن أبي برزة بن نيار ]

(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))

[مسلم عن أبي هريرة]

لو بقي بعد الموت أحدُ هذه الثلاثة فإن الأجر لا ينقضي . .

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾

[ سورة آل عمران : 37]

معرفة الله مقدار صدق الإنسان في الطلب :

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقودنا هذا الموضوع ، إلى موضوع الصِدْق ، العلماء قالوا : هناك صدقٌ في الخبر ، وصدقٌ في العمل . قد تروي خبراً ؛ إما أن تكون صادقاً ، وإما أن تكون غير ذلك ، ولكن قد تقول قولاً ؛ إما أن يأتي عملك فيصدِّقه ، وإما أن يكون العمل مخالفاً للقول . لذلك الله سبحانه وتعالى يعلم مقدار صدق الإنسان في الطلب ، إن امرأة عمران طَلَبَت من الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الغلام الذي في بطنها خالصاً لله عز وجل ، مُحَرَّراً من كل شائبة ، أن يكون في خدمة المسجد ، أو خدمة المَعْبَد الذي يُذْكَر الله فيه ، وكان الذي أرادت ، فجعل الله سبحانه وتعالى مِن نَسل هذه الأنثى التي قال الله عنها :

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران : 36]

جعل من نسلها نبياً عظيماً ، من أولي العزم هو سيدنا المسيح عيسى بن مريم ، الذي مرَّت قبل أيام ذكرى ميلاده عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .

 

المرأة الصالحة خير متاع الدنيا :

أيها الأخوة المؤمنون :

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾

[ سورة آل عمران : 37]

أيها الشباب ؛ إذا أردّتم أن تبحثوا عن زوجةٍ لكم ، ابحثوا عن المَنْبِتِ الحَسَن ، ابحثوا عن البيئة الصالحة ، ابحثوا عن الأسرة المؤمنة ، ابحثوا عن البيت المسلم ، ابحثوا عن تربيةٍ صالحة ، لأن البِنْتَ التي تنمو نماء حسناً وتنبت نباتاً حسناً ، هي امرأةً صالحة ، والدنيا كلها متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ، التي إذا نظرت إليها سرَّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غِبْت عنها حفظتك في مالك ونفسها .

 

الولد الصالح نعمة لا يعدلها نعمة :

أيها الأخوة الأكارم ؛

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾

[ سورة آل عمران : 37]

زوج خالتها تكَفَّلها ، وما حَدَب الأبوين ، وما العطف الذي يتلقّاه الطفل إلا من أثر رحمة الله سبحانه وتعالى . .

﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً﴾

[ سورة آل عمران : 37]

بعضهم قالوا : وجد عندها علماً ، بعضهم قالوا : وجد عندها طعاماً ، على كل :

﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

[ سورة آل عمران : 37]

كأن سيِّدنا زكريا ، هذا النبي العظيم الذي بلغ من الكبر عتياً ، والذي خشي على إخوانه مِن الضياع مِن بعده ، تاقت نفسه إلى غلامٍ صالح ، ينفع الناس من بعده . .

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾

[ سورة آل عمران : 38]

لهذا جاء في دعاء القرآن :

﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾

[ سورة الفرقان : 74]

من كان عنده ولدٌ صالح فلا يكْفُر هذه النعمة ، نعمة الولد الصالح لا يعرفها إلا من فَقدها ، لا يعرف نعمة الولد الصالح إلا مَن رزقه الله بولدٍ طالح .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لو ملكت ألوف الألوف ، هذه لا تَعْدِلُ أن يكون لك ولدٌ صالح ، تقر عينك به ، لذلك حينما يهنأ من أنجب مولوداً يقال له : اللهم اجعله قرة عَيْنٍ لك ، أن تقر عينه بك .

 

اصطفاء مريم بميزة لم تكن لغيرها :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ والآيات تمضي بعدها فتقول :

﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾

[ سورة آل عمران : 42]

بمعنى اختارَكِ . .

﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة آل عمران : 42]

بميزةٍ لم تكن لغيركِ ، ليس في نساء العالمين امرأةٌ حملت من دون زواج ، إلا السيِّدة مريم ، التي وصفها الله في القرآن بأنها صِدِّيقة ، وأمه صديقة . .

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة آل عمران : 42]

لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ))

[ من مختصر تفسير ابن كثير عن أنس بن مالك ]

تنازع رجال الكنيسة على كفالة مريم :

﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾

[ سورة آل عمران : 43-44]

رجال الكَنيسة " المعبد " تنازعوا على كفالتها ، حتى اضطروا إلى إجراء قرعةٍ رَسَت على سيدنا زكريا ، لذلك استنبط العلماء من هذه الآية أنه في حال الخصومة والتنازع على اقتسام أشياء متساوية ، يجوز أن تُجْري قرعةً بين المتنافسين ، القرعة مشروعةٌ أخذاً من هذه الآية ، وفي هذه الآية إشارةٌ إلى أن في القرآن ما يثبت أنه من عند الله ، وفي القرآن ما يثبت أن النبي صلوات الله عليه رسول الله ، أنباء الغيب ، والغيب أنواع ثلاثة ؛ غيب الماضي ، وغيب الحاضر ، وغيب المستقبل ، وهذه القصة من غيب الماضي .

﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾

[ سورة آل عمران : 44]

ألقوا أقلامهم في الماء ، فالقلم الذي طَفا كان لسيدنا زكريا ، فكفلها زكريا . .

﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 44]

أنّى لك هذا الموضوع ، أنّى لك أن تعرف هذه القصة بتفصيلاتها .

﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾

[ سورة آل عمران : 45]

وجيهاً في الدنيا ، هذه الوجاهة . .

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

[ سورة الشرح : 4]

الإنسان إذا عرف الله عز وجل يرفع له ذِكْرَه ، سيدنا يوسف كان عَبداً من عبيد القصر ، فلما رأته إحدى جواريه في منصبٍ رفيع ، وصار عزيز مصر ، قالت كلمةً مشهودة قالت : سبحان مَن جعل العبيد ملوكاً بطاعته .
وأنت أيها الأخ الكريم حينما تأتمر بأمر الله ، وحينما تنتهي عما نهى الله عنه ، وحينما تكون عبداً لله ، فإن الله سبحانه وتعالى لابد مِن أن يرفع قدرك ، لابد مِن أن يعزّك . .

اجـعـل لربك كل عزك يستقر ويثـبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
* * *

سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . .

 

المعجزات التي منحها الله عز وجل لسيدنا عيسى :

ثم قال تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾

[ سورة آل عمران : 45]

قد يكون الإنسان وجيهاً في الدنيا ، وليس وجيهاً في الآخرة ، ليس هذا نجاحاً ، ولا تفوّقاً ، ولا ذكاءً ، ولا فلاحاً ، لابد من أن تكون وجيهاً في الدنيا والآخرة ، إن لم تكن وجيهاً في الدنيا ، فلا قيمة لهذه الوجاهة ، لكن لابد مِن أن تكون وجيهاً في الآخرة ، لأن رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٌ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره .

﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾

[ سورة آل عمران : 46]

كلمهم في المَهد فقال : " إني عبد الله " ليبرِّئ أمه ، وسيكلمهم في الكهولة ويقول لهم : إني عبد الله فقط .

﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾

[ سورة آل عمران :46-47]

الذي خلق الأرض والسموات أيعجز عن خَرْقِ العادات ؟ الذي خلق سبع سمواتٍ طباقاً أيعجز عن خلق مولودٍ من دون أب ؟

﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ﴾

[ سورة آل عمران : 47]

هكذا في هذه الحالة . أيها الأخوة الأكارم ؛

﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾

[ سورة آل عمران : 47]

أمره بين الكاف والنون ، لذلك كما جاء في الحديث القدسي :

((لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا على صعيدٍ واحد وسألني كل واحدٍ منكم مسألته ما نقص في ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في مياه البحر ، ذلك لأن عطائي كلام - كن فيكون - وأخذي كلام - زل فيزول - فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))

[ من الجامع لأحكام القرآن عن أبي ذر ]

﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾

[ سورة آل عمران :48-49]

الأعمى . .

﴿وَالْأَبْرَصَ﴾

من كان في جلده بياض . .

﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ﴾

[ سورة آل عمران : 49]

على أني رسول الله . .

﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

.

 

على الإنسان أن يطلب من الله ما يشاء بشرط أن يكون صادقاً :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ من هذه القصة نستنبط حقيقةً أساسية هو أنك تملك أن تطلب من الله ما تشاء ، ولكن لابد من أن يكون هذا الطلب صادقاً ، إذا كان طلبك صادقاً فلابد من يعطيك الله سؤلك لقول الله عز وجل :

﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾

[ سورة الإسراء : 20]

اسأله ما تريد . .

فلو شاهدت عيناك من حسـننــا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــا
ولو سمعت أذناك حُسن خطاب خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحـبَّـــــة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمـــةٌ لمـــــُت غريبـــــــــاً واشـتياقاً لقربـنا
ولو لاح من أنوارنا لك لائـــــــــحٌ تركـت جميع الكـائنات لأجلنـــــــــا
فما حبنا سهلٌ وكل من ادعـــى ســهولتــــــــــــه قلنا له قد جهـلتنـا
* * *

أيها الأخوة المؤمنون ؛ اطلبوا من الله عز وجل ؛ اطلبوا منه الهداية ، اطلبوا منه عملاً صالحاً يقرِّبكم إليه ، اطلبوا منه استقامةً على أمره ، اطلبوا منه ذُريةً صالحة ، اطلبوا منه زوجةً صالحة ، لمن لم يتزوَّج بَعد ، اطلبوا منه صلاح أزواجكم لمن كانت زوجته على غير ما يريد ، اطلبوا منه مالاً حلالاً ، اطلبوا منه عِزاً في الدنيا ، وعزاً في الآخرة .

(( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع ))

[الترمذي والبزار في مسنده وابن حبان عن أنس بن مالك ]

أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

قانون الماء :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الأمطار التي أكرمنا الله بها ، وهذه الثلوج التي امتنَّ الله بها علينا ، هذه الأمطار من أين مصدرها ؟ سؤالٌ دقيق ، لأن الله سبحانه وتعالى يَحُثُّنا أن ننظر في مَلكوت السموات والأرض .

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة يونس : 101 ]

مصدرها الأولي هذا البحر ، ونسبة البحر كما تعلمون إلى مساحة الأرض بكاملها، واحدٌ وسبعون في المئة ، أي سطح الأرض واحد وسبعون بالمئة بحراً ، وتسعةٌ وعشرون بالمئة براً ، سؤالٌ دقيق : من أين جاءت هذه الأمواه الكثيرة ؟ يزيد عمق بعض النقاط في المحيط الهادي عن اثني عشر ألف متر ، أي اثني عشر كيلو متر ، فهذه المساحات الشاسعة ، إذا كانت قارّة آسيا ، وقارة أوروبا ، وقارة أمريكا ، وقارة إفريقيا ، وقارة أوقيانوسيا ، والقارة السادسة - القطب الجنوبي - إذا كانت كل هذه القارَّات بما فيها من بلادٍ ، وعبادٍ ، وسهولٍ ، وجبالٍ ، وصحارى ، نسبتها تقدر بتسع وعشرين بالمئة مِن مساحة الأرض ، وما تبقَّى بحرٌ ، وفي أعماقٍ متفاوتة ، وقد تبلغ بعض أعماقه اثني عشر ألف متر ، فمن أين جاءت هذه الأمواه ؟
ومن أين جاء هذا المِلح ؟ هناك بحيراتٌ عذبة ، من أين جاء الملح ؟ لا تزال نظرية ملوحة البحر نظريةً تائهة لا تهتدي إلى تفسيرٍ صحيح ، ولكنَّ التفسير الصحيح قوله تعالى :

﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾

[ سورة فاطر : 12 ]

هكذا خلقه الله عز وجل .
شيءٌ آخر ، من جعل هذا البحر يمتلئ بالأسماك ؟ إنه مستودعٌ للأغذية للبشرية ، على تعاقب القرون والعصور ، إن في البحر ما يزيد عَن مليون نوعٍ من السمك ، وأنواع السمك لا تعدُّ ولا تحصى ، وأعدادها لا تعدُّ ولا تحصى ، وقد جعله الله مخزناً غذائياً لبني البشر .
شيءٌ آخر ، جعل الله البحر وسيلة اتصالٍ بين القارَّات ، وجعل سطحه موزعاً بين القارَّات ، هذا كلّه عليه أبحاثٌ طويلة ، ولكن أريد في هذه الخطبة أن أقف عند قانونٍ أساسيٍ في البحر . هذا القانون يقول : إن كل جسمٍ غاطسٍ في الماء ، يتلقَّى من الأسفل إلى الأعلى دفعاً عمودياً ، قائماً ، مساوياً لوزن الماء المُعادل لحجم هذا الجسم .
احمل شيئاً ثقيلاً واغمسه في الماء ، تحسَّ أن نصف وزنه قد تلاشى ، كأنَّ قوةً تدفعه نحو الأعلى ، هذه القوة يحكمها قانون ، إن قوة الدفع نحو الأعلى تساوي وزن الماء المُعادل لحجم هذا الجسم ، لولا هذا القانون لما أمكن أن يُركب البحر ، هذا القانون بسرِّه تسبح الأسماك ، لولا قانون القوة الدافعة نحو الأعلى ، لما وجدت في البحر سمكةً واحدة ، الأسماك تسبح في البحر لأن وزنها أقلُّ من وزن الماء الذي أزاحته بانغماسها في الماء ، لذلك تجد السمكة قوةً دافعةً نحو الأعلى .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لولا هذا القانون لما أمكن لسفينةٍ أن تَمْخُر عباب البحر ، لذلك قال ربنا سبحانه وتعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ﴾

[ سورة الجاثية : 12 ]

﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾

[ سورة الجاثية : 12 ]

لولا هذا القانون - قانون الدفع نحو الأعلى - لما أمكن لسفينةٍ أن تجري في البحر، أحدث رقم اطلعتْ عليه أن هناك ناقلات نفطٍ تزيد حمولتها عن مليون طن ، سمعنا قبل سنوات سبعمئة ألف طن ، ثمانمئة ألف طن ، نصف مليون طن ، أحدث ناقلات النفط تزيد حمولتها عن مليون طن ، إنها مدينة تمخر عُباب الماء ، بفضل مَنْ ؟ بفضل هذه القوة التي أودعها الله وهي تعمل بأمره ؛ قوة الدفع نحو الأعلى ، هذا القانون اكتشفه عالمٌ من علماء الغَرب ، قوة الدفع نحو الأعلى . أشار ربنا سبحانه وتعالى إلى هذا القانون في آياتٍ كثيرة ، الآية الأولى :

﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾

[ سورة الجاثية : 12 ]

تنقلون البضائع ، والحبوب ، والأغذية ، والآلات ، عبر المحيطات على ظهر هذه السفن ، التي هي في البحر كالأعلام ، أي كالجبال . .

﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾

[ سورة الجاثية : 12 ]

آيةٌ ثانية تشير إلى هذا القانون :

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾

[ سورة لقمان : 31 ]

بنعمة هذا القانون ، آيةٌ ثالثة :

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾

[ سورة الشورى : 32]

آيةٌ رابعة :

﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾

[ سورة البقرة : 164]

آيةٌ خامسة :

﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾

[ سورة فاطر : 12 ]

أي أن هذا اللؤلؤ خُلِقَ خصيصاً لكم أيها البشر . .

﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة فاطر : 12 ]

هذه من آيات الله عزَّ وجل ، أي أنك إذا استعملت شيئاً قد اشْتُرِيَ مِن بلادٍ بعيدة ، اذكر هذه الآيات ، لولا أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا القانون - قانون الدفع نحو الأعلى - لما أمكن لسفينةٍ أن تنقل لك هذه البضاعة التي تستعملها ، إذاً هذه آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته .

 

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور