وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0238 - حقوق الجار3 - المجموعة الشمسية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

التّعاون على البر و التقوى :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع واجبات الجار وحقوقه ، الحديث الشريف الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهو قوله : " أتدورن ما حقّ الجار ؟ إذا استعان بك أعنتهُ ، وإذا استقرضكَ أقرضْته ، وإن استنصرَكَ نصرْتَهُ ، وإن أصابه همّ واسَيْتهُ ، وإن أصابتهُ مصيبة عزَّيته ، وإذا مات شيَّعْته ، وإذا مرض عُدْته ، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الرّيح إلا بإذنه ، وإذا اشْتريْت فاكهة فأهْدِ له منها فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا ، و لا يخرج بها ولدك ليَغِيظ ولده ، ولا تؤذِه بقُتار قدرك إلا أن تغرف له منها".
 الفقرة الأولى من هذا الحديث الشريف إذا استعان بك أعنتهُ ، الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ، وفي آيةٍ محكمةٍ ، وبصِيغة الأمر ، والأمر كما تعلمون في القرآن الكريم يقتضي الوُجوب ، يقول تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 قال العلماء : البِرُ صلاحُ الدّنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، فالمؤمن يُعاوِنُ أخاه على صلاح دُنياه وآخرته ، يُعاونهُ على صلاح دُنياه بالبذْل والعطاء ، بِبَذْل ماله ، وبذْل جاهه ، وبذْل علمه ، وبذْل خبرته ، ويعينهُ على أمْر آخرته بِبَذْل النصيحة .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

[ سورة المائدة : 2]

يدُ الله مع الجماعة ، ويدُ الله على الجماعة ، والله في عَون العبد ما دام العبدُ في عون أخيه ، وإذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، والخلق كلّهم عيال الله تعالى ، أحبّهم إليه أنفعهم لعياله ، مثل الأخوين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى ، هل بإمكان الإنسان أن ينظّف واحدةً وأن يستغني عن اليد الأخرى ؟ كيف أنّ اليدين تتعاونان تعاوُنًا مثْمِرًا ، كذلك المؤمنون ، وكذلك الجيران من المؤمنين يتعاونون على معضلات الحياة ، وعلى أمور الآخرة سواءً بسواء .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام سمع من سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه ، سمعهُ يدعو ، ويقول هذا الإمام : اللهمّ أغْنِني عن الناس ، قد يبدو لنا أنّ هذا الدّعاء لا غبار عليه ، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال : يا عليّ ، هل تعلمُ ما قلتَ ؟ قال: نعم ، دعوْتُ الله عز وجل ألا يجعلني محتاجًا لأحد ، فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك معناه أنَّك تطلبُ الموت ، لأنّك لن تستغني عن الناس إلا إذا متّ .
 متى يستغني الإنسان عن الناس كليَّةً ؟ إذا توفاه الله عز وجل ، بل إنّك محتاجٌ إليهم بعد مماتك أيضًا ، و ذلك بالدعاء لك ، فقال الإمام عليّ كرَّم الله وجهه : ولكن ماذا أقول ؟ فقال عليه الصلاة والسلام موجِّهًا قل : " اللهمّ أغْنني عن شرار خلقك ، قلتُ : يا رسول الله وما هم شرار خلق الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : الذين إذا أعْطوا منُّوا ، وإذا منعوا عابوا" .
 والحديث الذي يقوله الإمام عليّ كرَّم الله وجهه قلتُه على مسامعكم مرارًا : " والله والله مرَّتَين ، لحفرُ بئرَين بإبرتَيْن ، وكنسُ أرض الحِجاز في يومٍ عاصفٍ بريشَتَين ، ونقلُ بَحرَين زاخرين بِمِنْخَلين ، وغسْلُ عَبدَين أسْوَدَين حتى يصيرا أبيَضَين ، أهْوَنُ عليّ من طلبِ حاجةٍ من لئيمٍ لِوَفاءِ دَين ". يا عليّ قلْ :" اللهمّ أغْنني عن شرار خلقك ".

 

التعاون أساس الحياة المزهرة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ طبيعة الحياة البشريّة تقتضي التعاوُن ، والحياة التي أساسها التعاوُن حياةٌ مزدهرة ، والحياة التي أساسها التنافس غير الشريف حياةٌ مدمَّرة ، لذلك لا تصلحُ حياتنا إلا بالتعاوُن ، والإنسان ضعيفٌ بِمُفرده ، قويّ بأخيه ، النبي عليه الصلاة والسلام حضَّنا عن صلاة الجماعة لماذا؟ لكي يجتمع المسلمون في المسجد ، ولكي يتداوَلُوا أُمورهم ، ويُلبُّوا حاجات بعضهم بعضًا .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلْينْفعْهُ " هناك أشخاصٌ كثيرون بإمكانهم ، وبمَقدورهم ، ومن دون عُسْرٍ ، ومن دون جهدٍ ، ومن دون مشقَّةٍ ، بإمكانهم أن يقدِّموا نفْعًا لإخوانهم المؤمنين ، ومع ذلك يبْخلون ، وهذا أشدّ أنواع الشحّ ، أن تبْخلَ بما لا يضرّك ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلْينْفعْهُ " قدِّم له مساعدة ، قدِّم له مالكَ ، قدّم له خِبرتك ، قدِّم له مَشورتك ، اجْعَل جاهَكَ في خِدْمتهِ ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يحبّك ، ولأنّ الخلْق كلّهم عيال الله ، لا أقول المسلمين ، بل الخلْق كلّهم عيال الله ، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعِيالِهِ ، إذا أردْتَ أن تعرف مقامكَ فانْظُر فيم استعملكَ ؟ إذا أحبّ الله عبدهُ جعل حوائج الناس إليه ، الخيرُ بيَدِي ، والشرّ بيدي - كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي - فطُوبى لِمَن قدَّرْت على يده الخير ، والوَيْل لِمَن قدَّرت على يده الشرّ ، الويلُ لِمَن كان مفتاحًا للشرّ ، وهنيئًا لِمَن كان مفتاحًا للخير ، وإذا أراد ربّك إظهار فضله عليك خلقَ الفضْل ونسبهُ إليك .

 

خير الناس أنفعهم للناس :

 يا أخي الكريم ؛ هل تعلمُ أنّ العمل الصالح هو زادك إلى الآخرة ؟ هو سببُ سعادتك في الدنيا والآخرة ، هل تعلمُ أنّ العمل الصالح هو العملة الوحيدة المتداولة في الدار الآخرة ؟ قال تعالى :

﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾

[ سورة الشعراء :57-59]

 قال تعالى :

﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾

[ سورة الدخان : 29]

 ولكنّ المؤمن الذي ينفق من ماله ، والذي ينفق من علمه ، والذي ينفق من جاهه، والذي يعين أخاه ، ويرحم الصّغير ، ويعطف على الكبير ، الذي يرحم الناس ، ألا يكفينا هذا الحديث القدسي :" إذا أردتم رحمتي فارْحموا خلقي " ؟ ربّنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

[ سورة الزمر : 22]

 ذو القلب القاسي لا مكان له عند الله عز وجل .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام : " خير الناس أنفعهم للناس " ويقول أحدهم : الناس للناس من بدْوٍ ومن حضَر بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم ، أنت لك صَنْعةٌ واحدة ، أنت لك حِرفةً واحدة ، أنت تتْقِنُ عملاً واحدًا ، وهل تدري أنّ مئات الملايين من البشر يضعون كلّ خبراتهم في يدك وأنت لا تدري ؟ أنت حينما تشتري بِمَالِكَ حاجةً ماذا تفعل ؟ تشتري خِبرات الآخرين ، وتشتري علم الآخرين ، وتشتري صَنْعة الآخرين ، وتشتري جهْد الآخرين ، الحياة تقوم على التعاوُن ، والله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتعاوَن ، قال تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 لا ينبغي لأصحاب الحِرفة الواحدة أن يتنافسوا ، لا ينبغي لأصحاب الحِرفة الواحدة أن يتشاتموا ، لا ينبغي لأصحاب الحِرفة الواحدة أن يتنابزوا ، عليهم أن يتعاونوا ، عندئذٍ يحبّهم الله سبحانه وتعالى ، ورحِمَ الله عبْدًا عرفَ حدَّه فوَقَفَ عندهُ . عن علقمة بن لبيد أنّه أوصى ولده فقال : يا بنيّ إذا احْتَجْت إلى صُحبة الرّجال فاصْحَب هؤلاء ، أعطاهُ قائمةً بمَن يجبُ عليه أن يصْحبهم ، اصْحَب مَن إذا صحِبْتهُ زانك ، أي رفع مقامك عند الناس ، اصحب المؤمنين ، والعلماء ، والفضلاء ، والحكماء ، والكرماء ، ولا تصْحَب أراذل الناس ، لا تصْحب السّفهاء ، تشينُكَ صُحبتهم عند الناس ، وعند الله تعالى ، بل إنّ الفقهاء عدُّوا من الأسباب الموجبة لِجَرْح العدالة صُحبة الأراذل ، المسلمُ في الحياة الاجتماعيّة قد يفقدُ حقَّه في الشهادة ، يُقال عنه فلانٌ مجروح العدالة ، مِن الأسباب التي توجِبُ جرْح العدالة صُحبة الأراذل ، يا بنيّ إذا أردتَ أن تصْحب الرِّجال فاصْحَب من إذا صحِبتهُ زانكَ ، وإن أصابتْك خصاصةٌ أعانك ،  قال تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 وإن قلت سدَّد قولَكَ ، وإن صُلْت قوَّى صوْلتَكَ ، وإن بدَت مِنْك ثُلْمةٌ - أيْ خللٌ- سدَّها ، وإن رأى منك حسنةً عدَّها ، وإن سألْتهُ أعطاك ، وإن نزلَتْ بِكَ ملِمَّةٌ واساك ، مَن لا تأتيك منه البوائق ، ولا تحتار عليك منه الطرائق ، و لا يخذلك عند الحقائق ، إنَّ أخاك الحقّ مَن كان معك ، ومن يضرُّ نفسهُ لينْفعَكَ ، ومن إذا ريْب الزمان صدَعَك شتَّتَ فيك شملهُ لِيَجمعَكَ ، هكذا تبدو الحياة حياةً رائعةً من خلال التعاوُن ، وتبدو الحياة موحشةً قاسيةً مقيتةً ، إذا حلّ محلَّ التعاوُن التنافس .

 

تعريف بالجار الحق :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الجار الحقّ - ونحن في الحديث عن حُقوق الجار - إذا استعان بك أعنْته

وردَ في بعض الآثار أنّ الجار الحقّ يغفرُ لِجارِهِ زلَّتهُ ، ويرحمُ عَبْرتَهُ ، ويسْترُ عورته ، ويُقيلُ عثرته ، ويقبلُ معذرته ، ويردّ غيْبَتَه ، إذا تحدَّث الناس عنه بِما يسوؤُه يُدافعُ عنه ، ويردّ غيبتَه ، ويُديمُ صُحبته ، ويحفظُ خلَّته ، ويرعى ذِمَّته ، ويعودُ مرضتَه ، ويشهدُ جنازتهُ ، ويُجيبُ دعوته ، ويقبلُ هديّته ، ويكافئ صلته ، ويشكرُ نعمته ، ويحسنُ نصرته ، ويحفظُ حرمته ، ويقضي حاجته ، ويقبلُ شفاعته ، ولا يخيّبُ طلبته ، ويُشمِّتُ عطستهُ ، ويُرشدُ ضالّته ، ويستحسنُ كلامه ، ويبرُّ أقسامه ، ويُصدّق أحلامه ، وينصرُه ظالمًا ، كيف ؟ بردِّه عن ظُلمه ، وينصُره مظلومًا بإعانته على أخْذ حقّه ، ويُواليه ، ولا يعاديه ، ولا يخذله ، ولا يشمتُ به، ويحبّ له الخير كما يحبّه لنفسه ، ويكره له من الشرّ ما يكرهُ لنفسه ، فهل نحن في هذا المستوى ؟ هل نرعى حقّ الجار بهذا المستوى ؟ لو كنَّا كذلك لأصبحنا في حياةٍ غير هذه الحياة، ما من إنسانٍ إلا ويشْكو جاره ، يشْكو جارهُ من نواحٍ متعددة ، يعتدي عليه بالكلام وبالبنيان ، ويقصّر في حقّه ولا يرعى ذِمّته ، ولا يردّ غَيْبتهُ ، هكذا أمرنا الإسلام ، أنْ نتعاوَن على البرّ والتقوى ، وأولى من نتعاون معه على البرّ والتقوى هو الجار ، وأيُّ جار ، فإن كان جارًا مسلمًا فله عليك حقّان ، وإن كان جارًا مسلمًا قريبًا فلهُ عليك ثلاثة حُقوق ، حقّ الأخوة في الله ، وحقّ الجيرة ، وحقّ الإسلام ، وحقّ القرابة .

علامات حُسْن الخُلُق :

 أيها الأخوة المؤمنون

علامات حُسْن الخُلُق أن يكون الإنسان كثير الحياء ، كثير الصَّلاح ، صدوق اللّسان ، قليل الكلام ، كثير العمل ، قليل الزَّلَل ، قليل الفُضول ، برًّا بِوَالِدَيه وأصحابه ، وقورًا ، صبورًا ، شكورًا ، راضيًا ، حليمًا ، رقيقًا ، عفيفًا ، شفيقًا ، لا لعَّانًا ، ولا شتَّامًا ، ولا نمَّامًا ، ولا مغتابًا ، ولا عَجُولاً ، ولا حقودًا ، ولا بخيلاً ، بشَّاشًا ، طلْق الوجه ، هشَّاشًا ؛ كثيرُ الترحيب ، يحبّ في الله ، ويبغض في الله ، ويرضى في الله ، ويغضبُ في الله .
 أيها الأخوة الأكارم ، أيّها السادة ، مِنْ حُسْن الخُلُق أن تصبرَ على الأذى ليس من حُسْن الجِوار أن تكفّ أذاك عن جارك ، لا ، ولكنْ أن تحتملَ منه الأذى ، هذا هو حُسْن الجوار ، أن تحتمل منه الأذى ، فمِنْ حُسن الخُلق الصَّبر على الأذى ، واحتمل الجفاء ، ومَن لمْ يتحمَّل سوءَ خُلق غيره دلَّ ذلك على سُوء خلقِه ، امرأة قال لها خاطبها : إنّ في خُلقي سوءاً ، فقالَت له : إنّ أسْوَأ خلق منك من حاجك لِسوء الخُلُق .

أبواب البر لا تعد و لا تحصى :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام حدَّد كثيرًا من الأعمال الصالحة

قال : أن تعدِلَ بين اثنين صدقة ، أي أن توفِّق بينهما وفْق مبادئ العدْل صدقة ، وأن تُعين الرَّجل على دابّته فتحمله عليها صدقة ، أن ترفع له متاعهُ على دابّته صدقة ، والكلمة الطيّبة صدقة ، وبكلّ خُطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة ، وأن تلقى أخاك بِوَجهٍ طلق هو لك صدقة ، وأن تُحسن إلى جارك هو لك صدقة ، وأبواب البرّ لا تُعدّ ولا تُحصى .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم في مَعْرِض الحديث عن حقوق الجار ، إذا استعان بك أعنْته ، يؤكّد هذا قول الله عز وجل:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المجموعة الشمسية :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن على كوكبٍ اسمهُ الأرض ، وكلكّم يعلم أنّه هناك مجموعةً شمسيّة ، أي كواكب كَعُطارِد ، والزُّهْرة ، والمريخ ، والمشتري ، وزُحَل ، وأورانوس ، ونبتون ، وبلوتو ، هذه الكواكب السيارة حول الشّمس ليست صالحةً للحياة ، لماذا كانت الأرض وحدها صالحةً للحياة ؟ السنة في كوكبُ عطارد ثمانية وثمانون يومًا ، أي أربعة وأربعون يومًا ليلاً ، وأربعة وأربعون يومًا نهارًا ! فهل يصلُح للحياة ؟ تنامُ وتستيقظ ، وتنامُ وتستيقظ ، ولا يزال الليل طويلاً ، أربعة وأربعون يومًا ليلاً ، وأربعة وأربعون يومًا نهارًا ، والسّنة ثمانيةٌ وثمانون يومًا، أي أربعةُ فصول في ثمانية وثمانين يومًا ، فهذا النَّجم يدور حول الشمس في ثمانية وثمانين يومًا وليس في هذا النّجم هواء ، فهو ليس صالحًا للحياة ، فما سرّ أنّ الأرض وحدها صالحة للحياة ؟
شيءٌ آخر ، كوكبُ الزُّهرة يومهُ مئتان وخمسٌة وعشرون يومًا ، أي مئة وزيادة نهارًا ، ومئةٌ وزيادة ليلاً ، لكنّ حرارة هذا الكوكب في النهار تصلُ إلى عشرين درجة ، نستمعُ أحيانًا إلى أنّ الأراضي المقدّسة قد بلغَت الحرارة فيها أربعين ، خمسين ، شيءٌ لا يُحتمل ! هذا الكوكب في النهار تصلُ الحرارة فيه إلى عشرين درجة ، وأما في الليل فتصل إلى عشرين تحت الصِّفر ، فهل يصلحُ هذا الكوكب للحياة ؟ لا هواء ولا ماء ، وأما كوكبُ المرِّيخ فنهارهُ كنهار الأرض أربعٌ وعشرون ساعة ، ولكنّ سنته ستّمئة وسبعة وثمانون عاماً ، أي الإنسان يعيشُ ويعيشُ أولاده ، وأولاد أولاده ولا يرَون جميعًا الصَّيْف ، يعيشُ الإنسان وأولادهُ وأولاد أولاده في الشّتاء ، فهل هذا الكوكب صالحٌ للحياة ؟ مِن أين يأتي النبات ؟ من تبدُّل الفُصول ، سنتهُ ستمئة وسبعة وثمانون عاماً !! أي هذا الكوكب يدور حول الشمس في هذه المسافة ، وحرارته سبعون درجة تحت الصِّفر ، ولا ماء ولا هواء ، إذًا لا يصلحُ للحياة ، والمشتري نهارهُ عشرُ ساعات ، خمس ساعات ينتهي النهار ، ما إن تفتح محلّك التِّجاري ، وتنظّف هذا المحلّ انتهى النهار ، وسنتهُ اثنتا عشرة سنة ، وحرارته مئة وثلاثون درجة تحت الصّفر ، وكثافته رُبْع كثافة الأرض ، إذًا هو كوكبٌ من الغازات ، فهو لا يصلحُ للحياة ، وسنة زُحل تسعة وعشرون عامًا ، وبعدهُ عن الشّمس مليار وأربعمئة ألف كيلو متر ، وسنة أورانوس ثمانيةٌ وأربعون عامًا ، وسنة نبتون مئةٌ وتسعةٌ وسِتُّون عامًا ، وسنة بلوتو مئتان وسبعة وأربعون عامًا ، الآن يقول الله عز وجل :

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾

[ سورة طه : 53]

كيف أنّك تجعل الصغير في مهْدٍ مريحٍ ، ومهْد ليِّنٍ ، في حرارة معتدلة ، كيف أنّ مهْد الصغير يناسبهُ من كلّ الجهات ، ربّنا سبحانه وتعالى تفضَّل علينا وجعل الأرض مهدًا ، وجعل قربها من الشّمس معتدلاً ، وجعل حرارتها معتدلة ، بين الأربعين وبين الصّفْر ، وجعل كثافتها معتدلة ، وجعل شمسها معتدلة ، وجعل جاذبيّتها معتدلة ، وجعل دورتها اليوميّة معتدلة ، وجعل دورتها السنويّة معتدلة ، هذا مِن نِعَم الله تعالى . ربّنا سبحانه وتعالى يشير إلى ذلك فيقول تعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾

[ سورة غافر : 64]

 أي صُلبة ، وليْسَت غازيّة ، صخْر تقفُ عليها ، وتبقى واقفًا ، وبِمَعنى أنّ الأرض تجذبُ كلّ شيءٍ عليها إلى مركزها ، هذا هو الثِّقَل ، ولولا الجاذبيّة لطارَت الأشياء منك، تضَع هذه الأداة فتبقى على الطاولة ، السِرُّ في ذلك الجاذبيّة ، يقول تعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾

[ سورة غافر : 64]

 جعلها بِكَثافةٍ تحْتَمِلُ وُجود الأشياء عليها ، وجعلها تجذبُ الأشياء التي عليها ، ومن معاني قرارًا جعلها ساكنة ، قال تعالى :

﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾

[ سورة النمل : 88]

هل استطاعَ إنسانٌ أن يصْنع مركبةً تسيرُ دون أن تتحرّك ؟ ارْكب الطائرة لا بدّ من الاتِّزان ، أيُّ اهتِزاز لو أنّه على سطح الأرض لتهدَّم كلّ ما عليها ، ما هذا الاستقرار ؟ مسجدٌ يبنى قبل خمسمئة عامٍ يبقى كما هو بِفَضْل الاستقرار ، وربّنا سبحانه وتعالى يبيّن لنا أنّه قد تحدُث الزلازل فإذا كلُّ ما على الأرض ركامًا ، قبل يومين ، أو البارحة قرأتُ أنّ زلزالاً جعل بناءً من أربعين طابقًا يصبحُ أنقاضًا ، قال تعالى :

﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾

[ سورة النمل : 61]

 الأرض ساكنة مع أنّها تتحرّك بسُرعة هائلة ، قال تعالى :

﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة النمل : 88]

 قال تعالى :

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾

[ سورة الزخرف : 10]

 أيها الأخوة الأكارم ، قال تعالى :

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران : 190- 191]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور