- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أصْل الدِّين معرفة الله تعالى :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع الخطبة السابقة ، في موضوع حقوق الجار ، وما أكثر المسلمين الذين يقصّرون في حقوق الجار ، وما أكثر المسلمين الذين يعتدون على حقوق الجار ، وما أكثر المسلمين الذين يقصّرون في واجباتهم تجاه الجار ، وما أكثر المسلمين الذين يعتدون على حقوق الجار .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أصْل الدِّين معرفة الله تعالى ، إذا عرفته انْدَفعْت إلى تطبيق أمره ، في كلّ مناحي الحياة ، إذا عرفْتهُ لم تجِد وسيلةً أسْرع إلى التقرُّب إليه من أن تُطيعهُ ، إذا عرفتهُ بحثْت على أمره ، إذا عرفتهُ بحثْت عن حُقوق الجار وعمَّا يجبُ أن تفعله.
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أخْرج الشيخان البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل : أيُّ الذَّنْب أعظم ؟ حينما سأل أجابهُ أحد أصحابه ، قال : قلتُ : أن تجعل له نِدًّا ، قال عليه الصلاة والسلام : أنت تجعل لله نِدًّا وهو خلقك ، أعظمُ ذنبٍ أن تشرك بالله عز وجل ، ومن لوازم الشِّرْك أن تعبد غيره ، إنِّي والإنس والجنّ في نبأ عظيم ، أخلقُ ويُعبدُ غيري ، وأرزق ويُشكر سِواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرّهم إليّ صاعد ، أتحبَّبُ إليهم بِنِعَمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغَّضون إليّ بالمعاصي ، وهم أفقرُ شيءٍ إليّ ، من أقبلَ عليّ منهم تلقَّيْتُه من بعيد ، ومن أعرضَ عنِّي منهم ناديتهم من قريب ، أهلُ ذِكري أهلُ مودَّتي ، أهلُ شُكري أهل زيادتي ، أهلُ معصيتي لا أُقنِّطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، يا رسول الله أيُّ الذّنْب أعظم عند الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أنْ تجعل لله نِدًّا ، وهو خلقك ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾
قال تعالى :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
متى أمرك أن تعبدهُ ؟ بعد أن طمْأنَكَ أنَّ الأمْر كلّه راجعٌ إليه ، لا صغيرة ولا كبيرة، لا جليلة ولا حقيرة ، رزقك ، وصحّتك ، وأهلك ، وعلاقاتك ، ونجاحك ، وإخفاقك بيدِ الله وحده ، قال تعالى :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، قال هذا الصحابي : إنّ ذلك لعظيم ، ثمّ أيُّ شيءٍ يا رسول الله أعظمُ عند الله تعالى ؟ قال : أن تقتل ولدَكَ مخافة أنْ يطْعم معك ، هذا ذنْبٌ عظيم ، ليس مِنَّا من وسَّعَ الله عليه ثمَّ قتَّر على عياله ، خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي، أكرموا النّساء فوالله ما أكرمهنّ إلا كريم ، وما أهانهنّ إلا لئيم ، يغْلبْن كلّ كريم ، ويغلبهنّ لئيم ، وأنا أحبّ أن أكون كريمًا مغلوبًا ، مِن أن أكون لئيمًا غالبًا ، قال هذا الصحابي الجليل ، ثمّ ماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك أي حُرمة العُدوان على أعراض الجيران حُرمةٌ كبيرة جدًّا .
حقوق الجار :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننْتُ أنَّه سيُورِّثُه " وقد قلتُ في خطبةٍ سابقة إنَّ أربعين دارًا من جهة المشرق ، ومن جهة المغرب ، ومن جهة الشمال ، ومن جهة الجنوب ، وربّما يُضاف من جهة الأعلى ، كلّهم جيران ، فإذا أحْسَن الجار إلى جاره كان المجتمع بِناءً شامِخًا وطيدًا كالبنيان المرصوص .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وقد ورد في صحيح البخاري أيَضًا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن الزنا ، فقال أصحابهُ : إنَّه حرام حرَّمهُ الله ورسوله ، فقال عليه الصلاة والسلام: " لأنْ يزْنِيَ الرجل بعشرة نِسْوةٍ أيْسَر عليه من أن يزنيَ بامرأة جاره " لِعِظَم حقّ الجار ، ألَمْ يقل ذلك الشاعر الجاهلي :
وأغضُّ طرفي إن بدَت لي جارت حتى يواري جارتي مأواها
***
هذه أخلاق الجاهليّة قبل الإسلام ، لأنْ يزْنِيَ الرجل بعشرة نِسْوةٍ أيْسَر عليه من أن يزنيَ بامرأة جاره ، وسألهم عن السّرقة فقالوا : حرام حرّمه الله ورسوله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لأنْ يسرق الرجل من عشرة أبيات أيْسَرُ عليه من أن يسرق من بيت جاره " فالعُدْوان على الأعراض وعلى الأموال يتضاعفُ إثْمُه إذا كان عُدْوانًا على الجار ، لِعِظَم حقّ الجار ، ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننْتُ أنَّه سيُورِّثُه .
ويا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :
(( إيّاكم والدّخال على النّساء ، فقال رجل من الأنصار أفرأيت الحمو - أخو الزوج، والد الزوج - قال عليه الصلاة والسلام : الحمْوُ الموت ))
أي الدّخول على امرأة غابَ عنها زوجها ، ولو أنّ هناك قرابة ، هذا يؤدِّي إلى الهلاك كما قال عليه الصلاة والسلام ، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : " لأنْ يُطْعن أحدكم في رأسه بِمِخْيط من حديد خيرٌ له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ له ". لأنّ الله تعالى وصفَ المؤمنين فقال :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾
كلّما كان العدوان على الجار في ماله وعرضه كان الذَّنْب أعظم عند الله عز وجل.
على الإنسان أن يكون مصدر أمن و سلام لجاره :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
((.. وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
يجبُ أن يطمئنّ إليك جارك ، يجب أن تكون مصْدر أمنٍ وسلام ، مصدر راحةٍ واطمئنان ، ويجبُ ان تكون محسنًا ، يجبُ أن تكون طيّبًا ، يجبُ أن تكون ليِّنًا ، يجب أن تكون متسامحًا مع جارك ، لأنّه أقربُ الناس إليك ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه الإمام مسلم أنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ ...ِ))
بهذا يوجّه النبي نصيحته فيقول : " لا تصاحب إلا مؤمنًا ، ولا يأكل طعامك إلا تقيّ" المؤمن تطمئنّ له ، وترتاح له ، لا تقلق ، لا تخشى منه لأنّه مصْدر سعادةٍ ، ومصدرُ أمنٍ ، ومصدر اطمئنان ، المؤمن من أمِنَهُ الناس ، على أموالهم ، وعلى أعراضهم ، والمسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده ، يُفْهم هذا الحديث على وَجْهَين ، الوجه الأوّل أنّ المسلم لا يؤذي المسلمين لا بِلِسانِهِ ، ولا بيَدِهِ ، لا يغْتابهم ، لا ينمّ بينهم ، لا يفرّق بينهم ، لا يؤذيهم بيده، لا يعتدي عليه ، ويُفهم من هذا الحديث أنّ سُلوك المسلم قويم بحيث أنّ سُمعة المسلمين عامّة ، هذه السّمعة لا تتأذى من هذا المسلم ، لا يجرحُ سُمعة المسلمين ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " أنت على ثغرةٍ من ثغر الإسلام فلا يؤتينَّ من قِبَلِك " كلُّ مسلمٍ يمثّل الإسلام ، سفير المسلمين ، إذا أساء المسلم ولا سيما إذا أساء لغير المسلمين ، لم يقل هؤلاء : فلان قد أساء إلينا ، يقولون : هكذا الإسلام .
الإسلام بناءٌ أخلاقي :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يخفى عليكم أنّ سيّدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشيّ ملكُ الحبشة عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وعن دعوته ، ماذا قال ؟ قال :
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار))
بعضهم يفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّ الإسلام بني على خمس، فهل هذه الخمسُ هي الإسلام ؟ هل الإسلام صلاة وصيامٌ وحجّ وزكاة ؟ هذه دعائم الإسلام ، وليْسَت هي الإسلام ، بني الإسلام على خمسٍ بناء شامخٌ أخلاقي ، بُنِيَ على خمس دعائم هي الصلاة والصوم والحجّ والزكاة والشهادة ، ولكن منْ صلّى صلاةً جوفاء ، وصام صيامًا جاهلاً ، وحجّ حجًّا شكليًا ، وأدَّى زكاة ماله ، وظنّ أنَّه إن فعل هذا أدَّى كلّ شيء ، إنَّه لمْ يفعل شيئًا إن لم يكن أخلاقيًّا .
(( ...فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار))
هذا هو الإسلام ، الإسلام بناءٌ أخلاقي .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ والمسلم من سلمَ المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السوء ، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنّة من لا يأمن جارهُ بوائقه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((... وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
وفي الخطبة السابقة بيَّنْتُ لكم أنَّ الجار إذا كان قريبًا ، وكان مسلمًا له عليك ثلاثة حُقوق ؛ حقّ الإسلام ، وحقّ النسَب ، وحقّ الجوار .
من أعطاه الله تعالى الدِّين فقد أحبّه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا مع إكرام الجار ، وأداء حقوقه كما بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام . فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
(( إن الله عز وجل قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من أحب ، فمن أعطاه الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قلت: وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشه وظلمه ، ولا يكسب مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق منه فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ".
هذا النبي العظيم ماذا أعطاه الله عز وجل ؟ أعطاهُ حكمًا وعلمًا ، وما استرذَلَ الله عبدًا إلا حظَرَ عليه العلم والأدب ، قد يجعلهُ غنِيًّا ، وقد يجعلهُ قويًّا ، ولكن يحظِرُ عليه العلم والأدب ، إنّه أثْمَنُ عطاءٍ ، لأنّ رتبة العلم أعلى الرُّتَب ، فمن أعطاه الله تعالى الدِّين فقد أحبَّه .
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشه وظلمه ، ولا يكسب مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، إذا كسِبَ مالاً من حرام لن يبارك الله في هذا المال ، ولا يتصدّق به فيُقبل منه، أي لا يقبل منه ، ولا تركهُ خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، لأنّ الله طيّبٌ ولا يقبلُ إلا طيِّبًا ، إذا كسبت مالاً من حرام ولو تصدَّقْت به ، ولو أعطيْتهُ الفقير ، ولو فعلتَ به معروفًا ، ولو تركتهُ .
(( أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ... ))
(( ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد حجةِ الإسلام ))
إنّ الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمْحو السيئ بالحسَن ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛
((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِّثُهُ ))
خير متاع الدنيا المرأة الصالحة بعد تقوى الله :
ويقول عليه الصلاة والسلام في الجانب الآخر ، أي إذا تحدَّثنا عن أنّ العدوان على أموال الجار ، وعلى أعراضه إثمٌ عظيم ، لا يعْدِلُه إثم ، وجَّه النبي عليه الصلاة والسلام المرأة ، والمؤمن إلى أنْ يكون حِصْنًا منيعًا تجاه الشيطان ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة ؛ إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ))
مع العلم أنّه لا طاعة لمخلوق في معصيَة الخالق ، إذا أمرها أمْرًا يرضى الله عنه ، أو ضَمْن المباح ، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته ، تعتني بِمَظهرها لزوجها ، لا للأجانب ، وليس جمالها مبتذلاً ، ينالهُ أيّ إنسان ، وإن أقسم عليها أبرته ، لا تحملهُ على أنْ يحلف بيمينه ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ، ومعنى ذلك أيْ لا تسْمحُ لأحدٍ أن يدخل بيته في غيبتِهِ مهما طالَت ، إلا أن يكون أحد محارمها .
المؤمن كله منفعة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ورد أن :
((المؤمن كلّه منفعة ، إن شاورْتهُ نفعَك ، وإن شاركتهُ نفعَك ، وإن ماشيْتهُ نفعك ، وإن جاورْتَهُ نفعَك ، وأمرهُ كلّه منفعة ))
لهذا قال عليه الصلاة والسلام : "لا تُصاحب إلا مؤمنًا ، ولا يأكل طعامك إلا تقيّ".
وفي حديثٍ آخر ، عن النبي عليه الصلاة والسلام : " المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم ، وأعراضهم ، وأموالهم " فمِن علامة إيمانك الصحيح أن يطمئنّ الناس لك ، على أموالهم ، وعلى أنفسهم ، وعلى أعراضهم ، هذه علامة الإيمان ، لذلك ثقة الناس فيك شيءٌ ثمينٌ لا يعدلها شيءٌ آخر ، وهي أكبرُ ما تملكهُ في الحياة الدنيا ؛ أن تكون موثوقًا من قبل الناس ، ولن يثق الناس فيك إلا إذا كنت مسلمًا مؤمنًا كما ينبغي ، لا كما هو واقع .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حديثٌ يقصم الظّهْر ، عن أبي هريرة قالوا :
(( يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها ، قال : هي في النار ، قالوا : يا رسول الله إن فلانة تصلي المكتوبة وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها ، قال : هي في الجنة ))
لا تصوم إلا رمضان ، ولا تصلّي إلا المكتوبات ، الأُقْط هو اللّبن المجفّف ، تعطي كمّيات كبيرة من هذا اللبن المجفّف إلى جيرانها ، ولا تؤذي جيرانها ، قال : هي في الجنّة ، فهذه الأحاديث تؤكّد أنّ قوام الدِّين هو الخُلق الحسَن .
ونُنْهي الموضوع بالحديث الذي جعلناه محورًا لهذه الخطبة :
((مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِّثُهُ ))
مسؤولية كل إنسان عن جاره :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حقوق الجيران كثيرةقصّة يمكن أن نقيسَ عليها شيئًا كثيراً، قالتْ زوجة سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فاطمة بنت عبد الملك : إنّ عمر رحمه الله تعالى كان قد فرَّغ للمسلمين نفسه ، ولأمورهم ذِهْنًا ، فكان إذا أمسى المساء ولم يفرغ من حوائج يومه وصلَ يومهُ بِلَيلته ، إلى أن أمسى المساء ، وقد فرغ من حوائج يومه ، فدعا بسِراجه الذي كان من ماله الخاصّ فصلّى ركعتين ، ثمّ أقعى - جلسَ على الأرض - واضعًا رأسهُ على يديه ، تسيلُ دموعهُ على خدَّيْه ، يشْهقُ الشَّهْقة يكادُ ينصدعُ قلبه لها ، وتخرجُ لها نفسه ، حتى برق الصّبح فأصبح صائمًا ، فدَنَوْتُ منه ، وقلتُ : يا أمير المؤمنين ، أليسَ كان منك ما كان ؟ فقال : أجل ، عليك بِشَأنِكِ - أيْ دعيني - وخلِّيني وشأني ، قالت : إنِّي أرجو الله أن أتَّعِظ بهذا ، فقال : إذًا أخبرك ، قال سيّدنا عمر بن عبد العزيز : إنِّي نظرتُ فوجدتُ قد وُلِّيت أمر هذه الأمّة ، أسودها وأحمرها ثمّ ذكرتُ الفقير الجائع ، والغريب الضائع ، والأسير المقهور ، وذا المال القليل والعيال الكثير ، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد ، وأطراف الأرض فعلمْتُ أنّ الله سائلي عنهم جميعًا ، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم حجيجي فيهم ، فخفْتُ ألا يقبل الله منّي معذرةً ، ولا تقوم لي مع رسول الله حجّة ، فرحمْتُ والله يا فاطمة نفسي رحمةً دمعَتْ لها عيني ، ورجع لها قلبي ، فأنا كلّما ازددْتُ لها ذِكْرًا ازْددْت لها خوفًا فاتَّعِظي إذا شئْت أو ذريني ، قياسًا على هذه القصّة ، وانطلاقًا من موضوع الخطبة ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ))
وفي حديث آخر : " من لم يتفقّد أمور المسلمين فليس منهم ".
أنت مسؤول عن جارك ، يجب أن يكون المسلم لجاره ، أيّ جار ، محسنًا كريمًا ، الحدّ الأدنى أن تكفّ عنه أذاك .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
مواقع النجوم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدّثنا في الخطبة السابقة عن مواقع النجوم ، وكيف أنّ هناك مجرات تبعدُ عن الأرض ستّة عشر ألف مليون سنة ضوئيّة ، وأنّ الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
واليوم نتحدّث عن عدد هذه النجوم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ فيما مضى كان علماء الفلك يعدُّون النّجوم بالألوف ، وبعد حقبةٍ من الزّمن أصبحوا يعدّونها بالملايين ، وقبل سنواتٍ عديدة أصبح العلماء يعدّونها بالمليارات ، وفي تقدير مبدئي لعدد نجوم مجرّتنا ، وهي مجرَّةٌ متوسّطة ، دربُ التبانة ، عدّ العلماء فيها ثلاثين مليار نجم ، التي نحن فيها ، والمجموعة الشمسية أحدُ نجومها ، وفي مجرّة أخرى بدأ العلماء يصلون في عدّهم لهذه النجوم إلى رقم خيالي ، مليون مليون نجم ، فالتقدير الحديث أنّه تمَّ اكتشاف مليون مليون مجرّة ، وفي كلّ مجرّة رقمٌ تقديري قد يصل إلى مليونِ مليون نجم ، قال تعالى :
﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾
وصار العدد الأخير مليون مليون ، فما أعظم ما في السماء ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
انظروا فلعلّكم تعرفون الله عز وجل ، ولعلّكم إذا عرفتموه اسْتقمتم على أمره ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ إلى أمدٍ قريب كان يُظنّ أنّ في السماء نجومًا متحرّكة ، ونجومًا ثابتة ، ومعنى أنها ثابتة ، أيْ لها مواقع ثابتة ، لا تتغيَّرُ ، ولا تتبدَّل مع مرور الدهور والعصور ، وكان يعدّون الشمس من هذه النجوم الثابتة ، مع أنّ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾
ثمّ اكْتُشف أخيرًا أنّ الشمس ومجموعتها تدور حولَ كوكبٍ في الفضاء بسُرعةٍ تزيدُ عن مئتي كيلو متر في الثانية الواحدة ، الأرض سرعتها حول الشمس تقدر بثلاثين كيلو متر في الثانية ، والشمس تقطع مئتي كيلو متر في الثانية الواحدة ، والشمس تستغرق في دورتها ملايين السّنين .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وصل العلماء إلى أرقام خياليّة في سرعة بعض المجرات، إنّ بعض المجرات تقطع في الثانية الواحدة مئتين وأربعين ألف كيلو متر ، أي بسُرعةٍ قريبة من سرعة الضّوء ، فما هو هذا الكون الواسع المترامي ؟ الله سبحانه وتعالى خالق كلّ شيء وهو على كلّ شيءٍ وكيل .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
أيْ أيُّ نجْمٍ مهما صغر ، ومهما كبر ، له فلكٌ يسبَحُ فيه ، قال تعالى :
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ القرآن الكريم كلام رب العالمين ، وهذا الكون خلقهُ ، ولابدّ من انْسِجامٍ تامّ بين خلقه وبين هذا الكتاب ، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
وفي آية أخرى :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الشمس ، هذه التي نعرفها ، حرارتها في سطحها ستّة آلاف درجة ، وفي نواتها عشرون مليون درجة ، ولها قوّة إضاءة تقدّر بوحدات إضائيّة ، لكنّ الذي يحيِّرُ العقول أنّ هناك شُموسًا تزيدُ في إضاءتها عن الشّمس بسِتٍّ وعشرين مرّة ، وهناك نُجوم تزيدُ إضاءتها عن إضاءة الشّمس بمِئة مرّة ، وهناك نجوم تزيدُ إضاءتها عن إضاءة الشّمس بخمسمئة ألف مرّة ، فما شمسُنا إلا شمسٌ متواضعة ومتوسّطة بين شُموسٍ كثيرة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا كلّه مصداق قوله تعالى :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
قال تعالى :
﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
إنما تفيد القصْر ، فالعلماء وحدهم ولا أحدَ سواهم يخشون الله عز وجل .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .