- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيء قدير ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
الهدف من خلق الإنسان .
أيها الإخوة الأكارم ؛ أيها الإخوة المؤمنون :
يقول الله سبحانه وتعالى في كتاب العزيز :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
آية من الآيات التي توضح علة الخلق ، قد يسأل سائل :
لماذا خلقنا الله عز وجل ؟
لماذا جاء بنا إلى الدنيا ؟
ما علة الخلق ؟
ما سبب الخلق ؟
ما حكمة الخلق ؟
سؤال كبير ؟!! إذا عرفت لماذا خلقت ، إذا عرفت الهدف سعيت نحوه ، وتركت ما سواه ، فإذا كان الإنسان ضائعاً ، حائراً ، ضالاً ، متخبطاً ، ممزقاً ، ضل سعيه في الحياة الدنيا ، وهو يحسب أنه يحسن صنعه .
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
ما من حقيقة أولى بأن تعرفها من هذه الحقيقة ، ما من حقيقة في الأرض ، أو ما من حقيقة في الوجود أولى من أن تعرفها قبل غيرها من هذه الحقيقة :
لماذا أنت على ظهر الأرض ؟
لماذا أنت موجود ؟
لماذا خلقت ؟
ما علة خلقك ؟
ما سبب وجودك ؟
ما الهدف من خلقك ؟
ما الغاية التي ينبغي أن تسعى إليها ؟
الله سبحانه وتعالى أجاب ، قال :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الجن والإنس هم اللذان قبلا التكليف .
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ﴾
ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركب الإنسان من كليهما .
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
التقديم والتأخير .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ربما قال قائل منكم لماذا قدم لفظ الجن على لفظ الإنس ، أجاب عن هذا السؤال بعض العلماء ، فقال لأن الجن خلقت قبل الإنس ، في آيات أخرى :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾
قدم الجن هنا لأنهم أقدر على النفاذ في أقطار السماوات والأرض .
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
قدم الإنس هنا لأن الإنس أقدر من الجن على صياغة الكلام ، أما الآية الكريمة :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
هذه اللام لام التعليل ، لام العلة ، خلق الله سبحانه وتعالى الإنس لعلة العبادة .
﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾
تعريف العبادة :
فما تعريف العبادة ؟ هنا السؤال ، من أدق التعريفات للعبادة :
أنها طاعة طوعيه .
لو أنها طاعة قسرية لما كانت عبادة .
﴿ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ﴾
طاعة طوعيه ، مبنية على معرفة يقينية ، منتهية بسعادة أبدية .
قد يسأل سائل لماذا ربنا سبحانه وتعالى لم يقل :
وما خلقت الإنس والجن إلا ليعرفون .
أو لماذا لم يقل :
وما خلقت الإنس والجن إلا ليسعدون .
لماذا ؟
﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾
بعض العلماء حلل هذه الآية فقال : العلم ليس هدفاً بذاته ، قيمة العلم ليست بذاته ، وإنما لغيره ، يعني .
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
تعلموا ما شئتم ، فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ، العلم ليس قيمةً بذاته ، إنما قيمته في تطبيقه ، مردوده بتطبيقه ، وليس في حفظه فلو أن الإنسان قرأ قوله تعالى ، لو أن الله سبحانه وتعالى قال وما خلقت الإنس والجن إلا ليعرفون ، فعرف ولم يطبق ، لم يسعد ، لا بد من أن يطبق ، لذلك العبادة :
طاعة طوعيه مبنية على معرفة يقينية ، مفضية إلى سعادة أبدية .
ذكر الله سبحانه وتعالى المرحلة الوسطى ، لأن الأولى ليست هدفاً لذاتها ، فلو اكتفينا بها لما سعدنا ، وأما الثانية فهي مفضية حتماً وبالضرورة إلى السعادة ، فذكر السعادة لا يعرفنا بسببها ، لو أن الهدف هو إسعاد الإنسان من دون أن يوضح الله له طريق السعادة لما سعد ، إن كنت غنياً تسعد ، كيف أصير غنياً مثلاً ، فربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
فالعبادة طاعة لله ، انقياد تام في كل ما أمر ، وانتهاء عن كل ما نهى ، في المنشط والمكره ، في الغنى والفقر ، في الشدة والرخاء ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في الصحة والمرض ، في الشباب والكهولة والشيخوخة ، هذه هي العبادة ، انقياد تام .
طاعة طوعيه مبنية على معرفة يقينية .
فالعلم أيها الإخوة الأكارم ليس هدفاً بذاته ، العلم وسيلة إلى هدف كبير ، وهي أن تطبقه ، وهي أن ينقلب إلى سلوك ، إلى مواقف ، إلى أعمال .
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ﴾
مقامك المحمود يأتي من العمل الصالح ، مقامك المحمود يأتي من التهجد ، ولا بد من العلم ، طلب العلم فريضة ، طلب الفقه حتم واجب على مسلم ، ولكن إياك أن تتوهم أنك إذا تعلمت ، ولم تعمل بما علمت ، فقد نجحت وفزت ، لا بد من التطبيق ، العلم ما لم ترافقه الخشية فهو حجة على ابن آدم ، العلم ما لم ترافقه الخشية فهو حجة على ابن آدم .
أيها الإخوة الأكارم :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
العبادة طاعة طوعيه تسبقها معرفة يقينية .
تفكروا في خلق السماوات والأرض ، تعلموا العلم ، اجلسوا في مجالس العلم ، لا بد من معرفة الله ، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذي مالوا .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
العبادة إذا صحت أفضت إلى السعادة في الدنيا والآخرة .
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
وعداً على الله حق ، حياة طيبة في كل مكان ، في كل زمان ، في كل بيئة ، في كل عصر ، في كل مصر ، في كل فقع .
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
إذاً :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ثلاث حلقات :
الأولى : أن تعرفه .
الثانية : أن تنقاد إلى أوامره .
الثالثة : أن تسعد بقربه .
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه الآية من كبرى الآيات التي تتحدث عن علة الخلق ، وما أحوجنا إلى أن نتعرف الهدف الذي من أجله خلقنا ، ما هو الضلال ؟ ألا تعرف لماذا خلقت ، ولماذا أنت على سطح الأرض ، وأين كنت ، وإلى أين المصير ، وما الموت ، وماذا بعد الموت ، وما الأبد ، وماذا يعني الأبد .
أيها الإخوة الأكارم ؛ معرفة الله فرض عين على كل مسلم ، ليس فرض كفاية ، فرض عين لأنك إن لم تعرفه لا تعبده ، وإن لم تعبده شقيت في الدنيا والآخرة .
بعض الأحاديث المتعلقة بالاقتصاد .
أيها الإخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول في بعض الأحاديث المتعلقة بالاقتصاد ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( من اقتصد أغناه الله ، ومن بذر أفقره الله ، ومن تواضع رفعه الله ، ومن تجبر قصمه الله ))
قواعد أربع :
من اقتصد أغناه الله .
من بذر أفقره الله .
من تواضع رفعه الله .
من تجبر قسمه الله .
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد ))
لا عال من اقتصد ، يعني ما افتقر ، النبي عليه الصلاة والسلام في أمر نبوي ، وما ينطق عن الهوى ، يقول :
(( اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم ))
(( اخشَوْشِنُوا وتَمَعْدَدُوا ، فإن النعم لا تدوم ))
(( ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ، ولا عال من اقتصد ))
الاستخارة لله سبحانه وتعالى ، والاستشارة لأولي الرأي من المؤمنين ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة ، والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن السؤال نصف العلم ))
يعني إذا اقتصدت في نفقاتك ربما انخفض المصروف إلى النصف لكن مستوى المعيشة ينخفض عشرةً بالمئة ، أما النفقات تهبط إلى النصف ، الاقتصاد نصف المعيشة ، والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن السؤال نصف العلم .
(( إياكم والسرف في المال والنفقة ، وعليكم بالاقتصاد فما افتقر قوم قط اقتصدوا ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا توجيه من النبي عليه الصلاة والسلام .
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
سيدنا عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ، قال عنه أحدهم ، صار الترحم على الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز تقليداً بين الناس ، ومن عجيب ما حكي أن رجلاً جاء لهشام بن عبد الملك في خلافته فقال له : يا أمير المؤمنين إن عبد الملك أقطع جدي أرضاً ، يعني أعطى جدي أرضاً ، فأقرها الوليد وسليمان ، حتى إذا استخلف عمر رحمه الله تعالى نزعها مني ، فقال له هشام : أعد مقالتك ! لم ينتبه الرجل ، فأعاد مقالته ، قال إن عبد الملك أقطع جدي أرضاً ، فأقر الوليد وسليمان ، حتى إذا استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى نزعها مني ، فقال هشام : والله إن فيك لعجباً ، إنك تذكر من أقطع جدك الأرض ، ومن أقرها فلا تترحم عليه ، وتذكر من نزعها منك وتترحم عليه ، وإنا قد أمضينا صنع عمر رحمه الله تعالى ، يعني هذا الذي أعطاك الأرض تقول إن عبد الملك أقطع جدي أرضاً ، فلما جاء السليمان والوليد أقرها ، فلما استخلف عمر رحمه الله تعالى نزعها مني ، الذي أعطاك الأرض لا تذكره بالرحمة ، والذي نزعها منك تذكره بالرحمة .
يروى أن هذا الخليفة الذي عده المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين قالت زوجته فاطمة بنت عبد الملك : إن عمر رحمه الله تعالى كان قد فرغ للمسلمين نفسه ، وفرغ لأمورهم دينه ، فكان إذا أمس المساء ولم يفرغ من حوائج يومه ، وصل يومه بليلته ، إلى أن أمس المساء ، وقد فرغ من حوائج يومه ، فدعا بسراج كان قد اشتراه من ماله ، فأشعله ، فصلى ركعتين ، ثم جلس واضعاً رأسه على يديه ، تسيل دموعه على خديه ويشهق الشهقة يكاد ينصدع قلبه لها ، وتخرج له نفسه حتى برق الصبح فأصبح صائماً ، فدنوت ، تقول زوجته ، فدنوت فقلت يا أمير أليس كان منك ما كان ، يعني أنت كل وقتك تمضيه في خدمة الخلق ، لماذا تبكي مما أنت خائف ، قال : أجل فعليك بشأنك ، وخليني وشأني ، قالت إني أرجو أن أتعظ ، فقال إذاً أخبرك ، قال عمر بن عبد العزيز : إني نظرت فوجدتني وليت أمر هذه الأمة ، أسودها وأحمرها ، ثم ذكرت الفقير الجائع والغريب الضائع ، والأسير المقهور ، وذا المال القليل ، والعيال الكثير وأشباهَ ذلك في أقاصي البلاد ، وأطراف الأرض ، فعلمت أن الله سائلي عنهم جميعاً ، وأن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجيجي فيهم ، فخفت ألا يقبل الله مني معذرة فيهم ، وألا تقوم لي مع رسول الله حجة ، فرحمت نفسي ، والله يا فاطمة رحمة دمعت لها عيني ، ووجع لها قلبي ، فأنا كلما ازددت ذكراً ازددت لهذه الساعة خوفاً فاتعظي إن شئتِ أو ذري .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن يعلم كل إنسان ، إن كان عنده أولاد ، يجب أن يعلم الأب أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه عن أولاده ، يجب أن تعلم الزوجة أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبها عن زوجها ، يجب أن يعلم كل إنسان أمنه الله على إنسان آخر أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه عليه ، فمن حاسب نفسه حساباً عسيراً ، كان حسابه يوم القيامة يسيراً .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
شيب الشعر :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ من المعلومات التي تعرفونها عن خلق الإنسان ، أن في رأس كل إنسان مئة ألف إلى مئتين وخمسين ألف من الأشعار ، وأن الشعرة الواحدة يزيد عمرها عن ثلاثة سنوات ، وأن الإنسان يحتاج إلى أن يتجدد شعره بأكمله إلى مئتين يوم ، وفي الإنسان مصانع للشعر ، بعدد ما في جسمه من الشعر ، كل شعرة لها مصنع ، تنتج هذه الشعرة ، وتنمو ، وتنمو إلى أن تبلغ أشدها ، ثم تهرم فتموت ، ينقص أو يزيد عمر الشعرة عن ثلاثة سنوات ولكل شعرة من هذه الأشعار المئتين والخمسين ألفاً وريد وشريان للتغذية وعضلة للتحريك ، تعمل هذه العضلة أثناء البرد ، ولكل شعرة من هذه الأشعار عصب يحرك الشعرة ، أو يحرك العضلة ، كي تنتصب الشعرة ولكل شعرة غدة دهنية وغدة صبغية ، ولا يعلم الباحثون حتى هذه الأيام لماذا يبيض الشعر ، لكن بعضهم يقول إن بياض الشعر منشأه عصبي ، أحد بحوث الشيب أن بياض الشعر منشأه عصبي ، فالكريات البيض تتسلل إلى الشعرة فتأكل صبغها الأسود ، والشيء القاطع أن الشيب كما يقول العلماء آفة جلدية ذات منشأ عصبي انفعالي ، والقرآن الكريم ذكر هذه الحقيقة قبل 1500 عام ، قال تعالى :
﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ﴾
يعني الشيب منشأه خوف انفعالي ، وقال عليه الصلاة والسلام :
(( شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا ))
هل تظنون أن الذي شيبه قبيلة هود ؟ لا ، شيبته سورة هود لآية واحدة فيها ، وهي قوله تعالى :
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾
شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا ، ومع تقدم العمر يصاب كل إنسان بالإرهاق العصبي ، وبدرجات متفاوت من الشيب .
﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ﴾
فالشيب يلازم التقدم في السن ، والإمام القرطبي يفسر النذير بأنه الشيب ، يعني لفت نظر لطيف من الله عز وجل ، أن يا عبدي اقترب اللقاء ، فماذا أعددت له ، اقترب اللقاء ، عبدي ضعف بصرك ، وشاب شعرك ، وانحنى ظهرك ، فاستحي مني ، فأنا أستحي منك ، يا عبدي لقد قرب اللقاء فماذا أعددت له .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ سؤال دقيق ، يؤكد حكمة الله سبحانه وتعالى لماذا يطول شعر الرأس ، ولا يطول شعر الحاجبين والجفنيين ، لماذا تنبت الأشعار داخل الأنف ، ولا تنبت داخل الفم ، لماذا تنبت الأشعار في ظاهر الكف ، ولا تنبت في باطنها ، كيف نعصي الإله ، أو كيف يجحد الجاحد ، وفي كل شيء آية تدل على أنه واحد ، يعني شعرك آية ، فكر في هذه الآية ، توصل منها إلى الله سبحانه وتعالى ، ترى أن لهذا الإنسان خالق عظيماً وصانع حكيماً ، أتقن صنعته .
﴿ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت وبارك لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء ، اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا أخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللَّهُمّ لاَ تُؤْمِنَّا مَكْرَكَ ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث واجعلنا من الشاكرين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تعاملنا بفعل المسيئين ، يا رب العالمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تهلكنا بالسنين ، يا أكرم الأكرمين اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .