وضع داكن
26-04-2024
Logo
رحلة استراليا 1 - المحاضرة : 14 - الخطيئة والتوبة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع: الحمد لله فاتح كنوز الغيب للصفوة مـن عباده، ومانح فيض العلم للخلاصة من خلقه فاستودع في قلوبهم خفي سرّه، وأشهد أرواحهم حقيقة أمره، فكانوا أعـرف الناس بدمرات الإشارات وأفهمهم لمعاني الكلمات.
 أيها الأحبّة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من إذاعة القرآن الكريم مـن سيدني نحييكم ونحيّ معكم فضيلة الشيخ والأب الكريم، فضيلة الشيخ محمد راتـب النابلسي، والـذي شرّف القارة الأسترالية خلال هذه الأيام، فضيلة الإمام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 فضيلة الأستاذ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع: فضيلة الإمام فـي بدايـة هـذا اللقاء الطيّب كثيراً مـا يتعرض الإنسان، والمسلم عادة لكثيرٍ من المشكلات، وكثيراً من الخطايا أرسل اللـه سبحانه وتعالى المصطفى صلى الله عليه وسلم فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعرّفهم الصواب من الخطأ، وهنا يكمن السؤال فـي مفهـوم الخطيئة، ونجد القرآن الكـريم عـرّف الخطيئة بعدة مصطلحات، فلو فضيلتكم تتفضل بتحديد هذه المدلولات.
 فضيلة الأستاذ: بسم اللـه الرحمن الرحيـم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 الإنسان والجانّ مخلوقان حُمِّلا الأمانة قال تعالى:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾

(سورة الأحزاب)

 ولأنهما حُمّلا الأمانة جُعلت نفسهما هي الأمانة، وأُكل إليهما تعريفها بالله عز وجل، وتعريفها بمنهجه، وحملها على طاعته، كي تسعد في الدنيا والآخرة بقربه، فكـأن الإنسان مـخلوق للجنة، والجـنة عطاء لا نهائي، هذا العطاء يحتاج إلى ثمن، لا تكون الجنة مسعدة إلـى أبد الآبدين إلا إذا دُفع ثمنها اختياراً ‍‍! لذلك الإنسان فـي الدنيا جـاء إليها مـن أجل هدف واحد أن يؤهّل نفسه لجنة الآخرة، عـن طريق معرفة الله مـن خلال خلقه، ومن خلال أفعاله، ومـن خلال كلامه، وعـن طريق معرفة منهجه التفصيلي، وعـن طريق حمل النفس بإرادة صارمة علت طاعته وعن طريق بذل الغالي والرخيص والنفس والنفيس تقرّباً إليه، فـالإنسان بالاستقامة يسلم، وبـالعمل الصالح يسعد، والسلامة والسعادة هدف حقيقي لكل مخلوق كائناً من كـان، إلا أن الإنسان حينما حُمّل هذه الأمانة مُنح مقوماتها، مـن مقوماتها الكون، فـإذا تفكر الإنسان فـي خلق السماوات والأرض عرف الله عز وجل:

 

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

 

(سورة آل عمران)

 وعن طريق العقل الذي يتوافق مع مبادئ الكون يتعرف إلى الله عز وجل، وعـن طريق الفطرة ذاك المقياس الانفعالي العاطفي يعرف الإنسان ذاتياً خطأه لقول الله عز وجل:

 

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾

 

(سورة الشمس)

 فهناك عقل يتعرف إلـى الله، وهناك فطرة تتعرف إلـى الخـطأ، وهناك كون يشير إلى عظمة الله وأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، ثم إن هناك شهوةً هـذه تحـرك الإنسان، شهـوة الطعام والشراب وشهوة الجنس وشهوة العلوّ فـي الأرض، فالشهوة قوة محركة وهي حيادية، سلّم نرقى بـه أو دركات نهوي بـها، فأصبح العقل والكون والشهوة والفطرة الإنسان أعطي أيضاً اختياراً: هـو مخيّر فيما كُلّف ومعه منهج إلهـي تفصيلي، فـالكون والعـقل والـفطرة والشـهوة والاختيار والشرع، هذه مقومات حمل الأمانة، مـن أين يأتي الخطأ الذي يحتاج إلى توبة، والذي هو محور حلقتنا اليوم ؟ الخطأ يأتي من كـائن أُودعت فـيه الشهوات، ومُنح حرية الاختيار، فتحرك لتلبية شهوته من دون تعليمات الصانع، وهذا معنى قوله تعالى:

 

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾

 

(سورة القصص)

 أصل الخطأ حركة بدافع الشهوة من دون منهج الله.

 

﴿اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾

 لـو أنـه اتبع هواه وفق منهج الله لاشيء عليه، ليس فـي الإسلام حرمان إطلاقاً، بل في الإسلام تنظيم، الآن هذا الخطأ: كائن مكرم أول مكلّف تطهير نفسه وتزكيتها، معـه منهج فيه شهوة، لـن يعبأ بالمنهج واتبع الشهوة

 

 

﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾

 

(سورة المؤمنون)

 بشكل دقيق جداً الفساد المعصية السيئة سمّها مـا شئت حـركة بدافع الشهوة مـن دون منهج الله عز وجل، لأن الله رحيم رحمة لا حدود لها، لابد من أن يضع علاجاً لإنسان ذلّت قدمه، لـو لم يكن هناك توبة لهلك الناس، لـو علم الإنسان أن الله لا يتوب عليه ربما يفجر من أصغر ذنب، مادام لا يوجد أمل، إذاً لم يتوب، إذاً سيستمر في هذه الشهوة، إذاً سوف تكبر هذه الشهوة، والإنسان طبيعته ديناميكية حركي، كل شهوة تقود إلى أختها وإلى أكبر منها، وكـل طاعة تقود إلى طاعة أخرى وإلى طاعة أكبر منها، فـالإنسان طبيعته ديناميكية حركي، فـإذا لـم يكن هناك توبة، ربما تجد معظم الناس مجرمين بسبب ذلة قدم صغيرة، لكـن الله عز وجل يقول في أرجى آية مـن كتاب الله:

 

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

 

(سورة الزمر)

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾

(سورة النور)

﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)﴾

(سورة النساء)

(( عبدي إذا بلغت ذنوبك عنان السماء ثم جئتني تائباً غفرتها لك ولا أبالي، لا الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد والظمآن الوارد ))

 هذه كلها نصوص تبين أن التوبة واجب كل مؤمن، والله عز وجل يقول:

 

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾

 

(سورة النور)

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾

(سورة البقرة)

 وفي بعض الأحاديث لعلي ذكرتها:

((لا الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد والظمآن الوارد. ))

 المذيع:

 

﴿اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾

 فضيلة الأستاذ: نعـم، التوبة تحتاج إلـى أركان ثلاثة: تحتاج إلى علم وإلـى حال وإلى سلوك، فالإنسان متى يتوب من ذنبه ؟ حينما يعلم أنه مذنب، كما أن الإنسان متى يعالج ضغطه المـرتفع طبّياً ؟ حينما يعلم أنه ذو ضغط مرتفع، فـالعلم أول حركة، لابد من أن تطلب العلم حتى تعرف منهج الله حتـى تقيّم عملك فـي ضوء منهج الله، لأن معظم الناس يرتكبون أشد الأخطاء ولأنهم مـا طلبوا العلم لما عـرفوه، يقولون لك: ماذا فعلنا ؟ لم نفعل شيئاً، أعرف أناساً كثيرين يقترف كل الأخطاء وهو مطمئن لأنه لم يفعل شيئاً، فلا بـد مـن طلب العلم حتى تكتشف الخطأ، أنت لـو أن أحداً قرأ أمامك نصاً، وأخطأ فيه مائة خطيئة ولـم تـكن متبحراً فـي اللغة العربية، أو لـم تكن مطّلعاً على قواعدها لن تكشف هذه الأخطاء، إلا إذا طلبت العلم، فـالذي يطلب العلم هـو الذي يكشف الخطأ، فمعرفة الذنوب تحتاج إلى علم بعلام الغيوب، هذا أول ركن في التوبة، لابد من معرفة، الشيء الثاني: أنك إذا عرفـت أنك مذنب وكنت حريصاً عـلى طاعة الله، وكنت متعلقاً برضوان الله، لابـد مـن أن تتألم، والألم حال، بشكل أو بـآخر، لـو أنك في بستان ورأيت أفعى، انطبع شكلها على الشبكية إحساساً، وانتقل هـذا الإحساس إلى الدماغ إدراكاً، فـي الدماغ مفهومات الأفعى مـما قرأه فـي التعليم الإبتدائي والإعدادي والثانوي أو مما شاهده عـلى الطبيعة أو مـما سمع قصصاً عـن الأفعى، ففي الدماغ مفهومات فهذه لا صورة المحسوسة تنتقل إلـى الدماغ إدراكاً، وفـي الدماغ يدرك الخطر، لابد من اضطراب، الخائـف مثلاً يزداد نبض قلبه، ويزداد وجيب رئتيه، وتضـيق أوعية دمـه المحيطية، فيصفرّ لونه، ويزداد هرمون التجلط فـي دمه، وترتفع نسب السكر في دمه أيضاً، فما دام رأى الخطر ثـم أدركه، فلابد من حالة نفسية كالانزعاج أو الخوف أو الاضطراب ومادام قد خاف لابد من أن يتحرك، إما هارباً أو قاتلاً.
 إذاً: مـا الذي حصل لمن أدرك الخطر ؟ أنه أدرك وانفعل وتحرك، كذلك التوبة معرفة حب الله عز وجل ثم إدراك للخطر ثـم عمـل مقسم أو منشعب إلـى شعب ثلاثة: إقلاع عن الذنب فـي الحاضر فوراً، وإصلاح لما مضى، وعقد العزم على ألا يقع بهذا الذنب في المستقبل، إقلاع وإصلاح وعـزم، الإقـلاع متعلق بـالحاضر، والإصلاح متعلق بالماضي، وعقـد العزم لعـدم العودة لهذا الذنب متعلق بـالمستقبل، فالتوبة علم وانفعال وسلوك، والسلوك: إقلاع وإصلاح وعزيمة.
 المذيع: آسف فضيلة الإمام: ونجد أن في القرآن الكريم يقول المولى عز وجل:

 

 

﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)﴾

 

(سورة النساء)

 هنا نجد أن المولى عز و جل في هذه الآية حدد كلمة كبائر، أي أن هناك كبائر وهناك صغائر، فـما هـو مدلول هذه الكلمة بالتحديد حينما يقول المولى عز وجل في هذه الآية ؟
 فضيلة الأستاذ: سأوضح لك هذا بمثل أقرب من التوضيح المجرد: لو أن طريقاً عريضاً للسيارات وعن يمينه وادٍ سحيق، وعـن يساره وادٍ سحيق، وأنت راكب هذه السيارة، لـو حرفة المقود درجة واحدة هـذه صغيرة لأن إصلاحها يتم بثانية واحدة، بأن تعيد هذا الميليمتر كما كان، لـو أدرت المقود ميليمتر واحد هـذه الصغيرة سميت صغيرة لأن تـلافيـها صغير أيضاً، عاد إلى ما كان عليه، لكـن لـو ثبّت هذا الانحراف لانقلبت هذه الصغيرة إلى كبيرة، لـو ثبتّ هذا الانحراف لانتهى المسار إلى الوادي، ولكن بعد حين، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

 

((لا كبيرة بكبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة بصغيرة مع الإصرار))

 

(الإصدار للإمام جلال الدين السيوطي)

 أما الكبيرة أن تحرف المقود تسعين درجة فوراً، فيقع راكب هذه المركبة فـي الوادي فوراً، فالكبائر مدمرة وقاصمة وآنيّة، بينما الصغائر متباعدة ويسهل الخروج منها، هـذه بعض المعاني فـي الكبيرة والصغيرة، فالذنب الذي ألمّ بخاطرك ولم ينقلب إلـى عمل هذا مـن اللمم، لم تفعل شيئاً لكن خطر فـي بـالك أن تؤذي فلان قال تعالى:

 

﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)﴾

 

(سورة النساء)

 وقال تعالى:

 

﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾

 

(سورة النجم)

 هذا هـو اللمم، خاطر ألمّ بك ولم ينقلب إلـى عمل استغفرت اللـه عليه، واللمم هو الذنب الذي لم يكن وراءه إصرار، فقد يحدث ذنب خطأً فهذا أيضاً من اللمم.
 المذيع: ولكـن أيضاً فضيلة الإمام يـقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف:

((.... إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ....))

(مسند الإمام أحمد)

 فضيلة الأستاذ: هنا معنى آخر، المعنى الآخر أن هذا البناء فرضاً فـي أجهزة ومسجلة وبراد ثلاجة ومذياع ومروحة فرضاً فـي كمبيوتر إضاءة ومصابيح حاجات كثيرة جداً، كلها تحتاج إلـى كهرباء، الخط الكهربائي الواصل إلى هذا البناء لـو قطعته وأبعدته عن جانبيه متراً أو ميليمتر، النتيجة واحد، الخط الرئيسي الذي تصل منه الكهرباء لـو قطعته انقطعت الكهرباء، وتوقفت كل هذه الأجهزة أليس كذلك ؟
 المذيع: نعم ؛ صحيح.
 فضيلة الأستاذ: الآن إذا قطعته وأبعدته عـن طرفيه ميليمتر واحد انقطع التيار وتعطلت كـل الأجهزة، لو أبعدته عن طرفيه متر النتيجة واحدة، فالشيطان لما يئس أن يُعبد فـي الجزيرة رضي أن يعين الإنسان على أن يقترف محقرات الذنوب، يقول لك المسلم: أنا ما قتلت قتيل وما زنيت ومـا شربت الخـمر ولا سرقت ومطمئن، يقـول لـك: اغتبت مـرة ونظرت مرة إلـى من لا تحل لك، فـهذه الذنوب مـفعولها كالـكبائر تقطع عن الله عز وجل، لعـل حسابها أقـل مـن الكبائر، لكنها في المحصلة تقطع الإنسان عن الله عز وجل فـهذا معنى قول النبي:

((إياكم ومحقرات الذنوب))

هذا الذنب تحتقره فيهلكك، مرة قرأت عـن إحصاء عجيب بأمريكا أن متوسط عمر المواطن الأمريكي الرجل خمس وسبعون سـنة، لكن متوسط عمـر المرأة خمس وثمانين، أمـا متوسط عمر الطبيب ثلاثة وخمسين ! لماذا ؟ لأنـه يهبل نفسه عادة، واثق بعلمه، ويهبل نفسه.
 إذاً: المحقرات مفعولها كالكبائر في قطع الإنسان عـن الله لا فـي العقاب، لكـن فـي الأثـر الأولي، فكـل إنسان يعجزه يعجز الشيطان عـن أن يتبع وسوسته فـي الكفر والشرك وفي الابتداع وفـي الكبائر وفي الصغائر يغريه الإنسان بـأن يقترف المحقرات، فالمحقرات إذا اجتمعن قطعن العبد عن الله عز وجل ولـو كان فـي الأصل موصولاً، هـذا معنى قول النبي:

((إياكم ومحقرات الذنوب))

 نظر: ماذا فعلت ؟ هذه النظرة تقطعك عـن الله عز وجل !
 المذيع: عفواً ؛ وأيضاً حـتى نأخذ هذه النقطة أيضاً بالتحليل فهناك عـدة أسئلة خاصة ومتعلقة بواقعنا الحالي هنا فـي أستراليا، والمولى عز وجل يقول أيضاً في القرآن الكريم:

﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾

(سورة الأنعام)

 ويقول أيضاً:

 

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾

 

(سورة الأعراف)

 فضـيلة الإمام نعيش اليوم ونحن فـي هذا المجتمع هنـاك عـدة متغيرات تحت مسمى ما يسمونها.... طبعاً نحن نسير في الشارع قـد تظهر أمامنا بعض الصور التـي لا يرتضيها اللـه والرسول فماذا يفعل الإنسان المسلم حيال هذه المشاكل، وهـي خاصـة قد تكون خارجة عن إرادته ؟
 فضيلة الأستاذ: أقول لك هذه الحقيقة: قـد تتفق بعض الأنظمة الوضعية والتشريعات الوضعية مـع التشريعات الإلهية، فالسارق بالقوانين السائدة يعاقب، والسارق بالقوانين الإلهية يعاقب لو أن إنسان ترك السرقة بماذا نفسر ذلك ؟ يمكن أن نقول: يخاف القانون، أو يخاف الله، الأمر أصبح ضبابي غير واضح، لكن حينما تنفرد بعض الأوامر من دون كل القوانين لا تجد قانونا ولا نظاماً يمنعك من أن تنظر، ليس في الأرض كلها قانون واحد ينهاك عن أن تنظر ! ومع ذلك الله جل جلاله حينما نهاك عن أن تنظر ماذا فعل ؟ كافئك مكافأة عالية لأنه لا يمكن أن تغض البصر إلا خوفاً من الله ! بأن أية جهة في الأرض لا يمكن أن تحاسبك على إطلاق البصر.
 المذيع: الرقابة الذاتية.
 فضيلة الأستاذ: نعم ؛ فمن رحمة الله بنا أن بعض أوامره ليس لها في القانون مثيل، لو كان لها مثيل لشككنا في تطبيق هذا المؤمن، يقول هو من دراساته العليا التي درسها في فرنسا، أما لأن غض البصر ليس في الأرض كلها قانون واحد يمنعك أن تنظر، فالذي يغض بصره لا يغضه إلا لله وحده، وهذه كرامة له، فغض البصر كما تفضلت من عبادات الإخلاص لله عز وجل.
 المذيع: هنا أيضاً نجد أن المولى عز وجل يقول في القرآن الكريم:

 

﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾

 

(سورة البقرة)

 يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:

((.... الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))

(صحيح مسلم)

 مفهوم هذا الحديث في تعامل المسلم في حياته اليومية.
 فضيلة الأستاذ: هذا الحديث وتلك الآية تبينان هذه المقولة للنبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف يبين وكذلك الآية تبين: أن الإنسان مجبول جِبلّة راقية جداً، بمعنى أنه إذا أخطأ كشف خطأه ذاتياً، والدليل قول الله عز وجل:

 

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾

 

(سورة الشمس)

 والدليل أيضاً:

 

﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

 

(سورة القيامة)

 فالإنسان في أصل فطرته يكشف خطاه ذاتياً، هذا معنى الإثم ماحاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس.
 المذيع: أيضاً فضيلة الإمام من تعريف هذه الخطيئة بمختلف درجاتها في الدين الإسلامي هل لكل خطيئة من هذه الخطايا توبة معينة، يتوب بها المسلم إلا خالقه ؟
 فضيلة الأستاذ: الذنوب ثلاثة: ذنوب لا تغفر إلا أن يتوب، هي الشرك بالله تعالى، وذنوب تغفر ما كان بينك وببين الله، بعد التوبة، وذنوب تتكر ما كان بينك وبين العباد، فحقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، فذنب يغفر ما كان بينك وبين الله، وذنب لا يترك ماكان بينك وبين العباد، وذنب يغفر ما كان بينك وبين الله، وذنب لايترك ماكان بينك وين العباد، وذنب لا يغفر إطلاقاً ما كان بينك وبين الله.
 المذيع: هنا نذكر كلمات أحد الصالحين حينما يقول عن التوبة: هي تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة، أي أن هذا الرجل الصالح أخذها من مفهوم الجانب الفعلي أو الجانب السلوك، كما فضيلتكم أشرت إلى هذه النقطة، إلا أن نجد أيضاً أن المولى عز وجل يقول في القرآن الكريم:

 

﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)﴾

 

(سورة الحجرات)

 مفهوم التوبة وعلاقتها بالظلم.
 فضيلة الأستاذ: أنت فرضاً عليك مليون جنيه، أو مليون دولار، ويوجد أمر بالحجز على أملاكك، وفي سجن وأشغال شاقة بالسجن، وبإمكانك أن تتلافى هذه الذنوب بسلوك معين، فإن لم تسلك هذا السلوك فقد ظلمت نفسك ظلماً شديداً.

 

﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)﴾

 

 عليك التزامات فوق طاقتك، لو أنهم طالبوك بها لأفلست ولدُمرت، فقيل لك: افعل كذا وكذا ونحن نسامحك
 المذيع: إذا سمحت لي وأشير إلى التوبة كعملية نفسية في شخصية المسلم ما هي العملية النفسية التي يشعر بها المسلم حينما يتوب إلى المولى عز وجل ؟
 فضيلة الأستاذ: يشعر وكأن جبالاً أزيحت عن كاهنه، التائب يشعر بسعادة لا توصف. إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا اغلني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته بالقريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، هنا الشاهد: أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم ومن الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها.
 المذيع: عفواً فضيلة الأستاذ ؛ معنا اتصال سنأخذه: السلام عليكم:
 الأخ المتّصل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أولاً طرحت فضيلة الدكتور بإذاعة القرآن الكريم... أريد أن أطرح سؤال على فضيلة الدكتور.
 المذيع: تفضل يا أخي:
 الأخ المتصل: ما هو أدب الاختلاف في عصر النبوة والصحابة والتابعين؟ وإن شاء الله سأسمع الرد على سؤالكم، السلام عليكم.
 المذيع: شكراً لك وعليك السلام.
 فضيلة الأستاذ: الإنسان مخير، ولأنه مخير قد يرى من زاوية لا يراها أخوه من زاوية أخرى، هو يرى من زاوية وأخوه يرى من زاوية، فالاختلاف مع حسن التعامل، هذا قائم وموجود في كل زمان ومكان، والصحابة الكرام اختلفوا فيما بينهم مجتهدين، فالاختلاف لا يفسد في الود قضية، لا يمكن، لكن الاختلاف المذموم هو ما كان عن حسد.

﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾

(سورة آل عمران)

 الاختلاف المحمود هو اختلاف المنافسة.

 

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

 

(سورة المطففين)

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

(سورة الصافات)

 هذا اختلاف محمود عند الله، اختلاف المنافسة، والاختلاف المذموم اختلاف الحسد والبغي والعدوان والكبر.

 

﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)﴾

 

(سورة البينة)

﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾

(سورة آل عمران)

 هذا الاختلاف المذموم، الاختلاف المحمود:

 

﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾

 

(سورة البقرة)

 فخلاف التنافس محمود، واختلاف الجهل الطبيعي، واختلاف الحسد والكبر والمعصية اختلاف مذموم، نحن بين اختلاف طبيعي سببه نقص المعلومات وعلاجه التوضيح، وبين اختلاف مذموم سببه الحسد والكبر والتنازع على المصالح والمكتسبات، وعندنا خلاف ثالث: خلاف محمود خلاف التنافس.
 المذيع: شكراً فضيلة الإمام، أعتقد أن فضيلتك باقي حوالي نصف ساعة لدرس المغرب، وعذراً لفضيلتكم أو لهذا التأخير، ولكن هناك آخر وصية، ونعلم أن ما هي إلا ساعات قليلة وتتركنا فضيلتك، فما هي أهم الوصايا التي تقدمها فضيلتك للجالية الإسلامية في أستراليا ؟
 فضيلة الأستاذ: باب التوبة باب رحمة الله، والذي يقع في الذنب ينبغي أن يتوب بالقريب، أي بعد الذنب مباشرة، لأنه إذا طال عليه الأمد قسى قلبه، فانقلب هذا الذنب غلى عادة، فقد يأتينا خاطر إن لم نسارع بإبعاده عنا انقلب إلى رغبة، فإن لم يسارع بإبعاده عنا انقلبت إلى إرادة، فإن لم نسارع بإبعادها عنا انقلبت إلى فعل، فإن لم نسارع بإبعادها عنا انقلبت إلى عادة، فإذا أصبحت الذنوب عادات ترسخت وصار من الصعب تركها، فأنا نصيحتي الأولى: ألا تكون هناك مسافة بين الوقوع بالذنب وبين التوبة، هذا يغطى بقوله تعالى:

 

﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾

 

(سورة النساء)

 المذيع: شكراً فضيلة الإمام على هذه المقابلة، وإن شاء الله بإذن الله تعالى نأخذ من فضيلتكم أحد الأوقات القادمة بإذن الله حتى يتسنى لنا تكملة هذا اللقاء، إخوة الإمام والآن نترككم في رعاية الله وحفظه وأمنه، وسلام من الله عليكم ورحمته وبركاته.

 

إخفاء الصور