وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0490 - قوة الإرادة1 – الإيمان والاستقامة - السعادة الأبدية تتطلب التضحية ..
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

قوة الإرادة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوعٌ دقيقٌ دقيق هو أن الإنسان إذا عرف الحق واتبعه، فهذه حالةٌ طبيعيةٌ جداً ، أن تعرف الحق وأن تتبعه . وهناك من لم يتبع الحق لأنه ما عرف الحق ، وهذه حالةٌ طبيعية ، المُقدِّمات تتناسب مع النتائج ؛ عرفت الحق فاتبعته ، لم تتبع الحق لأنك لم تعرفه ، لكن الإشكال في حالةٍ ثالثة هي المُتفشيَّة في العالَم الإسلامي ، هو من عرف الحق ولم يتبعه .
 كيف نفسِّرُ هذه الظاهرة ؟ إلامَ نعزوها ؟ كيف نُحلِّلها ؟ كيف نفهم طبيعتها ؟ إنسانٌ يعيش في بلدٍ مسلم ، خلال حياته المديدة عرَف الحق والباطل ، عرف الخير والشر ، عرف الجنة والنار وهو قاعدٌ لا يتحرَّك ، لا يتقي النار ولو بِشق تمرة ، ولا يتقرَّب إلى الله ولو بشق تمرة ؛ يعيش لذاته ، لمصالحه ، لشهواته .
 فموضوع خطبتنا اليوم هو قوة الإرادة . وقوة الإرادة أحدُ خصائص النفس الفاضِلة ، أحد فروع الخُلُق القويم أن تتمتَّع بإرادةٍ قويَّة تحملك على طاعة الله ، وتحملك على أن تجتنب معصيته . لماذا كان يدعو النبي عليه الصلاة والسلام ويقول :

(( اللهمَّ أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ))

[ورد في الأثر ]

((أرنا الحق حقاً ))

 هناك من يرى الحق باطلاً ، وهناك من يرى الباطل حقاً ، هذه نقطة :

((أرنا الحق حقاً ))

 بقي التطبيق ، بقي الترجمة العملية .

((وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ))

 أيها الأخوة الكرام ؛ قوة الإرادة من أُسس الأخلاق الفاضلة التي ترجع إليها مُعظم الفضائل ، فضائل كثيرة ، شمائل عالية ، أخلاقٌ رفيعة في مُجملها ترد إلى قوة الإرادة . وأخلاقٌ منحطَّة مذمومة في مجملها ترد إلى ضعف الإرادة .

 

استقامة الإنسان دليل قوة إرادته وانحرافُه دليلُ ضعف إرادته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا صحَّ أن الإنسان مَمْلَكَة ، ففي هذه المملكة سلطةٌ تشريعيَّة، وسلطةٌ تنفيذيَّة ، وجمهور ؛ الجمهور هو الشهوات ، والأهواء ، والغرائز ، والنزعات ، والمطالب ، والحاجات . والسلطة التشريعية هي الفكر . وأما السلطة التنفيذيَّة التي تحوِّل الحقيقة إلى واقع فإنها الإرادة في الإنسان .
الفكر قال لك : افعل هكذا ، افعل هذا ، ولا تفعل هذا . والشهوات تطلب هذا . بقي عليك أن تتمتَّع بقوة إرادةٍ تحملك على الخير وتبعدك عن الشر ، تحملك على اتباع أمر الله واجتناب نهيه ، تحملك على الإحسان وتُبعدك عن الإساءة ، تَحملك على الإخلاص وتبعدك عن الخيانة . إذا صحَّ أن الإنسان يشبه مملكةً ؛ فالسلطة التشريعيَّة في هذه المملكة فكره ، والسلطة التنفيذيَّة إرادته ، ورعِيَّته شهواته ، ومطالبه ، وغرائزه ، ونزعاته ، ومصالحه ، والشهوات التي أودعها الله فيه على مختلف أنواعها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الفكر من أين يستمدُّ حقائقه ؟ إما أن يستمدَّها من الواقع والتجربة ، وإما أن يستمدَّها من الفِطرة ؛ فالفطرة مقياس - الحكمة الفِطريَّة - وإما أن يستمدَّها من الوحي السماوي . له أن يأخُذها من النقْلِ ، وله أن يأخذها من الواقع ، وله أن يأخذها من الفطرة ، هذا الجهاز الاستشاري التشريعي يستمد خصائصه من الواقع ، أو من الفطرة ، أو من وحي السماء ، وكلَّما اقترب الإنسان في تشريعاته من وحي السماء كلَّما اقترب من الحق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ومع كل ذلك أودع الله في الإنسان هيئَةَ وعظِ وإرشاد ، وأمرٍ بالمعروف ، ونهيٍ عن المنكر إنه الضمير الذي يعلِّق عليه علماء النفس مهماتٍ كثيرة ، يسمونه تارةً الوازع الداخلي ، ويسمونه تارةً الضمير ، ويسمونه تارةً الإحساس بالمسؤوليَّة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ على كل هل هناك مؤشِّرٌ ماديٌ قطعيُّ الدلالة على قوة إرادة الإنسان ؟ وهل هناك مؤشِّرٌ ماديٌ قطعيُّ الدلالة على ضعف إرادته ؟ نعم ، استقامة الإنسان دليل قوة إرادته ، وانحرافُه دليلُ ضعف إرادته . .

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

[ سورة القصص : 50 ]

الانتفاع بالإرادة القوية إن رافقها علم و معرفة و حكمة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لكنَّ قوة الإرادةِ وحدها إن لم يرافقها علمٌ ، ومعرفةٌ ، وحكمةٌ ، تصبح أداةً خطيرةً في يد الإنسان ، هناك من يتمتَّع بقوة إرادة كبيرة ، لكنَّه لم يوازِها بمعرفةٍ واسعة وحكمةٍ بالغة ، تراهُ يستخدم هذه القوة في غير ما شرع الله عزَّ وجل ، فهذا الذي نَذَرَ أن يقف في الشمس تقرُّباً إلى الله عزَّ وجل ، حينما بلغ النبي ذلك قال :

(( مروه فليتحوَّل لأن الله غنيٌ عن تعذيب هذا نفسه ))

[ ورد في الأثر]

 المشقَّة في الإسلام ليست مطلوبةً لذاتها ، أحياناً من أجل أن تُحَقِّق سنةً غير مؤكَّدةٍ تُضَيِّع فرائض ، أوضح مثلٍ على ذلك : هذا الذي يصل إلى بيت الله الحرام وعنده إرادةٌ صُلبةٌ ، متينةٌ ، حديديةٌ أن يقبِّل الحجر الأسود ، من أجل تقبيل الحجر الأسود يُضَحِّي بفرائض؛ قد يؤذي المسلمين ، قد يكشف عورات المسلمين ، قد يُضَيِّع عليه الوجهة إلى الله عزَّ وجل ، لذلك لابدَّ من الإرادة القَويَّة من أجل أن ننتفع بها ، لابد لها من علمٍ وحكمةٍ ، وإلا غَدَت أداةً عمياء رعناء لا تنفع ولا تُفيد .
 أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((...إنَّ المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ))

[ من الجامع الصغير عن جابر ]

 من هو المُنْبَتَّ ؟ في المُعْجَم المنبت هو المُطَرِّف ، والتعبير المستعمل الآن -المُتَطَرِّف - المُنْبَتَّ هو الذي يحمل دابَّته على الجري والجري حتى يستنفذ كُلَّ قِواها ، إذا هي فجأةً تعجز عن المسير ، هذا هو المنبت لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى ، لم يحقِّق المراد ، ولم يحافظ على دابَّته ، أصابها بالعَطَب ، وقد يُحمَل على هذا من يُجهد مركبته ابتغاء أن يصل إلى قصده ، هذا لا يصل ، لا يصل ولا يحافظ على مركبته . .

((...إنَّ المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ))

[ من الجامع الصغير عن جابر ]

حاجة الإنسان إلى قوة الإرادة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يحتاج الإنسان إلى قوة الإرادة من أجل ماذا ؟ من أجل أن يقف أمام عوامل الانحراف ، والتثبيط من داخله ومن خارجه ، هناك من يدعو الإنسان إلى أن ينحرف ؛ شهواته ، غرائزه ، ميوله ، وهناك من يدعوه إلى أن يقعُد . .

﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾

[ سورة آل عمران : 175 ]

 هناك عوامل التثبيط وعوامل الانحراف ، في داخله وفي خارجه . قد تجد إنساناً يدعوك إلى معصيَة ويغريك بها ، ويزيِّنها لك ، إن في كسب المال ، أو في اقتناص الشهوات ، وهناك من يثبِّط عزيمتك إذا رآك اتجهت إلى الله ؛ يخوِّفك ، يملأ قلبك خوفاً من مغبَّة هذا العمل، هناك قِوى داخلية تدعوك إلى الانحراف ، أو إلى الكسل والقعود ، وهناك قِوى خارجيَّة تدعوك إلى الانحراف ، أو إلى الكسل والقعود ، وقوة الإرادة هي المعَوَّل عليها في أن تقف أمام المُغريات من الداخل ، والمغريات من الخارج ، وأمام المُثبطات من الداخل ، وأمام المثبطات من الخارج .
 أيها الأخوة الكرام ؛ المال فتنة ، والأولاد فتنة ، والنساء فتنة ، والجاهُ فتنة ، والعلوّ في الأرض فتنة ، والدعَةُ فتنة ، والكسل فتنة ، والراحة فتنة ، والفوضى فتنة ، الإنسان يميل إلى عدم التنظيم - إلى الفوضى - يميل إلى الكسل ، يميلُ إلى الراحة ، إلى الدَعَة . .

﴿ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 86]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾

[ سورة التوبة : 38]

 هناك رغبةٌ أن تَخْلُد إلى الأرض ، أن تميل إلى الراحة ، إلى الدعَة ، إلى الكسل، إلى الفوضى . وهناك رغبةٌ أن يزداد مالُك ، وأن يعظُم أولادك ولو على حساب الحَق ، من أجل أن تصنع من ابنك رجلاً قد تُقحمه في الباطل ، قد تحمله على معصية الله تقرُّباً إلى جهةٍ أو لأخرى من أجل أن ينال الدنيا . .

﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة﴾

[ سورة التغابن : 15 ]

 والمرأة ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، فتنة :

((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ))

[ البخاري عن أسامة بن زيد ]

 و . .

((اتقوا الدنيا ، واتقوا النساء فإن إبليس طلاع رصاد . وما هو بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء ))

[الجامع الصغير عن معاذ ]

 والجاه فتنة ، من أجل أن تصل إلى مرتبةٍ ما قد تُنفق عشرات الملايين . الجاه فتنة ، والمرأة فتنة ، والأولاد فتنة ، والمال فتنة ، والدَعَةُ رغبة ، والراحة رغبة ، والكسل رغبة ، والفوضى رغبة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هنا نحتاج إلى قوة الإرادة ، أن نقِف أمام الدعوات الداخليَّة والخارجيَّة إلى الانحراف ، وأن نقف أمام رغبة النفس في الراحة والدعة والكسل والفوضى .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من إنسانٍ حقَّق مرادَه في الدنيا ، ما من إنسانٍ رسم هدفاً ووصل إليه ، ما من إنسانٍ ارتقى إلا وهو يتمتَّع بقوة الإرادة والعزيمة .

 

الإنسان بين الشجاعة والتفاؤل وبين الجبن والتشاؤم :

 الحياة أيها الأخوة - مرةً ثانية - مليئةٌ بالمُغريات والمُثبِّطات ، مليئةٌ بالشهوات والمخاوف ، المخاوف تُقعدك عن طلب الحق ، وعن طلب العلم ، وعن حضور مجالس العلم ، وعن أن تلتزم الإسلام . والمُغريات تدعوك إلى المعاصي والآثام ، وليس إلا الإرادة تلك السلطة التنفيذَّية التي تحمل الإنسان على طاعة الله ، وتحميه من معصية الله ، هناك مخاوف حاضرة ، بقوة الإرادة تُصبح شجاعاً في مواجهتها ، وهناك مخاوف حاضرة بضعف الإرادة تصبح جباناً في مواجهتها ، هناك مخاوف متوقَّعة تصبح متفائلاً بقوة الإرادة ، وهناك مخاوف متوقَّعة تصبح متشائماً بضعف الإرادة . فأنت بين الشجاعة والتفاؤل ، وبين الجبن والتشاؤم ، والعامل الذي يؤثِّر في هذه الصفات الأربع قوة الإرادة ، إما أن تكون شجاعاً متفائلاً ، وإما أن يكون المرء جباناً متشائماً ، بقوة إرادته واتكاله على الله عزَّ وجل يصبح شجاعاً متفائلاً ، وبضعف إيمانه وضعف إرادته يصبح جباناً متشائماً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه المخاوف الحاضرة تجعلُك شجاعاً أو جباناً ، والمخاوف المتوقَّعة تجعلك متفائلاً أو متشائِماً ، وأما المصائب الواقعة فتجعلك صابراً أو غير صابر -لجوجاً - فالإنسان بقوة إرادته يصبر ، وبضعف إرادته ينهار .

 

سبل تقوية الإرادة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ سؤالٌ دقيقٌ وخطير : هل هناك من سبيلٍ لتقوية الإرادة ؟ إذا كان أحدنا يشكو ضعف إرادته ، إذا كان أحدنا يشكو أنه لا يملك مقاومةً منيعةً أمام الشهوات ، مقاومته هشَّة ، سريعاً ما ينساق مع شهوته ، هذا دليل ضعف إرادته ، هل هناك من وسيلةٍ لتقوية الإرادة ؟ العلماء يقولون : إن هناك ارتباطاً بين قوة الإرادة وقوة الإيمان ، فكلَّما ازداد إيمانك قويَت إرادتك ، إذا آمنت أن الله سبحانه وتعالى لا يضيِّع المؤمن ، إذا آمنت أن الله سبحانه وتعالى يُدافع عن المؤمن ، ينصر المؤمن ، يوفِّقه ، يحفظه ، يؤيِّده . .

﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الأنفال : 19]

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

[ سورة النحل : 97 ]

 وَعْدُ الله عزَّ وجل ، إذا آمنت أن الله سبحانه وتعالى مع المؤمنين بالتأييد ، والنصرِ ، والحفظ ، والرعاية من هنا تأتي قوة الإرادة ، فقوة الإرادة مرتبطة بقوة الإيمان ، فكلَّما ازداد إيمانك ؛ إذا ازداد إيمانك بوعد الله ، وازداد إيمانك بوعيد الله ، وازداد إيمانك بأن الموت حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وازداد إيمانك بأن الله سبحانه وتعالى سيسأل عباده أجمعين عما كانوا يعملون ، وأن لكل سيئةٍ عقاباً ، وأن لكل حسنةٍ ثواباً ، وأن السيئة .

﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 47]

 إذا آمنت هذا الإيمان من الطبيعي والبديهي أن تقوى إرادتك ، أما إذا آمنت ، أو إذا توهَّمت أن الله سبحانه وتعالى يَدَعُ عباده من دون أن يحاسبهم ، لا شكَّ أن الإرادة تضعف ، إذا توهَّمت لعقيدةٍ زائغةٍ أنه مهما فعلت من المعاصي ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة سيشفعُ لك بهذا المعنى الساذج ، البسيط ، الخاطئ ، مع أن شفاعة النبي حق ، وفيها نصوصٌ صحيحةٌ وثابتة تؤكِّدها ، ولكن ليس بهذا المعنى الساذج ، إذا آمنت بالشفاعة إيماناً ساذجاً لا شكَّ أن الإرادة تضعف وتقعد . إذا توهَّمت أن الإنسان كريشةٍ في مهب الريح . .

ألقاه في اليَمِّ مكتوفاً وقال له :  إياك إياك أن تبـتلَّ بالـماءِ !
* * *

 إذا ألْغيت عُنصر الاختيار في حياتك فقد وقعت في عقيدةٍ فاسدة ، وهذه تُضعف إرادتك . فالإرادة مرتبطة بصحة العقيدة ، قوة الإرادة مرتبطة بقوة الإيمان ، فمن أراد أن يقوِّي إرادته فليقوِّ إيمانه .

 

التدريبات العمليَّة على قوة الإرادة :

 شيءٌ آخر : هناك تدريباتٌ عمليَّة على قوة الإرادة ، من مارسها ، من ألزم نفسه بقواعد عامَّة في حركته اليوميَّة وطبَّقها فقد سلك طُرُقَ التدريب الإرادي ، طرق تدريبيَّة .
 هناك إنسان مثلاً يلزم نفسه بساعة رياضةٍ كل يوم ؛ برد ، مطر لا يبالي ، هذا تدريبٌ على قوة الإرادة . هناك إنسان يُلزم نفسه بنظامٍ غذائيٍ معيَّن ، هذا تدريبٍ على قوة الإرادة ، هناك من يلزم نفسه بساعةٍ ينام فيها ، هذا تدريبٌ على قوة الإرادة ، بساعةٍ يستيقظ فيها، هذا تدريبٌ على قوة الإرادة .
 وفوق هذا وذاك هناك عباداتٌ شرعها الله عزَّ وجل لتقوية الإرادة ، منها الصوم ، إذا كنت في بيتك ، وليس معك أحد ، والماء عذبٌ فرات ، باردٌ كالثلج وأنت صائم ، من الذي يمنعك من أن تشرب ؟ عبادة الصوم ، وعبادة الصوم تقوّي في الإنسان قوة الإرادة . غض البصر من العبادات التي تقوي قوة الإرادة ، ما الذي يمنعك ؟ هناك قوانين تتوافق مع الشرائع ، السرقة محرَّمةٌ في الشرع ومحرَّمةٌ في القوانين كلِّها ، لكن غض البصر ليس محرَّماً في القوانين. ربَّما كان مأخذاً على الإنسان في عصور التفلُّت والفِتَن ، لكن الله وحده هو الذي أمر به ، فالائتمار بأمره دليل قوة الإرادة . فهناك عباداتٌ أساسها قوة الإرادة ، والأصح من ذلك أن من يطيع الله جلَّ جلاله في كل ما أمر ، وينتهي عن كل ما نهى وزجر ، فهذا تدريبٌ طويلٌ عمليٌ دائمٌ على قوة الإرادة .
 ثم إن الله سبحانه وتعالى من خلال سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم - والنبي لا ينطق عن الهوى - بيَّن أن الأناة إذا أردت إنفاذ أمرٍ فتدبَّر عاقبته ، فكِّر ملياً ، ادرس الأمر من كل جوانبه ، وازن بين الإيجابيات والسلبيات ، لا تتخذ قراراً سريعاً ، الأناة ، والتمهُّل ، والتأَني ، والعُمق في الدراسة ، وتقليب الأمور على كل وجوهِهِ ، ثم اتخاذ القرار المناسب الذي ينسجم مع منهج الله ومع مصلحة المؤمن ، هذا مما يقوي في الإنسان قوة الإرادة ، ما من شقاءٍ في الدنيا والآخرة إلا بسبب قرارٍ ارتجالي ، نزوةٍ طارئة ، غضبٍ شديد ، حركةٍ عشوائيَّة .

 

ما ورد في الكتاب و السنة عن قوة الإرادة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ماذا في الكتاب والسنة عن قوة الإرادة ؟ الله سبحانه وتعالى أشار إلى هذه الإرادة بمستوياتٍ ثلاثة : المستوى الأول قال تعالى :

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾

[ سورة الإسراء : 18-20]

 الإرادة هنا بمعنى الاختيار فقط . لكن من أراد الآخرة ، اختار الآخرة وهذا لا يكفي ، لا يكفي أن تختار شيئاً ، لابدَّ من أن تسعى له ، ولا يكفي أن تسعى له ، لابدَّ من أن تسعى له سَعْيَهُ ، الله جلَّ جلاله ما قال : ومن أراد الآخرة وسعى لها ، بل قال :

﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾

 لها سعيُّ مخصوص ، كأن تقول : من أراد أن يكون طبيباً وأتى بالعلامة المطلوبة بكلية الطب ، ولم يأت بأي مجموع ، ولكن بالمجموع المطلوب ،

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾

 لها سعيٌ خاص ، ولها شروطٌ خاصة ، ولها ثمنٌ باهظ ، لكن

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾

 لماذا جعل الله الإرادة هنا فعلاً مضارعاً ؟

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا﴾

 لمَ يعجِّل الله لإنسان الدنيا ولا يعجل لإنسان الدنيا ؟ هنا يريد ، أيْ الفعل المضارع يشير إلى الاستمرار ؛ إرادة يوميَّة متكرِّرة ، أصرَّ عليها ، طلبها بكل جوارحه ، كل يوم ، صباحاً ، مساءً، قائماً ، قاعداً ، مُضَّطجعاً ، هذا معنى :

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ﴾

[ سورة الإسراء : 18-19]

 أيها الأخوة الكرام ؛ آية ثانية :

﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُم﴾

[ سورة التوبة : 46 ]

 لو أرادوا لأعدّوا ، التلازُم بين الاختيار والسلوك . .

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُم﴾

[ سورة التوبة : 46 ]

 هذا المستوى الأول بمعنى الاختيار .
 لكن المستوى الثاني بمعنى : الإدراك العميق ، قال تعالى في آياتٍ كثيرة :

﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾

[ سورة الحشر : 21]

﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 43]

 فكأن الله سبحانه وتعالى في كل آيات العقل أشار إلى الإرادة الواعية المُتَبَصِّرة ، لكنَّ وضوح الإرادة القوية في آياتٍ كثيرة ، منها قوله تعالى :

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة لقمان : 17]

 أيْ إذا صبرت على ما أصابك فأنت تملك إرادةً صلبة ، قويةً ، متينة :

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة لقمان : 17]

 وفي قوله تعالى :

﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة الشورى : 43]

 وفي قوله تعالى :

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾

[ سورة الأحقاف : 35 ]

 أو من خلال سنة النبي عليه الصلاة والسلام يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إن الله يحب أن تؤتى رُخَصُه كما يحب أن تؤتى عزائمه ))

[الجامع الصغير عن عمر بن الخطاب ]

 معنى هذا الإيمان يحتاج إلى عزيمة ، إلى إرادة قوية ، كلمة العزائم في الكتاب والسُنة تشير إلى الإرادة القوية الحازمة ، التي بها تسعد وبضعفها تشقى .

(( إن الله يحب أن تؤتى رُخَصُه كما يحب أن تؤتى عزائمه ))

[الجامع الصغير عن عمر بن الخطاب ]

 وفي إشارةٍ أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام :

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

 أية قوة في المؤمن ؟ قد يكون ضعيفاً ، وقد يكون مُستضعفاً ، لكن القوة هنا تعني قوة إرادته ، قوة عزيمته ، المؤمن قويٌ في عزيمته ، قويٌ في إرادته ، وقَّافٌ عند كتاب الله ، يأخُذ الكتاب بقوة ، كما قال الله عزَّ وجل :

﴿خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾

[ سورة مريم : 12 ]

 فالقوة مع الإيمان تعني قوة عزيمته ، وقوة إرادته . والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى قوة الإرادة فقال :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[الترمذي عن شداد بن أوس ]

 فالكيِّس هو قوي الإرادة ، والعاجز هو ضعيف الإرادة .

 

في قوة الإرادة عاملان ؛ عامل إدراكي معرفي وعامل تنفيذي سلوكي :

 في قوة الإرادة عاملان : عامل إدراكي معرفي ، وعامل تنفيذي سلوكي . فالكيِّس من أدرك أن الآخرة خيرٌ من الأولى - الخطوة الأولى - ثم انطلق منها إلى العمل للآخرة ، وضبط جوارحه وشهواته.

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[الترمذي عن شداد بن أوس ]

 فالنصوص القرآنيَّة والنبويَّة التي تشير إلى قوة الإرادة في مستوياتٍ ثلاثة : المستوى الأول الاختيار . والمستوى الثاني العِلم . والمستوى الثالث العِلم والتَنْفيذ . ولا يسعد الإنسان ، ولا يربح الآخرة إلا بقوة إرادةٍ واعيةٍ منفِّذةٍ . وكما قلت قبل قليل : هناك تدريباتٌ كثيرة على قوة الإرادة ، وهناك عباداتٌ أساسها التدريب على قوة الإرادة ، ولماذا هناك محرَّمات ؟ من أجل أن تتملَّك إرادةً قويَّة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حِذْرنا ، الكيَّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ . والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

السعادة الأبدية تتطلب التضحية بكل الشهوات غير المشروعة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ أحمد عن ابن عبَّاس ]

 أيْ لا تكون بطلاً تستحق جنة ربك إلى أبد الآبدين إلا بقوة الإرادة ، فعمل الجنة يبدو صعباً ، يحتاج إلى ضوابط ، إلى يقظة دائمة ، إلى مُراقبة ، إلى أن تضع شهوتك تحت قدمك ، إلى أن تُغَلِّب طاعة ربك على مصالحك ، هذا معنى :

(( ...حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ أحمد عن ابن عبَّاس ]

 أي لمجرَّد أن تنساق مع شهواتك ، ومع مغريات الحياة ، وأن تغوصَ فيما يغوص الناس فيه ، وأن تخوض فيما يخوض الناس فيه ، وأن تكون مع المجموع الساهي اللاهي ، مع عوامل البيئة والتطور ، وحلول الفِتَن محلَّ العزائم ، يكفي أن تكون مع عامة الناس ، مع الخط العريض . .

﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً﴾

[ سورة يونس : 36 ]

 يكفي أن تنساق وراء شهوتك ، وراء مصالحك بدون رقابة ، بدون محاسبة ، بدون توجيه ، بدون إدراك لما سيكون ، بدون حساب للموت هذا ضعف الإرادة ، الانسياق مع الشهوات ضعف الإرادة ، والوقوف مع المَصالح الحقيقيَّة الأخرويَّة قوة الإرادة ، إذا أردت سعادةً أبديَّة عليك أن تُضَحِّي بكل الشهوات غير المشروعة .
يا أيها الأخوة الكرام ؛

(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ أحمد عن ابن عبَّاس ]

 الإنسان أحياناً يتحمَّل المشاق لفترة يسيرة على أمل أن يسعد سعادة طويلة ، هذا الذي يدرس ثلاثين عاماً ليلاً نهاراً ليأخذ أعلى شهادة في الطب ، ماذا في ذهنه ؟ في ذهنه حياة رغيدة أساسها وفرة المال ، ورفعة الشأن بين الناس ، والحركة براحة في الحياة ، هذا الذي يدرس ثلاثين عاماً يضحي بنزوات الشباب ، ويضحي بأكثر مطالب الشباب من أجل حياةٍ مستقرَّةٍ طويلة الأمد ، فكيف بالذي يؤمن بالدار الآخرة ؟ فيها :

(( فيها ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))

.

[متفق عليه عن أبي هريرة]

أيها الأخوة الكرام ؛ قوة الإرادة موضوعٌ يحتاج إلى متابعة ، وإن شاء الله تعالى لنا في الأسبوع القادم - إن أحيانا الله عزَّ وجل - متابعة لهذا الموضوع .

 

الصحابة الكرام قدوة لنا علينا اتباع سيرتهم :

 أروي لكم أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فيما رواه عمرو بن ميمون الأسدي ..قال : رأيت عمر بن الخطاب يقول : " يا عبد الله بن عمر - وكان عمر على وشك الموت - اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل : يقرأ عمر بن الخطاب عليكِ السلام ، ثم سَلْهَا أن أُدفن مع صاحبي " فقالت عائشة : " كنت أريده لنفسي - هذا القبر الثالث- فلَؤوثرنه اليوم على نفسي" فلما أقبل . . قال عمر : ما لديك يا عبد الله ؟ قال : أذنت لك أم المؤمنين يا أمير المؤمنين . قال : ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك المضجع ، فإذا قبضت - هنا الدقَّة لعلَّك حينما استأذنتها لم ترضَ في باطنها لكن مراعاةً لعملي كوني أمير المؤمنين - فاحملوني ثم مروا أمام بيتها ، وسلِّموا ، وقولوا لها : يستأذن عمر بن الخطاب أن أُدْفَنَ إلى جنب صاحبيه ، فإن أذِنَت فادفنوني .
 ما قَبِلَ إذناً في حياته ، ولكن أراد أن يكون الإذن بعد مماته ، بعد أن يتخلَّى عن قوَّته ، هو الآن أمير المؤمنين لعلَّها قالت : نعم ، دون أن تكون راضية . قال : فإذا متُّ فسلموا عليها وقولوا لها : إن عمر يستأذنكِ أن يُدفَن إلى جنب صاحبيه ، فإن أذنت فادفنوني . هذا هو الورع " ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مخلِّط" و " من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله " .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هؤلاء الصِحَاب الكرام هم أعلام المسلمين ، هم قدوة لهم ، فإذا قرأنا سيرتهم فلنتبع ما هم عليه لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

((. . . فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ))

[الترمذي عن العرباض ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور