- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
برّ الوالدين :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلْنا في موضوع الرّحمة التي هي سِمَةٌ أساسيّة من سِمات خُلق المؤمن ، كما أنّ حبّ الحقّ وإيثارَهُ سِمَةٌ أولى من سمات المؤمن ، كذلك الرحمة التي هي نتيجةٌ ، ومحصّلة طبيعيّة لاتِّصال المؤمن بالله عز وجل ، لأنّ مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله عز وجل ، فإذا أحبَّ عبدًا منَحَهُ خلقًا حسنًا .
أيها الأخوة الأكارم ؛ أولى مظاهر الرحمة ، وأوّل مظاهر الرحمة هي بِرُّ الوالدين ، لذلك هذه الرحمة الوَهْبِيَّة التي أوْدَعَها الله جلّ جلاله في قلب الأمّ والأب لِتَستمرّ الحياة ، لئلا يقتل الأب ابنه ، لئلاّ يدَعَهُ بلا طعام حتى يموت ، لئلاّ تُلْقِيَ الأمّ ابنها في التّنور، كي تسْتمرّ الحياة ، وكي يتعاطف الآباء والأمّهات مع الأولاد ، كي يعْمَلا على إطعامهما ، كانت هذه الدَّفْعَة الوَهْبِيَّة من الرحمة إذْ أوْدَعَها الله في قلب الوالدين ، من أجل أن تستمرّ الحياة .
لكن أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الرحمة الوَهْبيّة لا يرقى بها المؤمن إلا إذا رحِمَ أبناءهُ رحمةً تنقذهم من نار جهنّم ، فإذا اكتفى الأب بإطعام أولاده ، وبإكسائهم ، ورعاية شؤونهم الماديّة ، دون أن يلتفِتَ إلى إيمانهم ، وعقيدتهم ، وأخلاقهم ، واسْتِقامتهم ، وسَعْيِهم لآخرتهم ، فقد قدَّمَ شيئًا مادِّيًا سرعان ما ينتهي بانتهاء الحياة ، لذلك الأب المؤمن فضلاً عن رعاية أولاده الرِّعايَة الماديّة ، يرعاهم رعايةً خلقيّة ، ورِعايَةً دينيّة إلى أن ترقى بهم إلى النجاة من عذاب الدنيا ، وعذاب النار .
هذه الرحمة التي أوْدَعها الله في قلوب الآباء والأمّهات ألا ينبغي لهذا الابن الذي نَعِمَ بها ، وعاشَ في ظِلّها أن يُكافئ أُمّه وأباهُ عليها ؟ لذلك من قواعِد اللّغة أنَّ العطْف يقتضي المجانسة ، أنت لا تقول مثلاً : اشْتَريْتُ أرضًا وملْعقةً ، لأنّ الأرض لا تنسجِمُ مع هذه الحاجة الصغيرة التافهة ، قليلة الثّمن ، فإذا كان هناك عَطْفٌ في القرآن الكريم ، فالعَطْفُ من شأنِه أن يرقى المعطوف إلى المعطوف عليه ، دقِّقُوا في قوله تعالى :
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾
أيْ رفعَ الله أمْر الإحسان للوالدين فعَطَفهُ على الأمر بِعِبادَتِهِ ، وعدم الشِّرْك به ، وهذا مِمَّا يلفت النَّظر ، فكما أمرك الله عز وجل أن تعبُدَهُ ، وكما نهاك أن تشرِكَ به ، أمركَ أن تُحسِنَ للوالدين .
الفرق بين عبادة الله و الإحسان للوالدين :
ولكن بادئ ذي بدْء عبادة الله شيء ، والإحسان للوالدين شيءٌ آخر ، العبادة تقتضي الطاعة التامة ، والخضوع التامّ ، والاسْتِسلام المطلق ، ونهاية الحبّ والفناء ، هذه هي العبادة ، ولكنّ الإحسان لا يقتضي أن تُطيعَ مخلوقًا في معصيَة الخالق ، والإحسان لا يقتضي أن تقترفَ ما نهى الله عنه إرْضاءً لِوَالِدَيك ، فالإحسان شيء ، والعبادة شيء آخر ، وهناك من يخلِطُ بينهما لعدم فقْهِهِ في الدِّين ، قال تعالى :
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾
أما الآية الثانيَة فهي قوله تعالى :
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾
خالق الكون ، الخالق المربّي المُسيِّر ، الذي أبدَعَ السموات والأرض ، يوصيكَ أيّها الإنسان بِوَالِدَيك حُسْنًا ، قال تعالى:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
هذه الآية تناوَلَتْ الإحسان للوالدين من زاوية ثانيَة ، هذه الزاوية أنَّ الإحسان شيء، والطاعة شيءٌ آخر ، وإنْ جاهَداك لِتُشْرِكَ ؛ أيْ وإن دفعاك إلى أن تُشْرِكَ . لكنّ الآية الثالثة فيها دِقَّة بالغة ، يقول الله عز وجل :
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾
أيْ وإن حملاك بالقوّة على أن تُشْرك ، إن دفعاك إلى الشِّرْك ، إن وجَّهاك إلى الشِّرْك ، فلا تطِعهما ، وإن ألْزماك على الشِّرْك فلا تُطعهما ، فالأب قد يقدِّمُ وقد يؤخِّر ، وقد يبيِّنُ لابنه أنَّه لا بدّ من المُرونة ، ولا بدّ من أن تعيشَ مع الناس في قِيَمِهِم ، وفي عاداتهم، كأنَّ الأب يُقْنِعُ ابنهُ بأنْ يسير وفْقَ ما يسيرُ عليه الناس ، هنا وإن ألْزماك على أن تشرك بي ، أما إذا ألْزَمَكَ ، وأصرّ عليك ، ومنعَ عنك كلّ شيء ، وقهَرَكَ ففي كلا الحالتين لا ينبغي أن تُطيعَ مخلوقًا في معصيَة الخالق .
البار بوالديه يرقى عند الله رقياً لا حدود له :
أيها الأخوة الأكارم ؛ آيةٌ ثالثة تُعالِجُ الموضوع من زاويةٍ جديدة ، قال تعالى :
﴿رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾
الإنسان إذا تقدَّمَتْ به السنّ ، ورُدّ إلى أرْذَل العمر ، ربّما أصبحَ ظلُّه ليس خفيفًا على من حولهُ ، ربّما حشَر أنفهُ بأمورٍ تافهةٍ جدًّا ، ربّما ضَغَطَ على من حولهُ ضغطًا ليس حكيمًا ، إذا بلغَ هذا الأب هذه السنّ ، من أوْلى الناس بِتَحَمُّلِهِ ؟ من أولى الناس بالصّبر عليه ؟ من أولى الناس باستِيعابه ؟ إنَّه الابن ، الذي طالما تحمَّل الأب من أجله ، الذي طالما صبَر الأب عليه ، وطالما أحسنَ إليه ، الحياة دَيْنٌ ووفاءُ دَيْنٍ ، قال تعالى :
﴿رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾
الأب الشابّ الذي يعرف ما له وما عليه ، المُحْسنُ لأولاده بِرُّه سهلٌ جدًّا ، لكنَّه إذا تقدَّمَتْ بالأب السِّن ، وأصْبحَ ضَغْطُهُ شديدًا ، وحاجاته كثيرة ، وتساؤلاتهُ لا نهاية لها ، ودخلَ في كلّ التوافِهِ ، في مِثْل هذه الحالة ترْقى عند الله رُقِيًّا لا حُدود له إذا كنتَ بارًّا به ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾
من أطاع الله في شبابه متَّعَهُ الله بِعَقلهِ حتى يموت :
لكن بالمناسبة الإنسان إذا أطاع الله في شبابه متَّعَهُ الله بِعَقلهِ حتى يموت ، الزّمن لِصَالح المؤمن دائمًا ، كلّما كَبِرَت سِنُّه ازْداد عقلهُ ، وازْداد فهْمُهُ ، وازْدادَتْ حِكْمتهُ ، وازْداد شُعورُهُ بالغَيْرِيَّة إن صحّ التعبير ، ولكنّ الذي نشأ على معاصي الله عز وجل ، له خريفُ عُمرٍ لا يُحسدُ عليه ، لذلك كما قال بعض العلماء : يا بنيّ ، حَفِظْناها في الصِّغَر فَحَفِظَها الله علينا في الكِبَر ؛ هذه الصّحة ، وهذا العقل ، وهذا التَّمْييز ، وهذا الإدراك ، وتلك الحِكمة ، حَفِظْناها في الصِّغَر فَحَفِظَها الله علينا في الكِبَر ، ومن تعلَّمَ القرآن متَّعَهُ الله بِعَقلِهِ حتى يموت ، قُلْ لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا من الخير فيما توحي به الآية .
من الرحمة أن يخْفض الابن لِوَالِدَيه جناح الذلّ :
بقيَ شيءٌ في الآية ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾
الإنسان أحيانًا يتذَلَّل ، ولكن عن ضَعْفٍ ، يتَذَلّل عن فقْر ، يقفُ الفقير أحيانًا أمام الغنيّ فيتَضَعْضَعُ له ، يقِفُ الضعيف أحيانًا أمام القويّ فيَتضَعْضَعُ له ، يقف المريضُ أحيانًا أمام المريض فيَذِلّ له ، يشْكوهُ آلامه ، وأنّ هذا المرض مُسْتَعْصٍ ، ولكنّ الله عز وجل أمرنا أن نقف أمام آبائنا وأمّهاتنا أذِلاء لا عن ضَعْفٍ ، ولكن عن رحمةٍ ، وهذا سِرُّ الآية ، فقد يكون الابن قويًّا ، يتمتَّعُ بأعلى درجات عقْلِهِ ، وقوّته ، ومركزه الاجتماعي ، وقد يحْمِلُ أعلى الشهادات ، وقد يكون من أغنى الأغنياء ، وقد يكون قويًّا في مجتمعه ، ومع ذلك يجِبُ أن يخْفض لِوَالِدَيه جناح الذلّ لا عن ضَعْفٍ ، ولا عن فقْر ، ولكن من الرّحمة ، من هذه الرحمة التي أوْدَعَها الله في قلب الأمّ ، لِيَرْحَمَ أباهُ وأمَّه حينما يحْتاجان إلى الرّحمة ، بل حينما يكونان في أشدّ الحاجة إلى هذه الرّحمة ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾
الإحسان إلى الوالِدَين ينبغي أن يكون مباشرةً من الابن :
شيءٌ آخر ، فِعْلُ أحْسَنَ في اللُّغَةِ يتَعدّى بإلى ، إلا أنّه هنا هذا الفعل يتعدَّى بالباء، ومن معاني الباء الإلصاق ، واسْتَنبطَ بعض العلماء أنَّ الإحسان إلى الوالِدَين لا ينبغي أن يكون بالواسطة ، ينبغي أن يكون مباشرةً من الابن ، أي أن تذْهبَ إليه وأن تخْدِمَهُ بِنَفْسِكَ ، وهذا مِمَّا يُسْتنبط من قوله تعالى :
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾
آية رابعة ، قال تعالى :
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
قال تعالى :
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾
الفرْق بين بِرِّ الابن لأبيه وبين رحمة الأب بابنه :
العلماء قالوا : هناك فرْقٌ كبير بين خِدْمة الأب لابنه حينما يكون صغيرًا ، وبين خِدْمة الابن لأبيه ، الأب حينما يخْدِمُ ابنهُ ، لا ينتظرُ منه شيئاً ، لكنّ الابن إذا خدَمَ والِدَيه كأنَّه يتمنّى أن يُقَدِّمَ ما عليه ، وأن ينتهي هذا الأمر ! فرْقٌ كبير بين مشاعر الأب ، وبين مشاعر الابن ، لذلك حملتْهُ أمُّه كرهًا ، ووضَعَتْهُ كرهًا ، وهي تتمنَّى حياتهُ ، تتمنَّى نماءهُ ، تتمنَّى أن يكون إنسانًا لامعًا في المجتمع ، ولكن إذا كانت خِدمة الابن لأبيه فيها ضَغْطٌ ، وفيها صُعوبة ، وفيها عبءٌ ، لا يُرافِقُ هذه الشعور بالخِدمة الشعور بالتوفيق ، والشعور بكلّ خيرٍ ، هذا هو الفرْق بين بِرِّ الابن لأبيه ، وبين رحمة الأب بابنه .
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :
﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
ومن يدَّعِي أنَّ القِيَم تتبدَّل من مجتمعٍ إلى آخر ، فهذه الدَّعوة مرفوضة ، لِقَول الله عز وجل :
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾
هناك قِيَمٌ ثابِتَة لا تتأثّر ؛ لا بِزَمان ، ولا بِمَكان ، ولا بِبيئةٍ ، ولا بِمُعطياتٍ ، ولا بِفِكْرٍ ، ولا بأيّ شيءٍ من هذا القبيل ، الله جلّ جلاله وصفَ نبيًّا عظيمًا ، وهو سيّدنا يحيى عليه السلام ، من أوصافه أنَّه كان تقيًّا وبرًّا بوالديه ، صِفَةٌ اتَّصَفَ بها نبيّ عظيم ، سيّدنا عيسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام ، قال كما تعالى :
﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾
توجيهات نبَوِيَّة تَدْعونا إلى برّ الوالدين :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه آيات القرآن الكريم ، مررْنا عليها مُرورًا سريعًا وبقِيَ ما في السنّة الشريفة من توجيهات نبَوِيَّة تَدْعونا إلى برّ الوالدين ، فقد روى البخاري ومسلم :
(( . . .الصلاة على وقتها : قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : بر الوالدين ، قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله))
أوّلاً : عليك أن تؤدِّي حقوق الله عز وجل ، والصلاة نوعٌ من أداء حقوق الله عز وجل ، العمل العظيم الثاني أن تؤدِّي حقّ أعظم الناس عليك ، ألا وهو الأب والأم ، والحقّ الثالث أن تؤدِّيَ حقّ هذا الهدى الذي أكرمَكَ الله به ، وهو نشْرُ الهُدى ، فأوَّل عمل هو الصلاة على وقتها ، والعمل الثاني بِرُّ الوالدين ، والعمل الثالث الجهاد في سبيل الله .
وقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ :
((أُمُّكَ ، ثُمَّ أُمُّكَ ، ثُمَّ أُمُّكَ ، ثُمَّ أَبُوكَ ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ ))
هذه أحاديث صحيحة والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
بعض العلماء فهم من هذا الحديث أنّ نِسْبة واجبك نحو أبيك إلى أمِّك نِسْبة الرّبع إلى ثلاثة أرباع ، أمُّك ثمّ أمُّك ثمّ أمُّك ، ثمّ أبوك ، وبعضهم قال : الحديث فيه تأكيد أوّل ، وتأكيد ثانٍ ، وتأكيد ثالث ، لأنّ الأمّ حينما تكبُر هي أضعفُ من الأب ، لِضَعْفها ، إما أنّ هذه النِّسْبة لِضَعفها ، أو أنَّ هذه النِّسْبة رياضيَّة ، على كلٍّ أمُّك ثمّ أمُّك ثمّ أمُّك ، ثمّ أبوك.
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ قِيلَ : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ))
ومعنى رغِمَ أنفهُ أيْ حُكِمَ عليه بالذلّ ، والمهانة ، والصَّغار ، والخَيْبة ، ويُستنبطُ من هذا الحديث أنَّ بِرَّ الوالدين عملٌ يكفي لِدُخول الجنّة ، وكنتُ أقول دائمًا : الأبوَّة المِثالِيَة عملٌ تلقى الله به ، الأمومة المِثالِيَّة عملٌ تلقى الله به ، ومعنى تلقى الله به ، يمكن أن يكون كافيًا لِدُخولك الجنّة ، وإذا قمْت بِحِرفتِكَ ، بِشَكلٍ مِثالي كما أراد الله عز وجل فحِرْفتُكَ إن كانت في الأصل مشروعةً ، ومارسْتها بِطَريقةٍ مشروعة ، وابْتَغَيْتَ بها كِفايَةَ نفسِكَ وأهلك ، وابْتَغَيْتَ بها خِدمة المسلمين ، ولم تشْغَلْكَ عن فرضٍ أو طاعةٍ أو عن واجبٍ ، انْقَلَبَتْ هذه الحِرْفة إلى عبادةٍ تُدْخلُك الجنّة ، فالأُبُوَّة المِثاليّة ، والبنوَّة المِثاليّة ، والأمومة المِثاليّة ، وحرفتك إذا أدَّيتها على الوجه الصحيح تُدْخلك إلى الجنّة ، وهنا يُشير النبي عليه الصلاة والسلام إلى أنّ بِرَّ الأب أو الأم كلاهما أو أحدهما عملٌ يُدْخِلُكَ الجنّة ، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنّة . عاء:لدعاء:اء:الدعالدعاء:دعاءدعاء :
وروى الإمام مسلم عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ نَاعِمًا مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ :
((أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ ، قَالَ : فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا ، قَالَ : فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا))
هذا الحديث له عِدَّة روايات ، من هذه الروايات ؛ قال : أحَيٌّ والِدَيك ؟ قال : نعم فقال : ففيهما فجاهِد ، وفي رواية ثالثة : فالْزَمْهُما فإنّ الجَنّة عِنْدَ رِجْلَيْهِما ، لكنّ العلماء وقفوا عن هذه الأحاديث التي تؤْثِرُ بِرَّ الوالدين عن الجهاد في سبيل الله .
العلماء اسْتَنبطوا أنَّه إنْ كانت بالوالدين حاجات مُلِحَّة ، كأن يكون الأب عاجزًا ، أو مريضًا ، ليس له أحد إلا ابنهُ ، حينما تكون هناك حاجات مُلِحَّة عند الوالدين ، وحينما يكون الجهاد مندوبًا ، وليس مفروضًا ، إذا اقْتَحَمَ العدوّ دِيار المسلمين ، يُصْبحُ الجهاد فرضًا ، إذا كان الجهاد فرضًا ، وإذا كانت حاجات الآباء والأمّهات مُلِحَّة ، عندئذٍ النبي عليه الصلاة والسلام يؤْثِرُ بِرّ الوالدين عن الجهاد في سبيل الله . وما قولُكُم أنَّ الإنسان مأمورٌ أن يتابِعَ بِرَّهُ لِوَالِدَيْه بعد موتِهِما ، فجاءَ رجلٌ إلى رسول الله وقال : توفّي والدايْ فهل بقيَ عليّ مِن بِرّهما شيء ؟ قال : نعم ، أربعة أشياء ؛ أن تُصَلِّي عليهما ، وأن تَدْعُوَ لهما ، وأن تُنْفِذَ عهْدهما ، وأن تَصِلَ صديقهما ، وأن تَصِلَ الرَّحِمَ التي لمْ يكن لها صِلَة إلا بهما فهذا الذي بقِيَ عليك منْ بِرّهما بعد موتهما .
وروى الإمام مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ :
(( أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَالَ بَلَى فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ قَالَ : اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : غَفَرَ اللَّهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ ))
أنت أيُّها الإنسان مأمور أن تَصِلَ أصدقاء والِدِكَ ، من كان يُحِبّهم ، من كان يزورهم ، من كان يأْنسُ بهم ، هذا من أبَرِّ البِرّ ، وهذا طبعًا في نِطاق المجتمع الإسلامي .
تعجيل العقوبة لعاق والديه في الدنيا قبل الآخرة :
أما الشيء الخطير فهو ما رواه البيهقي عن أبي بكْرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم يقول :
(( كلُّ الذُّنُوبِ يَغْفرُ الله منها ما شاء - يغفر ما يشاء ويعذِّبُ ما يشاء - إلا عُقوق الوالدين ، فإنَّه يُعَجِّل لِصَاحبِهِ في الحياة قبل الممات ))
عاقّ الوالدين يُعاقَبُ مرَّتين ؛ مرّة في الدنيا ، ومرّة في الآخرة ، كلُّ الذُّنُوبِ يَغْفرُ الله منها ما شاء - يغفر ما يشاء ويعذِّبُ ما يشاء - إلا عُقوق الوالدين فإنَّه يُعَجِّل لِصَاحبِهِ في الحياة قبل الممات .
وروى أحمد عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ بِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ مَعَ مَا يُؤَخَّرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ بَغْيٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ، قَالَ وَكِيعٌ : أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ ، وَقَالَ يَزِيدُ : يُعَجِّلُ اللَّهُ ، وَقَالَ مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ ))
أيْ عقوق الوالدين ، والظلم ، هذان الذَّنْبان يُعَجَّل لِصاحِبِهما قبل الآخرة .
وروى البخاري ومسلم عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ثَلَاثًا أَوْ قَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ ))
قرنَ الله عز وجل بين عبادة الله ، وبين الإحسان للوالدين ، ونهى عن الشِّرْك ، وعن عقوق الوالدين .
ما يُجْزي عن الولد فضْل والِدِه :
وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ))
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ :
((وَلَدٌ وَالِدَهُ ))
وقد يُحملُ هذا الحديث على أنّ الابن بِسَعْيٍ حثيث ، وبِجُهْدٍ كبير ، وعملٍ دؤوب ، وإحسانٍ كبير ، إذا تمكَّن من هداية أبيه ، ونقلهِ من الضلالة إلى الهدى ، ومن الشّقاء إلى النَّعيم ، فهذا ممَّا يُجْزي عن الولد فضْلَ والِدِه .
من الكبائر شتم الرجل والديه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ روى الإمام البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ))
ويُحْمَلُ على هذا الحديث أنَّ أيّة إساءةٍ من الابن قد تُسَبّب شتْمًا للأب ، قد يسبّ الناس أباه على هذه التربيَة ، فإذا أراد الابن أن يحْفظَ حقّ أبيه ، وأن يحْفظَ سُمْعةَ أبيه فلْيَكُن مستقيمًا مُحْسِنًا ، يُحْمَلُ على الشَّتْم الإساءة .
وروى البخاري ومسلم عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ ، وَمَنَعَ وَهَاتِ ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ))
بِرُّ الوالدين لا يتعلّق بإيمانهما :
بقيَ شيئان قليلان ، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ :
((قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ صِلِيهَا ))
إذًا بِرُّ الوالدين لا يتعلّق بإيمان الأب أو عدم إيمانه ، أنت مكلَّفٌ أن تكون بارًّا به ، مؤمنًا كان أو غير مؤمن ، إلا إذا أمركَ بِمَعصيَة ، أما البرّ فلا يتعلّق بالإيمان أو عدمه .
برّ الخالة و العم :
وقْفةٌ أخيرة ، وهي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال : فيما رواه الترمذي عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ))
وقال :
((عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ))
مِمَّا يتْبعُ موضوعنا ، هو بِرُّ الخالة ، وبرُّ العمّ ، لأنّ العمّ صِنْوُ الأب ، والخالة بِمَنزلة الأمّ .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنَّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ؛ الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبَع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
القشرة المخية :
أيها الأخوة الكرام ؛ في الدِّماغ شيءٌ يُسَمَّى القِشْرة المخيّة ، سُمِّيَت كذلك لأنَّها قِشْرة فِعلاً ، لا يزيدُ سمكها عن ميليمترين ، هذه القشرة المخيّة فيها أربعة عشر مليار خليّة ! مُرتَّبةً في سِتِّ طبقات ، متوالِيَة ، لا يزيدُ وزْنها الكليّ عن مئة غرام ، تبْدو معرّجة نتيجة ترتيبها على هذا الشكل ، حيثُ تُسمّى بالتلافيف ، من أجل أن تقلّ المساحات .
أيها الأخوة الأكارم ؛ مِمَّا يُلْفِتُ النَّظر أنّ في هذه القِشْرة أليافًا عصبيّة يزيدُ طولها عن ألف كيلو متر !!! هذه الطبقة الرقيقة جدًّا تتحكّم بأخْطَر الوظائف ، بل هي تُحَدّد سُلوك الفرد وميُولَهُ ، وتُعينُهُ على النّطق والبيان ، تُعينُهُ على التّعلم ، والحِفظ ، والتذكّر ، والإبداع ، والاختراع ، والتدبير ، تُعينُهُ على الإحساس ، والتحرّك ، والسّمع ، والبصر ، وفي هذه القشْرَة من خمسين إلى مئة مركز ، هذا الذي عُرِفَ حتى الآن ؛ مركز السَّمع ، مركز البصر ، مركز التذكّر ، مركز المحاكمة ، مركز الحركة ، قِشْرةٌ لا يزيدُ سُمْكها عن ميليمترين ، فيها أربعة عشر مليار خليّة ، وفيها ألياف عصبيّة يزيدُ سمْكُها عن ألف كيلو متر ، ووزْنها مئة غرام ، وتتحكَّمُ بأخْطَر الوظائف ، في الإحساس ، وتلقّي الأحاسيس الخارجيّة ، في الحركة ، في السّمع ، في البصر ، في التعلّم ، في النّطْق ، في البيان ، في الحفْظ ، في التذكّر ، في الإبداع ، في الاختراع ، في التدبير .
أيها الأخوة الأكارم ؛ كما قيل :
أتَحْسبُ أنَّك جُرْمٌ صغير وفيك انْطَوى العالم الأكبر ؟
***
ولِخُطورة الدِّماغ وُضِعَ بينه وبين الجمجمة سائلاً لِيَمْتصّ الصَّدمات ، ولِخُطورة الجمجمة رُكِّبَت على شكل مفاصِلَ ثابتَة لِتَمْتصَّ الصَّدمات ، فالجُمْجُمَة لها مفاصل ثابتة على شكل مُتَعَرِّج ، وسائل بين الدّماغ والجمجمة ، وقِشْرةٌ يزيد عدد خلاياها على أربعة عشر مليار ، بينما خلايا الدّماغ تزيدُ عن مئة وأربعين مليار خليّة اسْتِنادِيَّة لمْ تُعْرَف وظيفتها بعْدُ ، ربّما نقول: إنَّ الدِّماغ هو أعْقَدُ ما في الإنسان ، بل هو أعقَدُ ما في الكون ، وقد قيل : إنّ الدِّماغ بإمكانه أن يسْتَوْعِبَ من المعلومات بِعَدد ذرّات الكون ، وإنَّ أكْبرَ العباقرة ، وأكبر المخترعين لم يستخدم من دماغِهِ إلا الجزء اليسير ، فهذا الدِّماغ إذا عطَّلْناه ، أو أسأْنا اسْتخدامهُ ، وكان أداة معرفة الله عز وجل ، وكان أداةً توصِلُنا إلى السلامة في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، كم تكون الخسارة عظيمةً حينما نُعَطِّلُ عقولنا ، ونَنْساقُ وراء شهواتنا .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .