وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0577 - محاسبة النفس - مواد التجميل .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ارتباط كل عمل بحساب يحاسب عليه الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من عمل ذي بال ، ما من عمل خطير ، ما من عمل مهم إلا وله حساب ، حساب يضبط دخله وخرجه ، حساب يضبط ربحه وخسارته ، الأعمال الجليلة لابد لها من حساب .
 جامعة تُنشأ ، تكلف مئات الملايين ، لابد من امتحان في آخر العام..
 إنسان يُعطى ثقة كبيرة ، يُعطى إمكانات لا محدودة ، لابد من أن يُحاسب ، الأعمال الجليلة لابد من أن تنتهي إلى حساب دقيق ، حساب الدخل والخرج ، حساب الربح والخسارة ، هل من شيء أخطر في الدنيا من المخلوق الأول الإنسان ؟ الإنسان المخلوق الأول ، المخلوق المكرم ، الذي سخَّر الله له ما في السموات وما في الأرض ، قال تعالى :

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء : 70]

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾

[سورة القيامة : 36]

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾

[سورة القيامة : 3]

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 115]

 تعالى عن أن يترككم هملاً بلا حساب ، تعالى ألا يعطي كل ذي حق حقه .
 أيها الأخوة الكرام ، ما دام هناك حساب دقيق..

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[سورة الحجر : 92-93]

 كل حركة ، كل سكنة ، كل عطاء ، كل منع ، كل وصل ، كل قطع ، كل إحسان، كل إساءة ، كل استقامة ، كل انحراف ، كل إخلاص ، كل خيانة ، سوف نُحاسب عليها حساباً دقيقاً ، قال تعالى :

﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾

[سورة الإسراء : 14]

 إذاً لابد من حساب ، جاء أعرابي النبي ، قال : يا رسول الله عظني ولا تطل ، فتلا عليه قوله تعالى : " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " قال : قد كفيت، فقال عليه الصلاة والسلام : فقه الرجل أي أصبح فقيهاً.. لابد من حساب دقيق.. قال تعالى:

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[سورة القصص : 61]

 أيعقل هذا ؟.. إذا كان هذا كائناً لا محالة ، ما موقفنا ؟.. موقفنا كما قال سيدنا عمر عملاق الإسلام : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم"
 موضوع الخطبة اليوم محاسبة النفس..

 

الغفلة عن ساعة الحساب أخطر مرض يصيب الإنسان :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ لو أننا في الدنيا فرضاً نخبط خبط عشواء ، نتصرف كما يحلو لنا ، دون معاقب ، دون حسيب ، لجاز على تفريط وحمق أن نبعثر حياتنا كما يبعثر السفيه ماله ، وأن نذهل عن الماضي وما ضمّ من تجارب ، وأن نقتحم المستقبل غير متهيبين ، خطأً أو خطيئة ، لو لم يكن هناك حساب ، لو لم يكن هناك آخرة ، لو لم يكن هناك إله عادل ، لو لم يكن هناك يوم الدين ، يوم الدينونة ، لو لم يكن هناك حساب دقيق ، لو لم يكن هناك صفحة أعمال تُنشر ، لجاز أن نفعل ما نشاء ، وأن نتحرك كما نشاء ، وأن نأكل ما نشاء ، وأن نضم إلى أموالنا ما نشاء ، وأن نغتصب ما نشاء ، وأن ننغمس في ملذاتنا كيف نشاء ، هذا إذا كانت الحياة الدنيا هي كل شيء ، وتنتهي الحياة بموت الإنسان ، فكيف إذا كانت الحياة الدنيا نهاية حياة ومبدأ حياة لا تنتهي ؟ ألم يقل الإنسان عند الموت :

﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾

[سورة الفجر : 24]

 أيها الأخوة الكرام ، كيف إذا علمنا وتيقنا أن هناك حفظة يدونون مثاقيل الذرات ويعدون قوائم للحساب ؟

﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف : 49]

 كتاب الأعمال..
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الإحصاء الدقيق من قبل العلي القدير ، هذه المحاسبة المذهلة من قبل خالق الكون ، ما حقيقتها ؟

﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾

[سورة التوبة : 126]

 إن أخطر مرض يصيب الإنسان هو الغفلة عن ساعة الحساب ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾

[سورة إبراهيم : 42-43]

﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾

[سورة الزخرف : 83]

الإنسان بين خيارين صعبين :

 أيها الأخوة الكرام ، الله جلّ جلاله أنبأنا في كتابه الكريم ، والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا في حديثه الشريف أن هناك حساباً دقيقاً :

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[سورة العنكبوت : 2]

 مرةً ثانيةً :

﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾

[سورة القيامة : 36]

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 115]

 أنت بين خيارين صعبين ، إما أن تؤمن بالعبثية كما يؤمن بها معظم الناس ، افعل ما تشاء ، القوي يأكل الضعيف ، لا حساب ولا عذاب ، الدنيا هي كل شيء ، هذا مبدأ العبثية، وإما أن تؤمن بالحساب الدقيق عندئذ لابد من أن تحاسب نفسك .
 أيها الأخوة الكرام ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ))

[ الترمذي عن شداد بن أوس]

 الكيس : العاقل ، الذكي ، الألمعي ، الموفق ، المتفوق ، الفالح ، الناجح ، الرابح..
 من دان نفسه : ضبط أموره ، ضبط عمله ، ضبط بيته ، ضبط دخله ، ضبط إنفاقه ، ضبط كلامه ، ضبط جوارحه ..
 العاجز : الضعيف ، الغبي..

﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[سورة البقرة : 284]

﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾

[سورة طه : 7]

 إن أظهرت أو أخفيت ، إن أعلنت أو أسررت ، إن بينت أو كتمت ، إن فجر الإنسان أو استتر ، هناك أخطاء لابد من أن يُحاسب عليها ، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده ، وأمته معصومة بمجموعها ، ومعنى أنها معصومة بمجموعها أي أن ابن آدم خطاء لكن خير الخطائين التوابون..

 

النبي معصوم و المؤمن توّاب :

 أخوتي الكرام ، دقق في هذه الكلمة : ليس العار أن تخطئ ، ولكن العار أن تبقى مخطئاً.. ليس العار أن تجهل ، ولكن العار أن تبقى جاهلاً ، المؤمن ليس معصوماً ، لكنه محفوظ ، معنى أنه محفوظ لا يستمر على خطأ ولا يستمر على جهالة ، يصحح جهله بالعلم ، ويصحح خطأه بالتوبة ، ليس العار أن تخطئ ، العار أن تبقى مخطئاً ، ليس العار أن تجهل ، العار أن تبقى جاهلاً..
 النبي معصوم ، المؤمن محفوظ ، محفوظ بمعنى أنه لا تضره معصية لأنه يتوب منها فوراً ، المؤمن تواب ، كثير التوبة ، إن الله يحب التوابين ، ولا سيما إذا اقترف ذنباً وهو يجهل أنه ذنب ، قال تعالى :

﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة الأنعام : 54]

العقيدة أخطر شيء في الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام ، لو أن أحدنا حاسب نفسه ، درس عقيدته أصحيحة ؟ فيها زيغ ؟ فيها خطأ ؟ من أين استقاها ؟ من مصادر موثوقة ؟ على أي نص اعتمد عليها ؟ على نص صحيح قرآني على فهم صحيح لنص صحيح أم على حديث شريف صحيح أم على فهم صحيح لحديث صحيح ؟ من أين استقى عقيدته ؟ أيعقل أن نستقيها من كلام الناس ؟ أيعقل أن نستقيها من كتاب ؟ من محاضرة تُلقى وقد تخالف كلام الله ؟..
 أخطر شيء في الإنسان عقيدته ؛ لأنها إن زاغت زاغ علمه ، أخطر شيء في الإنسان معتقده ؛ لأنه إن جانب الصواب وقع في شر عمله فهذه العقيدة.. اعتقادك فيما يتعلق بالله عز وجل ، هل تؤمن أنه موجود وواحد وفعال وبيده كل شيء وأن أمرك كله راجع إليه ؟ هذه عقيدة التوحيد ، لا يُلقى بال لإيمان المؤمن ، أن له خالقاً خلقه ، هذه لا يختلف فيها اثنان، لكن الذي يختلف فيه الناس أن الله خلاق وفعال ، معظم الناس يؤمنون أنه خلاق ، أما المؤمن الصادق فيؤمن أنه خلاق وفعال ، في السماء إله وفي الأرض إله ، بيده كل شيء ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، امتحن عقيدتك ، هل أنت مؤمن بأن الله موجود وواحد وكامل ؟.. قد تقول : أنا مؤمن بذلك ، فيأتي حدث فيكشف ضعف إيمانك ، يأتي ضغط فيكشف ضعف توحيدك ، يأتي إغراء فيكشف ضعف يقينك ، قد تقول : أنا مؤمن ، ولكن الأحداث تكشف حقيقة الإيمان ، المصائب محك الرجال ، قال تعالى :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾

[سورة الحج : 11]

على كل إنسان امتحان عقيدته و فحصها :

 أيها الأخوة الكرام ، لابد من أن تمتحن عقيدتك ، عقيدة التوحيد ، هل أنت متمكن منها ؟ إذا ضعف التوحيد ضعف الإخلاص ، إذا ضعف الإخلاص ظهر النفاق ، ظهر الكذب، ظهر الرياء ، ظهر الخوف ، ظهر الخنوع ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة هود : 123]

 امتحن عقيدتك ، جدد إيمانك ، اطلب العلم ؛ لأن طلب العلم مصيري بالنسبة إليك، إن صحت عقيدتك صحّ علمك ، وإن صحّ عملك سعدت في الدنيا والآخرة.
 أيها الأخوة الكرام ؛ امتحن صلاتك ، ألك وجهة إلى الله عز وجل ؟ أيعقل أن الإله العظيم يقبل منك أن تقف ساهياً لاهياً متحركاً وقوفاً وركوعاً وسجوداً وأنت منغمس في الدنيا؟.. أهذه عبادة ؟ أهذه الصلاة التي صلاها أصحاب رسول الله ؟ أهذه الصلاة التي هي عماد الدين؟ أهذه التي من أقامها فقد أقام الدين ؟ أهذه التي من تركها فكأنما ترك الدين ؟ هذه صلاة مقبولة ؟ قال تعالى :

﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾

[سورة الماعون : 4-7]

 أيها الأخوة الكرام ، امتحن صيامك ، هل صيامك ترك لكل المعاصي والآثام أم ترك للطعام والشراب ؟ دقق ، لابد من جلسة تأمل ، لابد من وقت تحاسب فيه نفسك ، لابد من وقت تنقطع فيه عن الناس ، وعن القيل والقال ، وعن المشكلات ، وعن الحاضر ، وعن الماضي ، وعن المستقبل ، جرد نفسك من همومك اليومية ، جرد نفسك من هموم المعاش ، من هموم الزوجة والولد ، من هموم الحاضر والمستقبل ، جرد نفسك واجلس إليها متأملاً هويتك ، من أنت ؟ أنت مؤمن ؟ هل أنت تطبق ما أمرت به ؟ أين أنت من الإيمان ؟ لعل هذا الإيمان مشوب بالمعصية ، قال تعالى :

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[سورة الأنعام : 81-82]

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ في العقيدة افحص عقيدتك ، امتحن عقيدتك ، لا تجامل نفسك ، لا تمدحها فوق ما تستحق ، اتهمها ، لا تجامل نفسك في العبادات ، أترضيك هذه الصلاة ؟ إنك تقف بين يدي الله الواحد الديان ، أتعجبك هذه الصلاة ؟ أيعجبك هذا الركوع وذاك السجود ؟ امتحن صلاتك ، امتحن عقيدتك ، امتحن علاقاتك الاجتماعية ، هل في بيتك شبهة؟ هل في بيتك معصية ؟ هل خروج زوجتك وبناتك يرضي الله عز وجل ؟ هل تضبط دخلك وإنفاقك ؟ هل تضبط جوارحك ؟

 

العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها :

 محور الخطبة : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، تروي كتب الأدب أن صيادين مرا بغدير فيه سمكات ثلاث ، كيسة ، وأكيس منها، وعاجزة ، اتفق الصيادان أن يعودا ليصيدا ما في البركة من سمك- القصة رمزية - سمعت السمكات قولهما ، أما أكيسهن - أعقلهن - فإنها ارتابت وتخوفت ، وقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، ثم إنها لم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت ، وأما الكيسة - الأقل عقلاً - فلم تزل في مكانها حتى عاد الصيادان ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدَّ ، فقالت : فرطت ، وهذه عاقبة التفريط ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت ، فطفت على وجه الماء منقلبةً تارةً على بطنها وتارةً على ظهرها ، فأخذها الصياد ووضعها على الأرض بين النهر والغدير فوثبت في النهر فنجت ، وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت..
العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، هل هناك شك في أن واحداً منا لن يدخل القبر ولن يُحاسب ؟ العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، والأقل عقلاً حين وقوعها ، والأحمق والغبي بعد وقوعها.

 

العاقل من حاسب نفسه في الدنيا ليخف عليه الحساب في الآخرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لابد من محاسبة النفس ، لا تكن هامشياً ، لا تتحرك حركة عشوائية ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))

[أحمد عن عَنْ أَبِي ذَرٍّ ]

 ما معنى أتبع السيئة الحسنة ؟.. تفحص عملك ، لعل فيه سيئة أتبعها بحسنة ، هذه المحاسبة ، تفحص علمك ، تفحص دخلك ، تفحص إنفاقك ، تفحص بيتك ، لعل فيه سيئة أتبعها بحسنة ؛ لأن الله يمحو السيئة بالحسنة.
 أيها الأخوة ، سيدنا عمر هو الذي قال : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.. تزينوا للعرض الأكبر ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا."
 ويروى عن ميمون قال :" لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه ؟ ومن أين ملبسه ؟"
 أيها الأخوة الكرام ؛ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا))

[أحمد عَنْ عَائِشَةَ]

 إياك ومحقرات الأعمال.. إن الشيطان يئس أن يعبد غير الله في أرضكم ، ولكنه رضي فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، محقرات الأعمال ، الذنوب التي تراها صغيرة ، وأنت مصرّ عليها تغدو عند الله كبيرة ، وتحجب كالكبيرة ، وتهلك الإنسان هلاكاً يقينياً..

((إياكم ومحقرات الأعمال فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه))

[المعجم الأوسط عن عبد الله بن مسعود]

 أيها الأخوة الكرام ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ؛ الْإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

 حاسب نفسه ، فكر في عمله ، وضع الأرباح والخسائر ، رأى الخسائر كبيرة ، والأرباح قليلة ، فركل هذا في قدمه.. ألا يا رب ساعة شهوة أورثت حزناً طويلاً... ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين.. ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم.. ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا ، طاعمة ناعمة يوم القيامة ، ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة.. عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))

[ سنن ابن ماجه عن ثوبان ]

 يصلون العشاء في المساجد أحياناً ، لذلك من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من علمه.. ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط .

الابتعاد عن الذنوب والاستعانة بالله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :

((أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ : كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ ))

[ البخاري عن ابن عمر]

 و عن ابن عباس أَنَّهُ قَالَ :

((كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى ، فَقَالَ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))

[الترمذي عن ابن عباس]

 أيها الأخوة الكرام ؛ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يغنينا في هذا الموضوع ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا))

[ابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ]

 طفل صغير لعلك لم تحكم بالعدل بينه وبين أخيه ، ماذا فعلنا ؟ طفل صغير لا يؤبه له :

((يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا))

[ابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ]

 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ :

((دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ : هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْرًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ))

[أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ]

 مع طفل صغير ، وعالم الحديث الذي خرج من المدينة المنورة إلى البصرة ، ليحمل حديثاً من رجل ، رآه يوهم فرسه بأن في ثوبه علفاً تركه ، فالذي يكذب على فرسه ، ليس أهلاً لينقل عن رسول الله. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ))

[ أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ لابد من محاسبة النفس ، أما الغفلة ، والتساهل ، والتسويف ، والسلبية فهذه تهلك الإنسان ، من أنت ؟ أنت مخلوق أول ، سخر الله لك ما في السموات والأرض ، أنت مخلوق مكرم ، أنت مخلوق مكلف ، معك منهج سوف تُحاسب عليه.

 

محاسبة العبد على الصلاة لارتباط صلاحها بصلاحه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ فَإِنْ وُجِدَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ تَامَّةً وَإِنْ كَانَ انْتُقِصَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالَ انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ يُكَمِّلُ لَهُ مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرِيضَةٍ مِنْ تَطَوُّعِهِ ثُمَّ سَائِرُ الْأَعْمَالِ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ))

[النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 الصلاة التي أرادها الله ، صلاة الإقبال على الله ، صلاة الاتصال بالله ، صلاة النهي عن المنكر ، صلاة النهي عن الفحشاء ، صلاة القرب ، صلاة العقل ، صلاة السعادة - أرحنا بها يا بلال - التي سوف نحاسب عليها يوم القيامة ، فإن صلحت صلح سائر العمل ، وإن فسدت فسد سائر العمل.
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهم عَنْهم يَقُولُ :

((إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ]

 والله يتولى السرائر.
 أيها الأخوة الكرام ؛ ومن حديث الترمذي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ))

[الترمذي عن أبو هريرة ]

 أيها الأخوة الكرام ، العبرة من هذا الموضوع أن تتأمل عملك ، أن تتأمل دخلك ، أن تتأمل إنفاقك ، أن تتأمل جوارحك ، هل تعصي الله ؟ أن تتأمل بيتك هل فيه معصية ؟ هل يعجبك ما هم عليه أهل البيت من صلاة وصيام وضبط وحشمة ؟ يجب أن تتأمل كل شيء ، فإذا ذهلت عن هذا وغفلت عنه ربما هلك الإنسان وهو لا يشعر.
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني..

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤمن كيس فطن حذر عليه التأكد من مصدر كل شيء :

 أيها الأخوة الكرام ؛ مرةً ثانية : نشرت صحيفة تصدر في دمشق قبل أيام عدة ، أن طناً ونصف من مواد التجميل ضُبطت في الإسكندرية ، وقد هُربت من إسرائيل إلى مصر ، وأن هذه المواد التجميلية من شأنها أن تثير الهياج الجنسي عند الفتيات ، وقد ذكرت لكم من قبل أن هناك علكة مهربة أيضاً من إسرائيل إلى مصر ، وأن هذه العلكة تسبب الهياج الجنسي ، وأن خمس عشرة حالة زنا ضُبطت في مكان واحد ، من أثر هذه العلكة أو المسكة ، واليوم تنشر هذه الصحيفة أن طناً ونصف من مواد التجميل المساحيق ، والكريمات ، هذه تُهرب من إسرائيل إلى مصر ، وأنها تسبب هياجاً جنسياً عند الفتيات ، ربما سلمت الفتاة نفسها بلا ثمن.
 أيها الأخوة ، احذروا المهربات ، احذروا هذه المواد ، لا تشترِ حاجة قبل أن تعرف كيف دخلت إلى بلدنا ، لا تشتر حاجة قبل أن تتأكد من أنها استوردت استيراداً صحيحاً ؛ لأن هذه الأشياء كيد من أعداء الله لنا ، يريدون أن ندع ديننا ، أن ندع أعراضنا سائبة ، الخبر الأول نُشر قبل أسبوعين ، وذكرته لكم ، وهأنذا أذكر لكم الخبر الثاني كيف أن هناك عمليات تهريب مواد من أجل أن تحل المجتمع ، المؤمن كيس فطن حذر ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ﴾

[سورة النساء : 71]

 قبل أن تشتري حاجة دقق في مصدرها ، كيف وصلت ؟ في مضمونها ؟ ولا تنس أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان عن أسرته.
 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، قَالَ فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))

[متفق عليه عن عبد الله بن عمر]

شقاء الأبناء أحد أكبر أسباب شقاء الآباء :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لا تنسوا أن الإنسان مهما بلغ من النجاحات في الحياة الدنيا ، عدد النجاحات ، نجاحاً مالياً مليونير ، نجاحاً علمياً يحمل بورداً ، نجاحاً سلطوياً منصباً حساساً جداً ، مهما وصلت إلى قمم النجاحات ، ولم يكن أولادك كما تريد فأنت تشقى بهم ، أحد أكبر أسباب الشقاء أن ترى ابنك شقياً ، وهو بضعة منك ، قال عليه الصلاة والسلام :

((فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي))

[متفق عليه عن المسور بن مخرمة]

 لا يعرف شعور الأب إلا الذي له أبناء ، مهما بلغت قمم النجاح ، إن لم يسعد أولادك فأنت تشقى بهم ، لذلك ربوا أولادكم ، اهتموا بهم ، وجهوهم ، أحسنوا إليهم ، أكرموهم ، فإن الله سبحانه وتعالى سيسألكم عنهم ، وقد ورد في الأثر أن ابناً أو بنتاً تقف بين يدي الله يوم القيام تقول : يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي ؛ لأنه أفسدها ، وحملها على أن تنحرف ، وضيعها ، ولم يعلمها ، ولم يهذبها ، ولم يعرفها بكتاب الله ، ولا بسنة النبي ، وأقول مرةً ثانية : ليس في الإسلام حرمان ، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا ولها قناة نظيفة تتحرك عبرها ، لذلك :

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة القصص : 50]

 لو أنه فرضاً اتبع هواه وفق هدى من الله لا شيء عليه ، أراد المرأة فتزوج امرأة صالحة ، لا شيء عليه ، أراد المال فعمل بالكسب المشروع فحاز المال ، ليس في الإسلام حرمان ، الإسلام نظيف ، كل شهوة أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفة تتحرك عبرها.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور