وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0566 - الخير - آيات تتحدث عن الخير - جسم الإنسان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مفهوم الخير :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في الأرض اليوم ما يزيد عن خمسة آلاف مليون من بني البشر ، وهؤلاء الناس جميعاً يحبون الخير لأنفسهم ، يؤكد هذا قوله تعالى :

﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾

[سورة العاديات : 8]

 الإنسان حيثما ورد في القرآن الكريم معرفاً بأل فمعنى ذلك أن طبيعة الإنسان هكذا.

﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾

[سورة العاديات : 8]

 ولكن ما الخير ؟ ما تعريف الخير وأين هو الخير ؟ وما السبيل إلى الخير ؟ من الثابت أن الإنسان أحياناً يستخلص من غرائزه ، ومن شهواته مفهومات للخير ليست صحيحة ، يؤكد هذا أن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة : 216]

 بادئ ذي بدء ، لا يمكن للإنسان بعيداً عن وحي السماء ، وبعيداً عن هدى الله عز وجل أن يضع مقاييس صحيحة للخير ، الخير يجب أن يعرفه من خلال خالقه ، ومربيه ، من الذي خلقه وصوره وصنعه .
 أيها الأخوة الكرام :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة : 216]

 إذاً لا ينبغي أن نستنبط من مصالحنا القريبة ، مفهومات للخير ، الخير في التعريف الدقيق هو الذي أمرنا به ، والشر هو الذي نهينا عنه ، لأن الإنسان لا يعلم ، والله وحده يعلم . من هذه الأمثلة ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾

[سورة البقرة : 221]

 مقياس الإنسان في الزواج الجمال ، وهناك مقياس نزل من السماء :

﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾

 في تزويج الفتيات :

﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾

[سورة البقرة : 221]

 هذا مقياس السماء ، وذاك مقياس الناس ، فالمؤمن يتبع منهج الله ، يتبع وحي السماء .

 

من يتبع منهج الله عز وجل يؤثر الصلح في خصوماته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ خصومات لا حدود لها بين بني البشر ، وطاقات تهدر ، وأوقات تستنفذ من أجل الكيد ، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾

[سورة النساء : 128]

 فمن اتبع منهج الله عز وجل يؤثر الصلح في خصوماته ، لا يؤثر الكيد ، إنه تضييع للوقت ، ومحلة للأحقاد ، وإثارة للكراهية .

﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾

[سورة النساء : 128]

 ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

[سورة الأنعام : 32]

 الدار الآخرة خير ، هذا كلام خالق الكون ، كلام الذي صمم الحياة الدنيا ، وجعلها مزرعة للآخرة ، كلام الذي سماها حياة دنيا ، معنى ذلك أن هناك حياةً عليا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن الصادق ينقل كل اهتماماته إلى الآخرة ، يجعل الآخرة منتهى آماله ، محط رحاله ، أقصى رغباته . يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾

[سورة الأعراف : 26]

 الإنسان يتجمل بالثياب ، يزهو بها ، ترتاح نفسه إن كانت ثيابه جميلة وأنيقة ، ولكن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن لباس التقوى ذلك خير ، ما لباس التقوى ؟ أن تكون مستقيماً على أمر الله ، أن تكون طائعاً لله ، ثوب الطاعة هو الذي يجملك ، ثوب الطاعة هو الذي يسترك من المصائب ، ثوب الطاعة هو الذي يسعدك .

﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾

[سورة الأعراف : 26]

 ثياب الطاعة تحميك ، ثياب الطاعة تجملك ، ثياب الطاعة ترفعك ، ثياب الطاعة تعلي قدرك عند الله وعند الناس .

﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾

 موضوعات دقيقة . . في موضوع الزواج .

﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾

[سورة البقرة : 221]

 في موضوع التزويج .

﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾

[سورة البقرة : 221]

 في موضوع الخصومات :

﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾

[سورة النساء : 128]

 في موضوع الدنيا والآخرة .

﴿ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

[سورة الأنعام : 32]

 في موضوع التجمل .

﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾

[سورة الأعراف : 26]

ربط الخير بالعمل الصالح :

 أيها الأخوة الكرام ؛ العلم الحقيقي هو أن تأتي مقاييسك للخير وفق مقاييس القرآن الكريم ، إذاً أنت عالم ، فإن افترقت مقاييس الإنسان عن مقاييس القرآن فهو جاهل ، والدليل قال تعالى :

﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة التوبة : 41]

 إن كنتم تعلمون ترون بذل المال والنفس في سبيل مرضاة الله هو الخير ، فالله سبحانه وتعالى ربط الخير بالعمل الصالح ، ربط الخير ببذل المال والنفس ، ربط الخير بالعمل للدار الآخرة .
 أيها الأخوة الكرام :

﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة التوبة : 109]

 أسس بنيانه ، أي اختار عمله ، عمله المشروع يرضي الله عز وجل ، وينفع المسلمين ، وهناك آلاف الأعمال لا ترضي الله ، بل تفسد حياة المسلمين ، بل تأخذ بعض أموال المسلمين ، بل تقهر المسلمين .

﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ ﴾

[سورة التوبة : 109]

 اختار زوجة وفق المنهج الإلهي .

(( من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، من تزوجها لمالها أفقره الله ، من تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، فعليك بذات الدين تربت يداك ))

[أبو نعيم عن أنس]

 أيها الأخوة الكرام :

﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة التوبة : 109]

 بنى زواجه على شهوة عارضة ، بنى عمله على دخل كبير ولم يعبأ بمشروعية هذا العمل ، ولا بنفعه للمسلمين .

الحكمة من الشهوة أن يرقى الإنسان بها شاكراً و صابراً :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أيهما الخير أن تنطلق من طاعة الله ؟ أن تنطلق من منهج الله؟ أن تنطلق من القنوات النظيفة التي رسمها الله لك ؟ أم أن ينطلق الإنسان من هوى نفسه ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ ما الذي يفرحك ؟ ما الذي يسعدك ؟ ما الذي يرسم على شفتيك ابتسامة عريضة ؟ ما الذي يهز مشاعرك ؟ . . المؤمن :

﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[سورة يونس : 58]

 يجمعون الأموال الطائلة ، يكدسونها ، يعيشون فقراء ليموتوا أغنياء ، يضيقون على أنفسهم لينفق ورثتهم هذا المال جزافاً .

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾

،

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

.
 أيها الأخوة الكرام ؛ شهوات الإنسان أودعها الله فيه ، ليرقى بها شاكراً وصابراً ، لكن تنفيذ هذه الشهوات يحتاج إلى تبصر دقيق ، يقول الله عز وجل :

﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة هود : 86]

 هناك آلاف الطرق لكسب الأموال ، الطريق المشروع هو الذي بقي لك ، هو الخير ، مئات ألوف النساء ، زوجتك التي أحلّ الله لك الاستمتاع بها ، هي بقية الله ، بقية الله كما قال بعض علماء التفسير

﴿ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

 الشيء الذي أجازه لك الشرع هو الخير ، أما الذي نهاك عنه فهو الشر .

﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[سورة هود : 86]

عبادة الله واجبة على كل إنسان لأن الأمر كله بيده :

 أيها الأخوة الكرام : أن يشرك الإنسان بالله عز وجل ، آلهة ما أنزل الله بها من سلطان ، أن يخاف هذا ، ويخشى هذا ، ويرجو هذا ، قال تعالى :

﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾

[سورة يوسف : 39]

 إن كان أمرك كله بيد الله وحده قال تعالى :

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة هود :123]

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾

[سورة الزخرف : 84]

 إنسان موزع ، مبعثر ، مشتت ، مشرذم بين آلهة عدة ، زعمها آلهة وهي لا تملك نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، أم أن يعبد الله وحده الذي خلقه وصوره والذي شق سمعه وبصره والذي رزقه والذي إليه المصير ؟

﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾

[سورة يوسف : 39]

تلخيص الدين كله بكلمة خير :

 أيها الأخوة الكرام :

﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً ﴾

[سورة النحل : 30]

 هذا الدين كله جملة وتفصيلاً ، بكتابه ، وسنته ، وآدابه ، وسيرة نبيه عليه الصلاة والسلام ، هذا الدين كله لخصه الله جل وعلا بكلمة واحدة قال : خير :

﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾

[سورة النحل : 30]

 أي أنت لك حسنيان ، الأولى في الدنيا والثانية في الآخرة .

 

مطابقة مقاييس الخير لمقاييس القرآن الكريم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، المال والبنون محببان إلى الإنسان ، مال وفير ، وأولاد كالأزهار في البيت ، يقول الله عز وجل :

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾

[سورة الكهف : 46]

 من أوجه تفسيرات هذه الآية :

﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾

  الأعمال الصالحة التي تبقى بعد موت صاحبها ، تسعده إلى أبد الآبدين ، هذا توجيه الله سبحانه وتعالى ، إن قرأتم القرآن ينبغي أن تستنبطوا منه مقاييس للخير ، ينبغي أن تأتي مقاييسكم مطابقة لمقاييس القرآن، هذا هو الهدى ، أما أن تظن أن الخير في المال وحده ، أما أن تظن الخير في المركز الرفيع وحده ، أما أن تظن الخير أن تنغمس في الملذات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، فليس هذا هو الخير .
 أيها الأخوة الكرام :

﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾

[سورة الحج : 32]

﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾

[سورة الحج : 30]

 تعظيم الحرمات ، ذنب المنافق كالذبابة تطير أمام وجهه ، وذنب المؤمن كالجبل يجثم على صدره .

 

لكلّ واقع حكمة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ حتى لو وقع شيء لا يرضي ، حتى لو حدث أمر جلل ، مادام قد وقع فهو خير ، قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

[سورة النور : 11]

 لكل شيء حكمة ، لكل واقع حكمة ، كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وحكمة الله متعلقة بالخير المطلق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه آيات من كتاب الله . .

﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾

[سورة القصص : 26]

 لو أردت أن تتعاون مع إنسان ليكن قوياً ، خبيراً في اختصاصه ، وليكن أميناً على مالك .

﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾

[سورة القصص : 26]

 ثم يقول الله عز وجل :

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

[سورة القصص : 60]

العناية بوقت العبادة و التمسك به :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الذي يبيع ويشتري . . ما من شيء محبب إلى التاجر كأن يبيع بضاعته ، دققوا في هذه الآية :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة الجمعة : 9]

 وقت العبادة لا تؤثر عليه شيئاً ، ولو أنها صفقة رابحة ، ولو أنها صفقة تجني منها الملايين . .

﴿ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

[سورة الجمعة : 9]

 مجلس العلم ، خطبة الجمعة ، طلب العلم ، العمل الصالح ، هذه زادك إلى الآخرة، لا تؤثر عليه الدنيا ، والدنيا تأتي وهي راغمة ، وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هل تصدقون وقد قال الله عز وجل :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾

[سورة البينة : 7]

 أي خير ما برأ الله .

 

استقاء مفهومات الخير من الحكيم الخبير :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ملخص هذه الآيات أنه لا ينبغي أن تستنبط أنت مفهومات للخير من مصالحك ، ومن شهواتك ، ومن غرائزك ، ومن ميولك ، مفهومات الخير يجب أن تستقيها من كتاب الله ، مفهومات الخير يجب أن تستقيها من الخبير ، من الصانع ، من الخالق، من الذي يعلم وأنت لا تعلم ، لذلك أيها الأخوة النبي عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا دعاء الاستخارة . فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ :

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ))

[ البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ]

 دعاء الاستخارة محور الخطبة ، الخير لا تعلمه أنت يعلمه الله وحده ، لا تنس هذه الآية ، عليك أن ترددها دوماً :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة : 216]

من كان قوياً جرّ إلى الدين التعظيم و الإكبار :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لا تكن ضعيفاً ، لا تكن كسولاً ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ))

[مسلم عن أبي هريرة ]

 كن قوياً في عملك ، كن متفوقاً ، إنك إن تفوقت في عملك قدر الناس دينك ، وقدر الناس منهجك ، أما إن كنت مهملاً في عملك ، ضعيفاً فيه ، متخلفاً عن ركب المتفوقين ، جررت إلى دينك الازورار ، لأن الناس يرون مظاهر الحياة الدنيا ، فإن كنت قوياً في علمك ، قوياً في اختصاصك ، جررت إلى الدين التعظيم والإكبار .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( . . وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى . . ))

[ متفق عليه عن حكيم بن حزام]

 يقول عليه الصلاة والسلام :

(( خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ ))

[الترمذي عن عبد الله بن عمرو]

 يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه :

(( يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَكَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ))

[ مسلم عن أبي إمامة]

 ابذل الفضل ، كن خير صاحب ، كن خير جار ، لتكن يدك هي العليا ، لتكن قوياً في كل شؤون حياتك . يقول عليه الصلاة والسلام :

(( الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ . . ))

[متفق عليه عن عمر بن حصين]

 والحياء خير كله ، والحياء كله خير .

 

الانطلاق إلى الأعمال الصالحة خير من الدنيا و ما فيها :

 أيها الأخوة الكرام ؛ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ))

[ مسلم عن عائشة ]

(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))

[ سنن ابن ماجة عَنْ سَمُرَةَ ابْنِ جُنْدَبٍ ]

(( مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ كَمَنْ قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ ))

[ مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

(( . . وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ))

[متفق عليه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ]

 أن تنطلق من بيتك في سبيل الله ، في سبيل حضور مجلس علم ، في سبيل طلب علم ، في سبيل عمل صالح ، في سبيل زيارة مريض ، في سبيل إسداء نصيحة خير من الدنيا وما فيها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام لسيدنا علي كرم الله وجهه :

(( . . فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))

[ متفق عليه عن سهل بن سعد]

 ويبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الخير ديدن المؤمن ، وأنه مبتغاه ، وأنه محط آماله ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي :

(( لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةُ ))

[الترمذي عن أبي سعيد]

 لن يشبع من خير . . وقل رب زدني علماً ، وزدني عملاً صالحاً ، وزدني قرباً ، وزدني توفيقاً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ وعن أبي أُمَامَةَ قَالَ :

(( دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ بِدُعَاءٍ كَثِيرِ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ تَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ))

[الترمذي عن أبي أُمَامَةَ ]

 ادع بهذا الدعاء ، اسأل الله عز وجل من خير ما سأل به النبي عليه الصلاة والسلام .

 

أخذ الخير من كتاب الله و سنة رسوله و الانصياع له :

 أيها الأخوة الكرام ؛ آخر فقرة في موضوع الأحاديث : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ))

[متفق عليه عن عبد الرحمن بن سمرة]

 لا تجعل أيمانك التي حلفتها في ساعة غضب حجاباً بينك وبين العمل الصالح ، فلو حلفت على يمين ، ورأيت غيرها خيراً ، فائت الذي هو خير وكفِّر عن يمينك .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الإمام علي كرم الله وجهه : " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ، وأن يعظم حلمك ، وأن تباهي بعبادة ربك ، فإن أحسنت حمدت الله ، وإن أسأت استغفرت الله ، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين ، رجلٌ أذنب ذنباً فتدارك ذلك بتوبة ، أو رجل يسارع في الخيرات" .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا موضوع يمسُّ كل إنسان .

﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾

[سورة العاديات : 8]

 ولكن الخير يجب أن تأخذه من كتاب الله ، ومن حديث رسول الله ، ويجب أن تنصاع إليه ، وأن تخضع له .

 

الخير في طاعة الله وفي مجاهدة النفس والهوى :

 بقي شيء أخير في الخطبة : عن علي رضي الله عنه قال : جئت النبي صلى الله عليه وسلم فجلست إليه في المسجد ، وهو في عصابة من أصحابه - أي في جماعة من أصحابه- فاطلع علينا مصعب بن عمير ، في بردة له مرقوعة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان في من النعيم ، ذرفت عيناه فبكى ، ثم قال : كيف أنتم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في أخرى ، وسُترت بيوتكم كما تُستر الكعبة ؟ قلنا : نحن يومئذ في خير ، نكفى المؤونة ونتفرغ للعبادة ، فقال عليه الصلاة والسلام : بل أنتم اليوم في خير ، أنتم اليوم خير منكم يومئذ"
 أي إذا فُتحت عليكم أبواب الدنيا ، وانغمستم في ملذاتها ، وتوانيتم عن طاعة الله ، فالخير في طاعة الله ، والخير في مجاهدة النفس والهوى هذا مقياس النبي عليه الصلاة والسلام.
 ونظر عليه الصلاة والسلام إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه مقبلاً في ثياب خشنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه ، لقد رأيته بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ، ولقد رأيت عليه حلة شُريت بمئتي درهم ، فدعاه حب الله ، وحب رسوله إلى ما ترون . .
 أيهما خير أن يبقى في نعيم الحلل ، وفي نعيم الطعام الطيب بين أبوين كافرين ، أم أن يكون مع النبي عليه الصلاة والسلام ويُحرم من كل هذا النعيم ؟

((كان عليه الصلاة والسلام جالس بقباء ومعه نفر ، فقام مصعب بن عمير عليه بردة ما تكاد تواريه ، ونكس القوم رؤوسهم ، فجاء فسلم فردوا عليه ، فقال فيه النبي الكريم خيراً وأثنى عليه ، ثم قال : لقد رأيت هذا عن أبوين بمكة يكرمانه ، وينعمانه ، وما فتىً من فتيان قريش مثله ثم خرج من ذلك ابتغاء مرضاة الله ، ونصرة رسوله ، أما إنه لا يأتي عليكم إلا كذا وكذا حتى يفتح عليكم فارس والروم فيغدو أحدكم في حلة ويروح في حلة أخرى ويغدى عليكم بقصعة ويراح عليكم بأخرى ، قالوا : يا رسول الله! نحن اليوم خير أو ذلك اليوم ؟ قال : بل أنتم اليوم خير ، أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها))

[الحاكم في المستدرك عن الزبير]

 منكم في ذلك اليوم . . الخير في طاعة الله ، الخير في الإقبال عليه ، لا الخير أن يكثر المال ، وينغمس الإنسان في النعيم ، وينسى ربه الكريم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني . .

* * *

الخطبة الثانية :

 

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

جسم الإنسان آية من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾

[سورة ق : 16]

 في الإنسان أيها الأخوة وريد وشريان ، الشريان به دم مؤكسد يحمل الأكسجين ، والشريان ينقسم ، ويتشعب ، ويتفرع حتى يصل إلى أصغر خلية في الجسم لإمدادها بالغذاء ، والدم بحاجة ماسة ودائمة إلى الأوكسجين ، لذلك تحمل الأوردة الدم إلى القلب ، ليُضخ إلى الرئتين ليأخذ منهما الأوكسجين .
دم الوريد في رحلته من القدم إلى القلب يمشي في عكس اتجاه الجاذبية الأرضية ، فالسائل لا يصعد إلى أعلى ، لذلك لابد من أسلوب بحيث أن هذا الدم الصاعد لا ينزل ، لحكمة بالغة أرادها الله ، ولصنعة متقنة حكيمة صنعها الله ، صنع لهذه الأوردة التي تنقل الدم من القدم إلى القلب صمامات ، هي في الحقيقة جيوب ، تسمح للدم أن يصعد ولا تسمح له أن ينزل ، كيف ؟ . . جيوب على جدران الأوعية إذا صعد الدم إلى الأعلى تلتصق جدرانها بجدران الأوعية فيمر الدم ، فإذا أراد الدم أن ينزل امتلأت هذه الجيوب ، وانتفخت وتلاصقت حتى أغلقت الطريق على الدم كي لا ينزل ، فهذه الصمامات التي وضعها الله في الأوردة ما الحكمة منها ؟ الحكمة منها أن تسمح للدم من أن يسير باتجاه واحد فقط دون أن يرجع .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لو أن هذه الصمامات أصابها الخلل ، فلم تغلق الطريق على الدم لتجمع الدم في الأوردة ، ولارتفع ضغط الدم فيها ، ولخرجت الكريات الحمراء من جدران الأوردة إلى الأنسجة ، فازرقت الأرجل ، وتورمت ، وشعر صاحبها بألم شديد ، إنه مرض الدوالي التي يذكرها الناس .
أيها الأخوة الكرام :

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾

[سورة التين : 4]

 جيوب في جدران الأوردة ، تسمح للدم أن يصعد ، حينما يندفع الدم إلى الأعلى بفعل نبض القلب هذه الجيوب تلتصق جدرانها بجدران الأوعية فينطلق الدم ، فإذا أراد الدم أن يعود إلى الأسفل امتلأت هذه الجيوب ، وتضخمت ، وتلاصقت ، ثم أغلقت الطريق على الدم ، عمل الجيوب عمل في منتهى الدقة والروعة .
أيها الأخوة الكرام :

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾

[سورة التين : 4-6]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور