وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : سورة الناس - تفسير الآيات1 - 6 الاستعاذة بالله ووسوسة الشياطين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

سورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً:

 أيها الأخوة المؤمنون، سورة اليوم هي سورة الناس وهي آخر سورة في كتاب الله، وسورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً.
 وفي الدرس الماضي، في سورة الفلق تَوَجَّهَتْ الآيات إلى أنَّ الإنسان إذا خاف عَدُوّاً، وخطراً قريباً، وشَبَحَ مُصيبةٍ، وأشْرار الناس فَلْيَسْتَعِذ بِرَبِّ الفلق، والفلق هو الكون، ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّه آيات اليوم توْجيهاً آخرَ إضافَةً إلى ما تحْتَمِلُهُ أيْضاً من تَوْجيهات السورة السابقة.
 فالنبي صلى الله عليه وسلَّم والكمال الذي ظَهَر منه، وعَقْلُهُ الراجح، وحِلْمُهُ الذي لا حُدود له، وشَجاَعَتُه: أنا النبي لا كذب، أنا النبي لا كذِب، أنا ابن عبد المطَلِّب، ورأفَتُهُ، ورحْمَتُهُ، ورِفْقُهُ بالحيوان، وعطْفُهُ على الإنسان، ورجاحَةُ تفْكيره، كيف كان أباً ناجِحاً، وقائِداً ناجِحاً، وسِياسِياً مُحَنَّكاً، وأخاً كبيراً للمؤمنين، كيف جمع هذه الصِّفات من الرحمة إلى العِلْم، إلى الحِكْمة والحِلم والتواضع والفِطْنة والذكاء، إلى قُوَّة الحدْس، وإلى إشْراق النفْس، وإلى دِقَّةِ النظْر ورجاحة الرأيْ، حتى إنَّ الله سبحانه وتعالى وصَفَهُ وصْفاً ينْفرِدُ به، قال تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

 ولم يُقْسم الله سبحانه وتعالى بِعُمُرِ نَبِيٍّ إلا بعمره صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 72 ]

العِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة :

 ولم يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام إلا بِقَوْله: يا أيها النبي، ويا أيها الرسول، فَهُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد يسأل سائِل: من أين جاءَت هذه العَظَمَة؟ ومن أين جاء هذا الخُلُق العظيم؟ ومن أين جاء هذا الحِلْمُ والمروءة والرحمة والحِكمة والتواضع؟ فكان الجواب: قال تعالى:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

 أنا كذلك لأنَّني عُذْتُ بِرَبِّ الناس، فهذا الخُلُقُ العظيم وهذه النفْسُ المُشْرِقَة والعَقْلُ الراجح والصِّفات النامِيَة إنما اشْتَقَّها النبي عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه وتعالى عن طريق الاتِّصال به تعالى والعِياذِِ به، فكلمة أعوذ مُضارع ماضيها عاذَ ومصْدَرُها عِياذ وعَوْذٌ، فالعِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة.
 والآن فإنك ترى أنّ الصورة قد انْقَلَبَتْ من وصْفٍ للنبي عليه الصلاة والسلام إلى طريقٍ سالِكٍ إلى الله عز وجل، فَكُلُّ واحِدٍ يسْمعُ هذا الكلام إذا أراد الخُلُق الرفيع والمقام المحْمود عند الله، وإذا أراد أنْ تكون له سعادته الأبَدِيَّة، وأن يكون حليماً كريماً ومُتواضِعاً وجريئاً وصاحِبَ مُروءة، حكيماً وذَكِياً وفَطِناً فالطريق أنْ يتَّصِل بالله عز وجل، قال تعالى:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

 فلا تعْجبوا:

(( أدَّبني ربي فأحْسن تأديبي))

[كنز العمال عن ابن مسعود]

هُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم :

 في السورة الماضِيَة وُجِّهَت الآياتُ على أساس أنَّك إذا خِفْتَ من مخْلوق شِرير، أو إذا بدَتْ لك مُصيبة أو شبَحُ مصيبة، أو خِفْتَ مرَضاً عُضالاً أو جُرْثوماً فتاكاً وعَدُوّاً قهاراً، إذا خِفْتَ من أمْثال هؤلاء فقُلْ أعوذ بِرَبِّ الفلق، اليوم هذا الكمال العظيم، وهذا الخُلُق العظيم، الرِّفْعَة العالية، والثبات على المبْدأ، وهذه السعادة التي لا توصَف، لو بقيتُم على الحال التي أنتم فيها عندي لَصافَحَتْكُم الملائِكة، ولزارَتْكُم في بُيوتِكم، فَمَن مِنا لا تسْتَهْويهِ أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام؟ ومن منا إنْ كان صادِقاً فعليه أنْ يذْهب إلى الحرَمِ النبوي الشريف ويقف أمام حُجْرَتِهِ الشريفة ولا يبْكي؟ ما الذي جَمَعَكَ به؟ فأنت لم ترَهُ! بعد ألف وأربعمئة عام تقِفُ أمام حُجْرَتِهِ فَتَبْكي، أليس لأنَّهُ على خلُقٍ عظيم، أليْس لأنَّ رحْمته وسِعَتْ أُمَّتَهُ كُلَّها؟ أليس لأنَّهُ كان نَبِيَّ هذه الأُمَّة؟ أليس لأنَّهُ لم يقُل شيئاً بلِسانِهِ إلا طَبَّقَهُ في سُلوكِهِ؟ يكْفيهِ بعضُ المواقف! ففي رحلة العمُر التي انتهت عند الحديبية كانت الرواحل ثلاثمئة، والجُنود أكثر من ألف فما الحيلة؟! فقال عليه الصلاة والسلام وهو قائِدُ الجَيْش: لِيَتَناوَبْ كُلُّ ثلاثةٍ على راحِلَة، وأنا وعَلِيٌّ وأبو لُبابة على راحِلَة، فلما جاء دَوْرُهُ في المَشْيِ قال له صاحِباهُ: يا رسول الله اِبْقَ راكِباً، فقال عليه الصلاة والسلام - وهو نَبِيُّ هذه الأُمَّة كلماتٍ لو أعَدتُها آلاف المرات لا أشْبَعُ منها: ما أنا بأغْنى منكما عن الأجْر، ولا أنتما بِأقْوى منِّي على المَشْي! وكان النبي عليه الصلاة والسلام مع أصْحابِهِ في نُزْهَة، فقال أحدهم: عَلَيَّ ذَبْحُ الشاة، وقال الآخر: علَيَّ سَلْخُها، وقال الثالث: وعَلَيَّ طبْخُها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعَلَيَّ جمْعُ الحَطَب، فقال له أصْحابُهُ: يا رسول الله نكْفيكَ ذلك، فقال: أعلم ذلك، ولكِنَّ الله يكرهُ أنْ يرى عَبْدَهُ مُتَمَيِّزاً على أقْرانه! قال تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

 ما هذا التواضع؟! دخل مكَّةَ مُطَأطِئ الرأس تواضعاً لله عز وجل.

خلق النبي الكريم مع أزواجه وأصحابه :

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَاماً فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ – تكلم ما في نفوسهم - أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْماً وَحَظّاً ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا ))

[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

 ما هذا الموقف الحكيم؟! كيف ألَّف قلوبهم وجمعهم عليه وكيف أزال من أنفسهم الألمَ؟‍ كيف أرضاهم؟‍‍‍! كيف أكرمهم؟! ما هذا الخُلُقُ العظيم؟ وهذا شأنه مع أزواجه الطاهرات، ومع أصحابه الكِرام، وكلُّ صحابيٍّ كان يظُنُّ أنَّه أقربُ الناس إليه، عرفَ قدرَ أصحابه، يقول لأحدهم: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ويقول له إذا دخل عليه: هذا سعدُ هذا خالي أرُوني خالاً مثلَ خالي، ويقول لِأحدهم: واللَّهِ يا معاذ إنِّي لأُحبُّك، ويقول عن سيِّدنا أبي بكرٍ: لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ، ما دعوْتُ أحداً إلى الإسلام إلاَّ كانت له كَبوةٌ إلاَّ أخي أبا بكرٍ، ويقول عنه: ما طلعتْ شمسٌ بعد نبيٍّ على أفضلَ من أبي بكر، ويقول: ما ساءني قط فاحفظوا له ذلك، ويقول: تسابقْتُ أنا وأبو بكر فكُنَّا كهاتين، عرف قدرَه عليه الصلاة والسلام.

ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه ووصَفه وصفاً دقيقاً وهذا من عظمة خلقه :

 يقول عليه الصلاة والسلام: لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر، يا عمر ما سلكتَ فجّاً إلاَّ سلك الشيطانُ فجّاً غيرَ فجِّك، أمّا سيدُنا عثمان:

((عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعاً فِي بَيْتِي كَاشِفاً عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ))

[مسلم عن عَائِشَةَ ]

 سيدنا عليُّ قال فيه عليه الصلاة والسلام: أنا مَدِينةُ العلم، وعليٌّ بابُها، سيدنا أبو عبيدة قال فيه:

(( أمينُ هذه الأُمَّة))

[ متفق عليه عن أنس ]

 سيدنا خالد قال فيه:

(( نِعم عبد الله خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله))

[البخاري عن أبي هريرة]

 ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه، ووصَفه وصفاً دقيقاً، ما هذا الخلُق العظيم؟! ما هذه الصفات العالية؟! ومكانة هذه النفسُ السَّامية؟! من أين جاء بهذا كلِّه؟

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

 لأنه التجأ إلى الله عز وجل واتَّصل به واشتقَّ من كماله واقتبس من أسمائه الحسنى، قال الله تعالى:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان :

 وصْفٌ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام، وسِرٌّ لعظمة النبي عليه الصلاة والسلام وطريقٌ لأن تكون عظيماً بنوعٍ من أنواع العظمة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تحبُّ أن تكون رحيماً حقيقة؟ هناك من يتظاهر بالرحمة أمام الناس، وهو ينطوي على قلبٍ قاسٍ كالحجر، هناك من يحكم حكماً عادلاً لِيُقال عنه عادل ولو خلا إلى نفسه لم يحكم هذا الحكم، لذلك إذا أردتَ أن تكون أخلاقياًّ حقيقةً، وأخلاقك أصيلةً فلتكنْ نابعةً من الإيمان لا من الذكاء، إنَّ هذا طريقُه الاِتصالُ بالله عز وجل، قال تعالى:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾

 ربُّ الناس، و ملك الناس، وإله الناس جُمِعتْ في قوله تعالى:

﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾

[ سورة الزمر: 6 ]

 وقال تعالى:

﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾

[ سورة المزمل: 9 ]

 عندنا سؤالان: لماذا ربُّ الناس مع أنَّهُ رب العالمين؟ ولماذا ملكُ الناس مع أنَّهُ ملِكُ المُلْك كُلِه؟ ولماذاَ إله الناس مع أنَّهُ إله العالمين؟ لأنّ هذا تخْصيصَ تشْريف للإنسان، هو رب العالمين، ولكن في هذه السورة جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس، تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان.

الله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم :

 لماذا التَّكْرار؟ هو تَكْرار تَوْكيد، فما معنى ربُّ الناس؟ وما معنى ملِكُ الناس؟ وما معنى إله الناس؟
 الربُّ أيها الأخوة الأكارم هو المُربي، ولا يتَّضِحُ معنى الربوبيَّة إلا بِمَثَلٍ نضْربه: لو أنَّ مُزارِعاً زرع فسيلَةً، زرع نباتاً فَعَليه أنْ يسْقيه، وأن يُمِدَّهُ بالسماد، وإذا ظهر عليه مرضٌ فعليه أنْ يُكافِحَ هذا المرض بالمُبيدات، وعليه أنْ يعرِفَ طبْعَ النبات، أيُحِبُّ الشمْس الساطعة؟ أم الشمس المُخَفَّفَة؟ أم ظلاً ظليلاً؟ أَتَكون السُّقْيا كُلَّ يوم؟ أم في الأُسْبوع مَرَّتان أو مَرَّة؟ فَسَقيُ هذا النبات وتَقْليمُهُ، وتسْميدُهُ، ونقْلُهُ من مكانٍ لآخر، ومُكافحة أمْراضِهِ هذا نَوْعٌ من الترْبِيَة، فماذا تحْتاجُ التَّربية؟ إلى العِلْم، ما مِن مُرَبٍّ إلا وهو عليمٌ بِطَبيعَة الذي يُرَبيه، ماذا يحْتاج؟ وماذا يُصيبُهُ؟ وكيف تُكافَحُ هذه الأمْراض؟ ما طبيعة هذا النبات؟ فالله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم، وفَرْقٌ دقيق بين العِلْم والخِبْرة فقد تكون عالِماً ولَكِنَّك لا تسْتطيع أنْ تتنبَّأ بما سَيكون، وقد تصْنَعُ هذه الأداة، ولكن لا تعرِفُ أين نِقاطُ ضَعْفِها، عند الاسْتِعْمال تبْدو لك نِقاط الضَّعْف فَتُقَوِّيها، فأنت لا تمْلكُ الخِبْرة الكافِيَة، معنى الخِبْرة: الحقائِق المُسْتَمَدَّة من التجارب الطويلة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ أزَلِّي، وخِبْرَتُهُ أزَلِيَّة، فلا بدّ أن يكون ربُّ الناس عالِماً، ولا بدّ أن يكون ربُّ الناس خبيراً بِهذه النَّفْس، ولا بدَّ أن يكون قديراً وغَنِياً وحكيماً، فقد تَصُبُّ على نبْتَةٍ ماءً بقوة فَتَكْسِرُها! تقول: هي تحتاج إلى الماء! نعم تحْتاج إلى الماء ولكن إلى ماءٍ خفيف، لا بد من أنْ يكون عليماً وخبيراً وقديراً وحكيماً، ولا بدَّ أن يكون إشْرافُهُ مُسْتَمِراً، فلَوْ غاب صاحبُ هذه الفسيلة، وسافر ثمَّ عاد، قد يجِدُها ماتَتْ لِسَبَبِ غِيابِهِ عنها، فلا بد من إشْرافٍ دائِم، فالإشْرافُ الدائِم والغِنى والقدرة والحكمة والعلم والخبرة هذه بعض الأسْماء التي لا بد من توافُرِها في المُرَبي، فإذا قلت:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

 فَرَبُّ الناس هو الذي يُمِدُّهُم بِحاجاتِهم فإذا احْتَجْتَ إلى الهواء فَنِسْبَةُ الأُكْسجين إلى غاز الفَحْم نِسْبَةُ مدْروسة، فَلَو زاد هذا الغاز على حِساب ذاك الغاز لاختَلَّ التوازن في الأرض، فلو زاد الأُكْسجين لاشْتَعَل كُلُّ شيءٍ في الأرض، ولو زاد غاز الفحْم لاخْتَنَقَ كُلُّ شيء، ولكن هذه النِّسْبَة دقيقة، وكيف أنَ النبات يُعْطينا الأكسجين في النهار، ويسْتهلكُ غاز الفحم، وكيف أنَّ الإنسان يُعْطي الأُكْسجين للنبات ليلاً ويستهلكُ غاز الفحْم وكذا.

بعض نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى :

 أمَدَّنا الله تعالى بالهواء وبالماء الذي لا طعْمَ له ولا لوْنَ له ولا رائِحَة له، وهو يتبَخَّر في الدرجة الرابعة عشرة، فإذا تَجَمَّد قَلَّتْ كثافَتُه، على خِلاف عناصر الأرض كُلِّها، فلو أنَّه كعناصر الأرض إذا تَجَمَّد تقلّص وانكمش وزادَتْ كثافته لانْتَهَت الحياة على سطْح الأرض، وأعْطانا الهواء بِنِسَبٍ ثابِتَة، وأعْطانا الماء بِنِسَبٍ مِثالِيَّة، جعله عذْباً فُراتاً، وفي البحر جعله ملْحاً أُجاجاً، وَحَوَّل مياه البحْر المالِحَة إلى مياهٍ عَذْبَة عن طريق الأمْطار، ففي بعض البُلْدان العَرَبِيَّة هناك وِحْدات تحليل، كُلُّ مترٍ من الماء يُكَلِّف ثلاثة ريالات، ومع هذا لا يصْلُحُ للشرب، لأنها مِياهُ لا تُناسِبُ الإنسان، فلا بدّ من خلْطِها بِمِياه الآبار حتى يصْلُحَ للشُّرْب، أمَدَّنا بالهواء والماء والنبات، فَلَو لم يكن النبات لما عاش الإنسان، لو ألْقَيْتَ نظْرَةً على النبات لَوَجَدْتَ نباتات بِمِحاصيل، وخُضْراوات شتْوِيّة وربيعِيَّة وصيْفِيّة وخريفيَّة، والمحاصيلُ تُقْطَفُ دفْعةً واحدة وهي قِوام غِذاء الإنسان، وكذا الأشْجار قد تسْتفيد من ثمرها أو من ظِلِّها أو من جِذْعِها أو من أزْهارِها أو من أوْراقِها فهذا النبات بِشَتى أنْواعِهِ، وأمَدَّنا بالحيوان قال تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴾

[ سورة يس: 71 ]

 أَلْقِ نظْرَةً على طِفْلٍ يقود جَمَلاً، واتْلُ هذه الآية:

﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾

[ سورة يس: 72 ]

 أما العقْرب فليس مُذَلَّلاً وكذا الأفْعى، فالرجل إذا رأى عَقْرباً قفزَ من مكانه، وصرخ بأعلى صَوْتِهِ، أما الطفْل فَيُمْسِكُ جمَلاً ويقودُهُ، فهو سبحانه وتعالى أمَدَّنا بالحيوان، هناك حيوانات نأكلُ لُحومِها، وأخرى نرْكَبُها، ونَحْمِلُ عليها أثْقالنا، وتلك نسْتفيدُ من جُلودِها، وهذه تَحْرُسنا، وهناك التي تُنَظِّفُ الأوْساخ، أنواعٌ لا يعْلَمُها إلا الله، هناك أسْماكٌ نتَغَذى منها، ونسْتَمْتِعُ بِمَنْظرها، وأسْماك زينة، فهذا سمكٌ شَفاف، والآخر أسْود فاحِم، والرقيق والمُسَطَّح، وله الأجْنحة، وله ذَيْلاَن وشارِبَان، أنواعٌ لا يعْلَمُها إلا الله، لماذا خُلِقَتْ هذه؟! من أجلْ أن تستمتِعَ بها، أسْماك تأكل منها، وهذه تسْتفيد من أحْشائِها من كَبِدِها، حِيتان، أسماك صغيرة، الأطيار أنْواع منّوعة.

بعض

 نماذِج الربوبِيَّة وما يُمِدُّنا الله به من حاجات :

 

 

 ما معنى ربُّ العالمين؟ أي أمَدَّنا بِكُلِّ هذا، حياتنا فيها هواء وماء ونبات وأسماك وأطْيار، ثمَّ هناك جبال مثل الخزانات للمياه، ومِصَدات للرياح، أوتاد في الأرض، قال تعالى:

﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾

[ سورة المرسلات: 27 ]

 وكذا الوِدْيان، بيت زِراعي دون مُقابل، تجد البيت يُكَلِّف أربعين أو خمسين ألفاً! وذات بيئة مَحْمِيَّة، تزرع فيها خضراوات مُبَكِّرة، وتربحُ منها أرْباحاً طائِلَة، وكذا الغيران، والسهول، والجبال كلُّ هذه لها فائِدَة، فما معنى ربُّ العالمين؟ أمَدَّنا بِكُلِّ هذا! ثمَّ سخَّر لنا الشمس وما فيها من حرارة، فلو انْطَفَأت فجأةً لانْتَهَت الحياة على سطْح الأرض، ولأصْبَحَت الأرض كَوْكباً جليدياً حرارته مئتان وخمسون تحت الصِّفْر، أمَدَّنا بالقمر، وبالبحار المُلَطِّفَة للأجْواء، فلولا الماء على سطْح الأرض لأصْبَحَتْ حرارة المكان الذي يرى الشمْس مئتين وخمسين فوق الصِّفْر، أصبحت وإلى جانبِهِ في الظلّ مئتين وخمسين تحت الصفْر! كما هي الحال في القمر، فإذا وقف الرائد الفضائي في الشمْس كانت الحرارة مئتين وخمسين فوق الصفر، وإذا وقف تحت الظلّ كانت الحرارة مئتين وخمْسين تحت الصفر، لأنَّ الهواء والماء المُلَطِّفين للجوّ منعدمان، فالماء والهواء أجْهِزَة تكييف رائِعَة جداً للأرض، أمَدَّنا بالأنهار والبُحَيْرات، معنى الرَبّ المُمِدّ بالنعم، لكنَّ المُمِدّ يجب أن يكون عالِماً وخبيراً وحكيماً وغَنِياً وقديراً ومُشْرِفاً إشْرافاً دائِماً، وأنت تقول في الصلاة: الحمد لله ربِّ العالمين، والله الذي لا إله إلا هو لو بَقيتَ السنوات الطِّوال تتحَدَّثُ عن نماذِج الربوبِيَّة، وما يُمِدُّنا الله به من حاجات لما انتَهَتْ هذه الأيامُ والسنوات.

الجنين وخلق الإنسان من آيات الله الدالة على عظمته سبحانه :

 الجنين في بطْن أُمِّهِ من يُمِدُّه بالغذاء؟ ومن خلق له المشيمة ليأخذ الغذاء منها ويأخذ الدم عن طريقها! وفيها هرْمونات تُشْرف على الأجْهزة الداخِلِيَّة، فالمشيمة وحْدَها تكادُ تكونُ دِماغاً، ونُخاعاً شَوْكياً، وَكَبِداً، وجهاز تَصْفِيَة الدم، ورئتين، وقلباً، ومُسْتَوْدعاً للغذاء، هذه كُلُّها المشيمة، فَمَن كَوَّن هذا الجنين في بطْن أُمِّه؟ إذْ يحْتاج إلى بوتاسْيوم وكالِسْيوم، فهذا الوَحَم تعْبيرٌ عن حاجَةِ الجنين، قد يحْتاج الجنين إلى مادَّة البوتاسيوم، فَتَشْتَهي الأمُّ أكْلَةً مُعَيَّنة، لقد حار العُلماء في هذه الظاهرة، حالة المرأة الحامل عجيبةٌ جداً، تشْتهي أكْلات نادرة لا علاقة لها بالمَوْسِم، هذا الذي تشْتهيه تعْبير عن حاجة الجنين في بطْنِها، تدبير ربّ العالمين سبحانه وتعالى، فهذا الجنين لا يسْتطيع أنْ يتَكَلَّم ويقول: ينْقُصُني بوتاسْيوم! الله سبحانه وتعالى يخْلق حاجَةً في نفْس الأمِّ لِهذا الطعام، فَتَأكُلُهُ فَيَذْهَبُ إلى الجنين مُباشَرَةً، بِمُجَرَّد أن ينْزل الجنين إلى الأرض - هكذا قال الأطباء - تأتي جلْطَة فَتُغْلِقُ الثُّقْب الذي بيْن الأُذَيْنَيْن، ربنا عز وجل حِكْمَتُهُ بالغة، فما دامت الرئتان مُعَطَّلتين في بطْن الأم، والتنفُّس مُعَطَّل، كيفَ يُصَفَّى الدم؟‍ عن طريق المشيمة، فَدَوْرَةُ الدم الصغْرى من الأُذين الأيْسر إلى الأُذَيْن الأَيْمن دوْرَة مُغْلَقَة، هناك فَتْحَة بين الأُذَيْنَيْن كَشَفَها عالِمٌ اسمُهُ بوتال، ثم قالوا: هذا ثُقْب بوتال يمُرُّ بِهِ الدم من أُذَيْن إلى آخر، أما الطريق نحو الرئتين فمُغْلَق، والرئتان مُعَطَّلَتان، وبِمُجَرَّد أنْ يولد الجنين وينزل إلى الدنيا تأتي جلْطَةٌ فَتُغْلِقُ هذا الثُّقْب بين الأُذَيْنين، فَيَتَحَوَّل الدم إلى الرئَتَيْن، ويسْتنشِقُ الوليد الهواء ويتنفَّس، وهل تستطيع أنْ تصِلَ يَدُ الإنسان إلى هذا الثُّقْب وتُغْلِقَهُ بِعَمَلِيَّة، هذه العَمَلِيَّة تحْتاج إلى سبعين أو ثمانين ألف ليرة، واحْتِمال نجاحِها بالمئة ثلاثون، ترْكيب قلْب صِناعي، وربْطُ الأوْرِدَة والشرايين بالقلب الصناعي، وفَتْحُ القلب، وخياطة هذا الثقب، ثمَّ إغْلاقه، ثمَّ تمْسيدُه، فإما أنْ ينبُض أو لا ينْبض! فإذا لم ينْبض يكون الأمر: عَظَّمَ الله أجْركم، لقد مات الغُلام! يدُ من تأتي فَتُغْلِقَ هذا الثقب؟! الله عز وجل حكيم، وإذا لم يُغْلق هذا الثقب يمْشي الطِّفل مستقبلاً ثلاثة أمْتار ثمَّ يقع! لأنَّ الدم يخْتار الطريق الأيْسَر، وهذا الداء اسمه الزَّرَق، وهو نادر! وأصبح طريق الرئتين طويلاً عليه ما دام هناك ثقباً، ويموت غالِباً في الثالثة عشرة من عُمُرِه أو أكثر، لي صديق تَوَفَّت ابنته بِهذا المرض، الزَّرَق، فمن يربي هذا الجنين وهو في بطْن أُمِّه؟ وحين نزل إلى الدنيا فإذا به يجدُ حليباً مُعَيَّراً، حتى قال بعض العلماء: تعْييرٌ لِكُلِّ وَجْبَة، فلو حَلَّلْنا حليب الأمّ في كُلِّ وَجْبَة لَوَجَدْنا عيارات خاصَّة به! ساخِنٌ في الشتاء، وباردٌ في الصَّيْف، ومُعَقَّمٌ تعْقيماً كامِلاً، فيه مناعة الأم، ويُهْضَمُ في أقَلَّ من ساعة قال تعالى:

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

[ سورة البلد: 8-10 ]

 حسب تفْسير بعضِهِم.

أرْجَحُنا عقْلاً يعوذ بالله سبحانه وتعالى وكلما قلَّ عقْلُ الإنسان عاذ بغير الله :

 الله عز وجل يقول:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

 هذا الربُّ العظيم الذي أمَدَّ الإنْسان بِكُلِّ ما يحْتاج؛ بالماء والهواء والطعام والشراب، والنبات والحيوان، والشمْس والقمر، وبِالجبال والصحارى، والوِدْيان والأنْهار، وأمَدَّهُ بالبَنين، هذا الذي يسْتَحِقُ أن تعوذ به، وأن تحْتمي به، وتلْجأ إليه، وأن تسْتنصِرَهُ وتحْتمي بِحِماه لا أن تحْتمي بِحِمى إنْسان، فالإنسان ضعيفٌ لا يسْتطيعُ أنْ يَحْمِيَ نفْسَهُ، لذلك أرْجَحُنا عقْلاً يعوذ بالله سبحانه وتعالى، وكلما قلَّ عقْلُ الإنسان عاذ بغير الله، وما من مخْلوقٍ يعْتَصِمُ بي من دون خَلْقي أعْرِفُ ذلك من نِيَّتِهِ، فَتَكيدُهُ أهْلُ السماوات والأرض إلا جعلْتُ له من بين ذلك مخْرجاً، وما من مخْلوقٍ يعْتَصِمُ بِمَخْلوقٍ دوني أعْرِفُ ذلك من نِيَّتِهِ إلا جعَلْتُ الأرض هَوِياً تحت قَدَمَيْه، وقَطَّعْتُ أسْباب السماء بين يَدَيْه، عُذْ بِرَبِّ الناس، وفي الطائِف قال عليه الصلاة والسلام:

((اللهم إنِي أشْكو إليك ضَعْفَ قُوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمُني، أم إلى عَدُوٍّ ملَّكْتَهُ أمْري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي))

[ الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر ]

 فلك مع الله مواقف، فهل تسْتعيذ به إذا خِفْتَ مخْلوقاً؟ وهل تلجأُ إليه وتحْتمي بِحِماه؟ إذا أردْت أن تكون أقْوى الناس فَتَوَكَّل على الله، إذا أردْتَ أنْ تكون أكْرم الناس فاتَّقِ الله، وإذا أرَدْتَ أنْ تكون أغْنى الناس فَكُن بِما في يَدَيِ الله أوْثَقُ منك بما في يدَيْك، ربُّ الناس الذي رَباك في بَطْنِك، يدُ من امْتَدَّت فأغْلَقَتْ هذا الثُّقْب، ولولا أنَّها أغْلَقَتْ هذا الثُّقب لَكُنتَ في عِداد الموْتى وأنت صغير، قال تعالى:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾

الله عز وجل مالكٌ ومَلِكٌ :

 شيءٌ آخر، وهو أنَّ كُلَّ عُضْوٍ في جَسَدِك يحْتاج إلى مواد خاصَّة، فقد قالوا: أقْسى مادَّة على سطْح الأرْض الألْماس، لأنَّها عبارة عن فَحْمٍ صافٍ تَعَرَّضَ لِضَغْطٍ مُنْقَطِعِ النظير، وحرارة تَفُوق الخمسة آلاف درجة، حرارة عالية جداً وضغط عالٍ فصار هناك ألْماس، وبعد الألْماس تأتي ميناء الأسْنان، لِوُجود مادَّة الكلور، التي لو نَقَصَتْ لَسَقَطَتْ الأسْنان كُلَّها، فَمَن وفَّر هذه المادَّة؟ الكلور، فهو مُهِمُّ جداً، وأحْياناً يُضيفونه للماء من أجْل سلامة الأسْنان، وهذه الغُدَّة الدَرَقِيَّة تقوم بأخْطر دَوْر في الإنْسان وهو الاسْتِقْلاب، تَحَوُّل الغِذاء إلى طاقة، تجد شَخْصاً نشيطاً جداً ويأكل أكلاً جيِّداً، وقِيامُهُ رشيق، حينها تكون الغُدَّة الدَرَقِيَّة في أعلى نشاط لأنَّها تُحَوِّل الغذاء إلى طاقة، وهذا الاسْتِقْلاب يحْتاج إلى مادَّة اسْمُها اليود فالسَّمك يحْتويها وكُلُّ طعامٍ مُسْتَخْرَجٍ من البحْر فيه اليود، وكذا البِنْكِرْياس هناك مادَّة اسْمُها الأنسولين، من وَفَّرَها في غِذائِنا؟ ما معْنى الربّ؟ المُمِدُّ، الذي مَدَّ الغُدَّة الدرَقِيَّة باليود، وأمَدَّ البِنْكرياس بالأنْسولين، والأسْنان بالكلور، والعِظام بالكِلْس، والأعْصاب بالفسْفور، والدَّمَ بالحديد، شيءٌ عجيبٌ جداً، فمن أمَدّ الإنسان بِهذا الغِذاء المعْدني؟ العدس فيه الحديد، والتفاح كذلك، ومعنى الحديد أملاح الحديد وليس الحديد المُرَكَّب، فَرَبُّنا عز وجل هو الربُّ، ومعنى الربُّ هو المُمِدّ، فإذا أصابك مكْروهٌ فقُل: أعوذ بِرَبِّ الناس، ولا تقل: ابن أخي وصاحِبي! هذا نوعٌ من الشِّرْك بالله عز وجل، ثمَّ قال تعالى:

﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾

 قال بعضُ العلماء: المَلِك، هو الذي يحْكُم ولا يمْلِكُ، والمالك هو الذي يمْلِكُ ولا يحْكم، والله مالكٌ ومَلِكٌ، بعضُهم يقرأ في الفاتحة: ملِكِ يوم الدِّين، والآخر مالك يوم الدِّين، فالله مالكٌ وملِك، وبعضهم قال: الملِكُ هو الذي يمْلِكُ العُقَلاء يأمرهم وينْهاهم، والمالِكُ هو الذي يمْلِكُ الجمادات، وعلى كُلٍّ معنى ملِك بِأَوْسَعِ معانيها: الله الذي يمْلِكُ سَمْعَك وبَصَرَك وقلبك ودِماغَك، ومن يمْلِكُ عَدُوَّك؟ الله سبحانه وتعالى، فمَعْنى المالك أنّه حُرُّ التَصَرُّف في ملكه، وفي ملك الله لا يسْتطيع هذا المخْلوق أن يتَحَرَّك إلا بِأَمْر الله إنْ شاء قْبَضَ وإن شاء أطْلَقَ، إنْ شاء أمَدَّ وإنْ شاء منع عنه الإمْداد.

معنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور :

 معنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور، أحْياناً شركة تحْوي ثمانين مُوَظَّفاً، لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُوَقِّعَ لك إلا المُدير العام، إما أنْ يكتب "مُوافق "، أو " غير مُوافق"، ولله المَثَلُ الأَعْلى، فالمَلِكُ هو الذي يمْلِكُ كُلَّ شيء، أعْضاءَكَ وحواسَّك وأجْهِزَتَكَ وزَوْجَتَكَ وأعْداءَكَ وأصْحابَكَ وجيرانَكَ وخُصومَكَ ومُنافِسيك، القِوى الطبيعِيَّة كما يُسَميها بعضُ الناس، فالرِّياح من يمْلِكُها؟ الله سبحانه وتعالى، إذا أثارَها بسرعة ثمانمئة كيلو بالساعة تُدَمِّرُ كُلَّ شيء، هناك أعاصير بأَمْريكا لا تُبْقي في المدينة شيئاً، ومن يمْلِكُ الأمْطار؟ الله سبحانه وتعالى، في إفْريقْيا سَبْعُ سنوات بِلا أمْطار، وعندي صُوَرٌ تُظهر كيف تموت الحَيوانات بِعَرْض الصَّحْراء! جفافاً، كان الفُراتُ يفيضُ علينا، ويطوف ويُدَمِّر القُرى، أمّا الآن فقد أصبح كَنَهْر برَدى! فَمَنْ يمْلِكُ الماء؟ الله سبحانه وتعالى، مالكُ الماء والأمْطار والرياح، ومن يمْلِكُ دَوْرة الأرض حوْل نفْسِها؟ الله سبحانه وتعالى، ومن يمْلِكُ هذا الشيء الذي أمامك؟ الله تعالى، كلمة مالِك تعني أنَّ الأمر بِيَدِهِ، هذا مملوك والله هو المالك، فالإنسان إذا علِم أنَّ الله ملِك، فإذا نظر إلى عَيْنَيْه ووجَدَهُما كبيرتين دَعْجاوَيْن، فقال: ما أجْمَل هاتين العَيْنَيْن، فَهُوَ أحْمَق إن لم يحمد الله، لأنَّ الله هو مالك العَيْنَيْن! فإذا سَلَبَ الله منهما نورهما فَقَدَ بَصَرَهُ، فالله هو المالك لهذا السَّمْع والقُوَّة، تجد الواحد بِكامِلِ قِواه فإذا به يصاب بالشلل، فالله هو المالك للقوّة، والدعاء النبوي:

(( ومتِّعْنا اللهم بأسْماعِنا وأبْصارِنا وقُوَّتنا ما أحْيَيْتنا واجْعَلْهُ الوارِثَ منا ))

[الترمذي عن ابن عمر]

 من يمْلكُ هذا العَقْل؟ الله سبحانه وتعالى، فإذا اخْتَلَّ فأقْربُ الناس إليه يَتَوَسَّطون كيْ يُدْخَلَ مشْفى المجانين، يُصْبحون خائِفين منه، مع أنَّهُ هو الذي رَتَّبَ البيْت، ومعه شهادات عُلْيا، وأبٌ لأولاد، إلا أنَّهم لا يريدونه! صار عِبئاً على أسرته، أحدهم أخذ دكتوراه بالجيولوجيا، وجاء لِبَلَده مع زوْجَةٍ فِرَنْسِيَّة، وتَمَتَّع بِمَنْصَب رفيع جداً، وأعْطَوْهُ سيارات وبيوتاً، فإذا به يفْقِدُ بَصَرَهُ! فزارَهُ صديق وقال لي: إنه يقول: والله أتمنَّى أن أجْلس على الرصيف، وأتَكَفَّفَ الناس، وليس على ظَهْري إلا هذا الرِّداء، وليس عندي شيءٌ في الدنيا، ويَرُدُّ الله لي بصَري، من هو مالك البصر؟ قد يكون المرءُ رفيع الإيمان، فليس معْنى فقْدِ البصر أنَّ الشخْص إيمانه ضعيف! هذا بِعِلْمِ الله، فالذي يفْقِدُ بَصَرَهُ يرْقى بِفَقْدِ بَصَرِهِ إذا صبر، فالبصر نِعْمَة، وفَقْدُهُ نِعْمَة، هذا إذا تَعَمَّقْتَ في التوحيد، لأنّ كُلَّ شيءٍ بِيَدِه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ))

[البخاري عن أنس]

كلمة (مُسَيِّر) تعْني الحركة وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله :

 ثمَّ قال تعالى:

﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾

 أما الإله فهو المُسَيِّر، تحْريك الأفْلاك بِيَده تعالى، وكذا تحْريك الأرض والشمْس والقمر، وكذا حركة القُلوب، فإذا خَطَّط الإنسان قلبه، ورأى الشريط الطويل يقول الطبيب: حركة مُنتظَمَة، وحركة الأمْعاء والعَضَلات كذلك، وحركة عَدُوِّك بِيَد الله، فكلمة مُسَيِّر تعْني الحركة، وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله، قال تعالى:

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾

[ سورة الزمر: 62 ]

 هناك مجموعة آيات وأحاديث، منها حديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال:

(( كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ))

[الترمذي عن ابْنِ عَبَّاسٍ ]

(( عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي قَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْراً لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ ))

[أبو داود عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ ]

آيات قرآنية تؤكد أن المشيئة بِيَد الله :

 قال تعالى على لسان هود مخاطباً قومه:

﴿ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾

[سورة هود: 54-55 ]

 وقال تعالى:

﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 80 ]

 قال تعالى:

 

﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

 

[ سورة الأنعام: 81 ]

 وقال تعالى:

﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾

[ سورة الأنعام: 80 ]

 إنّ المشيئة بِيَد الله، فإذا شاء أنْ يكون هذا عليَّ كان، هذا الشيء المُخيف بِيَد الله، فإذا شاء الله له أنْ يصِلَ إلَيَّ فَهُوَ يصِل، فأنا أخافُ منه ولا أخافُ منه، أخاف منه إذا شاء الله له أن يُؤذِيَني، ولا أخاف منه إذا لم يشأ الله له أن يؤذِيَني، لذلك الأفْعى كما قال المُوَحِّدون: تلْدَغُ عندها لا بِها، أيْ عند إرادة الله لا بِها، فَهِيَ لا تلْدَغُ، وكذا العقْرب إلا إذا شاء الله، قال تعالى:

﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾

[ سورة الأنعام: 80 ]

كُلَّ شيءٍ في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان وهناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة :

 ثمَّ قال تعالى:

﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾

 قال بعضُ المُفَسِّرين إنَّ كُلَّ شيءٍ في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان، فالشيطان يُوَسْوِس، وبعضُهم قال: هناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة: الأوَّل كما قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾

[سورة ق: 16 ]

 أحْياناً النفْسُ المُنْقَطِعَة عن الله عز وجل أمَّارةٌ بالسُّوء مصْدر داخِلي بحْت، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الإنْس، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الجِنّ، ثلاثة مصادِر.

الدعوة لِكُلِّ شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هي مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي :

 أما ربنا عز وجل فقال:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾

[سورة الأنعام:112 ]

 هناك شياطين الإنس وشياطين الجِنّ، فَشَياطين الإنْس يقولون لك: أين وَضَعْتَ مالك؟ بِالبَيْت، غَفَرَ الله لك، ضَعْهُ في البنْك وترْبَحُ الفائِدَة! هذا شيطان، ويقول لك مثلاً: هناك حفْلَةٌ بالفُنْدُق الفُلاني، فيه مناظر بهيجَة جداً، اخْتِلاط ونِساء فهذا شيطانٌ كذلك، بل وكُلُّ إنسانٍ دعاك للمَعْصِيَة وزَيَّنها لك فَهُوَ شيطان، وهذه حقيقة، إنْ كان اخْتِلاطاً أو خمْراً أو رِباً أو سرِقَة أو أكْل مالٍ حرامٍ أو كسْباً غيرَ مشْروع، ثمَّ يقول لك: الناس كُلُّها هكذا! فهذا هو الشيطان الإنْسي، لذلك قال بعضهم: ومن شياطين الإنْس المَشاؤون بالنَّميمة، ومن شياطين الإنْس بائِعو الشَّهَوات، فإذا فَتَح دار سينما مثَلاً، أو داراً لا تُرْضي الله عز وجل، أو فتَحَ محَلاً يبيعُ فيه أشْرِطَة غير مشْروعة، فَهُوَ شيْطان إنْسي، فالدعوة لِكُلِّ شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هي مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي، والنبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن شيْطان الإنْس نهْياً قاطِعاً فقال:

(( يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن.))

[عوف بن مالك عن أبي ذر]

 هذا الذي يُقْنِعُك بالمَعْصِيَة ويُزَيِّنُها لك، ويُفَلْسِفُها لك، ويُعْطيهاَ شكْلاً مَنْطِقِياً هو شيطانُ الإنْس. هذا الوسْواس له صِفَة وهي أنَّهُ خناس، بِمُجَرَّد أنْ تقول: أعوذ بالله خَنَسَ، فَهُوَ شيطان يُوَسْوِس، لكِنَّك إذا اسْتَعَذْتَ بالله خَنَسَ، فالصِّفَة المُلازِمَة له أنَّهُ يخْنُس، قال تعالى:

﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾

الوَسْواسُ الخناس :

 الموضوع الدقيق هنا موضوع الوَسْواسُ الخناس، قال عليه الصلاة والسلام:

((الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكَر الله خَنَس وإذا غَفَل وَسْوَسَ له.))

[أخرجه البخاري تعليقًا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما]

 إذا شَعَر الإنْسان بالوَسْوَسَة معنى ذلك أنَّهُ غافِل، وإذا كان يَقِظاً معنى ذلك له السلامة، كأنْ يقول أحدهم لابنه - وقد دُعِيَ لِحَفْلة لا تُرْضي الله -: اِذْهَب ولا عليك وتَعَرَّف على الناس واخْتَبِر الحياة، وتَعَرَّف على المعْصِيَة كي تجْتَنِبَها، فهذا هو كلام الشيطان، مع أنَّ ظاهِر الكلام منْطِقي: اُدْخُل مُعْتَرَكَ الحياة وجَرِّب، ولا تَكُن غَبِياً:

((الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكَر الله خَنَس وإذا غَفَل وَسْوَسَ له.))

 شيءٌ آخر، قال تعالى:

﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾

[سورة الحشر: 16 ]

 وقال تعالى حكاية عنه:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ ل

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور