وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : سورة النصر - تفسير الآيآت 1 -3 نعي الرسول الكريم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

في هذه السورة نَعْيُ النبي عليه الصلاة والسلام :

 السورة الثانِيَة هي قوله تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾

 يُرْوى أنَّ سَيِّدنا عمر كان يُعَظِّمُ سيِّدنا ابن عباس وكان غُلاماً، عندنا أربعة عبد الله وكلهم صحابة، عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزُّبَيْر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضِيَ لله عنهم:

((وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي شَكَّ سَعِيدٌ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ))

[أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 مَرَّةً دعا عمر رضي الله عنه كُبَراء القوْم وسألهم عن هذه السورة، ويَبْدو أنَّهم لم يرْتاحوا لِتَعْظيم أمير المؤمنين لابن عباس، وهو فتىً صغير؛ يسْتشيرُهُ ويسْألُهُ في حَضْرَتِهم، فَعاتَبوهُ مَرَّةً فقال لهم: ما تقولون في هذه السورة؟ قال تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾

 فقالوا جميعاً: إنَّ الله سبحانه وتعالى يُبَشِّرُ نَبِيَّهُ بِالفَتْح والنَّصْر، فقال عمر حينها: قُل يا ابن عَباس؟ فقال: في هذه السورة نَعْيُ النبي عليه الصلاة والسلام.

النبي عليه الصلاة والسلام حينما أُنْزِلَتْ عليه هذه السورة شَعَر بِدُنُوِّ أجله :

 يُرْوى أنَّ سيَّدنا عمر بن عبد العزيز دخل عليه وَفْدٌ، وكان من الحِجاز، يتَقَدَّمُهُم غُلامٌ لا تزيدُ سِنُّه عن إحْدى عشرة سنة، فَغَضِبَ سيّدنا عمر، وعدَّ هذا إهانَةً له - طبْعاً دخل هذا الغُلام لِيَتَكَلَّم عنهم - فقال: اِجْلس أيها الغُلام، ولْيَقُم من هو أكبر منك سِناً، فَتَبَسَّمَ هذا الغُلام وقال: أصْلَحَ الله الأمير، المَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ؛ قلبِهِ ولِسانِه، فإذا وَهَبَ الله العَبْد لِساناً لافِظاً وقَلْباً حافِظاً فقد اسْتَحَقَّ الكلام، ولو أنَّ الأمْر كما تقول: لَكَان في الأُمَّة من هو أحَقُّ منك بِهذا المَجْلِس!
ويُرْوى أنَّ أحَدَ الخُلفاء الأمَوِيِّين دخل عليه وَفْدٌ من البادِيَة يَتَقَدَّمُهُ غُلام، فَغَضِبَ أيْضاً، فقال الأمير لِحاجِبِهِ: ما شاء أَحَدٌ أنْ يدْخُل عليَّ إلاّ دخل، حتَّى الصِّبْيان؟! فقال هذا الصَبِيُّ الناشئ: أصْلَحَ الله الأمير، إنَّ دُخولي عليك لم يُنْقِص من قَدْرك ولكنَّهُ شَرَّفَني، أيُّها الأمير، أصابتنا ثلاثُ سنين؛ سَنَةٌ أذابَتْ الشَّحْم، وسَنَة أَكَلَت اللَّحْم، وسنةٌ دَقَّتِ العَظْم، وفي أيْديكم أمْوال، فإنْ كانت لله فعلامَ تَحْبِسونها عن عِبادِهِ، وإنْ كانت لكم فَتَصَدَّقوا بها علينا، وإنْ كانت لنا فعلامَ تمْنَعوننا إياها، فقال هذا الخليفة - وأظنُّه هشام بن عبد الملك -: ما ترك لنا هذا الغُلام في واحِدَةٍ عُذْراً، فقوله تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾

 لقد انْتَهت مُهِمَّةُ النبي عليه الصلاة والسلام، والعظماء لا يأكلون لِيَشْبعوا مثْلنا، بل يعيشون لِرِسالَةٍ عظيمة، فإذا أدَّوْها انْتَهَتْ مُهِمَّتُهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما أُنْزِلَتْ عليه هذه السورة شَعَر بِدُنُوِّ أجله، فأسَرَّ إلى فاطِمة الزهْراء وقال لها: لقد دَنَتْ مَنِيَّتي، فَبَكَتْ، فقال لها: أنتِ أوَّلُ من يلْحَقُ بي فَضَحِكَتْ!

تَوَفى عليه الصلاة والسلام ولم يُبْقِ من الدنيا شيئاً :

 النبي الكريم هكذا فَسَّر لنا هذه السورة؛ وهو أنَّ أجَلَهُ قد دنا واقْتَرَب، وحان مَوْعِدُ اللِّقاء، لذلك:

((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنَّ عَبْداً خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَّا خُلَّةَ الْإِسْلَامِ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ ))

[البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ]

 فعَلِمَ هذا الصِدِّيق أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يَنْعى نَفْسَهُ، يَرْوي التاريخ أنَّ رجُلاً وقف وقال له: يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم! قال: أين ومتى؟ فقال: في الوَقْت الفُلاني، كَلَّفْتني أن أُعْطِيَها لِفَقير، فقال له: يا فُلان أَعْطِهِ هذه الدراهم، ثمَّ قام واحِدٌ ممنْ يسْمع هذا الكلام وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنِّي مُنافقٌ كذاب! فَوَقَفَ عُمَرُ غاضِباً، وقال: وَيْحَكَ يا رَجُل فَضَحْتَ نفْسَكَ، فقال عليه الصلاة والسلام: دعْه يا عمر، فإنَّ فُضوح الدنيا خير من فُضوح الآخرة، فاللَّهُمَّ ألْهِمْهُ الصِّدْق والرشاد، ولقد تَوَفى عليه الصلاة والسلام ولم يُبْقِ من الدنيا شيئاً، وقال له مرة وقد جاء بكل ماله: يا أبا بكر، ماذا أبْقَيْتَ لِنَفْسِك فقال: الله ورسوله - هذه أكبر ذخيرة - قال تعالى:

﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾

[سورة البقرة: 197 ]

 أما الآن فتجد المرءَ عند الوفاة ترك أموالاً منقولة وغير منقولة ودولارات وسيارات وبُيوتاً، وأين هو؟! في القَبْر.

إذا عَزَوْتَ النصْر لِغَيْر الله فأنت مُشْرك :

 (إذَا) في قوله تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾

 (إذَا) أداةُ شَرْط تُفيدُ تَحَقُّقَ الوُقوع، أيْ إنَّ نصْر الله تعالى والفتْح لا مَحَالَةَ آتٍ، أما إذا قال الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾

[سورة الحجرات: 6 ]

 فهذا مع استعمال (إنْ) قد يأتي، وربما لا يأتي، أما قوله تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾

 فلا بدّ أن يأتيَ نصْرُ الله والفَتْح، الآن قوله:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾

 إذا عَزَوْتَ النصْر لِغَيْر الله فأنت مُشْرك، قال تعالى:

﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾

[سورة الروم: 1-3 ]

 عَزْوُ النَّصْر في لحْظةٍ من لحَظات حَياتِك إلى غير الله فهذا هو الشِّرْك بعينه، فهو الذي ينْصر، وهو الذي يخْذل.

الله تعالى وَعَدنا بالاسْتِخلاف والتمْكين في الأرض والأمن شَرْطَ عِبادَتِه :

 قال تعالى:

﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾

[سورة الرعد: 11 ]

 لكن نصْرُهُ ليس جُزافاً قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾

[سورة محمد: 7 ]

 عَمَلِيَّة مَشْروطة، فإنْ نَصَرْتُموهُ بِطاعَتِكم له، نَصَرَكم النصر الحقيقي، قال تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[سورة النور: 55 ]

 الاسْتِخْلاف والتمْكينُ في الأرض، وعدمُ الخوف والشُّعور بالأمن، ثلاثة وُعودٍ قطعها الله على نفسه إنْ عَبَدْناه، فإنْ لم نَعْبُدْهُ فهُو تعالى في حِلِّ من هذه الوُعود الثلاثة، فالله تعالى وَعَدنا بالاسْتِخلاف والتمْكين في الأرض، والأمن شَرْطَ عِبادَتِه.

الإيمان بعد النَّصْر سَهْلٌ وأَجْرُهُ قليل لكنَّهُ في زَمَن العُسْرة بُطولة :

 هذا النَّصْر هو نصْرُ الله، أما قولهُ: والفتْح، الإنسان قد ينْتَصِر لِأيام ثمَّ ينْهَزِم، أما نصْرُ الله عز وجل فهُوَ مُسْتَقِرّ، فالفتْح هو اسْتِقْرار النَّصْر، فأنت قد تتقَدَّم وتفْتَحُ هذه البِلاد، وكلمة (فَتْح) تعْني فَتْح مكَّة بِكُلِّ تأكيد، لكنَّها مُطْلَقَة، قال تعالى:

﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾

[سورة الفتح: 3 ]

 أما اليهود فلا ينْتَصِرون إلا بِحَبْلٍ من الناس، فلا بدّ لهم من دَعْم ومَعونات، لكِنَّ الله سبحانه وتعالى نَصْرُهُ مُؤَزَّرٌ، وعجيب، وعزيز، لا خِذْلان بعْدهُ. قال تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾

 في الحقيقة من السَّهْل أنْ تُؤْمِن إذا عَمَّ الإسْلام الأرض، وإذا أصْبح الإسْلام قَوِياً، لكنَّ البُطولة أن تؤمن في ساعة العُسْرة، فأجْرُ الذي يُؤْمن وكُلُّ العالم ضَدَّ الإسْلام؛ هذا له أجْرٌ كبيرٌ، فَمَتى أقْبل الناسُ عليه؟ (إذا جاء نصْرُ الله والفتْح)، عندها ترى الناس يدْخُلون في دين الله أفْواجاً، لذلك بعض المذاهب الفِكْرِيَّة حينما كانت ضعيفة، فالذين اعْتَنقوها حالَ ضعفها وفي بدايتها كانت لهم مكانة كُبْرى، فإذا أصْبَحَتْ قَوِيَّة فإنَّ الذين يدْخُلون فيها لا قيمة لهم، فاعْتِناقُ المذْهب وهو في ضَعْفِهِ؛ هذا إيمانٌ كبير، لذلك هؤلاء الذين اتَّبعوا النبي عليه الصلاة والسلام في ساعة العُسْرة؛ كسيّدنا الصِدِّيق لهم مكانتهم في الإسلام، فأبو سُفْيان أسْلم ودخل الإسْلام ووقف على باب عُمَر ساعات طويلة فلم يُؤْذَن له، وبِلال وصُهَيْب يدْخُلان بلا اسْتِئذان فَعَظُمَ ذلك عنده، وعاتَبَ عمر بن الخطاب، وقال: زعيمُ قُرَيْش أبو سُفيان يقِفُ في بابك ساعاتٍ طِوالاً، وبِلال وصُهَيْب يدْخُلان بلا اسْتِئذان! فقال له كلمة واحدة: وهل أنت مثلُهما؟! هؤلاء اتَّبَعوه في ساعة العُسْرة، واضْطَهَدَهُم المُشْركون وعذَّبوهم، وكانوا يَضَعون الصَّخْرة على صدْر بِلال ويقول: أحَدٌ أحد، جاء الصِدِّيق واشْتراهُ من أُمَيَّة بن خَلَف، وقال له: والله لو دفَعْتَ به درْهما لَبِعْتُكَهُ، فقال له الصدِّيق: أما إنك لو طلبْتَ مئة ألف لَاَعْطَيْتُكَها! نَقَدَهُ الثَّمَن، ووضَعَ يدهُ تحت إبْطِهِ؛ رَمْزَ الأخوة في الدِّين، مع أن بلالاً عبدٌ حَبَشي، وسيّدنا الصِدِّيق من كُبراء قُرَيْش، ورغم هذا قال: هذا أخي في الله، فَكان الصحابة إذا ذكروا الصِدِّيق قالوا: هو سيِّدُنا وأعْتَقَ سَيّدنا، وكان سيدنا عمر يخْرج إلى ظاهر المدينة لاسْتِقْبال بلالٍ الحَبَشي إذا قدِم من سفر، لذلك فإنّ الإيمان بعد النَّصْر سَهْلٌ، وأَجْرُهُ قليل، لكنَّهُ في زَمَن العُسْرة بُطولة.

إنْ أصبح المعْروف منكراً والمنكر معْروفاً فهذا زَمَنٌ صَعْب ٌ:

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ثُمَّ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا أخواننا، قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بإخوانك؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَأخواني الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْ أُمَّتِكَ بَعْدُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَيْلٍ بُهْمٍ دُهْمٍ أَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقاً سُحقاً ))

[أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 كيفَ بكم إنْ أصبح المعْروف منكراً والمنكر معْروفاً، هذا زَمَنٌ صَعْبٌ، فلذلك قال تعالى:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾

 إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبيهاً، فلما انتهى المَجْلس قال: من الرجل؟ فقال عَدِيُّ بن حاتم - ملِكٌ من ملوك الغساسِنَة الشامِيِّين - فانْطَلق به ورَحَّب به إكْراماً له، وفي الطريق اسْتَوْقَفَتْهُ امْرأةٌ ضعيفة، فَوَقَفَ معها كثيراً يُكَلِّمُها في حاجَتِها، فقُلْت في نفْسي - القائل عديّ -: ما هذا بِأَمْر ملِك! فلما دَخَلْتُ بيْتَهُ، دَفَعَ إلَيَّ وِسادَةً من أدَمٍ مَحْشُوَّةً ليفاً، ويبْدو أنَّه ليس في بيْتِه غيرها! وقال: اجْلس عليها، فقلتُ: بل أنت، فقال: بل أنت، فَجَلَسْتُ عليها وجلس هو على الأرض فقال: إيهِ يا عَدِيَّ بن حاتم، ألمْ تكُ رُكوسِياً؟ فقال: بلى، فقال: أَوَلَمْ تسِرْ في قَوْمِك بالمِرْباع، فقال: بلى، فقال: فإنَّ ذلك لم يكُن يَحِلُّ لك في دينك! فقال عَدِيّ: حينها علِمْتُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسل يعْلمُ ما نجْهَل، ثمَّ قال لي: إيهِ يا عَدِيَّ بن حاتِم لَعَلَّهُ ما يمْنَعُك من دُخولٍ في هذا الدِّين أنَّك ترى أنَّ المُلْك والسُّلْطان في غَيْرِهم! وأيم الله، لَيوشِكَنَّ أنْ تسْمع بالمرأة البابِلِيَّة تَحُجُّ البيتَ على بعيرِها لا تخاف - من بابل إلى مَكَّة كُلُّها تُصْبح للمُسْلمين - ثمَّ قال له: ولَعَلَّهُ يمْنَعُك من دُخولٍ في هذا الدِّين ما ترى من حاجَتِهِم - أيْ فُقَراء - وَأيْمُ الله لَيُوشِكَنَّ المال أن يفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخُذَهُ، في عَهْد سيّدنا عمر جيء بالغنائِم، ووُضِعَت على الأرض، ووقف فارسان طويلان وأمْسَكا بَيَدَيْهِما رُمْحَيْهِما، ورفعا رُمْحَيْهِما ورُمْحَ أحدهما كُلُّهُ ذهبٌ وفِضَّة. سيّدنا عمر بن عبد العزيز، في عهْدِهِ جمع الزكاة، وأذاع في الناس: إنَّهُ من كان فقيراً فَلْيَتَقَدَّم لِيَأخذ حاجَتَهُ، فَلَم يتَقَدَّم أحد، ثمَّ قال: من كان مُغْرماً فَلْيَتَقَدَّم، فلم يتقدَّم أحد! فلقد مَرَّ على الأمَّة الإسلامِيَّة حينٌ من الدَّهْر اكْتفى الناس.
 ثمَّ قال لِعِديّ: ولعلّ ما يمْنعك من دُخولٍ في هذا الدِّين: ما ترى من كَثْرة عَدُوِّهم- من كُلِّ حدْب وصوب- وَأيْمُ الله، لَيُوشِكَنَّ أنْ تسْمع بالقُصور البابِلِيَّة مُفَتَّحَةً للعَرَب، فقالوا: لقد عاشَ عدِيّ بن حاتِم حتى رأى بابل مُفَتَّحَةً للمُسْلمين، وحتى رأى المرأة تَحُجُّ على بعيرها لا تخاف، وحتى رأى أنَّ المال قد فاض فيهم.

إنْ آمنتَ بالله واقْتَنَعْتَ بالإسلام وطَبَّقْتَهُ في زَمَنٍ الإسْلام فيه ضعيف فأنت البطل :

 حينما يأتي نصْر الله والفتْح فالإيمان بالله سهْلٌ جداً، ولكنَّ البُطولة أنْ تؤمن بالله والأعْداءُ كُثُر، وأن تؤمن بالله والأموال في أيديهم قليلة، وأنَّك ترى الملك والسلطان في غيرهم، إنْ آمنتَ بالله واقْتَنَعْتَ بالإسلام، وطَبَّقْتَهُ في زَمَنٍ الإسْلام فيه ضعيف، فأنت البطل:

ليس من يقْطع الطرُق بطلاً  إنما من يؤمن بالله البطل
* * *

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾

 قبل أنْ نخرج من هذه الآية:

(( روى أحمد في المسند عَنْ جَارٍ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ عَنِ افْتِرَاقِ النَّاسِ وَمَا أَحْدَثُوا فَجَعَلَ جَابِرٌ يَبْكِي ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجاً ))

[أحمد عن جابر رضي الله عنه ]

 ففي رمضان لا ترى من هو صائِم، مُعْظمُهم يأكلون، والمطاعِم مفْتوحة، كما دخلوا فيه أفْواجاً يَخْرجون منه أفْواجاً، طبْعاً المُلْهِيات والفِتَن والاختِلاط وكَسْب المال الحرام؛ هذا أمْرٌ شاع بين الناس، فإذا شاع الكَسْبُ الحرام والاخْتِلاط فماذا بقِيَ من الدِّين؟ فما هو الانْحِلال؟إنّه كَسْب مالٍ بالحرام، وانْحِلال أخْلاقي، فإذا توافر هذان الوَصْفان ماذا بَقِيَ من الدِّين؟ الصلاة لا قيمة لها، الصِّيام الشَّكْلي لا قيمة له، الحجُّ والعمرة أُفرِغا من مضمونهما، وأصبح الناس هَمُّهم الدِّرْهم والدِّينار، وهَمُّهم بطونهم، وفروجهم، وشَهواتِهم، قال تعالى:

﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور