وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة العلق - تفسير الآيات 1 - 7 ، حض الإسلام على العلم والتعلم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الآيات الأولى من هذه الآية هي أول ما أنزل الله تعالى على نبيه محمد :

 أيها الأخوة الكرام، سورة اليوم هي سورة العلق، بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ*كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى*إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى*أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى*أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى*أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى*أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى*كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ*فَلْيَدْعُ نَادِيَه*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ*كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

 كلمة اقرأ في هذه السورة لها عدة معان، تقول: قرأت الرسالة أو قرأت الكتاب بمعنى اطلعت عليه وعلمت بما جاء فيه، وتقول: قرأت في وجه فلان الغضب أي شعرت به، وتقول: لما وصلت المدينة قرأت أهلها السلام بمعنى أبلغتهم السلام، هذه المعاني الثلاث وردت تحت كلمة اقرأ، والله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآيات الأولى، أول ما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

لا بد للمؤمن من ساعة يناجي فيها ربه :

 كان عليه الصلاة والسلام تأتيه الرؤية الصادقة فهي كفلق الصبح، ثم كان يتعبد ربه في غار حراء الليالي ذات العدد ثم جاءه الوحي في غار حراء.
 ما الشيء الذي نستنبطه نحن وهو متعلق بنا من هذا الكلام؟ هل لأحد منا ساعة يخلو بها مع ربه؟ هل لأحد منا ساعة يتأمل فيها ملكوت السموات والأرض؟ هل لأحد منا ساعة ينظر فيها إلى أمر آخرته وماذا أعد لها؟ هل لأحد منا ساعة يفحص فيها عمله، أمنطبق على الشرع أم زائغ عنه؟ هل لأحد منا ساعة يفحص فيها نواياه هل هو مخلص في أعماله أم يبتغي الدنيا بأعماله؟ لا بد من ساعة تخلو بها مع ربك، ولا بد لك من ساعة تناجي فيها ربك، ولا بد من خلوة حتى تكون الخلوة، لا بد من ساعة تأمل، لا بد من تفكر في ملكوت السموات والأرض، لا بد من ساعة تنسى فيها مشاغل الدنيا ومتاعبها وهمومها وأحزانها وأتراحها وكل ما يتعلق بها وتنظر أين كنت وإلى أين المصير؟
إن كان المؤمن له مثل هذه الساعات فلهذه الساعات ما وراءها ولهذه الساعات ما بعدها ولهذه الساعات العطاء الكريم من الله سبحانه وتعالى، أما النبي عليه الصلاة والسلام فلأنه انقطع لله عز وجل وفكر في آياته وأحبه وأقبل عليه وذاب شوقاً إليه وتمنى أن تكون هداية الخلق على يديه فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه الوحي وقال اقرأ.
 الرؤية الصادقة أولاً كما قالت السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم يتحنث الليالي ذات العدد في غار حراء ثم جاءه الوحي بعد أن استوى:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 أي بلغ يا محمد هذا الذي سيتنزل عليك للخلق كافة، أنت رسول الله أنت إذا بلغت الخلق فباسمي، أنت رسولي:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 أحياناً يتكلم السفير باسم دولته إذا رفض شيئاً أو أقر شيئاً أو أثنى على شيء أو ندد بشيء فهذا ليس باسمه الشخصي إنما باسم دولته التي اعتمدته سفيراً ولله المثل الأعلى.

لأن النبي محمد ما ضلّ وما غوى كان نجماً يهدي به الله تعالى الخلق أجمعين :

 اقرأ باسم ربك أي بلغ يا محمد ما سيتنزل عليك من ربك، أنت الرسول، وأنت النبي، وأنت المرسل الذي إذا تكلمت فإنما تتكلم باسمي، لذلك ربنا عز وجل يقول:

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[سورة النجم: 1ـ4]

 ما ضل وما غوى، ما ضل بمعنى أنه ما فكر تفكيراً خاطئاً أبداً ولا توهم شيئاً غير صحيح على أنه صحيح ولا وقع في ضلالة ولا في غلطة، جانبه الفكري مسدد دائماً، وما غوى لم يرتكب خطأ في سلوكه، لم يقع في معصية ولا مخالفة ولا في عمل لا إنساني ولا في شيء صغير فيما يتعارف الناس على أنه صغير. لأنه ما ضل وما غوى كان نجماً يهدي به الخلق أجمعين، لأنه ما ضل صاحبكم وما غوى صار لا ينطق عن الهوى:

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى*ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى*وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾

[سورة النجم: 4-7]

 اقرأ أي أنت رسولي وبلغ ما سأنزله عليك للخلق كافة، وإذا أردت معنى آخر لأقرأ أي اقرأ ما في الكون من آيات، تعرف على عظمة الله من خلال الكون، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، لو أنك جلست إلى المائدة صباحاً وتأملت في صحونها صحناً صَحناً لوصلت إلى الله من دون أن تشعر. كأس الماء يحتاج إلى شمس وإلى بحار وإلى سحب وإلى منخفضات وإلى رياح وإلى أمطار وإلى ثلوج وإلى مستودعات وإلى ينابيع وإلى تخزين من جعله لك عذباً فراتاً؟

 

(اقرأ) بمعنى اطلع على ما في الكون وانظر ما فيه من عظمة الله سبحانه وتعالى :

 

 اقرأ؛ لا يأكل الإنسان كالبهيمة، إذا نظرت إلى ابنك تعلم علم اليقين أنه من نطفة لا ترى بالعين من ماء مهين تستحي به، ومع ذلك صار طفلاً يرى ويسمع ويفكر تسأله فيجيب يتعلم الرياضيات ويتعلم اللغة ويتعلم النحو والصرف، ويفرح ويغضب ويحزن، في أحشائه معدة وأمعاء وبنكرياس وكبد ومرارة وقلب ورئتين وشرايين وأوردة وعضلات وغدد صماء وجهاز عصبي وجهاز لطرح البول وهيكل عظمي وجمجمة ودماغ وخلايا عصبية هذا أمامك.
 اقرأ، انظر إلى الأشياء وانظر ما فيها من عظمة الله سبحانه وتعالى، اقرأ بمعنى اطلع على ما في الكون قال تعالى:

﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾

[ سورة ق: 6 ]

﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ*أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً*ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً ﴾

[ سورة عبس: 24ـ26 ]

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾

[ سورة الطارق: 5-8 ]

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ*وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾

[سورة يس: 71ـ73]

النبي عليه الصلاة والسلام رسول الله من أحبه فقد أحب الله ومن أكرمه فقد أكرم الله:

 الكلمة الأولى (اقرأ) بمعنى بلغ يا محمد ما سينزل عليك فأنت رسولي، والمعنى الثاني اقرأ أو تابع القراءة لأن التفكر أعظم عبادة، لا عبادة كالتفكر، الإنسان عليه أن يقف عند كل شيء:

((أمرني ربي بتسع : خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وأن أصل من قطعني وأعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً ونظري عبرة))

[رزين عن أبي هريرة]

 هذه الساعات التي نحياها ثمينة جداً لا يعلم قيمتها الإنسان إلا بعد الموت، ساعات محدودة، وأيام معدودة، وأشهر محدودة، سنوات لا تزيد ولا تنقص، فهنيئاً لمن عرف الله في هذا العمر القصير وسعد بقربه إلى أبد الآبدين، والويل لمن ضيع وقته في سفاسف الدنيا وفي ترهاتها وفي القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 هذا يؤكد أن النبي عليه الصلاة والسلام رسول الله، من أحبه فقد أحب الله، ومن أكرمه فقد أكرم الله، ومن تبع سنته فقد تبع أمر الله، ومن أرضاه فقد أرضى الله، وهذا ينطبق على خلفائه من بعده، إذا أكرم أحد أخاه فإنما يكرم ربه، فكيف إذا كرمت النبي عليه الصلاة والسلام. إذا عزرته ونصرته ووقرته واتبعت سنته وأحييتها ورفعتها بين الناس فهذه محبة وتعظيم لله عز وجل، اقرأ باسم ربك هذا معنى كلمة باسم.

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

[ سورة الأحزاب: 36]

﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾

[ سورة النساء: 65]

مقام الربوبية ومقام الألوهية :

 هذا هو الإيمان إيمان بالله وإيمان برسوله، إيمان بأن ما جاء به الرسول الكريم هو الحق من عند الله، أما كلمة (ربك) فهناك مقام الربوبية وهناك مقام الألوهية، ولا بد من أن تعرف الله خالقاً وأن تعرفه مربياً وأن تعرفه مسيراً، أما أن تعرف الله خالقاً فليس في الأرض كلها إلا أشخاص قلائل ينكرون أن هناك إله عظيم، فإنكار الوجود قليل، لكن الإيمان المطلوب لا أن تؤمن بالله فحسب بل أن تؤمن به مربياً وأن تؤمن به مسيراً، هناك مقام الخلق ومقام الربوبية ومقام الألوهية.
 فالنبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى اقرأ باسم ربك شهادة من الله عز وجل على أنه عرف ربه واتخذ الله ربه، وفرق بين عرفه رباً واتخذه رباً. عرفه رباً فالله سبحانه وتعالى بعد أن خلق الخلق أمدهم بالحياة وأمدهم بالغذاء وأمدهم بالماء وأمدهم بالهواء وأمدهم بالطعام والشراب وخلق لهم كل شيء، فالله خالق وهو رب بمعنى ممد، واختار الله عز وجل محمداً رسولاً لأنه عرف ربه، لم يقل اقرأ باسم رب العالمين بل اقرأ باسم ربك، حينما أضيفت كلمة رب إلى كاف الخطاب فهذا دليل على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد عرف الله رباً، اقرأ باسم ربك؛ وهذا سؤال لنا هل عرفنا الرب؟ هل ترى أنه بسعيك تأكل وتشرب؟ وأن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وكفى، وتركهم يأكل قويهم ضعيفهم، أم أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة هود: 123]

في تولي أمر الخلق لا يشرك الله معه أحداًً :

 قال تعالى:

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً ﴾

[ سورة الكهف: 26 ]

 هذه الآية تكفي، ما لك من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً، أي تولي أمر الخلق لا يشرك الله أحداً معه أبداً فلذلك قال الله عز وجل:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 من هو ربك الممد؟ هو الذي خلق، خلق ماذا؟ بلا مفعول به أي خلق كل شيء بدءاً من المجرات، بعضها يبعد عنا ثمانية عشر ألف مليون سنة ضوئية وبعض النجوم أكبر من شمسنا بثلاثين مليون مرة وبعض النجوم يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما.
 الذي خلق هذه المجرات التي لا يعلم عددها إلا الله تقدير أولي، مليون ملْيون مجرة ولا يعلم إلا الله كم في المجرة من نجوم وكواكب، تقدير أولي عشرة آلاف مليون نجم في كل مجرة. وهذه النجوم والكواكب متفاوتة في حجومها وفي بنيتها وفي مساراتها وفي جاذبيتها وفي وظائفها، هذا عن السماء فماذا عن الأرض؟ الأرض وما فيها من ثروات قال تعالى:

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾

[ سورة طه: 6]

 الدولة الفلانية خفضت إنتاجها من النفط من ثمانية ملايين برميل في اليوم إلى ستة ملايين برميل، ما هذه المستودعات وكم حجمها؟ يقول لك: هناك احتياطي لآخر هذا القرن، استهلاك النفط بشكل متزايد وكل بئر من هذه الآبار ينتج ملايين البراميل يومياً.

آيات دالة على عظمة الله سبحانه :

 قال تعالى:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 خلق ما في الأرض من ثروات، من معادن؛ الحديد، والنحاس، والفوسفات، والفحم الحجري أحياناً وبعض المناجم يبلغ مئتي كيلومتر:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 خلق ما تحت الثرى من معادن وثروات، من طاقة، وما على الأرض من جبال، هذه الجبال التي لا يعلم عددها إلا الله، أعلى جبل على وجه الأرض لا يزيد لو مثل على كرة قطرها متر لا يزيد واحد سنتيمتر، وأعمق نقطة في سطح البحر لو مثلت على كرة قطرها متر لا تزيد عن واحد سنتيمتر، كل هذه المرتفعات وهذه المنخفضات وهذه البحار أربعة أخماس الأرض بحر، في بعض الأماكن عمق البحر يقدر باثني عشر كيلومتراً، أنواع الأسماك تزيد على مليون نوع، بعض الأسماك تعيش في أعماق البحار، وفي قاع البحار ظلام دامس هذه الأسماك يتألق في ظهرها مصباح كهربائي ينير لها دائرة قطرها ثلاثون متراً فإذا هاجمها عدوها أطفأت النور واختفت، بعض الأسماك بشكل إناء يخرج من هذا الإناء خطوط واستطالات، هذه سمكة إذا مرت فوقها سمكة تخدرها وتفترسها وهي كإناء الزهور:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 الحوت مئة وثلاثون طناً، خمسون طناً لحماً وخمسون طناً دهناً وتسعون برميلاً زيتاً، ووجبته المعتدلة أربعة أطنان، ويرضع وليده حليباً ثلاث وجبات يومياً في كل مرة ثلاثمئة كيلو، مجموع الرضعات في اليوم ألف كيلو غرام.

الحكمة من جعل بعض الحيوانات مذللة للإنسان :

 اقرأ باسم ربك الذي خلق الحيتان وخلق الأسماك منها المتوحشة كسمك القرش، وخلق الأسماك الجميلة، أسماك زينة من أجل أن تستمتع بها يوجد أنواع لا يعرفها إلا الله، من أجمل من خلق الله هذه الأسماك؟ فإذا ذهبت إلى الحيوانات بعضها مذلل، الجمل والغنم والماعز والبقر حيوانات مجترة خلقت من أجل أن تستفيد من لحمها ووبرها وصوفها ولبنها إذاً لا بد لها من أن تأكل كثيراً، تأكل طوال النهار فإذا راقبتها في الليل تراها يخرج من بعض أجوافها لقمة كبيرة كالكرة وتراها وهي تسير من أسفل إلى أعلى تمضغها ثانيةً ثم تعيدها إلى جوف آخر، مَن قطع هذه القطعة وجعلها كالكرة أله أيد في بطنه؟كيف خرجت من جوفه إلى بطنه وكيف عادت في طريق آخر، ومن جعل الجمل مذللاً لو أن الله عز وجل ركَّب في الجمل أخلاق الوحوش من يستطيع أن يقتنيه، من جعل الغنمة تخاف ولأنها تخاف يسهل أن ترعاها وتنضم إلى القطيع وتخاف أن تبتعد عنه وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( عليكم بالجماعةِ، وإِيَّاكُم والفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ - وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية- ))

[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمر]

 القاصية البعيدة.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 الغنم والماعز والبقر والجمال هذه حيوانات نركبها ونأكل من لحمها ونشرب من لبنها ونستعمل صوفها ونستفيد من جلودها، وإذا انتقلنا إلى بعض الحيوانات الأخرى كالدجاج تأكل كل شيء وتعطيك أشهى شيء وهي لا تطير فلو طارت لطارت مع بيضها، أطعمتها أنت وباضت عند جيرانك، إذاً هناك حكمة من عدم طيرانها تطير من مكان إلى مكان بالأمتار أما أن تنتقل من بيت إلى بيت لا، ولها مكان تأوي إليه، انظر إلى النباتات المحاصيل، القمح والشعير والعدس والحمص وأنواع لا يعلمها إلا الله بعضها نعرفه وبعضها لا نعرفه، انظر إلى الخضراوات وإلى الأشجار المثمرة، أشجار الزينة، وأشجار الخشب، أشجار الفاكهة أنواع لا يعلمها إلا الله هل فكرت بالذي خلق وصمم وبرمج وخلق المواد وصنعها لك؟!!

لا بدّ للإنسان من جولات في فكره في ملكوت السموات والأرض :

 قال تعالى:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 خلق كل شيء، حينما أغفل الله عز وجل المفعول به فهذا يعني أنه خلق كل شيء، كل شيء تراه عينك من خلق الله من إبداعه، من تصميمه، هل ترى من خلق الرحمن من تفاوت، المصنع أحياناً ينتج صناعة ممتازة وصناعة تجارية، هل ترى في صنعة الله عز وجل شيئاً متقناً وشيء أقل إتقاناً قال تعالى:

﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾

[سورة الملك: 3]

﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة النمل: 88 ]

 هذا الفرخ ينمو له في رأس منقاره نتوء حاد يعينه على كسر الكلس، فإذا خرج من بيته تلاشى هذا النتوء وعاد منقاره كما هو، يد من أنتجت له هذا النتوء الحاد؟

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 لا بد للإنسان من جولات في فكره في ملكوت السموات والأرض، والله الذي لا إله إلا هو الآيات التي تدل على عظمة الله وعلى أنه خالق عظيم ومربٍ كريم ومسير حكيم لا تعد ولا تحصى.

الله عز وجل في الآية الأولى عمم الخلق ثم خصّ بالخلق الإنسان لأنه مكرم عند الله:

 الله عز وجل يقول:

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾

[ سورة الذاريات: 20]

 آيات كأس الماء آية، قطعة الجبن آية، الزيتون آية، التين آية، العنب آية، هل تستطيع أن تشد عنقود العنب شداً؟ لا تستطيع إلا أن تحركه حركة خاصة له مفصل لولا هذا المفصل لو هب النسيم شديداً أو الهواء شديداً لسقط كل ما على الكروم على الأرض ولكن الخالق الحكيم جعل لهذا العنقود ذنباً محكماً متيناً لا يفصل عن أمه إلا بحركة معاكسة تصميم من هذا؟ من جعل للبطيخ قشرة سميكة؟ ترى شاحنة تحمل الأطنان من البطيخ ومع ذلك الذي في الأسفل كما هو لا يتأثر، هناك تصميم هناك إعداد هناك لكل ظرف معين شيء يواجهه.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾

 الله عز وجل في الآية الأولى عمم الخلق ثم خص بالخلق الإنسان لأنه مكرم عند الله عز وجل قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء: 70 ]

 العلق أي قطعة من الدم متجمدة، البويضة تكون في المبيض يدخل إلى الرحم في اللقاء الزوجي ما يزيد عن مئتين وخمسين مليون حيوان منوي تنتقي البويضة أقوى هذه الحيوانات وتفتح له باباً صغيراً فإذا دخلت أقفلت الباب وردت كل الخاطبين، لقحت البيضة، تسير هذه البيضة من المبيض إلى الرحم في عشرة أيام أو ثمانية تنقسم إلى عشرة آلاف قسم ولا يزيد حجمها لو أن حجمها زاد لعلقت، ويكون الرحم قد هيأ لها فراشاً وثيراً وغذاءً غنياً فإذا علقت في جدار الرحم تسمى علقة لأنها تعلق به وتمد جذورها إليه لتمتص الغذاء ما يقيم به نموها، هذا معنى علق.

خلق الإنسان من آيات الله الدالة على عظمته سبحانه :

 قال تعالى:

﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾

 هذه الخلية التي انقسمت أين العينان فيها؟ أين الأذنان؟ أين اللسان؟ أين القلب؟ أين الرئتان؟ أين المعدة والأمعاء؟ أين الهيكل العظمي والعضلات؟ وأين الشعر؟ أين الجهاز البولي؟ أين الأصابع؟ أين الأظافر؟ علقة خلية منقسمة لو لم يكن هناك إله عظيم لنمت ونمت وصارت قطعة من اللحم متجانسة، كيف اتجهت هذه الخلايا فشكلت القلب، وهذه الخلايا شكلت الدماغ، وهذه الخلايا صارت نسيجاً عظمياً قاسياً؟ من أعطى العظام شكلها وطولها وحجمها ومن جعلها قاسية؟ كيف اتجه قسم من هذه الخلايا فصار عضلات وأمعاء ومعدة ورأساً:

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾

﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾

 قد يسأل سائل كيف أفكر في آيات الله؟ نقول له: فكر بالشيء وأصله وفكر بالشيء وعدمه وفكر بالشيء وخلاف ما هو عليه، وقد يقول هذا السائل: من أين أتيت بهذه القواعد هل هي من عندك؟ أقول لا، من الله عز وجل.

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ﴾

[سورة القصص: 71]

آيات تحضنا على التفكير بالشيء وعدمه والشيء وخلاف ما هو عليه والشيء وأصله

 فكر بالشيء وخلاف ما هو عليه، هناك ليل ونهار فكر لو أن النهار طال وصار سبعين ساعة، فكر لو أن النهار قصر صار ساعة، فكر لو أن الليل استمر كما هو في القطب ستة أشهر، أو النهار كذلك هذا الشيء وخلاف ما هو عليه باب واسع للتفكر، الله عز وجل حضنا عليه هذه قاعدة أولى.
 فكر بالعين لو أنها في مكان آخر لو أنها في الصدر أو في الظهر أو خلف الرأس، أو لو أن هناك عيناً واحدة ترى فيها أطوال الأبعاد الثنائية لا الثلاثية، فكر بالشيء وخلاف ما هو عليه، هذا باب من أبواب التفكير، فكر بالشيء وعدمه قال تعالى:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾

[سورة الملك: 30]

 تصور الشام بلا ماء ما قيمة هذه الأبنية العالية؟ من يسكنها؟ ما قيمة هذه المدينة التي تتسع لولا نبع الفيجة؟ هذا الشيء وعدمه هذا باب آخر، وهناك آيات كثيرة تحضنا على التفكير بالشيء وعدمه والشيء وخلاف ما هو عليه والشيء وأصله.

﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾

 شخصية، ذكاء، إبداع، محاكمة، ذاكرة، تصور، إحساس، انفعال، خبرات وتجارب؛ شكل قويم، خلق معد من علق، خلق الإنسان من علق، هذا الإنسان الكامل الذي يسمع ويتحرك ويبصر ويشم ويتذوق ويتكلم ويعبر عن أفكاره وانفعالاته ويستمتع ويغضب ويحزن ويضحك ويبكي ويأكل ويشرب ويتنفس، خلق الإنسان من علق هذا أصله قال تعالى:

﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى*مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾

[سورة النجم: 45ـ46]

 فإذا أردت أن تفكر في آيات الله عز وجل واخترت آية من هذه الآيات ولتكن العين مثلاً فكر في إنسان بلا بصر، لو أن الله عز وجل خلقنا بلا عينين ما قيمة الألوان؟ ما قيمة الأزهار والأطيار؟ ما قيمة الزوجة؟ ما قيمة الجمال كله بلا هاتين العينين؟

 

إذا أردت أن تفكر في آيات الله اختر آية وفكر فيها من زوايا ثلاث :

 

 فكر بالشيء وعدمه وفكر بالشيء وأصله علقة تصبح عيناً فيها قرنية من خمس طبقات وقزحية تتحرك آلياً تصغر وتكبر بحسب شدة الضوء، فيها جسم بلوري ينضغط ويتقلص بحسب بعد الشيء المنظور، وفيها عضلات هدبية، وفيها مائع زجاجي، وفيها خلط مائي بنسب مركزة، وفيها شبكية فيها مئة وثلاثون مليون نقطة دم تصبح هذه العين، وهذه العين ترى الشيء بحجمه الحقيقي ترى الجبل جبلاً، صور جبلاً بآلة تصوير تراه صغيراً أما العين ترى فيها الجبل جبلاً بحجمه الحقيقي.
 إذا أردت أن تفكر في آيات الله وجلست بعد صلاة الصبح للتفكر وهو أرقى عبادة اختر آية وفكر فيها من زوايا ثلاث؛ الشيء وعدمه كقوله تعالى:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾

[سورة الملك: 30]

 والشيء وخلاف ما هو عليه قال تعالى:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ﴾

[سورة القصص: 71]

 والشيء وأصله، قال تعالى:

﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾

ثلاثة معانٍ تجمعها كلمة (كريم) :

 هذا الإنسان العظيم خلقه من علق، كل أب له أولاد يعرف تاريخ هذا الابن، من انقطاع الدورة الشهرية عند زوجته وبعد تسعة أشهر تضع غلاماً لا يتكلم ولا يمشي ولا يفكر ليس فيه إلا منعكس المص، يمص الثدي. غلام ولد من توه وأمسكته القابلة لتغسله جاء طرف خنصرها على فمه فجعل يمصه، من علمه؟ الآن نزل، كان يأخذ الغذاء من صرته من علمه المص؟ الله عز وجل، هذه الحيوانات كلها من هداها إلى طعامها وشرابها وبناء أعشاشها؟ الله عز وجل.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾

 هذا الرب العظيم الذي خلق وهو الرب، وهو الأكرم، الكريم الشيء النادر، الشيء العزيز، والكريم الشيء المنزه عن كل نقص، والكريم المحسن، ثلاثة معان تجمعها كلمة كريم، لكن الله عز وجل يقول:

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾

 أكرم من ماذا؟ هل يعقل أن يوازن خالق بمخلوق؟ قال بعض المفسرين: اقرأ وربك الأكرم مهما تعرفت إليه فهو أكرم، مهما عرفت عن كماله فهو أكرم، مهما عرفت عن وحدانيته لا شيء مثله، لا شيء قبله ولا شيء بعده، هو القديم، هو الأبدي السرمدي، ليس كمثله شيء هذا من حيث المعنى الأول.
 أما المعنى الثاني مهما تعرفت إلى صفاته وأسمائه الحسنى فالله عز وجل أعظم من هذا وأكرم، مهما تعرفت إلى إحسانه فهو أشد إحساناً اقرأ وربك الأكرم، لذلك المؤمن يسعد بالله عز وجل لأن الله لا نهائي مهما عرفت عنه فهو أكبر من ذلك، لكن الإنسان إذا تعرف إلى شيء وأحاط بشيء مل منه.

بعض عطاءات الله تعالى للمؤمن :

 لماذا حياة المؤمن سعادة لا تنقضي لأن أهل الدنيا يتوهمون السعادة في الزواج، بعد الزواج يقضون معظم وقتهم خارج المنزل، كان يظن قبل الزواج أنه سيسعد بهذه الزوجة أيما سعادة بعد سنوات عدة ملَّ منها، وهذه سنة الله في خلقه ألفها وألفته، من ظن أن السعادة بالمال بعد أن يصبح غنياً لا يعود المال مصدر إسعاد له يصبح عبئاً عليه، أما إذا عرف الإنسان الله عز وجل فالله مطلق لا نهائي مهما تعرفت إليه فهو أعظم، وكلما ازددت قرباً ازددت سعادةً لذلك حياة المؤمن كلها شباب، المؤمن لا يشيخ. قد ينحني ظهره قد يضعف بصره قد يضعف سمعه لكنه لا يشيخ مادام مؤمناً فله نفس الشباب، هذه عظمة الإيمان تلتقي بالمؤمن بالسبعين تراه حيوياً ونشيطاً وذا همة عالية، تلتقي بأهل الدنيا في الستين تراهم انتهوا قعدوا وخلدوا إلى الراحة وتلاشى دورهم في الحياة واحتلوا هامش الحياة بعد أن كانوا في أوجها، لكن المؤمن لا يشيخ أبداً.
 رجل من كبار المؤمنين بلغ السابعة والتسعين وله همة الشباب وعزم الشباب وطموح الشباب كان مستقيم الظهر حاد البصر مرهف الأذنين وسيم الوجه سأله أحد تلاميذه: ما هذه الصحة يا سيدي؟ قال: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً. ألا تحب أن تعيش حياتك كلها في صحة ونشاط وفي مكانة اجتماعية وفي يقظة وأن يرمقك الناس بنظرة عالية، كن مع الله إن كنت معه فهو معك.

كن مع الله ترَ الله معك  واترك الكل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك من يمنعـه  ثم من يعطيك إذا ما منعك
* * *

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾

 تعرفه ويتخلى عنك، تعرفه ويجعلك بحاجة عبد لئيم، تعرفه وتخرف في خريف العمر حاش لله، من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت.
 أكثر من حادثة أن المؤمن يقبضه الله إليه قبضاً يسيراً، لا يكون على أهله ثقيلاً لكرامته على الله سبحانه وتعالى ويترك أثراً بليغاً، لو أن الله أراد تأديبه لأقعده في الفراش ثلاثين عاماً، أعرف رجلاً كان يذهب كل أسبوع إلى مدينة مجاورة ليفعل الفاحشة ثم قعد في فراشه ثلاثين عاماً حتى ملَّه أقرب الناس إليه لاقى من أهله غلظة وجفاءً وقسوةً وإهانةً ما لا يحتمل.
 من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، متعه بصحته، متعه بقوته، متعه بسمعه، متعه ببصره هذه بعض عطاءات الله للمؤمن.

 

(علم بالقلم) آية واسعة جداً :

 

 الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله، إذا أردت أن تحب نفسك فأحب الله، إذا أردت أن تحب نفسك فاستقم على أمر الله تعش حميداً وسعيداً وتنقلب إلى الله رشيداً.

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 أي بذرة من البذار التي تلقى في الأرض فتنبت فيها محفظة تعليمات، هذه التعليمات لو أخذنا الليمون مثلاً، هذه البذرة فيها محفظة، في هذه المحفظة أكثر من خمسة آلاف مليون أمر، بعض هذه الأوامر يحدد هيكل الشجرة، وبعض هذه الأوامر يحدد لون خشبها أملس أو فيه عقد كالزيتون، بعض هذه الأوامر يحدد ثخن جذعها، وبعض هذه الأوامر يحدد نوع أغصانها، وبعض هذه الأوامر يحدد شكل ورقها ولون ورقها وخطوط الورق وحجم الورق، وبعض هذه الأوامر يحدد نوع الزهر ومتى يزهر؟ وكيف يزهر قبل الورق أو بعد الورق؟ وبعض هذه الأوامر يحدد نوع الفاكهة ولونها وحجمها وتصميمها وهيكلها وعددها، خمسة آلاف مليون أمر الله عز وجل، علم بالقلم آية واسعة جداً.
 الإنسان حينما تصيب يده جمرة يزيحها سريعاً ما الذي حصل؟ هناك أعصاب حس تلقت الإحساس بالحر والحرق هذا الإحساس انتقل إلى العمود الفقري، في العمود الفقري أمر جاهز بإبعاد اليد إذا أصابها حريق، إذا أنت لست منتبهاً يدك على الطاولة وإنسان في يده دخينة ولامس رأسها طرف يدك دون أن تشعر تسحبها سريعاً، من نقل هذا الإحساس إلى حركة؟ يوجد خط مرسوم جاهز بالنخاع الشوكي يسمونه المنعكس الشرطي كل مؤثر له استجابة، قال علماء النفس: في الدماغ خطوط مرتسمة عليه إذا جاء هذا التأثير تسير السيالة العصبية في هذا الخط فتنقلب إلى أمر حركي.

الحيوان يقوم بأعمال مذهلة يعجز عنها أذكى البشر :

 لماذا ضارب الآلة الكاتبة ينظر إلى النص على الورق ويداه على مضارب الحروف دون أن ينظر إليها ماذا يحصل؟ إذا وقعت عينه على الباء هذا النظر إحساس ينتقل إلى الدماغ وفي الدماغ خط تسير به السيالة العصبية فتعطي أمراً بضغط اليد على مكان محدد من الآلة الذي علم، هذه الآية لها تفسيرات كثيرة بعض هذه التفسيرات أن الغرائز الحيوانية كلها منضوية تحت هذه الآية؛ كيف تأكل الطير؟ كيف تبني أعشاشها؟ كيف تحلق في الأجواء؟ كيف يعشش الطير في دمشق وينتقل إلى أفريقيا في الشتاء ويعود من أفريقيا إلى دمشق في حي الصالحية في الشارع الفلاني في الحارة الفلانية في البيت الفلاني في خشب السطح في الليوان؟ كيف اهتدى هذا الطائر؟ الذي علم هذا الطائر يهتدي بالشمس ليس هذا التفسير كافياً يهتدي بمعالم الأرض ليس هذا التفسير كافياً، من يعلم الطائر خط سيره يقطع ستة وثمانين ساعة طيران؟ هناك طيور تسافر سبعة عشر ألف كيلومتر من علمها خط سيرها؟ من علم سمك السلمون الذي يولد في أعالي الأنهار وينتقل من أعالي الأنهار في أمريكا إلى مصباتها إلى المحيط الأطلسي فيكبر ثم يعود ثانية إلى المحيط الأطلسي قرب أوربا إلى سواحل أمريكا فيدخل في النهر الذي جاء منه.
 لو كلفت ربان سفينة يقود سفينة من سواحل فرنسا من دون بوصلة هل يصل إلى مصب الأمازون؟ هذا فوق طاقته عمل لا يستطيع فعله، من هدى هذه السمكة إلى زاوية إبحارها بحيث تصل إلى مصب النهر الذي خرجت منه؟ الذي علم بالقلم، كيف علمها؟ كيف أودع فيها خط السير؟ لو نظرت إلى الحيوان، الإنسان عنده فكر وخبرات وتجارب ويتعلم في المدارس لكن الحيوان يقوم بأعمال مذهلة يعجز عنها أذكى البشر.
 الكلب مثلاً يملك حاسة شم تزيد مليون مرة عن حاسة شم الإنسان، وهناك كلاب تعرف أماكن الكمأ في الأرض تهدي صاحبها إلى أماكن الكمأ، من علمها؟ من علم الصقر أن ينقض على فريسته في أعالي السماء وهي في البحر؟ كيف يراها؟

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

الله عالم يحب كل عالم :

 المعنى الآخر أن هذه اللغة نعمة كبرى، اللغة وكتاباتها وقراءتها وانتقال الكتب من جيل إلى جيل هو سبب في نقل المعارف هذه نعمة كبرى، هذا كتاب الله بين أيدينا لولا الكتابة لما وصل إلينا، طبعاً هو متواتر تواتراً شفهياً، الكتب، الحقائق، تاريخ البشر، المؤلفات والعلوم، والثقافات، والمعارف، هذه كلها مدونة في الكتب، من علم الإنسان اللغة؟ من علمه النطق؟ من علمه الكتابة؟ ما النص المقروء؟ ما النص المسموع؟ كيف يفهم النص وكيف يعبر عن أفكاره؟

﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 نعمة اللغة ونعمة نطقها ونعمة كتابتها ونعمة قراءتها ونعمة نقل المعارف من جيل إلى جيل هذه بالمعنى الضيق، بالمعنى الواسع:

﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 علم بالقلم كل مخلوق، هذا النبات كيف ينمو؟ والبذرة كيف تنمو؟ من أعطاها هذه الأوامر؟ هذه البذرة لون ثمرتها صفراء وهذه لون الثمر أحمر وهذا أخضر وهذا كبير وهذا صغير وهذا حلو وهذا مر وهذا ينبت متأخراً وهذا ينبت تباعاً وهذا سريع العطب وهذا يتحمل التخزين، من علم النبات هذا؟ من علم الحيوان الذي يخرج من بطن أمه ليرعى الحشائش من علمه ذلك؟

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾

 لذلك إن الله عالم يحب كل عالم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

 هذا الإنسان الذي كان من علق ثم صار إنساناً سوياً هو نفسه خلق ليسعد، خلق ليسمو، خلق ليرقى، لكن بعض البشر يطغى يتجاوز الحد الذي رسم له، كلا إياك أيها الإنسان أن تفعل هذا الفعل:

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

 الطغيان واسع، يطغى الإنسان على حقوق جاره وعلى حقوق زوجته وعلى حقوق شريكه وعلى حقوق أبنائه وعلى حقوق أصدقائه وعلى حقوق أبويه قد يطغى على الحقوق كلها. الطغيان تجاوز الحد المعقول إلى حد آخر مرفوض.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور