الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الله سبحانه وتعالى علَّم كل الخلائق بدءاً من الخلية:
أيها الإخوة الكرام: وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3)ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4)عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5)﴾
فالله سبحانه وتعالى علم، مَن علم؟ كل الخلائق بدءاً من الخلية، في كل خلية في نواتها محفظة فيها تعليمات تربو على خمسة آلاف مليون أمر، من علّم هذه الخلية أن تنقسم بهذه الطريقة؟ مروراً بالجراثيم؛ لها طباع، لها مضادات، ولها طرائق بالتكاثر، والفيروسات كما يسميها العلماء، الفيروسات جراثيم الجراثيم، أي حجم الفيروس بالنسبة إلى الجرثوم كحجم الجرثوم بالنسبة إلى الإنسان، كيف عرف العلماء أن هذه الفيروسات كائنات حية؟ مِن تكاثرها فقط، فالذي علّم علَّم كل كائن كيف يهتدي إلى حاجته، الأسماك التي تولد في أعالي النيل كيف ترحل إلى بحر الشمال؟ تنتقل من منابع النيل عبر بعض البلدان الإفريقية إلى السودان ومصر ثم تخرج إلى البحر المتوسط، وتتجه نحو الغرب إلى أن تعبر مضيق جبل طارق، وتتجه نحو الشمال محاذية لسواحل إسبانية، تعبر بحر المانش، ثم تنتقل إلى بحر الشمال، ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ علمها كيف تنتقل لهذه المسافات الطويلة.
مَن هدى الطائر في طيرانه؟ الله سبحانه وتعالى، مَن علّم النبات أنه إذا انقطع عنه الماء عليه أن يستهلك ماء الأوراق أولاً، ثم ماء الأغصان ثانياً، ثم ماء أغصانه الكبيرة ثالثاً، ثم ماء الجذع رابعاً، ولا يستهلك ماء الجذر إلا في آخر المطاف، لو أن الأمر بالمنطق لوجب أن يستهلك ماء الجذر أولاً لأنه أقرب أنواع الماء إليه، مَن علّم النبات أن يستهلك ماء الأوراق أولاً حفاظاً على ماء الجذر، الأمل الوحيد في إعادة الحياة مرةً ثانية.
آيات كثيرة دالة على عظمة الله سبحانه :
الذي علّم كل خلية، كل كائن؛ الفيروسات والجراثيم وحيوانات وحيدة الخلية، الفقاريات، الرخويات، الثدييات، وكل أنواع الحيوانات، وكل أنواع النباتات.
هذه النحلة مَن علّمها صنع هذه المسدسات مِن الشمع مَن؟ وكأنها رُسِمت بأدوات هندسية، مَن علّم النحلة أن ترقص رقصةً تشعر صويحباتها أن الزهر على مسافات بعيدة، ولها حركة أخرى تشعرها أن الزهر على مسافات قريبة، مَن علّمها أن تُهوّي الخلية، من علم بعض العاملات أن يكنّ حارسات على الأبواب، من أعطى نحلات هذه الخلية كلمة السر، لا تدخل نحلة إلى وكرها إذا لم تكن من هذه الخلية، ولا تدخل نحلة إلا إلى خليتها، وإن لم تكن من هذه الخلية لا يُسمح لها بالدخول، من علم النحلات ذلك؟ من علم النحلات أن هناك عاملات لهنّ مهمات خاصة، منهن الوصيفات، ومنهن ناقلات العسل، ومنهن الحارسات، منهن المنظفات، منهن معدات الطعام للملكة، من علمهن ذلك؟
﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ﴾ من علم النملة إذا أرادت أن تختزن القمح أن تأكل الرشيم لئلا ينبت القمح في مخزنها، وهناك بعض الحبوب فيها رُشَيمان والنملة تأكل هذين الرشيمين معاً؟ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾
في الكبد خمسة آلاف وظيفة من علم هذه الخلية غير العاقلة أن تقوم بكل هذه الوظائف، الكبد يفرز مادة من أجل تجلّط الدم، ومادة أخرى هرمونية من أجل تمييع الدم، وإفراز هاتين المادتين بشكل دقيق جداً بحيث يبقى الدم بين التميّع والتجلّط، فلو نقص بعض الهرمونات التي يفرزها الكبد لأصبح الدم في الشرايين كالوحل تماماً، ولو نقص الهرمون الآخر لصار الدم بالشرايين مائعاً كالماء تماماً يسيل كله من جرح بسيط، من أعطى هذه الوظائف للكبد؟ من علمه أن يقوم بها؟ من علمه أن يفحص السّمّيّات؟ إما أن يقيدها، وإما أن يُحِلّها وإما أن يرسلها إلى خارج الجسم عن طريق الكلية، من علمه ذلك؟ ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ .
القلم رمز الكتابة والكتابة رمز الثبات:
الأرض مَن علّمها وهي في سيرها حول الشمس إذا اقتربت من القطر الأصغر للمسار البيضوي أن تزيد من سرعتها؟ الله سبحانه وتعالى علمها، لا شك أن الجمادات كائنات غير عاقلة، فإذا بدا لك تصرف عاقل من جماد فلا بد أن يكون وراء هذا الجماد عقلاً كبيراً، أي إن كنت في مكان مرتفع ورأيت سيارةً تقف عند الإشارة الحمراء، وتطلق بوقها للطفل الذي يعبر أمامها، وتنحرف عن الحفرة، وأنت في مكان مرتفع، تحكم بأنه لا بد لهذه السيارة من سائق عاقل، هذا حديد يقوم بعمل عاقل؛ حينما مرّ الطفل أطلقت بوقها، حينما وصلت لحفرة حادت عنها، حينما أشارت الإشارة الحمراء للوقوف توقفت، حينما تألق الضوء الأخضر عبرت، ماذا يُستنبَط من ذلك؟ هذا حديد، الحديد لا يدرك إذاً لا بد من رجل سائق، ماهر، عاقل، يسيِّر هذه السيارة، هذه الفكرة التي أُلِحّ عليها، إن رأيت تصرفاً حكيماً عاقلاً من نبات، من حيوان أعجم، ما تفسير ذلك؟ لا بد من إله علمه، وتعليم الله عز وجل مطلق، فلا هذا الدرس ولا مئة درس آخر يتسع لشرح هذه الآية ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ علّم كل الكائنات، علّم المجرات والكواكب والأرض والشمس والقمر، وعلّم جميع الكائنات؛ الأسماك والأطيار، الإنسان، الحيوان، الأجهزة في باطن الإنسان من علّمها أن تقوم بتصرفات ذكية؟
﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ﴾ في الدرس الماضي لم أقف عند كلمة ﴿عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ﴾ القلم رمز الكتابة، والكتابة رمز الثبات، فهذه البذرة إذا وضعتها في التربة تنبت أصلها، هذا الثبات في القوانين، هذا الثبات توهمه بعض العلماء أن هذه البذرة مبرمجة، لا، الله سبحانه وتعالى علمها ولكن تعليمه بالقلم، تعليمه ثابت، لا يعقل أن تزرع بذرة هذا النبات إلا وينبت أصله، هذا الثبات في الخلق توهّمه الناس غرائز، وتوهمه الناس في النباتات برمجة، بذرة فيها تعليمات، لكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلّم، ولكن تعليمه أخذ وضعاً ثابتاً مستمراً، وهذا الوضع الثابت المستمر كأنه كتابة، لذلك الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54)﴾
حيثما وردت كلمة (كتب) في القرآن الكريم تعني الثبات، تعني أن هذا قانون لا يُمحَى ولا يُعدّل ولا يُبدّل.
الثبات في الخصائص والاستمرار بها هذا ما تعنيه كلمة (بالقلم):
قال تعالى:
﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِىٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ(21)﴾
بمعنى الثبات قانون دائم، فلذلك الله سبحانه وتعالى قال: ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ هذا التعليم رمز الثبات، أنت مطمئن، أعطى الحديد هذه القوة، وهذه القوة مستمرة فيه، حيثما وجدت الحديد في سطح الأرض فهو صُلب، ثبات الأشياء واستمراريتها، كل أنواع الحديد في الأرض لها ميزات واحدة، كل أنواع الفولاذ لها ميزات واحدة، كل أنواع النحاس لها ميزات ثابتة، وكل أنواع الذهب لها ميزات ثابتة.
فكلمة بالقلم أي كل كائن حي بدءاً من أصغر خلية، والخلية كائن معقد، أي بدءاً من الذرة وانتهاءً بالمجرة؛ تصرفاتها وحركاتها وسكناتها من تعليم الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا التعليم أخذ شكل القوانين المكتوبة.
إذاً ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ الكهرباء لها قوانين من قنّنها؟ الله سبحانه وتعالى، الماء له قوانين، لا ينضغط، والهواء له وزن معين، والماء له وزن معين، لا لون له ولا طعم ولا رائحة، يتبخر في درجات دنيا، من علّمه ذلك؟ الله سبحانه وتعالى، فهذه آية واسعة جداً يدخل بها خصائص الأشياء، الكون مؤلف من مئات العناصر، كل هذه العناصر من تصميم الله سبحانه وتعالى؛ الذرات، المجرات، الكائنات، الأحياء، النباتات، الإنسان، ملخص الكلام؛ أن كل خلية فيها محفظة وفيها تعليمات تزيد على خمسة آلاف مليون أمر، هذا هو الأمر الإلهي ﴿الَّذِي عَلَّمَ﴾ لكن ﴿بِالْقَلَمِ﴾ بذر البطيخ منذ أن خلقه الله عز وجل وإلى نهاية الحياة إذا زرعته أنتج بطيخاً، إذاً هناك ثبات، الثبات في الخصائص والاستمرار بها هذا ما تعنيه كلمة ﴿بِالْقَلَمِ﴾ .
الله أعطى كل حيوان قدرة على الإبصار محدودة لكنه أعطى للإنسان عيناً وفكراً:
قال تعالى: ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ الإنسان له وضع خاص، كل الكائنات علمها الله عز وجل أشياء محددة بحسب وظيفتها، فالطائر علمه كيف يطير بسهولة ويُسر، البط علمه كيف يسبح، السمك علمه كيف يحيا في الماء، وكيف يأكل رزقه، الطفل حينما يولد علمه كيف يلتقم ثدي أمه، لكن كل مخلوق علّمه الله أشياء محددة من أعلى مستوى تمشِّياً مع وظيفته إلا الإنسان أعطاه إمكانية التعلم وأعطاه فِكراً، فالإنسان مثلاً له قدرة بصرية محدودة، النسر يفوقه في البصر، عينا الصقر تفوق الإنسان ثمانية أضعاف بدقة الرؤية، ولكن الله سبحانه وتعالى خلق مع هذه العين فكراً، وهذا الفكر استطاع أن يرى المجرات، مرصد بانومار في أمريكا استطاع أن يرصد مليون ملْيون مجرة، مع أن العين المجردة لا ترى إلا بعض الألوف من النجوم، الإنسان أعطاه عيناً ومع العين فكراً، بهذا الفكر وصل إلى المجرات، وبهذا الفكر اخترع الميكروسكوب فرأى الجراثيم، ثم اخترع الميكروسكوب الإلكتروني رأى به الأجسام مكبرة به تسعين ألف مرة، لذلك رأى الإنسان بهذا المجهر العجب العجاب، فالله سبحانه وتعالى أعطى كل حيوان قدرة على الإبصار محدودة، لكنه أعطى للإنسان عيناً وفكراً، بالفكر رأى أشياء لا يراها أي مخلوق، الإنسان لا يطير لكنه خلق له مع هذا الجسم الذي لا يطير فكراً، فركب الطائرات وطار إلى الفضاء ووصل إلى القمر، هذه الآية: ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ تشير إلى هذا الفكر العظيم الذي امتاز به الإنسان على سائر المخلوقات.
الإنسان وُلِد عارياً لكنه بهذا الفكر ارتدى أجمل الثياب، والإنسان ليس له عش يأوي إليه، ولا وكر ينام فيه، ولا مغارة يرقد فيها، ولكن هذا الفكر جعله يبني أجمل البناء، ويسكن في أفخم القصور.
لا أدّعي أن هذه الإنجازات مقبولة أو مستحسنة، ولكن هذا الفكر شيء عظيم جداً حيثما وجهته أعطاك المستحيل، نقل الصوت عبر العالم، العالم صار قرية صغيرة الآن، أي إنسان بالهاتف يخبر أي مكان في العالم عن طريق هذا الفكر الذي أودعه الله سبحانه وتعالى فينا، نقل الصوت والصورة، يمكن أن تشاهد مشهد بطرف العالم الآخر يُنقَل لك بالوسائل المعقدة.
فضل الله على الإنسان فضل عظيم بهذا الفكر:
إذاً: ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يشير بهذه الآية أن فضل الله على الإنسان فضل عظيم بهذا الفكر، ولا مخلوق امتاز بالفكر، أي مجتمع من الحيوانات هل ارتقت هذه الحيوانات منذ أن خُلِقت وحتى اليوم؟ هي كما هي.
يقولون إن الإنسان أصله قرد، هل مجتمع القرود ركب طائرات؟ هل اخترع أشياء؟ قال بعضهم: إن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق بالطبيعة لا بالدرجة.
﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ أعطاه هذا الفكر، بالفكر انتقل عبر العالم، وركب الطائرات، بالفكر غاص في أعماق البحار، بالفكر بنى محطات استخراج نفط وسط البحار﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ لكن الله سبحانه وتعالى سوف يخاطب الإنسان ويعاتبه يوم القيامة، يقول له: يا عبدي لقد وصلت إلى الفضاء، وغصت في أعماق البحار، ونقلت الصوت، ونقلت الصورة الملونة، واخترعت من الأجهزة ما لا يُصدّق، وكل هذا يحتاج إلى جهد كبير، أعجزت أن تعرفني، هذا الفكر سخرته لخدمة مآربك فأعطاك المستحيل، ولو أنك بذلت مِعشار مِعشار ما تبذله من أجل الدنيا لعرفتني، أليس موقف الإنسان المُعرِض عن الله يوم القيامة مخزياً؟
انظر إلى أي آلة صنعها الإنسان بالغة التعقيد، مثلاً تاجر يخبر شركة بأقصى اليابان أو بأمريكا الشمالية عن طريق جهاز، إذا ضرب في دمشق على هذا الجهاز حرف الراء، هذا الحرف ينطبع في أقصى مكان في الدنيا على الورق، هذا اختراع ليس سهلاً، فالإنسان أمام هذه المخترعات سوف يُحاسب ألم تعرفني؟ عرفت كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى، أخضعت كل شيء للفكر والمنطق، ولم تخضع اتجاهك الاجتماعي وسلوكك اليومي إلى منطق الإيمان؟ فلذلك الله عز وجل قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ .
النشاط الفكري نشاط مذهل وهذا من فضل الله علينا:
أعظم شيء أودعه الله في الإنسان هذا الفكر، وفكر الإنسان ينتقل به من الجزئيات إلى الكليات، من المحسوسات إلى المُجرّدات، الإنسان بالفكر يصل إلى المفاهيم، ما المفاهيم؟ هذه الشجرة تنبت وتنمو، لها أوراق خضراء، ولها ثمار، وهذه كذلك، وتلك كذلك، من استقراء أنواع الأشجار يصل إلى مفهوم الشجرة، فالإنسان يتخاطب باللغة عن طريق المفاهيم.
تقول: الأشجار، المعادن، النحاس أي نحاس، لو وضعت قطعة نحاس أمام حيوان هل يكشف ما هذا المعدن؟ الإنسان يعرف، ويتصور ويحاكم ويتذكر ويقارن ويقايس، يخترع ويكتشف، يتخيل، هذا النشاط الفكري نشاط مذهل، وهذا من فضل الله علينا.
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ والله الذي لا إله إلا هو لا أجد أن في الإمكان أن أعبر عن الحقيقة إلا بشكل يسير جداً، كلمة ﴿عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾ هذا الكون أمامك، هذا الإنسان أمامك ماذا فعل؟ ماذا حقق في الحياة من أشياء لراحة جسده؟ ألا ينبغي أن يعرف ربه؟ قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ (6)﴾
مع هذا العطاء الكبير ومع هذه الدرة الثمينة التي هي الفكر التي أودعها الله فينا، بها نعرف وبها ندرك، وبها نشعر، وبها نوازن، وبها نقارن، وبها نستنتج، وبها نستنبط، ومع هذه الدُّرّة الثمينة التي هي الفكر مع هذا يطغى، معنى يطغى الإنسان أي يتجاوز حده الإنساني. القرآن مجمل والتفسير فيه تفصيلي، وبلاغته في إيجازه، وإعجازه في إيجازه، قال تعالى: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ﴾ يتجاوز حده مع الناس؛ قد يأخذ ما ليس له، قد ينظر إلى ما لا يحل له، قد يعتدي على شيء ليس في حوزته، هذا طغيان، أحياناً الإنسان يطغى على جاره، يطغى على زوجته، يطغى على إخوته، وعلى أبنائه، وعلى من هم دونه، ويطغى على مرؤوسيه، يطغى على أبناء حيه.
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن لا يطغى:
قال تعالى: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ﴾ لماذا يطغى؟
﴿ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ (7)﴾
حينما يرى الإنسان نفسه مستغنياً أي في أوج قوته، في أوج نشاطه، في غناه، إن كان قوياً أو غنياً، أو شديداً، أو صحيحاً أو متمتعاً بمكانة اجتماعية يطغى. ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ*أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾ هل يحق له ذلك؟ هل ينبغي له ذلك أن يطغى؟ أن يتجاوز حده الإنساني؟ هذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن لا يطغى.
(( الإيمانُ قَيَّدَ الفتْكَ، لا يَفتِكُ مؤمنٌ. ))
مقيد يرى حجمه بالنسبة إلى هذا الكون العظيم، يرى حجمه حينما يرى ربه، من عرف نفسه عرف ربه، فالمؤمن لا يطغى يقول إني أخاف الله رب العالمين، لسان حاله دائماً أنه يخاف الله رب العاليمن، لكن غير المؤمن يطغى، يتجاوز الحد المعقول، يتجاوز الحد الإنساني، قد لا تروق له هذه الزوجة فيطلقها لأسباب تافهة، هذا طغيان، جعلها مشردة، قد تسقط في صحيفته، يطغى، قد يطمع بالمال فيحمل ابنه على عمل السيئات من أجل تحصيل المال، هذا طغيان.
في هذه الآية عتاب للإنسان على طغيانه :
﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ* أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾ لو الإنسان نظر إلى وضعه حينما كان جنيناً، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ(43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٍۢ(44)﴾
لو أن هذا الجنين غرق في بطن أمه يد من تستطيع أن تنقذه، الإنسان ما رأى ضعفه حينما كان جنيناً، ما رأى ضعفه حينما خرج من أضيق مكان، ما رأى ضعفه حينما كان طفلاً لا يستطيع تأمين قُوتِه ولا رد الأذى عنه؟ كيف كان مفتقراً لأمه تطعمه وتسقيه وتنظفه وتدفع عنه الحر والقر؟ الآن طغى بعد أن صار رجلاً، بعد أن قوي عوده، بعد أن كثر ماله، بعد أن عز سلطانه يطغى، ألم يكن نطفة من ماء مهين.
الحقيقة في عتاب شديد؛ الآن تطغى؟ تذكر حينما كنت طفلاً، تذكر حينما كنت جنيناً، تذكر حينما كنت حيواناً منوياً يسعى إلى البويضة، لو لم يصل إليها لما كنت أنت بهذا الحجم الكبير.
﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ﴾ الآن تطغى؟ نسيت أصلك، خرجت من عورة إلى عورة وخرجت من عورة، من ماء مهين يستحيي به صاحبه أن يُرى على ثيابه.
﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ* أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾ أحياناً يتجبر الإنسان في بيته، يهدد، يتوعد، يشعر الآخرين أن رزقهم في يده، إن شاء قطعه عنهم، أحياناً يشعر الآخرين أن بيده سعادتهم وشقاؤهم هذا طغيان، من أنت؟ أنت عبد فقير، ماذا تفعل لو تجمدت نقطة دم في أحد الشرايين في الدماغ؟ إن جاءت نحو البصر فقدَ البصر، ونحو السمع فقدَ السمع، نحو الحركة أصبح مشلولاً، نحو الذاكرة فقدَ ذاكرته، يد من تدخل إلى الدماغ وتحرك هذا الدم دون أن يتجمد؟ ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ﴾ لو أصيب الإنسان بشلل ماذا يفعل؟ لو فقد سمعه، لو فقد بصره، لو فقد عضلة المثانة التي تضبط البول كيف يكون حاله بين الناس وفي بيته، عند زوجته؟ يجد السرير مبللاً صباحاً، ماذا تقول له؟ تتجاوز حدها معه، على ماذا تتكبر؟
الإنسان بحسب معرفته بالله يتواضع:
الإنسان العاقل يرى أصله، ويرى مصيره، مصيره إلى التراب يكون إنساناً ملء السمع والبصر ثوان ويصبح أثراً بعد عين، كان إنساناً يسكن في بيت كبير خلال أربع وعشرين ساعة صار تحت التراب انتهى، صار المرحوم فلان، وأُخذَت منه كل حاجاته؛ أمواله المنقولة وغير المنقولة.
﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ* أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾ الإنسان بحسب معرفته بالله يتواضع، بحسب معرفته بالله يقف عند حدود الله، سيدنا عمر كان وقافاً عند كتاب الله، هذه تجوز هذه لا تجوز، إني أخاف الله رب العالمين، لا أفعل هذا خوفاً من الله عز وجل، ولو أني أستطيع أن أفعل هذا.
أرسل خادماً فغاب طويلاً فغضب الرسول الكريم قال له:
(( لوْلا القَصاصُ، لأوجعتُك بهذا السِّواكِ. ))
هذا المؤمن، يقف عند حدود الله هذه تجوز وهذه لا تجوز، هذه تصح وهذه لا تصح، ليس متفلِّتاً، أدق تعبير للفاجر الكافر أنه إنسان متفلت من أي قاعدة، من أي نظام، من أي قيم، من أي هدف متفلّت.
﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ* أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾ حينما يرى نفسه مستغنياً قوياً عتيداً شديداً صحيحاً يطغى، أما المؤمن لا يزيده المال إلا تواضعاً، ولا يزيده المال إلا وقوفاً عند حدود الله، ولا تزيده القوة إلا تواضعاً لله، ولا تزيده القوة إلا وقوفاً عند ما أمر الله.
حينما دخل مكة كان عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يقضي على أهلها قضاءاً مبرماً قال:
(( اذهبوا فَأنتُم الطُّلَقاء. ))
(( الإيمانُ قَيَّدَ الفتْكَ، لا يَفتِكُ مؤمنٌ. ))
دعوة من الله عز وجل إلينا أن نتتبع سلوك المعرضين:
قال تعالى:
﴿ كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ (6) أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ (7)إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8)﴾
لكن هذا الطغيان مسجل كله، مسجل على الإنسان بكل حركة وسكنة وكلمة وهمس مسجل، والدليل: ﴿إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ﴾ أيها الطاغي سوف تعود إلينا ونحاسبك عن كل أعمالك واحدة وَاحدة ولن تُفلت من يدنا ﴿إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ﴾ يقول: زوجتي ليس لها أحد من أهلها، سأربيها كما أريد، بينما لو كان أهلها جانبها يخاف، ولكن لعدم وجود أهلها يضغط عليها، أين الله؟ المؤمن يقول: إني أخاف الله رب العالمين.
﴿ أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ (9) عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ (10)﴾
دعوة من الله عز وجل إلينا أن نتتبع سلوك هؤلاء المعرضين: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ الآية انتهت هنا، يظن الإنسان أن لها تتمة، أي أيها الإنسان تفحّص هذا الرجل الذي ينهاك عن الصلاة، تفحص سلوكه تراه خائناً، تراه كاذباً، تراه أنانياً، تراه دنيئاً، تراه قذراً، وقد تراه يحب نفسه، تراه غير منصف، تراه مستعلياً، تراه متكبراً ولئيماً، هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى تفحص أخلاقه، إذا حاككته بالدرهم والدينار أخذ ما ليس له، إذا تواضعت له ظنه ضعفاً استعلى عليك، إذا جاورته تجاوز معك الحدود، إذا جلست معه كذب عليك، حدثك عن نفسه ما ليس فيها: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ هذا الذي ينهى عن الصلاة تتبع عمله، لا يمكن إلا أن يكون منحرفاً، وشاذاً، وخسيساً، ودنيئاً، ولئيماً يحب ذاته، ويكره الناس جميعاً.
قال تعالى:
﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ تتبع حياته، انظر علاقته مع زوجته مبنية على الأنانية، إن أصابها مرض عضال قال لها: ماذا أفعل بك؟ أنت عبء علي، يطلقها، إن أعطاها أهلها نصيباً من ميراثها أخذه منها، وهددها بالطلاق إن لم تعطه إياه، وعندما يأخذه يطلقها.
﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ إذا باعك شيئاً وشعر أنك بحاجة إلى هذه البضاعة ضاعف السعر، يستغلك أبشع استغلال ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ تتبع حياته، تتبع علاقته بزوجته وبأولاده، بزبائنه، بمن هم دونه تجبر، بمن هم فوقه تذلل، ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ لؤم مع نفاق مع تملق مع استعلاء مع دناءة، ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ لو التقى بزوجة صديقه ينظر لها نظرات شهوانية، يغريها ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ تتبع حياته وأخلاقه، سلوكه، قيمه، نشاطه، وعلاقاته الاجتماعية.
سيدنا عمر قال: أتعرفه؟ قال: نعم أعرفه، فقال له: هل جاورته؟ قال: لا، قال له: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال له: هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، فقال له: أنت لا تعرفه ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ ، لو أن الإنسان الكافر أخلاقي لشك في الدين كله.
الفرق بين أخلاق المؤمن وأخلاق غير المؤمن:
قال تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
هو نفسه، إذا ناقشك أحدهم قائلاً لك: الدين غير صحيح، الدين سلوك بشري أساسه الشعور بالضعف، والدين من صنع البشر، لا تسمع لهذا الكلام إطلاقاً، وتتبع سلوكه، انظر أين يسهر مساءً؟ وأين يذهب ويأتي؟ تراه منحطاً، سافلاً ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ هو نفسه.
﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ انظر أعماله؛ غير مؤتمن، يُحِلّ لنفسه كل شيء، تدينه مبلغاً من غير إيصال لا يعطيك شيئاً، تكتب باسمه محلاً من أجل بعض الإجراءات يقول لك: هذا المحل لي، ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ تكتب بيتاً باسمه من أجل إجراءات معينة يقول لك: هذا البيت ملكي، وليس لك شيء عندي، تضع عنده أمانة يقول لك: ليس لك عندي شيء، هذا هو غير المؤمن، لو كان غير المؤمن أخلاقياً، صادقاً، أميناً، عفيفاً لشُكَّ في الدين كله، لكن هذه صفات المؤمنين حصراً؛ العفة والاستقامة والأمانة والصدق هذه للمؤمنين، وما سوى المؤمنين إن كانوا أذكياء يخفون في أنفسهم العيوب الكبيرة، فإذا استُفِزوا ظهروا على حقيقتهم. ربما تلقى رجلاً لا دين له، لبقاً وناعماً، ولسانه لطيف، يبدو أنه متواضع، ما دامت الأمور على ما يريد هذه أخلاقه المصطنعة المزيفة، فإذا استُفِزّ بدا وحشاً كاسراً، أما المؤمن هو كما هو. ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾
الآية التالية فيها إشارة إلى مرتبتين:
اتبع الآن صنفاً آخر، قال تعالى:
﴿ أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ (11) أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ (12)﴾
انظر المؤمن كيف أخلاقه، وعده صحيح، عنده عفة، عنده حياء، صادق، إذا وعد وفى، وإذا اؤتمن لم يخن، إذا حدث صدق، إذا خاصم خاصَم بالحق، إذا دُعي إلى العفو يعفو، إذا استُرضي يرضى، إذا طلب مالاً له طلبه بالحسنى، إذا كان عليه أدّاه بالحسنى، علاقته مع بيته مبنية على التواضع، على الإحسان، إذا دخل إلى بيته كان واحداً من أهل البيت دون استعلاء، إن كان له زوجة يحسن إليها، له أولاد يرعاهم، له جيران يحسن إليهم.
﴿أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ﴾ هذا الشيء بديهي صار، الإنسان ذو دين تراه عفيفاً، صادقاً، أميناً، جاء جندي بتاج كسرى بكامله وضعه أمام عمر، فقال سيدنا عمر: "سبحان الله"، ما هذه الأمانة؟ تاج ثمنه ملايين كله جواهر نفيسة يحمله جندي بمفرده، ويأتي به من المدائن إلى المدينة، لماذا لم يذهب به إلى القسطنطينية كان عاش ببحبوحة طول حياته، قال له: سبحان الله، فقال سيدنا علي: "أعجبت من أمانته؟ لقد عففت فعفّوا، ولو وقعت لوقعوا" ﴿أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ* أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ﴾ عامل مؤمن تؤمنه على المال، وتطمئن على القرش معه، يبقى محفوظاً، لأنه يخاف من الله عز وجل، يحاسب نفسه على الشعرة، ناس يعملون ببعض الحرف، ترى تساهلاً في تعاملهم، بينما المؤمن منهم ورع يقول لك: هذا ليس لي، لفلان، أعظه إياه، المؤمن ورع وصادق طاهر، وعفيف صاحب نخوة ومروءة، شجاع، لا تأخذه في الله لومة لائم، لا ينافق، ولا يستخذي، لا يخنع، ولا يتكبر، ولا يتجبر، ولا يحتقر الآخرين.
﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ هذه واحدة: ﴿أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ* أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ﴾ هذه الثانية، إذا كان على الهدى هو مؤمن، أما إذا ارتقى إلى أهل التقوى وصار تقياً، لم يهمه نفسه صار همه الآخرين، أن ينجو وينجي الآخرين من عذاب النار. هذه الآية فيها إشارة إلى مرتبتين ﴿أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ﴾ مؤمن، ﴿أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ﴾ ، بلغ التقوى وصار يأمر الناس بالخير.
التولي من نتائج التكذيب والتكذيب أحد أسباب التولي:
قال تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ﴾ كذب بالحق، وأدار ظهره له، لأن هنا مجاوزة، كذب وتولى، لو أنه كذب ولم يتولَّ لمَا كذب، علامة التكذيب التولي، ومن دلائل التولي التكذيب، يقول: مشغول، ليس لدي وقت، عندي ضيوف، لو قال لك أي عذر، في أعماقه يشعر أن الدروس مجرد كلام سمعنا منه كثيراً ﴿أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ﴾ التولي من نتائج التكذيب، والتكذيب أحد أسباب التولي.
﴿ أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ (13) أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ (14)﴾
الله يرى كل شيء، هذه الآية وحدها تكفي، كل إنسان الله يراقبه، يعرف ماذا في نفسه وبأعمق أعماقه يراه، مكشوف أمام الله عز وجل، خواطرك ورغباتك، تكلمت كلاماً مبطناً لك غاية أخرى: ﴿أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ﴾ هذا تهديد من الله عز وجل، يا عبادي أنا مطلع عليكم، على سرائركم، على خواطركم، على ألسنتكم، على قلوبكم: ﴿أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ﴾ .
نحن مدعوون من قبل الله عز وجل أن نرى بأم أعيننا المعرضين عن الله والمؤمنين:
الله عز وجل قال:
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ(137)﴾
أي اتبّع، انظر المؤمن كيف نهايته؟ سعيدة، وانظر الفاجر نهايته شقية، انظر الذي يخون الناس في أموالهم نهايته الفضيحة والخسران والفقر، انظر الأمين نهايته السعادة والغنى، تتبع، موضوع آخر غير القرآن الكريم ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ انظر نهايته، نهايته قصم، فضيحة وقصم، الإنسان له أيام معدودة في هذه الأيام إما أن يثبت أنه مؤمن إنساني أخلاقي، وإما أن يثبت العكس، إن ثبت العكس فالنهاية وخيمة.
نحن الآن مدعوون من قِبَل الله عز وجل أن نرى بأم أعيننا هؤلاء المُعرِضين كيف أخلاقهم؟ وكيف سلوكهم؟ وكيف علاقاتهم الاجتماعية؟ وكيف مصيرهم؟ وهؤلاء المؤمنون أخلاقهم العليّة الرضية، صفاتهم الراقية، أمانتهم، صدقهم، هذه دعوى من الله، قال تعالى:
﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ* أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ* أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ* أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ* أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ﴾ الآن رحمة الله، ورحمة الله تقتضي أن هذا المكذب المتولي، وهذا ﴿ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ لا بد من أن يعالجه الله عز وجل، الإنسان يُعطى فرصة.
الله عز وجل يمهل ولا يهمل:
قال تعالى:
﴿ كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ (15)﴾
الناصية الرأس، الدماغ أو الرأس مركز الإنسان، والصدر مركز النفس، والرأس مركز المحاكمة والفكر ﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ السّفَع هو الضرب واللطم، لا بد من مشكلة وكأنه يُلطَم بها، يقول لك أحدهم: ضُرِبت، لا أحد ضربك، ولكن خبر مؤلم كحرق محله، أو مصادرة أمواله فكأنهم ضربوه ضرباً، هم لم يؤذوه، ولم يضربوه مادياً، ولكن هذا الذي يتعدى يطغى يتجاوز لا بد من علاج حازم له بقدر الانحراف، الانحراف الشديد يحتاج إلى سَفعٍ شديد، ﴿لَنَسۡفَعَۢا﴾ اللام لام التأكيد، والنون نون التوكيد الثقيلة، أي هذا المُعرِض هذا ﴿ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ هذا الذي ﴿كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ﴾ ﴿لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ لا بد أن نصيبه بمشكلة كبيرة بحجم انحرافه، هنا المؤمن تأتيه أشياء صغيرة،
(( ما مِن عَثرةٍ، وَلا اختِلاجِ عِرقٍ، وَلا خَدشِ عودٍ، إلَّا بِما قَدَّمَت أَيديكُم، وَما يَعفواللهُ أكثرُ. ))
لكن هناك أشخاص انحرافهم شديد جداً لذلك المصائب التي يقدرها الله لهم كبيرة جداً قد لا يقوون على تحملها قال تعالى:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾
أحياناً نمرض مرضين جميع أدوية هذا المرض تزيد هذا المرض، وجميع أدوية هذا المرض تزيد هذا المرض، مرضان متناقضان يقول الأطباء: لا نستطيع أن نعطيه أي دواء.
عملية جراحية مؤلمة جداً من دون بنج؛ لأن البنج يتعب القلب، يصرخ ويتألم ﴿لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ هناك مصائب فوق احتمال طاقة البشر لماذا ساقها الله للبشر؟ لأن حجم انحرافهم كبير، الإنسان لا يتجبر ولا يطغى، ولا يتجاوز حده الإنساني مع أي إنسان، بدءاً بزوجته ﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ﴾ معه فرصة، الله عز وجل يمهل ولا يهمل، يعطيه فرصة.
أشد أنواع المصائب أن يرافقها إذلال:
هذه الفرصة يظنها الأحمق أنها لا شيء، والله عنه راضٍ، لم يبعث له شيئاً، وهذا منتهى الحمق والغباء، وأن يكون الإنسان في صحة وبحبوحة ومال وفي مكانة اجتماعية وهو منحرف، ويظن أن الحياة للأقوى، أنا قوي لا أخاف أحداً، لا، هذه فرصة مُنِحتَ فرصةً وبعدها العلاج ﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ لا تنسوا لام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة أي حتمية المعالجة ﴿لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ المصائب بأنواعها؛ مصائب المال، مصائب النفس، مصائب الأولاد، مصائب القهر، مصائب الذل، هذه المصائب بلاغة القرآن الكريم جملتها في كلمة واحدة: ﴿لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ تحترق يد الإنسان هذا الحرق يؤلمه، لكن لو ضربته على وجهه ضرباً مبرحاً أمام الناس هذا الضرب مؤلم ومذل، أشد أنواع المصائب أن يرافقها إذلال، هناك أمراض مؤلمة لكن ليس فيها ذل، الإنسان يصيح منها لكن لا يهان، ربنا عز وجل على قدر انحراف الإنسان ﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ أي ضرب على الوجه.
الناصية التي سفعت ناصية كاذبة خاطئة أما الصادق المستقيم فلا يستحق إلا التكريم:
قال تعالى:
﴿ نَاصِيَةٍ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)﴾
هذا الوجه لماذا لُطِم؟ لأنه كاذب مخطئ، ﴿نَاصِيَةٍ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ إذا أراد الله به تأديباً أو علاجاً من يستطيع أن ينقذه من الله؟ لا أحد، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)﴾
كن فيكون، قال تعالى:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)﴾
قد يكون مع أحدهم ألوف الملايين وجاءه مرض خبيث لا أمل وآلام لا تحتمل، هناك شخص مات من شدة الآلام والتشنجات على شكل حدوة الفرس، فقد يموت الإنسان والموت حق، لكن قبل الموت هناك عذاب عشر سنوات ﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ من يجيرك من عذاب الله؟ إذا كان الله عليك فمن معك؟ مالك؟ هناك مصائب لا قيمة للمال في حلها، أحياناً تهتزّ سمعة الإنسان فلو دفع مئات الألوف لا فائدة، وصمة عار في حقه: ﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ هذه الناصية التي سُفِعت ﴿نَاصِيَةٍ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ أما الصادق المستقيم فلا يستحق إلا التكريم.
إذا قرر الله مصيبة لإنسان كل الذين يظنهم أصدقاءه يتخلون عنه ويتركونه:
قال تعالى:
﴿ فَلۡيَدۡعُ نَادِيَهُۥ (17)﴾
استجِر بمن تعرف، يقول: أنا لي أصحاب ومعارف، أسمع هذا كثيراً؛ أنا أعرف فلاناً، أعرف علاناً، هذا يقدر أن يساعدني، هذا كلام فارغ، إذا الله عز وجل قرر مصيبة لهذا الإنسان، وإبلاغاً في إهانته كل هؤلاء الذين يظنهم أصدقاءه يتخلون عنه، ويعتذرون وينسحبون، ويبقى وحده تحت المطرقة الإلهية.
﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ*فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾ فليدع هؤلاء الذين هم معه أشداء أقوياء يعينونه، أين هم؟
﴿ سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِيَةَ (18)﴾
أي:
﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ(31)﴾
سمعت ببعض الدول المتقدمة جداً في العلم والحضارة، والمتخلفة جداً في الأخلاق، جاء مرض على الحمضيات، وعلى ما تملك هذه الدول من تقدم في الزراعة، ومكافحة الأمراض إلا أنه لم يكن لهذا المرض علاج إلا حرق المزرعة بكاملها، وحدود الحرق مئة وخمسين متراً زيادة عن المزرعة، لا يوجد حل آخر، بعض المزارع في كاليفورنيا تُمد العالم بنصف ما يحتاجه من حمضيات، وأصيبت بهذا المرض وأحرقت المزرعة كلها.
هناك أمراض جنسية، الهربز ليس له حل، كل ما تملك الدول العظمى من تقدم هذا المرض ليس له حل، وملأ قلوب الناس بالذعر، كلما التقى رجل بامرأة تسأله: أمعك هربز، من شدة الخوف والقلق.
عندما يريد ربنا عز وجل أن يذل قوماً لا يحتاج إلى أسلحة:
عندما يريد ربنا عز وجل أن يذل قوماً لا يحتاج إلى أسلحة، يبعث جراثيم لا ترى بالعين، قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ﴾ هذه جنود، جرثوم الهربز أو فيروس الهربز جنود بأمر الله عز وجل، الكوليرا شيء غريب؛ ينتقل الماء بجسم الإنسان من الأمعاء إلى الداخل، هذا الجرثوم يعكس الآية ينقل كل الماء الداخل للخارج، بخمس ساعات يموت، ولا حل له.
﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ*فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾ الإنسان تحت ألطاف الله عز وجل، إذا تعطل مركز التنفس الآلي في الإنسان ماذا يفعل؟ طبيب كبير مشهور تعطل هذا المركز عنده، فاخترعوا له دواء سعره مرتفع جداً، يأخذ منه كل ساعة حبة، من أجل أن يبقى حياً، مثلاً إذا نمت الساعة التاسعة يجب أن تستيقظ الساعة العاشرة لتأخذ حبة، والساعة الحادية عشرة، الثانية عشرة، الواحدة، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، السادسة، السابعة، الثامنة، حتى تستيقظ، فهذا الطبيب أحضر أربع منبهات، لأنه إن لم يستيقظ يموت، فمركز التنفس الآلي معطل، وهو طبييب كبير، ذو علم، لكنه استحق العلاج من الله عز وجل، وعاش شهرين بهذه الطريقة، يستيقظ على المنبهات الاربع ياخذ حبة ويعود للنوم، ويعود للاستيقاظ بعد ساعة، وهكذا... جاء ابنه من أمريكا ففرحوا به، وسهروا، فعند نومه لم يستيقظ على المنبهات الأربع، فاستيقظ ابنه صباحاً وجده ميتاً.
هذا مركز التنفس الآلي هل يشعر به أحد؟ مركز ضبط السوائل فوق الكلية في الكظر إذا تعطل عندها يقضي الإنسان أربعاً وعشرين ساعة بين صنبور الماء والمرحاض، لأن عليه أن يشرب الكثير الكثير من الماء ويخرجهم، هذا إذا تعطل جهاز ضبط السوائل بالإنسان.
﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ﴾ أحياناً ينحل دم الإنسان يحتاج كل أسبوع إلى ثلاثين سنتيمتراً من الدم، أحياناً الكلية تتوقف فجأةً لا حل لها إلا الزرع، ونسبة نجاح العملية 30%، كورتيزون طيلة الحياة، أو غسيل كلية كل أسبوع مرتين.
الإنسان كلما حزبه أمر فليبادر إلى الصلاة:
﴿كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ﴾ الله عز وجل عنده أدوية لا يعلمها إلا هو، في الجسم مليون مرض وكل مرض يظنه صاحبه أصعب مرض، وكلهم فيهم صعوبة.
﴿ كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16) فَلۡيَدۡعُ نَادِيَهُۥ (17) سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩ (19)﴾
قال عليه الصلاة والسلام:
(( أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ ساجِدٌ. ))
لذلك كان عليه الصلاة والسلام يسجد لله حين تأتيه نعمة، وسماه العلماء سجود الشكر، أحياناً يسجد لله ويسأله حاجة، فالإنسان كلما حزبه أمر ليبادر إلى الصلاة.
﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ تشبيه بسيط؛ جندي في ثكنة تلقى أمراً من عريف، وتلقى أمراً من لواء، والأمران متعاكسان، عليه أن يطيع من؟ أحياناً يتناقض أمر العبد مع أمر الرب، الله قال: ﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ عندما يخاف الإنسان من عبد ويعصي الله عز وجل إيمانه صفر، لا يعرف الإيمان إطلاقاً لأنه خاف من عبد ضعيف لا يقوى على شيء بيد الله، وعصى رافع السماء بلا عمد، فهو لا يعرف الله عز وجل، ربنا عز وجل قال: ﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ .
أي ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ*عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ﴾ ، ﴿لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ صلِّ؛ لأن هذه الصلاة أمر من عند الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ﴿لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ في كل أمر، في العلاقات المالية والشخصية، بالاختلاط، بالطعام والشراب، ﴿لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ .
الله نهانا عن هذا اللحم، وهذا المشروب، وهذه السهرة والحفلة ﴿لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ وعندما يخاف الإنسان من مخلوق هذه علامة ضعف إيمانه، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا(26)﴾
لا أحد في الأرض شريك مع الله في الحكم، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِۦ ۚ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦٓ ۚ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ(57)﴾
﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)﴾
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
هذه آيات التوحيد: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ ﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، حفلة حرمها الله دعيت إليها ضُغِط عليك، ﴿لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ اذهب وصل فأنت مع الواحد الديان، ومع الواحد الذي لا إله إلا هو، قال تعالى:
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ(84)﴾
هذا الإيمان: ﴿كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب﴾ .
الملف مدقق