وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0920 - إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم1. التغيير يبدأ من الداخل - محاسبة النفس .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
 اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

قانون التغيير الإلهي (1) :

 أيها الإخوة الكرام، دائماً وأبداً أنطلق من هذه المقولة، وهي:
 أن الحقيقة المُرة أفضل ألف مَرة من الوهم المريح.
 المسلمون في شتى بقاعهم في محنة ما بعدها محنة، في بلاء ما بعده بلاء، لو فتحنا القرآن الكريم نلتمس الحل نجد هذه الآية التي سوف تكون إن شاء الله محور هذه الخطبة، والخطب التي تليها بإذن الله، نجد الله عز وجل يقول:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد : الآية 11)

 إن كنا في محنة فالله لا يغير حتى نغيّر، وإن كنا في بحبوحة فالله لا يغيّر حتى نغيّر.
 هذه حقيقة من عند خالق الأرض والسماوات، هذه الحقيقة تنطبق على الأفراد والجماعات، وتنطبق على الأمم والشعوب.

 

 الحقيقة الأولى:

1)التغيير يبدأ من الداخل :

 أيها الإخوة الكرام، الطروحات التي طرحت من خمسين عاماً في العالم العربي والإسلامي من أجل التغيير كانت تغييراً من الخارج، لكن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد : الآية 11)

 هل يعقل أن حَرفاً في آية هو سبب خلاص المسلمين، هو حرف الباء في كلمة: بأنفسهم، ينبغي أن نبدأ بأنفسنا.
 ليس هذا كلاماً عادياً، هذا كلام الخبير، هذا كلام الحكيم، هذا كلام القدير، هذا كلام الفعال لما يريد، هذا كلام مَن بيده الأمر كله، هذا كلام مَن بيده مقاليد السماوات والأرض:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد : الآية 11)

 ضغوط وعدوان، وسلب أراضٍ ونهب خيرات، وقتل شباب، وكيد ما بعده كيد، قال تعالى:

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾

( سورة إبراهيم : الآية 46)

 ومع ذلك قال تعالى:

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾

( سورة آل عمران : الآية 120)

 التغيير الذي ينتظره الله منا ينبغي أن يكون من داخل النفس، هذه الحقيقة الأولى.

الحقيقة الثانية:

2)الإنسان قادر على التغيير :

 

 

الإنسان إن لم يملك إمكانية التغيير فلا معنى إطلاقاً لإرسال النبيين، ولا معنى لإنزال الكتب، ولكان عملاً عابثاً، تعالى الله عن ذلك.
 لو أن الإنسان لا يغيّر، لماذا بعث الله الأنبياء والمرسلين، ولماذا أنزل الكتب؟
 لماذا هيأ العلماء الصادقين؟
 لأن الإنسان يملك أن يغير كان إنزال الكتب، وكان بعث الأنبياء.

1)التغيير قناعة ذاتية :

 أيها الإخوة الكرام، قبل كل شيء لا يمكن أن تغير إلا إذا رغبت أن تغير، الإنسان مخير، لو أن الدنيا أقنعته بالتغيير، ولم يكن مريداً للتغيير فهو لا يغير، العبرة أن تقتنع أنت، ابدأ بنفسك الآن، ودعك من الآخرين:

 

(( إِذا رأَيتم شُحاً مُطَاعاً، وهوى مُتَّبَعاً، ودُنيا مُؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيِه، فعليكَ بنفسِكَ ))

[ من حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي ]

 إذا رأيت مادية ماحقة: يبيع الإنسان دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل.
 إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً: اللذة يعبدها الناس من دون الله.
 وإعجاب كل ذي رأي برأيه: والكبر، وكل واحد يظن أنه محور العالم، وأن الذي يقبله عقله هو الحق، وأن الذي لا يقبله عقله هو الباطل.
 إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فالْزم بيتك، بمعنى: اشتغل بصلاح نفسك، دقق في مشكلتك الخاصة، فالْزم بيتك، وأمسك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة.
 إذاً: أولاً: ينبغي أن تقتنع أنه لابد من أن تغيّر.

 

2)فهم الحكمة من المصائب :

 الشيء الآخر أيها الإخوة الكرام، لعل حكمة هذه المصائب، وتلك المحن: أن الله سبحانه وتعالى يدفعنا إلى التغيير، يقول بعض علماء التفسير في قوله تعالى:

﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾

( سورة لقمان، آية 20)

 أن المصائب من النعم الباطنة، والله سبحانه وتعالى جلت حكمته جعل المسلمين الآن في العناية المشددة، في ضغط ما بعده ضغط، في قهر ما بعده، قهر من أجل أن يغيروا، من أجل أن يكسبوا الأبد، من أجل جنة عرضها السماوات والأرض.
 إن لم نغير فالله سبحانه وتعالى لا يغير، ومن السذاجة والغباء والسخف أن ننتظر أن تأتي معجزات السماء كي تغير ما بنا، ونحن على حالنا لا نقدم ولا نؤخر، ولا نغير ولا نطور.
 أيها الإخوة الكرام، يجب أن نعلم علم اليقين أن المصائب رسالة من الله، رسالة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، دققوا في قوله تعالى:

 

﴿ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾

( سورة القصص : الآية 47)

 أي: إن هذه المصيبة رسول من الله يحمل رسالة لك:

﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ﴾

( سورة طه : الآية 134)

 ويوجد آية أخرى:

﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾

( سورة الأنعام : الآية 75)

 أيها الإخوة الكرام، المؤمن الموفق يرى أن هذه المصائب التي تنزل على العالم الإسلامي إنما هي رسائل من الله، لعلنا ننقذ آخرتنا، لعلنا نموت على الإيمان:

 ورد في الأثر: وعزتي وجلالي إن أردت أن أرحم عبداً ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله، أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه.

ملخَّص بنود قانون التغيير :

 أيها الإخوة الكرام:
 الحقيقة الأولى في هذه الخطبة: أن التغيير الذي هو سبب التغيير من قِبل الله عز وجل يجب أن يبدأ من النفس، من الداخل.
 الحقيقة الثانية: أيّ شيء حدث لا يشكل مشكلة، ولكن المشكلة كيف انفعلتَ بما حدث؟ ما الموقف الذي وقفته لما حدث؟ عن هذا تحاسَب، ذاك قضاء الله وقدره، لكن كيف وقفت؟ هل كنت متأملاً؟ هل كنت متبصراً؟ هل كنت شاكراً؟ هل كنت نادماً؟ هل كنت تائباً؟ماذا فعلت؟ ماذا تصرفت؟ كيف وقفت؟
 أيها الإخوة الكرام، العبرة بالموقف الذي تقفه من الذي حدث، الذي حدثَ حدثْ، هل كنت واعياً لأعماق ما حدث؟ هل كنت واعياً لمضمون ما حدث؟ هل كنت واعياً لهدف ما حدث؟
 أيها الإخوة الكرام، يمكن أن يفقد الإنسان كل شيء، أما إذا تعلق بالله عز وجل ، فإنه يصنع كل شيء، وفي التاريخ أمثلة لا تعد ولا تحصى، قد يكون الإنسان معاقاً، وقد يكون صاحب أكبر شركة في بلد ما، هذه حقيقة، وأنا لا أتخذ الدنيا مثلاً، ولكن لها معنى.
 أيها الإخوة الكرام:
 أولاً: يجب أن نُغير من الداخل.
 ثانياً: ينبغي أن نحسن الموقف مِِن الذي حدث، أن نراه من فعل الله، أن نراه بحكمة الله، أن نراه بحرص الله على هدايتنا، أن نراه دفعاً للتوبة، دفعاً للصلح مع الله، أن نراه إنقاذاً لآخرتنا، أن نراه كشفاً لحقائقنا.

 

لوازم التغيير عند الإنسان :

 الشيء الآخر، أيها الإخوة، في هذا الموضوع: أنه لابد من:

 

1)العزيمة والإرادة :

 هناك قناعات، وهناك نتائج، لن تكون النتائج مناسبة لهذه القناعات إلا إذا توسط بين القناعات والنتائج إرادة صلبة، وعزيمة شديدة.
 إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان.
 أيها الإخوة الكرام، حقيقة المستحيل هو الشيء الذي نتكاسل أن نصنعه، ليس هناك مستحيل، الشيء المستحيل هو الذي لا نريد أن نفعله، هو الذي تضعف هممنا عن فعله، هو الذي يفتقد إلى عزيمة منا، هو الذي يفتقد إلى إرادة منا.

2)وجود هدف واضح :

 أيها الإخوة الكرام، معظم المسلمين يعيشون هكذا بحسب حركة الحياة، يتحرك، ويذهب إلى البيت، ويأوي إلى فراشه، يذهب إلى عمله بلا هدف، بلا هدف واضح، بحسب حركة الحياة، والله عز وجل يقول:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً ﴾

( سورة الفرقان : الآية 63)

 وقد ثبت في السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا مشى كأنه ينحط من صبب.
 وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها:
 رحم الله عمر، ما رأيت أزهد منه، كان إذا سار أسرع، وإذا أطعم أشبع، وإذا قال أسمع، و إذا ضرب أوجع.
 فما معنى كلمة هوناً في الآية؟
 معناها أنه يجلس ويتأمل، لا يسمح لهذه الدنيا أن تأخذه عن هدفه، لا يسمح لمشكلاتها أن تصرفه عن أهدافه الكبرى، لا يسمح للدنيا بأكملها أن تجعله غافلاً عن الله عز وجل، هو واعٍ لسر وجوده ولغاية وجوده، أهدافه واضحة يسعى إليها، ولا يعبأ بهذه المشكلات الجانبية التي تنتابه من حين إلى آخر، هذا معنى:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً ﴾

(سورة الفرقان : الآية 63)

3)العمل للآخرة :

 قال بعضهم: إذا أردت أن تكون ناجحاً فابدأ من النهاية.
 مرة أيها الإخوة، داوم أخ كريم على الأذان في يوم الجمعة سنوات وسنوات، ثم توفاه الله عز وجل، وكنت في جنازته، وبعد الصلاة عليه قام أحد الرجال وأبّنه فقال: أخوكم كان مؤذناً، فترحموا عليه، فقط.
 قلت: كانت له دنيا عريضة، وسافر إلى معظم بلاد العالم، وتمتع بكل ما في الدنيا من مباحات، وأنا أثني عليه، لكن حينما أراد هذا المؤبن أن يؤبنه قال: لقد كان أخوكم مؤذناً، ترحموا عليه، فقط.
 فهنا الفكرة، الإنسان حينما يغادر الدنيا ماذا يحب أن يقال عنه؟ كلمة واحدة، اعمل عملاً يقال عنك في دقيقة، ستين ثانية.
 ابدأ من النهاية، لابد من أن نغادر الدنيا، وكل شيء جمع في الدنيا نخسره في ثانية واحدة، كل ممتلكاتك، وكل شخصيتك الضخمة، وكل هيمنتك على قطر الشريان التاجي، الذي هو ميلي وربع، وعلى سيولة الدم في أوعيتك، وعلى نمو الخلايا، اعلم أنه في أية لحظة يتجمد جزء من الدم لا يزيد حجمه على رأس دبوس في مكان في الدماغ، في مكان قد يصاب بالشلل، في مكان قد يصاب بفقد الذاكرة، في مكان قد يصاب بالجنون، في مكان قد يصاب بالعمى، فأنت رهن قطرة من الدم لا تزيد عن رأس دبوس حجماً إذا تجمدت فقدتَ كلَّ شيء.
 أيها الإخوة الكرام، ابدأ من النهاية، قل: سوف أغادر هذه الدنيا إلى أين؟ ماذا بعد الموت؟ تأكد أن هناك حياة أخروية أبدية سرمدية، ماذا قدمت لها؟
 إن أردت أن تنجح فابدأ من النهاية، إذا جعلت مغادرة الدنيا أخطر حدث في حياتك، وتوافقت مع هذا الحدث الخطير، نجحت:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

( سورة الملك : الآية 2)

 هذا في القرآن الكريم:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾

( سورة الحج : الآية 1)

﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾

( سورة الحشر : الآية 18)

﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾

( سورة التوبة : الآية 105)

4)الطريق الواضح :

 أيها الإخوة الكرام، لا تكن يؤوساً، إذا أخفقت في التخطيط فقد خططت للفشل، إذا فشلت في التخطيط فقد خططت للفشل.
 أيها الإخوة الكرام، لابد من أن تحدد هدفك، لماذا أنت في الدنيا؟ أقول هذا مئات المرات: لو أن إنساناً سافر إلى بلد، ونزل في أحد الفنادق، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول، وسأل: إلى أين أذهب؟ نسأله نحن: لماذا جئت إلى هنا؟ إن كان هدفك من المجيء واضحاً تستطيع أن تتحرك بشكل سليم، جئت تاجراً اذهب إلى المعامل والمؤسسات، جئت طالب علم اذهب إلى المعاهد والجامعات، جئت سائحاً اذهب إلى المقاصف والمتنزهات، لا تصح حركة الإنسان في الحياة إلا إذا عرف سر وجوده في الدنيا، حدد الهدف، لماذا أنت في الدنيا؟ من أجل جمع المال فقط؟ من أجل أن تكون في مكان عالٍ؟ من أجل أن تنغمس في الملذات إلى قمة رأسك؟ حدد الهدف، وكن جريئاً، وكن واضحاً، قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

( سورة الملك : الآية 22)

 هذا الذي يمشي مكباً على وجهه كالذي يقول من عوام الناس: نحن نعيش ونأكل، لا يعلم لماذا وجد، ولا لأي هدف وجد، ولا يعلم عن رسالة حمله الله إياها شيئاً، يعيش كرقم لا يذكر، ولا يحمد، ولا يذم، همه بطنه، همه فرجه، همه ثيابه، همه متعه.

 أيها الإخوة الكرام، لابد من أن تحدد الهدف، ولابد من أن تتخذ القرار، ولابد من أن تنفذ ، دققوا في هذه الآية:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾

( سورة الأنفال : الآية 72)

 ما لم تتحرك، ما لم تعط لله، ما لم تمنع لله، ما لم تغضب لله، ما لم ترضَ لله، ما لم تصل لله، ما لم تقطع لله، ما لم تنفق لله، ما لم تمسك لله، إن لم يكن لك موقف، إن لم تتحرك، لا وزن لك عند الله:
 أثبت الله لهم الإيمان، فقال:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾

( سورة الأنفال : الآية 72)

 ثم قال:

 

﴿ وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾

( سورة الأنفال : الآية 72)

5)الاستقلال ونبذ التقليد :

 أيها الإخوة الكرام، دقق في عملك، هل تعمل عملاً ينبغي ألا تعمله؟ وهل تعمل عملاً صواباً؟ دقق في عملك، لا تكن إمعة، تحسن إذا أحسن الناس، وتسيء إذا أساء الناس.
 واللهِ، أيها الإخوة، يكاد يكون معظم المسلمين هكذا، مع صرعات الأزياء، مع ما يرونه في الفضائيات، في عاداتهم، في تقاليدهم، في لقاءاتهم، في احتفالاتهم، في أحزانهم، في أفراحهم، في كسب أموالهم، في إنفاق أموالهم، في تمضية أوقات فراغهم، مع الناس هكذا:
 وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد

 هذا فكر جاهلي، النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( لا يكُنْ أحَدُكُمْ إِمّعَة ))

[ من حديث حسن، أخرجه الترمذي ]

 لك شخصية، لك قرار، لك قناعة، لك سلوك، لك بيت متميز، لك علاقات متميزة، لك قيم متميزة.
 أيها الإخوة الكرام، لابد من أن تحدد هدفك، ولابد من أن تصدر قراراً مصيرياً، آلاف الأشخاص بلا قرار، لا مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء، يؤمن بالآخرة، ولا يعمل لها، يحتقر الدنيا، ويموت من أجلها، يلتقي مع فلان ويذمه، يبتعد عن فلان ويمدحه، بلا قرار، بلا هدف، بلا موقف.
 أيها الإخوة الكرام، ليس العار أن تخطئ، و لكن العار أن تبقى مخطئاً، وليس العار أن تجهل، ولكن العار أن تبقى جاهلاً.

 

6)اتخاذ قرار النجاح :

 أيها الإخوة الكرام، شيء آخر في الموضوع، قضية اتخاذ القرار.
 ينبغي أن تدرك أن القرار الخاطئ طريق إلى قرار جيد، وأن الخطأ طريق إلى الصواب، وأن الذي لا يعمل لا يخطئ، وأنا أحتقر إنساناً لا يخطئ، لأنه لا يعمل، لأنه لا يعمل أبداً، اجعل من الخطأ طريقاً للصواب، اجعل من المحاولة التي لا ترضيك طريقة لمحاولة ترضيك.
 أيها الأخ، خطط لحياتك قبل أن يأتي عدو لك يخطط لك، إما أن تخطط، وإما أن يخطط لك، إما أن ترسم هدفاً، وتسعى إليه، وإما أن يأتي عدو يرسم لك هدفاً، ويدفعك إليه.
 أيها الإخوة الكرام، إن رسمت هدفاً فادرس قيمة هذا الهدف، وادرس أثر هذا الهدف على مستقبلك ومستقبل أولادك ، فقد تتخذ هدفاً، وتسعى إليه، وعند مغادرة الدنيا تندم أشد الندم، عندما تغادر الدنيا تجد أنك حصلت مالاً وفيراً، لكنك خسرت أهلك وأولادك.
 هناك من يهاجر إلى بلاد بعيدة، يقول لك: هي جنة الدنيا، كل شيء متوافر، الإنسان يتمتع بأعلى درجة من حقوقه، فإذا رأيت في نهاية المطاف أن أبناءك جميعهم ليسوا مسلمين أبداً، ولا يعتزّون بأمتهم، ولا يصدقون ما في دينهم العظيم، فهذه مصيبة كبرى.

النجاح في العلاقات الأربعة :

 أيها الإخوة الكرام، لنتعلَّم هذه الحقيقة: لا يكون النجاح نجاحاً إلا إذا كان شمولياً، إن حصلت مالاً وفيراً، وخسرت أولادك أنت لم تنجح، إن ربحت سمعتك بين الناس، وخسرت حياتك الداخلية فأنت لم تنجح، إن سلمت حياتك الداخلية، ولم تسلم حياتك العامة فأنت لم تنجح.
 أيها الإخوة الكرام، قضية دقيقة جداً، لعل في الحياة أربعة أسس:

 

1)علاقتك بالله عز وجل :

 أول أساس: علاقتك بالله، هل بينك وبين الله علاقة عامرة؟ هل الخط بينك وبين الله ساخن؟ هل أنت في مرضاته؟ هل أنت مستقيم على أمره؟ هل تعمل عملاً صالحاً يرضيه؟ هل أنت تراقبه؟
 أول شيء في حياتك: علاقتك مع ربك، لأنه إليه المصير:

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (*)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾

( سورة الغاشية 25-26)

2)علاقتك بعملك :

 الشيء الثاني: في الدنيا مهم جداً: عملك، هل تتقن عملاً؟ هل يدك هي العليا، أم أنك عبء على من حولك؟

3)علاقتك بصحتك :

 الشيء الثالث: صحتك، لأن الإنسان من دون صحة لا يحقق هدفاً.

4)علاقتك بأسرتك :

 الشيء الرابع: أسرتك، هل أنت ناجح في أسرتك؟ هل هناك ود ومحبة بينك وبين من حولك؟

 دققوا أيها الإخوة، إن أي خلل في إحدى هذه النقاط الأربع ينعكس على النقاط الثلاث:
 لو ساءت علاقتك بالله لساءت علاقتك مع من حولك ومع أسرتك، وفي عملك وفي صحتك.
 لو ساءت صحتك لانعكس هذا على عملك وعلى أسرتك وعلى علاقتك بالله.
 لو تقاعست عن كسب المال الحلال، وأنت عالة على الناس سقطت من عين الناس.
 أربعة أشياء: علاقتك بالله وعملك وصحتك وأسرتك.
 النجاح لا يسمى نجاحاً إلا إذا كان شمولياً، أما أن يكون نجاحاً من جانب واحد فهناك آلاف الناجحين في الحياة حققوا نجاحاً في خط واحد، وخسروا في بقية الخطوط، لا يعد هذا نجاحاً.

الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة :

 أيها الإخوة الكرام، لا تبقى في الكليات، ضع تفاصيل الخطة، متى تستيقظ؟ متى تنام؟ كيف تمضي وقت فراغك؟ ما الدروس التي ينبغي أن تحضرها؟ ما الكتب التي ينبغي أن تقرأها؟ أما هكذا مع الناس نتابع المسلسلات حتى منتصف الليل، ننام بعد أن نصلي الفجر هكذا، هذه الحياة لا قيمة لها إطلاقاً، حياة تافهة، ضع تفاصيل الخطة، اكتبها على ورق.

 

تصور النتائج الرائعة :

 شيء آخر، تصور النتائج الرائعة، حدثني طبيب لامع في دمشق أنه يوم كان في الصف العاشر، وله أب ذكي جداً، قال له: يا بني هناك خطاط كبير على وشك أن يغادر الحياة، وأنا أتمنى لك أن تكون طبيباً، فسأكلفه بكتابة لوحة: الدكتور فلان، تجربة، جاء بهذه اللوحة، ووضعها في غرفة ابنه، وهو في الصف العاشر، والآن من ألمع الأطباء، كلما وقعت عينه على اللوحة تصور أنه طبيب كبير، وله مكانة كبيرة، وله دخل يكفيه، وله زوجة، وأولاد وعيادة.
دقق في التفاصيل، كلما ذكرت أنك إذا غادرت الدنيا كنت محباً لله، كنت طائعاً له، كنت وفق أمره ونهيه، كنت في خدمة عباده، ما كذبت ولا دلست، ولا غششت، ولا احتلت، ولا بنيت مجدك على أنقاض أحد، ولا بنيت أمنك على خوف أحد، ولا بنيت غناك على فقر أحد، تصور النتيجة الرائعة حينما تغادر الدنيا، ابدأ من النهاية كي تنجح.

 

قناعات الفشل في واقعنا :

 أيها الإخوة الكرام، هناك قناعات في المجتمع سلبية، مدمرة مثل:

1) قناعات شخصية مدمرة:

 العمل يتعبني، العمل لا أطيقه.
 دقق، من يتأفف من عمله لا يصلح لأي عمل آخر.
 أنا ضعيف، أنا لا أتحكم بأعصابي، لا أستطيع الإقلاع عن التدخين.
 أنا سأفشل، لن أنجح.
 هذه قناعات شخصية مدمرة، قل: العمل يحفزني، المتوكل منصور، إن الله مع الصابرين، إن الله لا يخيب أمل الآملين، إن مع العسر يسرا، الشدائد تبني الرجال، في الحركة بركة، إن معي ربي سيهدين، الفشل طريق النجاح، يوجد مقولات عند العوام تدمر الإنسان، هذه قناعات شخصية.

 

2)قناعات اجتماعية مدمرة :

 ويوجد قناعات اجتماعية: المجتمع فاسد، الإعلام فاسد، المطلقة لا تنجح في حياتها، المرأة ضعيفة، الخير يخص والشر يعم، الفقراء عالة على المجتمع، العالم يحتضر.
 هذه قناعات سلبية تدمر الإنسان، قل: الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة، أمتي كالمطر لا يدرى أولها خير أم آخرها.
 أيها الإخوة الكرام، عقائد عند الناس تدمرهم:
 الأقارب عقارب، امش في جنازة ولا تمش في زواج، هذا سلبي، منسحب، كسول، متواكل، يؤوس، قنوط.
 هذا الذي يدمر المسلمين، ارجع إلى مفهومات القرآن والسنة، ولا تبقى في مفهومات العوام.
 أيها الإخوة، لو ظللت تقول: أنا لا أنجح، حتماً لن تنجح.
 لو ظللت تقول: الدنيا شقاء، حتماً ستشقى بها.
 لو ظللت تقول: الناس كالعقارب سيعاملوك كالعقارب.
 العقيدة إذا رسخت، والمفهوم إذا رسخ، وصدقته، فالحياة التي حولك تنعكس عليك وفق هذا المفهوم:

﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 175)

التغيير وفق المفاهيم الدينية :

 الله موجود، هو القوي، هو الغني، هو الحكيم، هو المعطي، هو المانع، هو الرافع، هو الخافض، هو المعز، هو المذل:

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

( سورة الكهف : الآية 26)

﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾

(سورة الفتح : الآية 10)

﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾

( سورة الأنفال : الآية 17)

 المفهوم التوحيدي يرفع معنويات المسلمين، الله عز وجل لم يسلمنا لجهة، أمرنا بيده:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

( سورة هود : الآية 123)

 أيها الإخوة الكرام، يجب أن نغير، دعك من المجتمع، دعك من الظروف الدولية، دعك مما يجري في العالم على الساحة الإسلامية.
 إن أردت أن تتحكم بغيرك تحكم بنفسك أولاً، تحكم بنفسك أولاً حتى تستطيع أن تتحكم بغيرك.
 إن أردت أن تكون داعية فاضبط نفسك أولاً، احملها على طاعة الله، احملها على فضائل الأعمال، أتقن عبادتك وبعدها ادع إلى الله عز وجل.

 

وأخيراً :

 أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا.
 الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، و تمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

 

* * *

 

الخطبة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

محاسبة النفس :

 أيها الإخوة الكرام، لا تظنوا أن هذا شيء جديد، الإنسان هو الإنسان، والطريق إلى النجاح هو الطريق إلى النجاح في كل زمان ومكان.
 أنقل لكم سريعاً بعض ما في كتاب الإحياء للإمام الجليل أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، يقول هذا الإمام الجليل متحدثاً عن محاسبة النفس:
 لابد من المشارطة، نسمّيها اليوم التخطيطَ، الإنسان يشترط على نفسه أعمالاً في المستقبل، يعني أن يخطط، ولا بد من المراقبة، والمراقبة تكون في أثناء العمل، ولابد من المحاسبة، والمحاسبة بعد الانتهاء من العمل، ولابد من المعاتبة:

 

﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (*)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

( سورة القيامة ،2،1 )

 ولابد من المعاقبة، كيف تعاقب نفسك؟ أن تحملها على فعل ما ينبغي، أن تحملها على قضاء الفوائت التي رسمتها لنفسك، أن تحملها على أن تتبع السيئة الحسنة.
 أيها الإخوة، هناك تفصيلات كثيرة جداً في محاسبة النفس، لا تقلّ قيمة عن الذي نسمعه كل يوم من شؤون النفس، وإعدادها، والسمو بها.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، أذل أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين.
 اللهم شتت شملهم، فرق جمعهم، خالف فيما بينهم، اجعل الدائرة تدور عليهم، اجعل تدميرهم في تدبيرهم يا رب العالمين، أرنا قدرتك في تدميرهم يا أكرم الأكرمين، انصرنا على أنفسنا حتى ننتصر لك حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا يا رب العالمين.
 اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، واجمع بينهم على خير، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور