وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة عبس - تفسير الآيات 17-23 ، ما أكفر الإنسان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام ، يقول الله عز وجل في الآية السابعة عشرة وما بعْدها

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31)﴾

[ سورة عبس ]

 الإنسان حينما يكْفر يُهْلِكُ نفْسه لأنَّ الله تعالى خلق الإنسان لِيُسْعِدَهُ في الدنيا والآخرة فإذا أعْرَضَ عن ربِّه ، وكأنَّهُ قُتِلَ ، قُتِلَ لإعراضِهِ عن ربِّه ، وشَقِيَ وأهلك نفْسه.
 ما أكْفَره ! ما الذي جعله يكْفر ؟ إما أن نفْهَمَها اسْتِفْهامِيَّة ، والأصَّح أن تكون تَعَجُّبِيَّة ، ما أشَدَّ كُفره مع أنَّهُ خُلِقَ من نُطْفة ، ففي اللِّقاء الزَّوْجي هناك خمسمائة مليون حُوَيْن ، الإنسان مُخَلَّق من حُوَيْنٍ واحد ، يدْخل إلى البيْضة لِيُلَقِّحها ، وهذه البيْضة والحُوَيْن هي أوَّل لْقِ الإنسان، تنْقسِمُ البُوَيْضَةُ المُلَقَّحة إلى عشرة آلاف قِسْمٍ وهي في طريقها إلى الرَّحم دون أن يزيد حجْمها ، فلو زاد حجمها لتَعَثَّر سَيْرُها ، وتنْغَرِسُ في جِدار الرَّحِم ، ويأتي الغِذاء ، وفي أشْهر عديدة تُصبح هذه البُوَيْضة المُلَقَّحة والحُوَيْن المَنَوي عليه مُوَرِّثات ثلاثةٌ وعِشرون مُوَرِّث وكذا على البُوَيْضة فَيَكون مَجْموعهم ستٌّ وأربعون ، والله عز وجل قال

 

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)﴾

 

[ سورة الإنسان ]

 فَمَعْنى أمْشاج أنَّ الإنسان مُخَلَّق من أُمِّه وأبيه ، وأغْرَب ما في الأمْر أنَّ المُوَرِّثات تنْقسِمُ إلى قِسْمَيْن:
قِسْمٍ يُشَكِّلُ الجنين ، وقِسْمٍ يودَع في جِهاز الجنين التناسلي لِيَكون ابن الجنين كالجنين ، وهذه هي السُّلالة ، قال تعالى:

 

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ﴾

 

[ سورة المؤمنون ]

 فتجد الصِّينيِّين لهم شَكْل ، والأفارِقَة ، والعرب لهم شَكْل ، فَمِن أين جاء الشَّكْل المُسْتَمِرّ؟ لأنَّ المُوَرِّثات تنقسِمُ إلى قسمين ، فالاستنساخ ليس من نطْفة أمْشاجٍ نبْتليه ، إنْ نَجَح فهو إن كان من الأنثى فالمولود هو أخوها وليس ابنها ، وإن كان مأخوذاً من الرَّجل فكذلك ؛ لماذا ؟ لأنَّهُ ليس هناك أمشاج ، بل هو مُخَلَّق من مِحْفَظَة واحدة ، ومن النُّطْفة فقط ، تُأخذ خَلِيَّة من ثَدْيِها تُنْزَعُ منها المُوَرِّثات وتُزْرع في الرَِّحم وتنْبت ، على كُلٍّ صِفات الرَّجل إن كان أقْوى فالجنين يَتَخَلّق وِفق صفات أبيه ، وإن كانت صِفات الأمّ أقْوى يَتَخَلَّق وِفْق صِفات أمِّه ، فالضَّعْف إن كان بالحُوَيْن أو البُوَيْضة يتخَلَّق الجنين بالصِفات الأقوى من الأب أو الأم ، ورد قَوْل لِسَيِّدنا عمر: اقْتَرِبوا لا تَضْوُوا ، فإذا الإنسان تَزَوَّج من أقاربه الضَّعْف يتَكَرَّر ويُصبح واضِحاً ، وقد عُقِدَ مؤْتَمَر لتَحْسين النَّسْل بِسُوريا قبل عشْر أعوام تَقْريباً ، وكان رئيس المجْمع العِلمي العربي حيّ ، فَبَعْدما انْتَهت المُحاضَرات بِأمْريكا ومن أوروبا أُلْقِيَتْ مُحاضَرات لِعُلَماء كبار في طُرُق تَحْسين النَّسْل ، فقام رئيس المَجْمع العِلْمي وقال: ناقِلاً هذه المَقولة اغْتَرِبوا لا تَضْوُوا ، أي سَبَب الضَّعْف هو الزواج من الأقارب.
 إذاً مِن أيِّ شيءٍ خلقه ؟! من نطفةٍ خلقه ، وبعدها أصبح الدِّماغ مائة وأربعون خَلِيَّة ، وثلاثمائة ألف شَعْرة لِكُلِّ شَعْرة وريد وَشِرْيان ، وغُدَّة عَرَقِيَّة وغُدَّة دَهْنِيَّة ، وعَصَب مُحَرِّك ، وعَضَلَة ، وأصبح مائة وثلاثين مليون عُصَيَّة بالشَّبَكِيَّة ، وعِشْرين مليون نِهاية عَصَبِيَّة بالأنف، ولِكُلّ نِهاية سَبْعة أهْداب ، ولِكُلِّ هُدْبٍ مادَّة مُخاطِيَّة تتفاعل مع الرائِحَة ويتَشَكَّل شَكْل هَنْدسي وتُشْحن إلى الدِّماغ ، وبالدِّماغ تأتي على مِلَف الروائِح عَشْرة آلاف بنْد ، وتُسْتَعْرَضُ هذه واحِدَةً واحِدة إلى أن تعْرِف أنَّ هذه الرائِحَة ياسَمين بِخِلال ثواني ؛ قُتِلَ الإنسان ما أكْفَرَه ! المَعِدَة تَحْوي خمسُ وثلاثون مليون عُصارة هاضِمَة ، وهناك بالكِلْيَة طريق طوله مائة كيلو متْر يقْطعه الدَّم في اليوْم خمْسة مرَّات ؛ شيء بالجِسْم مُذْهل وبِكُلِّ ثانِيَة يولد اثنان ونِصف مليون كريَّة حَمْراء ، وبِكُلِّ ثانِيَة يموت اثنان ونصف مليون كريَّة حمْراء ؛ قُتِلَ الإنسان ما أكْفَره ، وما الذي حَمَلَهُ على أن يكْفر ؟ وما أشَدّ كفره ! ومع أنَّهُ خُلِقَ من نُطْفةٍ مُخَلَّقة وغير مُخَلَّقة ، ومن نطفة أمْشاجٍ ، ونطْفة ضَعيفة ، عَظْمُ عُنُق الفخذ يحْمل مائتان وخمسين كيلوغرام، كُلّ هذا وأصْل الإنسان من ماءٍ مهين ، معنى مَهين أنَّهُ يسْتَحْيي به لو كان على ثَوْبِه ، فهذا الماء المَهين كيف أصْبح عَظْماً قاسٍ ؟
فيا أيها الإخوة الكرام ، ربنا عز وجل يقول: أيها الإنسان أنت حينما كَفَرْت أهْلَكْتَ نفْسك وأشْقَيْتها وقتلْتَها ، قال تعالى:

 

﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)﴾

 

[سورة عبس]

 تجد الطِّفْل رئتاهُ وهو جنين مُعَطَّلتان ! بِقَلْبِه يوجد ثُقْب اسْمه ثُقْب بوتال وهو ضِمْن الأُذَيْنين ينتقل الدَّم من أُذَيْن لآخر ، فَحينما يَلِد تأتي جَلْطة فتُغْلِق هذا الثُّقْب ، من فعل هذا ؟! فَتْحُ القلب يحْتاج إلى ثلاث مئة ألف ليرة ، فلو بَقِيَ الثُّقْب مَفْتوحاً أُصيب الجنين بِمَرض الزَّرَق ، يعيش عَشْر سَنوات وبعدها يموت الطِّفْل ، كان لي صديق بنته معها هذا المرض وبيته عَشْر درجات ، ربْع ساعة من أجْل تصعد طابِقاً واحِداً ، وكذا الأمعاء والرئتان والبِنْكِرْياس ، فالإنسان أحْياناً يرى حَيَوانا يخاف منه فهذا بِواسِطَة العَيْن إذْ تُرْسِل إشارة إلى الدِّماغ ، فَيُدْرك الدِّماغ الخطر ويُكَلِّف وسيط بينه وبين ملِكَة الجِهاز الهُرْموني ، والوسيط هذا جِسْم تحت السرير البصري ، والغُدَّة النُّخامِيَّة وزْنها نِصف غرام ، تُعْطي اثْنى عَشَرَ هرمون وأحد الهرمونات اسمه الكزر ، وهو الذي يُنَبِّهك على وُجود الخطر ، ويبْعث هرمون يُضَعِّف ضَرَبات القلْب ، وهرمون يرْفع وجيب الرئتان ، وهرمون يطْرح سُكَّر زائِد بالدم ، وهرمون يطْرح هرمون التَجَلَّط ، وهرمون يُضَيِّق الأوْعِيَة فَتَجِد الإنسان قد اصْفَرَّ لونه ما هذا الإنسان؟! وكذا غُدَده الصَّماء والدرقِيَّة والعِظام ؛ من أيِّ شيء خلقه ؟! قال تعالى:

 

﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾

 

[سورة عبس]

 فهذا الرَّحِم فيه الغُلام ، وحجم الرحم سبعة مائة وخمسون سم3 فإذا أراد طلْقاً ، يفعل تَقَلُّصات لطيفة ، إلى أن يخْرج الطِّفل قُوَّة التَّقلّص لو كان الطريق مَفْتوحاً لَقُذِفَ الولد إلى اثْنى عَشَر متْر ! ثمَّ هناك عَمَلِيَّة ميكانيكيَّة إذْ عَظْمُ الحوْض يتَوَسَّع وذلك بِهُرْمونٍ خاصٍ يقْلب الجنين ويجْعل رأسه لِتَحْت ، وهرمون يفتح الغشاء الذي حول الجنين ، ثمَّ الرَّحِم يضْغط فَيَخْرج الغُلام ، بعدما يخْرخ يخْرُجُ معه الخَلاص ، وبع الخَلاص يَتَقَلَّص الرَّحِم تَقَلُّص ويُصْبح مثل الصَّخْر ، فلولا هذا التَّقَلّص لماتَتْ الأمّ لأنَّ جميع الشرايين مَفْتوجة ، فَكُلّ هذه الشرايين تُغْلق والعلماء قالوا: لو عُكِسَ التَّقَلُّصان لماتَت الأمّ وجنينها ، فلو كان التقلّص عنيف مات الجنين ولو كان ليِّناً ماتت الأم ، قال تعالى:

 

﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾

 

[سورة عبس]

 فالوِلادة عَمَلِيَّة مُعَقَّدة جداً ، قال تعالى:

 

﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)﴾

 

[سورة عبس]

 فَمِن نطْفة إلى علقة إلى مضْغة إلى جنين فولد يَسَّره ثمَّ يكْبر ويصبح شخْصاً كبيراً ، غَنِياًّ، ثمَّ أزْمة قلْبِيَّة ؛ عَظَّم الله أجْركم ، ثمَّ يوم القيامة الحِساب.
ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)﴾

 

[سورة عبس]

 إلى الآن ما تاب وما اسْتقام ! وما اْطلح مع الله ، فهذه الآيات تكْفي فالله أمرك أن تصوم فهل صُمْت ؟ وأمرك أن تزكي فهل زَكَّيْت ؟وأمرك أن تضْبط لسان فهل فعلْتَ ؟ وغضّ البصر ، هذا هو دَرْس اليوم الإنسان كأنَّه قتل نفْسه حينما يكْفر مع أنَّه لا مُبَرِّرَ للكُفْر ، فقد كان من لا شيء ، فكُلّ من قال: أنا فَهُوَ أحْمَق ، خلق من نطفة خرجت من عورة ودخلت إلى عوْرة ، ولو كانت على الثِّياب لاسْتَحْيَيْتَ بها ؛ من ماءٍ مهين ! فعلى الإنسان أن لا ينْسى أصْله.

تحميل النص

إخفاء الصور