- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (080) سورة عبس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، الآيات الأخيرة من سورة عبس وهي قوله تعالى:
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)﴾
الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة، يوم يفرّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه فالإنسان له زوْجة وأمّ وولد وأخ وأب، لماذا بدأ الله تعالى بالأخ ؟ لأنَّ أمَّه وأبيه كبيران في كبيران وولده صغير، من الذي يُعينك عند الشِدَّة ففي هذه الآية قُدِّم الأخ على كلّ الأقرباء، في آيةٍ أخرى قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)﴾
قُدِّمَ الأب، وفي آيةٍ ثالثة:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14) ﴾
قُدِّمَت المرأة، وفي آيةٍ رابعة قال تعالى:
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11)﴾
فما هذا الترتيب ؟ في آيةٍ قُدِّمَ الولد، وفي أخرى قُدِّمَت المرأة، وفي آيةٍ قُدِّمَ الأب، وفي آيةٍ قُدِّم الابن، وفي أخرى الأخ، ففي مَوْطن الاسْتِنجاد والاسْتِعانة والاسْتِغاثة، فالذي يُنجدك أخوك أما أبوك وأمَّك وابنك ضِعاف، فالابن صغير وأمَّك وأبوك كبيران، فالمُؤَهَّل كي يُنجدك أخوك أما في موطن الاعتِزاز الاجْتِماعي نبدأ بالأب ؛ قُل إن كان آباؤكم تقول: أنا ابن فلان، في موطن الشَّهوة المرأة، زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النِّساء، في موطِن الفِدْيَة أغنى شيء الولد، يودُّ المُجرم لو يفْتدي من عذاب يومئذٍ بِبَنيه، فهذه الآية:
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)﴾
وقد ورد في بعض الآثار النَّبَوِيَّة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام
((سألتْهُ السيِّدة عائشَة أيَعْرِفُ بعضنا بعْضاً يوم القيامة ؟ - هل يمكن أن يقول الإنسان فلان ابني وذاك أخي - فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، إلا في ثلاثة مواقف إذا الصُّحُف نُشِرَت، وعند الميزان، وعند الصِّراط....))
في هذه المواطن الثلاثة لو وقَعَت عَيْن الأم على ابنها لا تعْرفه ! وذاك من هَوْل المصيبة، حَدَّثني أخٌ بالقاهرة أنَّه لما حدث زلزال بها أنّ شِدَّة خوف أحد الأمَّهات حَمَلْتها على أن تحْمل حِذاءها مكان ابنها الصغير ! قال تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2) ﴾
وفي غير هذه المواطن قد تقع عَيْنُ الأم على ابنها، تقول له: يا بني جعلْتُ لك بطْني وِعاءً وصَدْري سِقاءً، وحجري وِطاءً فهل من حَسَنَةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم ؟! الأم تسْتنجد ابنها ! بِماذا يُجيبها الابن ؟ يقول لها: ليْتني أسْتطيع يا أُمَّاه !! فإنَّني أشْكو مما أنت تَشْكين ! فالله عز وجل قال:
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ(101) ﴾
فالأنْساب في الدنيا كي نتراحم، وكي تسْتَمِرَّ الحياة، تجد الأب يعْمل ليْل نهار من أجل أولاده، ومن أجل إسْعادِهم، ومن أجل اسْتِقْرارهم، أما لو كان تواصل النَّسب في اليوم الآخرة لما كانت هناك جنَّة ! قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)﴾
قال:
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)﴾
طبْعاً الأقارب كلَّهم ذُكِروا ؛ من أخيه وأمِّه وأبيه وصاحبته وبنيه، قُدِّمَ الأخ لأنَّه الأخ كل المُنْجد، ومع ذلك هذا الأخ يوم القِيامة يَفِرُّ منك ويتخلى عنك، ويقول: نفْسي نفْسي فالله تعالى يُقَدِّمُ لنا صُوَر حقيقيَّة لِيَوْم القيامة، وذلك كي يُنَبِّهنا لأهَمِّيَة الموضوع، ومن أجل أن نكون على بَيِّنَة من أمرنا.
ثمَّ قال تعالى:
﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾
ورد بِبَعض الأحاديث أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( يُحْشَر الناس يوم القيامة حُفاةً عراةً...))
لو أنَّ أحداً مَحْكوم عليه بالإعْدام، وفي الطريق من نافذة السيارة رأى امْرأة جميلة فهل ينتَبِه إليها ؟! عنده شأنٌ يُغْنيه عن النَّظر دعانا أحد المرات أخٌ إلى مزْرعَتِه، مع بعض الأصْدِقاء، فقال لي هذه مزْرعة عَمِّي، بعد جاء عَمُّه وما سَلَّم علينا ونحن ثلاثين واحِد، فقُلْت هذا هو عَمّك ! ألا يُسَلِّم علينا ؟ فقال: لم يرَكُم، لقد جاء من مُسْتَشْفى غسيل الكُلْيَتَيْن ! فالمَرَضُ يُنْسيك أن تُسَلِّم على الناس قال تعالى:
﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾
لا يوجد إنسان ليس لديه مُشْكِلة إلا أنَّ بعض المشاكل عويصة، ليس مُلاحق ولا مطْلوب ولا مرض يحتاج إلى أمريكا مُعالجة فقط أمراض صغيرة كوليسْتِيرول وشُحوم وسكَّر عالي، والحموض الثلاثيَّة، فأحد الإخوة رحمه الله تعالى سِتُّ عَمَلِيَّات أقامَها في سنة ونِصْف، لم يَعُد يحْوي شيئاً في بطْنِه، أقاموا المَعِدَة والمُسْتَقيم والأمعاء الدقيقة ونصف البِنْكِرْياس ! فعلى الإنسان أن يشْكر الله تعالى على ما عنده لا على ما ينْقصُه، فَكِّر بما عندك، لأنَّ الله تعالى قال:
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾
إن كان تاجراً بالسوق أو مُوَظَّف بالمعاش، فهو دائِماً في شَكْوى، وهذه صِفَة من صفات البعيد عن الله تعالى، أما المؤمن يُفَكِّر بما عنده من نِعَم، لذلك على الإنسان أن يشْكر الله عز وجل حتى يُديمَها تعالى عليه قال تعالى:
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)﴾
ثمَّ قال تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)﴾
فالناجِح مُبْيَضَّ الوَجْه والخاسِر مُسْوَدَّ الوَجْه، قال تعالى:
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)﴾
فالمُؤمن وجْهه مُشْرِق، لي صديق قاضي تَحْقيق، والقِصَّة قديمة فكنت جالس أمامه وكان معه شَخْص يُحَقِّق معه وَجْهه مُخيف، ثمَّ دخل آخر وَجْهه مُشْرق فقال: له صلَّحْتُ ساعتك، فوازَنْتُ بين هذين الشَّخْصَين فذاك وَجهه مُشرِق لأنَّه نبيل، ذاك مُجْرِم وَجهه كالح وأسْود، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106)وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107)﴾
فالعِبْرة بالنِّهاية والعاقِبَة، وبِمَن يضْحك أخيراً وبِهذا الوَجه النَّظِر الذي ينظر إلى الله تعالى، وأن تكون في الدنيا صالِحاً كي يكون وَجْهك يوم القيامة مُبْيَضًّا وضاحِكاً ومُسْتَبْشِراً، وإلا وَجْهٌ أسْود ووجْهٌ مُغْبَر، ترْهَقُها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة.
فهذا مَشْهد من مشاهد يوم القيامة أرجو الله سبحانه وتعالى أن يُنْقِضنا من النار، وأن يُدْخِلَنا الجَنَّة.