- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الحج ركن من أركان الإسلام :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قبل أن نبدأ موضوع الخطبة لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ مجتمع المسلمين ، ومجتمع المؤمنين مجتمعٌ منظَّم ، فعلى مستوى المسجد وعلى مستوى خطبة الجمعة ، تجدُ القسم الجنوبي مكتظّا بالأخوة المُصلِّين ، بينما القسم الآخر يكادُ يكون فارغًا ، الذي أتمنَّاهُ عليكم في كلّ خطبة أن يبقى ممرّ من الأيْمَن ، وممرّ من الأيْسَر ، كي يصل الأخوة المصلّون إلى القسم الجنوبي من هذا المسجد ، حتى لا يكون هناك مكانٌ مكتضّ ، ومكانٌ فارغ ، دَعُوا ممرًّا في هذا المجال ، وممرًّا في هذا المجال كي يصل الأخوة إلى هذا المكان الذي يكاد يكون فارغًا .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الموضوع المتسلْسِل الذي نحن بِصَدَدِه هو تربيَة الأولاد ، قُطِعَ في الأسبوع الماضي بِسَبب الخطبة المنقولة ، وهأنذا أقْطَعُهُ مرَّةً ثانيَة بسبب قُرْب موْسِمِ الحجّ ، فنحن على مشارف ذي الحجّة أو بدأنا فيه ، ولمْ يبق للوُقوف بِعَرفة إلا عدة أيام .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الحجّ كما تعرفون جميعًا رُكْنٌ من أركان الإسلام ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾
لذلك يُعَدُّ الحجّ فرْضَ عَين يُكفَّرُ جاحدُه ، ويُفسَّقُ تاركُهُ ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ))
لكنّ حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ، بينما الصلاة والصّيام ، الصّيام على المقيم الصحيح ، والزكاة على الغنيّ ، والشهادة مرّة واحدة ، ما الفرْض المتكرّر الدائم الذي لا يسقطُ بِحَال ؟ الصلاة ، الحجّ لِمَن استطاع إليه سبيلاً ، والزكاة على الغنيّ الذي يملكُ النّصاب، والصوم على المقيم الصحيح ، والشهادة مرّة واحدة ، أما الفرْضُ المتكرّر الذي لا يسقط بحال ، لا في الصحّة ولا في المرض ، لا في الإقامة ولا في السّفر ، لا في السِّلْم ولا في الحرْب ، لا في الصِّغَر ولا في الكِبَر ، فإنه الصلاة ، لأنّها عمادُ الدِّين ، فمن أقامها فقد أقام الدِّين ، ومن هَدَمها فقد هدَمَ الدِّين ، ولا خيرَ في دينٍ لا صلاة فيه ، وما قولكم في أنَّ الحجّ إنَّما فُرِضَ مِن أجل إحكام الصِّلة بالله عز وجل ، والصوم إنَّما فُرِضَ مِن أجل إحكام الصِّلة بالله عز وجل، والصلاة والزكاة إنَّما فُرِضَتْ مِن أجل إحكام الصِّلة بالله عز وجل ، تكادُ تكون الصّلاة هي كلُّ شيءٍ ، لأنّ الحجّ من أجلها ، والصوم من أجلها ، والزكاة من أجلها ، والصلوات من أجل الصلاة ، والشهادة من أجل أن تعرف أنّهُ لا إله إلا الله فَتُقْبِلَ عليه .
مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى :
فيا أيّها الأخوة المؤمنون ؛ الحجّ فرْضُ عيْنٍ على كلّ مسلم لقول الله عز وجل :
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾
أما بُنِيَ الإسلام على خمْسٍ فهذا الحديث المعروف المشهور ، الذي لا يجهلهُ مُسلم فيه إشارةٌ دقيقة إلى أنّ الإسلام بناءٌ عظيمٌ ، بناءٌ أخلاقيّ في الدرجة الأولى ، الإسلامُ صِدق ، الإسلام أمانة ، الإسلام تواضُع ، الإسلامُ إنصاف ، هذا البناء الضّخم أساسهُ أركان الإسلام ، لا تستطيعُ أن تكون أخلاقيًّا إلا إذا اتَّصَلْتَ بِمَصْدر الأخلاق ، إنّ مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبْدًا منَحَهُ خلقًا حسنًا ؛ لأنّ الخلق الحسَن هو العمل الصالح ، والعمل الصالح سببٌ في دُخول الجنّة ، وليس ثمنًا لها ، لأنّ الجنّة بِفَضْل الله عز وجل ، والنار بِمَحض عدْل الله عز وجل ، ولكنّ العمل الصالح ففي قوله تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
لن تستطيع أن تكون كاملاً إلا إذا اِتَّصَلْتَ بِمَنْبع الكمال ، لن تستطيع أن تكون محْسنًا إلا إذا عرفْت الله عز وجل ، لن تستطيع أن تكون منْصِفًا ومتواضِعًا ، أن تكون عفيفًا، أن تكون نزيهًا ، إلا إذا عرفت الله ، فمكارمُ الأخلاق مجموعةٌ عند الله ، فإذا منحَ الله عبدًا منحَهُ خلقًا حسنًا ، ومتى يحبّ الله العبْد ؟ إذا أقبلَ عليه ، ومتى يقبلُ عليه ؟ إذا عرفه ، قال تعالى :
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
ثمَنُ اللِّقاء العمل الصالح ، هذه حقيقةٌ طبِّقْها ، لا أقول جرِّبها ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يُجرَّبُ ولا يُشارط ، اعْمَل عملاً صالحًا خالصًا لوجْه الله عز وجل ، من دون أن تظهرهُ ، من دون أن تُشيعهُ بين الناس ، اعْمَلْهُ وانتظِر كيف أنّ الله سبحانه وتعالى يُقبلُ عليك ، كما قلتُ في الخطبة السابقة : العمل المشترك لا يقبلهُ الله عز وجل ؛ الذي فيه شِرْك ، والقلب المشترك لا يُقْبِلُ الله عليه ، فيه شِرْك .
الحجّ مرّة فمن زاد فهو تطوّع :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : الحج في كل سنة أو مرَّة واحدة ؟ قال :
(( بل مرةً واحدةً ، فمن زاد فهو تطوع ))
ولو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام سنَّهُ كلّ عام لكان شيئًا فوق طاقة أُمَّته ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام في سنَّته المطهّرة ، وفي الحديث الصحيح ، وفي إجماع الأئمّة أنّ الحجّ مرّة فمن زاد فهو تطوّع .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مثلٌ أنْتَزِعُهُ مِن نِظام الامتحانات ، لو أنّ الطالب ركَّزَ جهده كلّه على مادّة واحدة ، فنال بها العلامة التامّة ، والمواد الأخرى لمْ ينْجَح بها ، هذا الطالب لا ينْجح في هذا العام ، العِبرة أنْ ينجح ، وينتقل إلى صفّ أعلى ، كذلك هذا الذي يُضَيِّع الحقوق ، يقصِّرُ في واجباته ، ويركِّزُ على فريضةٍ واحدة ، قد نقول له : الأولى أن تؤدِّيَ ما عليك من حُقوق ، وتؤدِّيَ ما عليك من واجبات ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منك التوازن ، أن تُعْطِيَ كلّ ذي حقٍّ حقّه ، أن تعْطِيَ أولادك حقّهم ، أهلك حقّهم ، مجتمعَكَ حقّه ، جيرانك حقّهم، زبائنك حقّهم ، من لهم صلة بك حقّهم ، لابدّ من التوازُن ، فالله سبحانه وتعالى لا يقبلُ نافلةً أدَّتْ إلى ترْك واجبٍ .
التعجل إلى الحج :
شيءٌ آخر ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( تعجلوا إلى الحج ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ))
وتَرَوْنَ معي أنَّه كلّما مرَّت السنون والأعوام وُضِعَتْ قُيودٌ جديدة على حُجّاج بيت الله الحرام بِسَبب الكثْرة الكاثرة ، والازدِحام الشديد ، فإذا كان هذا العام قد تيسَّر لك الحجّ فتعجَّل لأنّك لا تدري ماذا يعرضُ لك ، ويعرضُ لِنِظام الحجّ في العام القادِم :
(( تعجلوا إلى الحج ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ))
حِكَم الحج :
أيها الأخوة الأكارم ؛ للحجّ فوائد عظمى ، وآثارٌ كبرى ، كيف لا وهو أمرٌ إلهي ؟ والذي خلقَ الكون خلقهُ في أحْسن نِظام ، وأبدعهُ في أبدع نِظام ، هذا أمْرُه ، وكمال الخلق يدلّ على كمال الأمْر ، هذا الكون خلْقُه ، وهذا الحجّ أمْرُه
فلا بدّ من أن يكون في الحجّ فوائد كبرى، وحِكَمٌ عظمى ، لأنّه هنا يفترق الحجّ كعِبادة عن الوَثَنِيَّات والطّقوس التي عُرفَت في الشرائع الأخرى التي لا أصل لها ، إذا كان الدِّين الإسلامي دين الله عز وجل ، إذًا أوامرُه من عند الخالق ، والخالق عليمٌ حكيم ، فلا بدّ من أن نسْتنبطَ من فوائد الحجّ ما لا سبيل إلى حصْرِهِ، لكنّ الإنسان مأمورٌ أن يؤدِّيَ هذه الفريضة ، أَعَرَفَ الحِكْمة أم لمْ يعْرفها ، ولكن إذا عرف الحِكمة بل إنّ بعض العلماء يقول : إذا بِدافعِ عبوديتِك أدَّيْت الأمر الإلهي كما يريد كشفَ الله لك حِكمتَهُ مكافأةً لك .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من أولى حِكَم الحجّ أنَّه برهان عمليّ لك ، دائمًا الإنسان قلق ، يحبّ أن يعرفَ مكانهُ عند الله تعالى ، يحبّ أن يعرف ما له عند الله ، فالله سبحانه وتعالى ورسوله يجب أن يكونا أحبَّ إليك من أهلك ومالك وولدك والناس أجمعين ، لا يؤمن أحدكم كما ورد في الحديث الصحيح :
((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَحَتَّى يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي كُفْرٍ بَعْدَ إِذْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))
فإذا تركْتَ بيتَكَ ، وترَكْتَ أهلك ، وتركْتَ ولدك ، وتركْت مالك ، وتركْت متْجرك ، وتركْت وظيفتك ، وتركْتَ مكانتك ، وتركْت كلّ الذي حصّلتهُ في هذه الدّنيا ، وذهبْت إلى بيت الله الحرام ، حيث الحرّ الذي لا يُطاق ، وحيث الازدحام الشديد ، وحيث النّفقات ، ماذا فعلْت أنت ؟ أنت برْهَنْتَ لِنَفْسِكَ قبل كلّ شيء أنّ الله ورسوله أحبّ إليك من أهلك وولدك ومالك والناس أجمعين ، كيف أنّ الصّيام عبادة الإخلاص ، وأنت في البيت وحدكَ تمتَنِعُ عن شرْبة ماءٍ باردة ، لا يراك أحد إنَّما تمْتَنِعُ عن هذه الشَّرْبة امْتِثالاً لأمْر الله الذي يراك ، كذلك الحجّ برهانٌ لك على أنّ الله ورسوله أحبّ إليك من أهلك ومالك وولدك ، من مالك لابدّ من إنفاق المال هناك ، من أهلك لابدّ من ترْكهم ، من ولدك لابدّ من مُفارقتهم ، من عملك لابدّ من ترْكِهِ.
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الحِكمة الأولى ، لذلك شاء الله عز وجل أن يكون بيتَهُ في منطقةٍ حارّة ، وشاءَتْ حكمتهُ أن يكون الحجّ في وقتٍ واحدٍ ، فلابدّ من أن يتَّجِهَ مليون أو أكثر إلى مكانٍ واحد ، وأن يسْعَوا ، وأن يطوفوا ، وأن ينتقلوا إلى عرفات ومنى في وقتٍ واحد، وهذا ما فيه من المشقّة من أجل أن تعرف أنَّك آثرْت الله على كلّ شيءٍ ، هذه بعضُ فوائد الحجّ .
الحجّ رِحلةٌ إلى الله عز وجل :
شيءٌ آخر أيّها الأخوة ، هذه الرّحلة إلى الله عز وجل ، الله سبحانه وتعالى أضافَ البيت إلى ذاتِهِ ، قال تعالى :
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾
أضاف البيت إلى ذاته ، وأمرنا أن نتَّجِهَ إليه ، فكأنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نذهب إليه ، فكأنّ الحجّ في أعْمَق مَدلولاته رِحلةٌ إلى الله عز وجل :
((إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زواري فيها هم عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني ، وحق على المزور أن يكرم الزائر))
إذا انتقلت من بيتك إلى مسجدٍ جانب البيت حُقّ على الله عز وجل أن يُكرمَك ، تعود من هذا المسجد بآيةٍ لم تكن تعرفها من قبل ، تعودُ بحديث نبويّ شريف ، تعود بآيةٍ كوْنيّة زادَتْ معرفتَكَ بالله عز وجل ، تعودُ بانْشِراح صدْرٍ ، تعود باسْتقرار نفسٍ ، تعود بشُعور الطاعة، وبِشُعور أنّ الله يحبّك ، إذا زُرْتَ مسجد حيّك ، واسْتَمَعْت إلى درس علْمٍ ، أو خطبة جمعة ، نِلْتَ ما نلْتَ في هذا اللِّقاء إذا كان خالصًا لِوَجه الله تعالى فكيف إذا تركْت البلاد ، وتركْت أهلك وأولادك وأموالك ومكانتك ووظيفتك ، وتحمَّلْت المشاقّ الكبيرة من أجل أن تلبِّيَ دَعوة الله عز وجل ؟ ماذا ينتظرُكَ في البيت الحرام ؟ ماذا ينتظرُك في عرفات ؟ ماذا ينتظركَ في المسْعى ؟ ماذا ينتظرك في مِنى ؟ ماذا ينتظرك عند النبي عليه الصلاة والسلام ؟ من ذهب إلى الحجّ وذاق لذّة القرب ، وحلاوة المناجاة ، وصِدْق الإقبال على الله عز وجل ، والشُّعور بأنّ الله عز وجل قد قبلَهُ وغسلَهُ من ذنوبه وخطاياه ، هذا الشُّعور لا يعرفُه إلا من ذاقَهُ .
الحج تدريب على الرحلة الأخيرة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلّنا إلى الموت صائرون ، ولا شكّ في هذا ، ولكن قد يأتي الموت من دون أن تستعدّ له ، وهذه مصيبة المصائب ، أن يأتِيَ بغْتةً وأنت لسْتَ مسْتَعِدًّا له ، لذلك كأنّ الحجّ فرضَهُ الله عز وجل لِيَكون تَدريبًا على الرّحلة الأخيرة ، هذا الحجّ رِحلةٌ قبل الأخيرة ، لماذا ؟ تخْلعُ ثيابك ، والثّياب لها معنى كبير ، الإنسان يتيهُ على الناس بِثِيابِهِ ، ثيابُ الإنسان تُنبئ عن مركزِهِ المالي ، أو عن مركزه الاجتماعيّ ، لِكُلّ مهنةٍ ، ولكلّ وظيفةٍ راقيَةٍ ثيابٌ تتناسبُ معها
ففي الحجّ يجبُ أن تخْلعَ ثيابك ، أيْ تتخلّى عن مركزك المالي ، وعن مكانتك الاجتماعيّة ، لا ترتدي إلا ثوْبَي الإحرام ، هذا المعنى الأوّل ، المعنى الثاني لا ترتدي شيئًا على رأسك ، لا شيءَ يسْترُ قدمك ، لا تستطيعُ أن تتطيَّب ، لا تستطيعُ أن تقصّ أظافرك، إذًا تدريبٌ على التخلّي المفاجئ على كلّ ما في الدنيا ، رِحلةٌ أخيرة ، ترْكٌ للدنيا كلّها ، الأشياء المُباحةُ في بلدك ؛ العِطرُ ، الطِّيبُ ، الصابون المطيّب ، أن تحلقَ رأسك ، أن تقلّم أظافرك ، أن ترتدي ثوبًا مخيطًا ، وثوبًا مريحًا ، هذا كلّه ممنوعٌ في الحجّ ومن مَحظورات الإحرام ، لماذا ؟ أنْ يا عبدي لابدّ من تَرْك الدنيا كلّها ، كأنّ الحجّ تدريبٌ مبكّر ، إنذارٌ مبكّر على أنّ الدنيا لا بدّ من أن تُتْرَكَ ، إذًا يمكن أن نُسمِّي الحجّ : الرحلة قبل الأخيرة .
شيءٌ آخر ، ربّنا سبحانه وتعالى جعَلَ الناس في الدنيا مراتب ، هناك مراتب بِحَسب الدّخول ، وهناك مراتب بِحَسب الوظائف ، وهناك مراتب بِحَسب الإمكانات الاجتماعيّة ، الناس جميعًا في الحجّ غَنِيُّهم وفقيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، قويُّهم وضَعيفهم ، أعلى مَن فيهم وأدنى من فيهم سواسيَةٌ كأسنان المِشط ، وهذا يذكِّرُك بِيَوم الحشر ، قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾
تقف بين يدي الله عز وجل لا شأن لك إلا عملك الصالح ، عشيرتك ، جماعتك، من حولك ، مالك ، بيتك ، من هم فوقك ، جميعًا تَخَلَّوا عنك ، فيا أيها الأخوة المؤمنون دعوا في أذهانكم أنَّ الحجّ تدريبٌ على الرّحلة الأخيرة ، على رحلة الآخرة التي لا عوْدَةَ منها إلى الدنيا ، والحجّ نموذجٌ عملي ليوم الحشر ، يوم يقوم الناسُ لربّ العالمين ، والحجّ برهانٌ على أنّك تحبّ الله ورسوله أكثرَ مما تحبّ أهلك وأولادك ومالك والناس أجمعين .
الحج عبادةٌ شعائريّة وماليّة وبدَنِيَّة :
هناك شيءٌ آخر ، هذه العبادة التي وُصِفَت بأنَّها عبادة بدنِيَّة ، تحتاجُ إلى جهدٍ كبير ، وعبادةٌ ماليَة تحتاجُ إلى إنفاق مال ، وعبادةٌ شعائريّة لا بدّ من دُعاءٍ خاصّ ، ووقْفةٍ خاصّة ، ومَسْعى خاص ، وتوازن خاص ، عبادةٌ شعائريّة وماليّة وبدَنِيَّة ، هذه العبادة كأنّها تُعَوِّدُ المؤمن الصّبْر ، تُعَوِّدُهُ تحمُّل المشاقّ ، وتعوِّدُه خُشونة العَيش ، تُعَوِّدُه أن يكون جاهزًا للجهاد في سبيل الله .
الحج تعريف بالجهد الكبير الذي بذله النبي لنشر الدعوة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر في الحجّ ، هو أنّ الإنسان إذا ذهب إلى هناك، ورأى الكعبة المشرّفة ، حيثُ طافَ النبي حولها ، وحيثُ بناها سيّدنا إبراهيم عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ الصلاة والسلام ، أو أتمّ بناءها ، أو جدَّد بناءها لقوله تعالى :
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾
وحيثُ المَسعى بين الصفا والمروَة ، وحيث جبل الرحمة في عرفات ، النبي وأصحابُه الكرام طافوا حول البيت ، وسَعَوا بين الصفا والمروَة ، ووقفوا في عرفات ، وباتوا في مِنى ، إذا رأيْتَ الأماكن المقدَّسة صارَتْ في نفْسِكَ العواطف التي ينبغي أن تثور في نفسِ كلّ مؤمن ، كيف بدأت الدعوة ؟ وكيف بدأها النبي عليه الصلاة والسلام وحدهُ ؟ كيف عارضَهُ المشركون ؟ كيف آذَوْهُ ؟ كيفَ أخرجوه ؟ كيفَ هاجَرَ إلى المدينة ؟ طريقُ الهِجرة أربعمئة وخمسون كيلو متراً في حرّ الهاجرة قطَعَها النبي عليه الصلاة والسلام من أجل الدعوة إلى الله عز وجل ، ماذا بذلنا نحن ؟ إذا رأيْتُم الحرّ الشديد هناك تعرفون ما في السيرة من جُهْدٍ جهيدٍ بذلهُ أصحابُ النبي في الغزوات ، وفي التنقّل ، وفي الهِجرة .
الفرق بين الحاج و السائح :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قد يسأل سائلٌ لماذا المشَقَّة ؟ ولماذا الازْدِحام ؟ ولماذا هذه النّفقَات؟ والجواب ؛ لِيَكون هناك فرْقٌ بين الحاجّ الذي يبتغِي بِحَجِّه رِضوان الله عز وجل ، وبين السائِح الذي يبتغي من رحلتِهِ المتْعَةَ والنُّزْهة ، فهناك يسْعَدُ الحاجّ سعادةً لا توصَف إذا كان مخلصًا لله في حجّه ، وهذا يعرفُه كلّ أخٍ حجّ البيت واعْتَمَرَ ، وأما الذي يذهبُ إلى هناك لِيَجِدَ المكان اللّطيف ، والخدمات الجيّدة ، ويجدُ ما يحتاجهُ السائحُ من رفاهٍ ، إنَّه لن يجِدَ من هذا شيئاً لأنّه اخْتلَّت عندهُ النيّة التي أرادها الله عز وجل أن تكون خالصةً إليه .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كل شيء خلق بقدر من لدن حكيم عليم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربّنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم :
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
هناك تقدير دقيق في كلّ شيءٍ خلقه الله عز وجل ، هذا المعنى يُستنبطُ أيضًا من قوله تعالى :
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
إضافةً لِمَعنى الحق إنّه الشيءُ الثابت الذي لا يزول موازنةً له مع الباطل الذي يزول :
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ﴾
معنى آخر للحق ، هو الشيءُ الهادف الذي يتناقضُ مع العبث ، قال تعالى :
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾
والمعنى الثالث أنَّ الشيء الذي خلقَ بالحق ، أيْ قُدِّرَ تقديرًا دقيقًا من لدُنْ حكيمٍ عليم خبير .

صمم الله الحنجرة لتكون جهاز الصوت في الإنسان
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الحنجرة التي هي جِهازُ الصوت عند الإنسان ، ضبْطُها في اللّغة حَنْجَرَة لا حُنْجُرَة كما يلفظها عامّة الناس ، هذه الحَنجرة التي خلقها الله عز وجل وصمَّمَها لتَكون جهاز الصوت في الإنسان ، يقول الأطبّاء : إنّ فتْحة الحَنْجرة قد قُدِّرَت تقديرًا دقيقًا جدًّا بحيثُ لو اتَّسَعَت أكثر مِمَّا هي عليه لاختفى صوت الإنسان ، ولو ضاقَتْ أكْثَر مِمَّا هي عليه لأصْبحَ التنفّس عسيرًا ، إما أن يكون التنفّس مريحًا ويختفي الصوت ، وإما أن يكون الصوتُ واضحًا ويصعُب التنفّس ، أما أن تكون فتْحةُ الحَنجرة مدْروسةً دِراسةً دقيقةً في لغتنا ، أو من تَصميم حكيم عليم قدير ، بحيثُ لو أنَّها اِتَّسَعت أكثر مِمّا هي عليه بقليل لاختفى الصّوت ، ولو ضاقَت أقلّ مِمَّا هي عليه بِقَليل لأصبحَ التنفّس عمليَّةً شاقّة ، من جعَلَ هذه الفتْحة بهذا القَدْر ؟ إنَّ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾
هذا ينقلنا أيها الأخوة إلى عتبات الحواسّ ، إنّ هذه العَين ترى ، وهي ترى بين عَتَبتَيْن ، لو أنَّ الرؤية زادَت عن حدِّها الذي هي عليه لأصبَحَت حياتنا شقاءً ، إنّك إذا نظرتَ إلى كأس الماء الذي تشربُهُ الآن ، كأسٌ صافٍ عذبٌ فراتٌ رائِق ، لو أنّ عتَبَة البصر زادَتْ قليلاً ، ودقَّت أكثرَ مِمَّا هي عليه لرأيت في هذا الكأس العجَب العُجاب ، لرأيت الكائنات الحية والجراثيم غير الضارة والبكتريات بِعَددٍ لا يُحصى ، إنَّك لن تشربَ الماء ، ولرأيْتَ هذا الطّفل الصغير بِخَدِّه الأسيل كأنّه مغاراتٌ ونتوءات ، لذلك ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
ولو أنَّ عَتَبَة السَّمْع ارْتَفَعَ مُستواها قليلاً لما أمْكنك أن تنام الليل ، لأنّ الأصوات كلّها تتلقّفها ، بل إنّ أصوات جهاز الهضْم وحدهُ تكادُ تكون كالمعمل الكبير ، جعل الله لك عتبةً خاصّة في السّمْع لا تزيدُ عن هذا الحدّ ، لو أنّ حاسّة الّلمْس زادَت لشَعَرْتَ بالكهرباء الساكنة التي تُحيل حياتك جحيمًا ، كلّ شيءٍ فيه كهرباء ساكنة ، إذا زادَت حاسّة اللّمس عن هذا الحدّ لأصبحَت الحياة لا تُطاق ، لو أنّ حاسّة الشمّ زادَت ، بعض الحيوانات حاسّة الشمّ عندها تزيدُ مليون ضعف عن حاسّة الإنسان ، غير أنَّ الله سبحانه وتعالى شقّ لنا السمع ، وأنشأ الأبصار والأفئدة ، وخلق حاسّة اللّمْس ، وحاسّة البصَر ، غير كلّ هذا إنّ هذه الحواس صُمِّمَتْ تصميمًا دقيقًا جدًّا من قِبَل الله تعالى .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .