وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة النور - تفسير الآيات 47 - 52 الازدواجية موقف المنافقين إذا القانون بِجانِبِهِ، يلجأ إلى القانون، وإذا الشَّرْع بِجانِبِهِ يلجأ إلى الشَّرْع.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة الكرام، فالآية السابعة والأربعون من سورة النور وهي قوله تعالى:

﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[سورة النور]

 يتولَّى عن طاعة الله ويتولَّى عن قَبول الحق، ويتولَّى عن نُصْرة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا الإنسان كلامُهُ مُخالِفٌ لِفِعْلِهِ، لذلك الله جلَّ جلاله يقول:

 

﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

 

[سورة النور]

 الآن قال تعالى:

 

﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)﴾

 

[سورة النور]

 هذه الآية مِن أدَقِّ الآيات، وسوف نُوَضِّحُها بِمَثَل ؛ فلانٌ مِن الناس له قَضِيَّة مع شَخْص، وينحلّ عند العلماء حَصْرًا، بيتٌ مُؤَجَّر، فالقانون ليس مِن جانِبهِ، ويقول لك: أريدُ حُكمَ الشَّرْع ! إنسانٌ مُسْلِمٌ وورِعٌ وتقيّ لا يريد إلا حُكم الشَّرْع، لأنَّ له حاسَّة سادِسَة أنَّ هذه القضِيَّة لا تُحَلُّ إلا بالقضاء، ولا بالقانون، فقانون الإيجار ليس بِجانِبِه، والمُستأجِر مُوَظَّف ومَحْمي هو وأولادُهُ، ولا يوجد إلا طريق العلماء، فهذا المُؤَجِّر لمَّا يرى أنَّ القَضِيَّة لا تُحَلّ عند القانون ولا عند القاضي ؛ حينها يأتي عند العلماء لِيَسألهم في حكم الله في هذا الموضوع، وإذا يخصُم على إنسانٍ مائة ألف على إنسانٍ في الجمرك، يقول لك: سوفَ أُبَلِّغ !! لماذا لم تسْأل العلماء بالموضوع الثاني ؟!! فالإنسان له حاسَّة سادِسَة ؛ وهي أين يُحَلُّ موضوعي ؟ إذا القانون بِجانِبِهِ، يلجأ إلى القانون، وإذا الشَّرْع بِجانِبِهِ يلجأ إلى الشَّرْع ! فهذه المواقف المُزْدَوِجَة، وهذه الثنائِيَّة، تارةً حكم قضائي وتارةً حُكمًا شرْعِيًّا، ومرَّةً مُحامي، فهذا الموقف هو موقف المنافقين، وهذا الموقف ليس مِن أخلاق المؤمن، قال تعالى:

 

﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

 

[سورة النور]

 فهؤلاء كاذِبون، فمادام تولَّوا عن طاعة الله، وعن نُصْرة الحق، وعن الانْضِواء تحت لِواء الإسلام، قال تعالى:

 

﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

 

[سورة النور]

 قال تعالى:

 

﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾

 

[سورة النور]

 فقوله إلى الله أيْ إلى قرآنِه وإذا رسوله أي سُنَّتِهِ، تجِدُ حُكم الشَّرْع واضِح ؛ للذَّكر مثل حظِّ الأنثيين، يقول لك: لا نُعطي البنات، فهذا المال يصِلُ إلى الأجانب، وإلى الأصْهار، قال تعالى:

 

﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)﴾

 

[سورة النور]

 يعرضون عن الله ورسوله، قال تعالى:

﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)﴾

[سورة النور]

 إن يكن لهم الحق بالدِّين يأتي إلى الله ورسوله مُذْعِنًا إن علِمَ أنَّ قضِيَّتَهُ تُحَلُّ عندهما، أما إن لم تُحلَّ مشْكِلتُهُ بالدِّين يُعرِضُ عن الله ورسوله ! هذه هي الازْدِواجِيَّة بالمقاييس، والله لو مشى الإنسان من دون ثِياب في الطريق - والإنسان بشِع بِهذه الحالة- أفضل من هذه الازْدِواجِيَّة ! وأهْونُ مِن أن يحْتَكِمُ تارَةً إلى الشَّرع وتارةً إلى القانون.
 إن كنتَ تُوقِن أنَّك مُسلمًا فما عليك إلا أن تحْتَكِمَ إلى الشَّرْع، وإن كنت عِلْمانِيًّا أو مُلْحِدًا، فهذا هو القانون، وتجِدُهُ يتفلْسَف، فالتَّحَسُّس لِلمواضِع التي تُحلُّ فيه قضِيَّتُهُ هذا موقف المنافقين، فأنت كَمُسْلِم تلجأ إلى الشَّرْع في كلّ القضايا، أما أن تكون مرَّةً للقانون وأخرى للشَّرْع فهذا التَّنقُّل هو سبيل المنافقين، فالمنافقون مُذَبْذَبين بين ذلك.
 وتكادُ تكون هذه الآية وحيدة في القرآن، ولا يوجَدُ غيرها، فهي تُبيِّنُ ازْدِواجِيَّة المقاييس، قال تعالى:

 

﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)﴾

 

[سورة النور]

 قال تعالى:

 

﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50)﴾

 

[سورة النور]

 من هم المؤمنون ؟ قال تعالى:

 

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)﴾

 

[سورة النور]

 وقال تعالى:

 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا(36)﴾

 

[سورة الأحزاب]

 فالله عز وجل قضى في القرآن أنَّ للذَّكر مثل حظِّ الأنثييْن، فالذي له رأيٌ آخر بِحِرْمان البنات فهذا ليس مؤمنًا، لأنَّ الله قضى في هذا الموضوع قضاءً واضِحًا فكلّ مَن أبى الشَّرْع، والانْضِواء تحته، فليس مؤمنًا قال تعالى:

 

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)﴾

 

[سورة النور]

 قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)﴾

 

[سورة النور]

 فأنت عبْد لله عز وجل، وأنت لك شرْع من عند خالق السماوات والأرض شرعٌ كما قال أحد العلماء: الشريعة عدلٌ كلُّها و رحمةٌ كلُّها و مصلحةٌ كلُّها، فأيَّةُ قضيَّةٍ خرجتْ من العدل إلى الجوْرِ و من المصلحة إلى المفسدةِ و من الرحمة إلى خلافها فليست من الشريعة ولو أُدخِلتْ عليها بألف تأويلٍ،
 عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

 

(( إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْجِعْهُ ))

 

[رواه البخاري]

 هذا كلام النبي، فالمؤمن كما قال تعالى:

 

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)﴾

 

[سورة النور]

 فعلامة المؤمن، هذا الشيء ليس لك، هذه الآية وهذا الحديث، وهذا الشيء لك هذه الآية و هذا الحديث، هذا المهر لابنتك و هذا الطلاق غير جائز، المؤمن الصادق ينضوِي تحت الشرع، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)﴾

 

[سورة النور]

 فأنت الفوز عندك ما مقياسه ؟ مع مال طائلٌ و لك بيتٌ نزعته من صاحبه قهرًا، لستَ فائزًا، عند القانون فائز ولكنَّك عند الله خاسرٌ.
 أحد الأخوة الكرام تاجر، أخذ مَحْضرًا بمركز استراتيجي في المدينة قال لي: أصلحني اللهُ، بأسلوب ذكيٍّ المحضر على الشُّيُوع، خمسةُ أشخاص لصالحِ واحدٍ، رفعنا السعرَ حتى استقرَّ على سعرٍ يساوي نصفَ قيمته، و فيه أيتامٌ و بعد ما فاز بالمحضرِ وصار ملكًا له و شعر بنشوةٍ جاء إليَّ فقال لي: أنا متضايِقٌ، قلتُ لماذا ؟ قال: أخذتُ المحضر بهذه الطريقةِ، فقلتُ له، لا تنس القبرَ و الموتَ و الحسابَ، و أصحاب هذا المحضر أيتامٌ و قُصًّرٌ و أنت أخذتَه بأسلوبٍ غير شرعيٍّ بنصف قيمته قال: ما العمل ؟ قلت: أمامك حلَّانِ، إما أن تنسحب من هذا المحضر أو تدفع لأصحابه القيمةَ الكاملةَ، فقال: انسحبتُ، هذا هو المؤمنُ، فانظُر حكم الله، هناك ألفُ قضيَّة القانون معك فيها، لكن لابد لك من حكم الله لأنك لن تنجوَ من الله، يا أُويسُ، إن لك قرينا يُدفَن معك وهو حيٌّ، و تُدفَن معه و أنت ميِّتٌ فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك، ألا وهو عملُك

 

و القبر صندوق العمل:

 

الدنيا ساعة فاجعلها طاعةً  و النفس طمَّاعةٌ عوِّدْها القناعة
***

 أيها الأخوة الكرام، أرجو الله جل جلاله أمام كلّ موقف هيئ جوابًا لله تعالى، وأمام كلّ عطاء، وأمام كلّ ابْتِسامة، وقبل أن تُعطي، وقبل أن تأخذ، وقبل أن ترْضى، وقبل أن تتزوَّج أو تُطَلِّق، وقبل أن تصِلَ أو تقْطع، فالآيات دقيقة جدًّا، ولا تسْتَعمِل مقياسَين، بل مِقياس الشَّرع أقْسَمَ لي واحِد أنَّهُ قدَّم لِوَرَثَةٍ عشرين مليون ليرة ولا يمْلِكون أيَّ وصْلٍ ولا علم أنَّ هذا المال معي ؛ هذا هو الشَّرْع وهذه هي الأمانة.
 هذه الآية تُبيِّنُ مرضًا خطيرًا، وهو مرض الازْدِواجِيَّة، ومرض اسْتِخدام مقاييس مُزْدَوِجَة، ومرض البحث عن المصْلحَة، ثمَّ هؤلاء الأقوياء لمَّا اسْتَخدموا مِقياسَين حقرهم الناس.

 

 

تحميل النص

إخفاء الصور