- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، و ما توفيقي و لا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله سِّيدُ الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الصبر ثمن دخول الجنة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع الصبر ، وقد بيَّن النبي عليه الصلاة و السلام حينما سئل عن الإيمان فقال : " هو الصبر . . . " و يكفي أهمية لهذا الموضوع أن الله سبحانه و تعالى جعل الصبر جزاء أهل الجنة ، أي أن الصبر هو ثمن دخول الجنة ، الله سبحانه و تعالى في كتابه الكريم بيَّن مكانة الصبر و الصابرين فقال تعالى :
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾
العبادات الشكلية ، الانتماء الشكلي ، العبادات الجوفاء التي هي أقرب إلى الطقوس منها إلى العبادات ، حركات و سكنات تبدأ بالتكبير ، و تنتهي بالتسليم ، والقلب ساهٍ لاهٍ ، هذه العبادات الشكلية ، هذه الحركات و السكنات ، هذا الانتماء الشكلي ، عبَّر عنه الها سبحانه و تعالى فقال :
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾
متى آمنت بالله ؟ في أي مكان جلست كي تؤمن بالله ؟ ما الوقت الذي اقتطعته من وقتك الثمين كي تؤمن بالله ؟ مع من التقيت من أجل أن تؤمن بالله ؟ أيّ كتاب قرأت من أجل أن تؤمن بالله ؟ أي جلسة جستها مع نفسك من أجل أن تؤمن بالله ؟ و لكن البر من آمن بالله .
من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن بيوم الجزاء :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، و لكن الإيمان ما وقر في القلب ، وأقرَّ به اللسان ، وصدَّقه العمل ، الإيمان عفيف عن المطامع ، الإيمان عفيف عن المحارم ، قال تعالى :
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾
و من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن بيوم الجزاء ، قال تعالى :
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾
هذا هو البر ، برُّ العقيدة أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وبر العمل أن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وأن تنفق مالك في الحلال على حبه ، قال تعالى :
﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾
برُّ الأخلاق في قمته الوفاء ، أن تكون وفيّاً مع ربك ، و أن تكون وفياً مع نفسك فلا تهلكها ، و أن تكون وفيًّا مع الناس ، برُّ العقيدة أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، برُّ العمل أن تنفق مالك على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، والسائلين، وابن السبيل ، برُّ الأخلاق أن تكون من الأوفياء لربك ، ولنفسك ، وللناس أجمعين ، قال تعالى :
﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾
و من بر الأخلاق الصبر ، قال تعالى :
﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾
في البأساء ، في الشدة التي تصيب المال و الولد ، وفي الضراء ، في الشدة التي تصيب البدن ، وحين البأس ، في الحرب ، قال تعالى :
﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾
أهمية الصبر في الدّين :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أرأيتم كيف أن مرتبة الصبر جاءت في المرتبة الثانية بعد الوفاء بالعهد ، بل إن بعض المفسرين يقولون : لماذا قال الله عز وجل :
﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾
بالرفع ، و لم يقل : و الصابرون ؟ قال :
﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾
قال بعض المفسرين : هذا للتخصيص وللتنويه بأهمية الصبر في الدين ، هذه مكانة الصابرين ، برُّ العقيدة أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، وبر العمل أن تؤتي مالك ذوي القربى ، واليتامى ، و المساكين ، وابن السبيل ، و السائلين ، و في الرقاب ، و أن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وبر الأخلاق أن تكون وفيًّا مع الله عز وجل، وفياً مع نفسك ، وفياً مع الناس ، و لا سيما أن تكون صابراً في البأساء و الضراء و حين البأس ، أن تصبر على المصائب كلها ، و أن تصبر على المرض و توابعه ، وأن تصبر في ساحات المعركة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه مكانة الصابرين في القرآن الكريم ، آية أخرى تنوَّه بهذه المكانة ، يقول الله عزوجل :
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾
هؤلاء الذين استحقوا كل هذا بماذا استحقُّوه ؟ قال تعالى :
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾
هذا ثمن رضوان الله ، و ثمن الجنة .
من علامات ذكر الله الصحيح أنك تطمئن من جهة الدنيا وتقلق من جهة الآخرة :
آية ثالثة ، قال تعالى :
﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
اضطربت اضطراب الخوف ، خوفاً مما سيكون عليه الإنسان بعد الموت في القرآن الكريم ، آيتان ، آية تقول لك : إذا ذكرت الله يطمئن قلبك ، و آية أخرى و كأنها تبدو مناقضة للآية الأولى ، إذا ذكرت الله يوجل قلبك ، فكيف نوفِّق بين الطمأنينة و بين الوجل ؟
الحقيقة أيها الأخوة أنك إذا ذكرت الله اطمأن قلبك من جهة الدنيا ، قال تعالى :
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
وقال تعالى :
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
و إذا ذكرت الله يوجل قلبك في شأن الآخرة ، لعل هناك تقصيراً ، لعلك لست في مستوى الجنة ، لعل هناك حقوقاً متعلقة بك ، من علامات ذكر الله الصحيح أنك تطمئن من جهة الدنيا ، وتقلق من جهة الآخرة ، قال تعالى :
﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
مرتبة الصابرين من أسمى المراتب التي نوَّه الله بها في القرآن الكريم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وفي سورة الأحزاب تبدو مرتبة الصبر من بين المراتب الأساسية في الدين ، قال تعالى :
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾
في سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة الحج ، وسورة الأحزاب تتَّضح مرتبة الصابرين من أنها من أولى ، ومن أعلى ، ومن أسمى المراتب التي نوَّه الله بها في القرآن الكريم.
جزاء الصبر :
1 ـ معية الله الخاصة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيء آخر في موضوع الصبر ، الله سبحانه وتعالى بيَّن في القرآن الكريم أن خيري الدنيا والآخرة يتأتى من الصبر ، وها نحن أولاء نستعرض بعض الآيات التي تنوه بما ينتظر الصابرين من عطاء جزيل ، في الفقرة الأولى من الخطبة بيَّنا مكانة الصابرين ، و الآن يبيِّن القرآن ما ينتظر الصابرين من عطاء ، في أربع آيات في القرآن الكريم يقول الله عز وجل :
﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه معية خاصة ، وليست معية عامة ، ما الفرق بين المعية العامة و المعية الخاصة ؟ الله سبحانه و تعالى مع كل خلقه معيته معية إحاطة وعلم ، الله سبحانه و تعالى يقول :
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
ما من مخلوق ، ما من إنسان ، ما من حيوان ، ما من نبات ، ما من حشرة ، ما من فيروس ، ما من كائن حي في السموات و الأرض ، ما من جرم إلا و الله معه ، هذه معية الإحاطة والعلم ، ليست مقصودة في هذه الآيات ، قال تعالى :
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾
هذه معية عامة ، و لكن المقصود الخاصة ، و المعية الخاصة تعني الحفظ ، والرعاية ، والتأييد ، والحماية ، هذه هي المعية الخاصة ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
وقال تعالى :
﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
و قال تعالى :
﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
وقال تعالى :
﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
إذا كنت صابراً فالله معك ، و معية الله لك ليست معية عامة ، بل هي معية خاصة ، معية الحفظ ، معية الرعاية ، معية التأييد ، معية النصر ، معية الحماية ، ألا نطمع أن يكون الله معنا ؟
2 ـ محبة الله عز وجل لمن صبر على ما أصابه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه دفعة أولى من جزاء الصابرين ، و الدفعة الثانية : ألا ترضى أيها الصابر أن يحبك الله عز وجل ؟ يقول الله عز وجل :
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
أن تبلغ مرتبـة أن يحبك الله عز وجل هذا أعظم ما يسعى إليه إنسان ، الله عز وجل إذا صبرت على زوجتك ، إذا صبرت على أولادك ، إذا صبرت على جيرانك ، إذا صبرت على من هم دونك ، إذا صبرت على من هم فوقك ، إذا صبرت على مرض عضال ، إذا صبرت على ضيق ذات يد ، إذا صبرت على مشكلة ، ألا تريد أن يحبك الله عز وجل ؟
3 ـ الهدى والرحمة :
الدفعة الثالثة ، الله سبحانه و تعالى يبشِّر الصابرين ، قال تعالى :
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
و قال تعالى :
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يترنَّم بهذه الآية فيقول : نعم العدلان - البعير إذا حمَّلته على كل طرف حِمل ، هذان يُسمَّيان في اللغة العدلان - يقول عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ، أي :
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾
و نعمت العلاوة ، و العلاوة حاجة توضع فوق العدلين ، إذا حملنا الجمل ، فحمله على شكل عدليــن ، عن يمينه وعن شماله ، و إذا وضعت شيئاً فوق العدلين ، هذه يسميها العربُ علاوة ، يقول عمر : نعم العدلان ، و نعمت العلاوة ، ما هي العلاوة ؟ هي قوله تعالى:
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
العلاوة هي الهدى ، و العِدلان صلوات من ربهم و رحمة ، ألا يكفي الصابرون أن الله سبحانه و تعالى يصلي عليهم ؟ يتجلَّى عليهم برحمته ؟ ألا يكفي أن الله طمأنهم أنهم مهتدون ؟ بشرهم بالهدى ، هذه هي الدفعة الرابعة .
4 ـ إيجاب الجزاء بأحسن الأعمال :
الدفعة التي تليها ، إيجاب الجزاء بأحسن أعمالهم ، الإنسان في حياته الدنيا له أعمال منوعة ، بعضها صالح ، و بعضها طالح ، فما قولك أن يجازيك الله على أحسن أعمالك وكأن أعمالك كلها من هذا المستوى ؟ ما قولك ؟ قال تعالى :
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
هذا أيضاً من جزاء الصابرين .
5 ـ الأجر المفتوح :
أما الشيء الذي لا يُصدق كما قال الإمام الغزالي ، قال : ما من قربة إلى الله عز وجل إلا و أجرها بتقدير و حساب ، الحسنة بعشرة أمثالها ، و السيئة بمثلها ، إلا الصبر ، قال تعالى :
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
من دون قيمة ، توقيع من دون قيمة ، مفتوح ، ضع أيَّة قيمة تريد ، و سيصرف هذا السند ، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، لماذا ؟ لأن الله سيعالجك ، إن صبرت على معالجته فإنه سيحبك ، لأنه سيسعدك ، هذه الدنيا دار ابتلاء ، مدرسة تحضيرية للجنة ، فإذا صبرت على معالجة الله ، فلا بد أنك تعرفه ، و إذا تحملت هذه المعالجة ، ونقلك الله من حال إلى حال ، ومن مقام إلى مقام ، ومن مرتبة إلى مرتبة ، و من مستوى إلى مستوى ، ومن إقبال إلى إقبال ، ومن معرفة إلى معرفة ، ومن رقيٍّ إلى رقيٍّ ، ومن درجة إلى درجة ، فهذا بسبب الصبر ، معنى ذلك أنك حققت المراد الإلهي من خلقك ، لماذا يحبك الله ؟ لماذا يوفِّيك أجرك بغير حساب ؟ لأن هناك أمراضًا كثيرة في النفس ، لا بد من أن تشفى منها ، و لا بد لكل مرض من مشكلة تحيط بالإنسان حتى يلجأ إلى الله عز وجل ، فإذا صبر على معالجة الله عز وجل فقد حقَّق مراد الله عز وجل من إسعاده ، لذلك يحبه الله ، لذلك يوفيه الله أجره بغير حساب ، لا يوجد حساب .
6 ـ النصر و المدد :
دفعة أخرى للصابرين ، الله سبحانه و تعالى يضمن للصابرين النصر و المدد ، الله معهم ، قال تعالى :
﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾
هذا جزاء الصبر ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
((يَا غُلَـامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجـِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فـِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ))
7 ـ الإمامة في الدين :
و من منكم يصدِّق أن الصبر ثمن الإمامة في الدين ، قال بعض العلماء : " بالصبر و اليقين تنال الإمامة في الدين " تكون إماماً للناس ، ألم يقل الله عز وجل في الدعاء الذي ورد في آخر سورة الفرقان :
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾
كن إمامًا ، كن طموحاً ، بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، و الدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾
صبروا على طاعة الله ، صبروا على معصيته ، صبروا على المصائب ، صبروا على متاعب الدعوة ، قال تعالى :
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾
8 ـ الوصول لمرتبة أولي العزم :
ألا تريد أيها الأخ الكريم الصابر أن يثني الله عليك وأن يصنِّفك من أهل العزائم ؟ ماذا قال الله عز وجل :
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
إذا صبرت على ما أصابك فأنت من أولي العزيمة ، وهذه مرتبة عالية في الدين، قال تعالى :
﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾
من قدوتك في الصبر ؟ الأنبياء ، أما المتفلتون فلا يصبرون.
ألا ترضى أن تكون من أهل أولي العزيمة ؟ ولكن في هذا الموضوع آية أخرى، يقول الله عز وجل :
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
هنا لامٌ زائدة ، الآية الأولى قال تعالى :
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
الآية الثانية ، قال تعالى :
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
هذه اللام لام التوكيد ، ما علاقة الأولى بالثانية ؟ قال بعض المفسرين : الآية الأولى تشير إلى الصبر على قضاء الله و قدره ، أما الآية الثانية فتشير إلى أنك قد تصبر على أذى إنسان ، فإذا صبرت عليه ، ورأيت أن هذا من قضاء الله وقدره ، وغفرت له ، ولم تحقد عليه ، ولم تنتقم منه ، و لم تكِل له الصاع صاعين ، فإن ذلك من الصبر الأشدّ ، من الصبر الأرقى ، الآية الأولى قال تعالى :
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾
من الله عز وجل ، قال تعالى:
﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
قد تأتي المصيبة من قِبل الله مباشرة ، هذه تسمى في العقيدة قضاء و قدراً ، لكن قد تأتي المصيبة على يد إنسان ، هنا يظهر توحيدك ، يظهر عفوك ، يظهر حلمك ، قال تعالى :
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
9 ـ الحفظ من كيد الأعداء :
دفعة أخرى للصابرين ، حفظهم من كيد الأعداء ، قال تعالى :
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
10 ـ دخول الجنة :
و في نهاية المطاف ؛ إن أكبر دفعة ينالها الصابر هي دخول الجنة ، قال تعالى:
﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾
قال تعالى :
﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً﴾
وقال تعالى :
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الحياة الدنيا دار ابتلاء ، والحياة الآخرة دار جزاء ، الحياة الدنيا دار تكليف ، والحياة الآخرة دار تشريف ، في الابتلاء والتكليف أنت في أشد الحاجة إلى الصبر ، والصبر ثمنه الجنة .
11 ـ الانتفاع بعبر التاريخ و الإتعاظ بآيات الله في الأنفس و الآفاق :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيء أخير هو أن الله سبحانه و تعالى جعل انتفاع الإنسان بعبر التاريخ ، واتِّعاظه بآيات الله في الأنفس و الآفاق ؛ جعل هذا للصابرين ، فقال تعالى :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾
قال تعالى :
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾
و قال تعالى :
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾
هذا جزاء الصبر ، أحد عشر بنداً من أنواع الجزاء المتنوع في الدنيا و الآخرة ، و لكن قمة هذا الجزاء دخول الجنة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، و سيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيَّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأمانيَّ ، و الحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وظيفة الخلايا الشّميّة عند الإنسان :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هل تصدِّقون أن في كل جانب من جوانب الأنف مئة مليون خلية شمِّية ، مئة مليون في كل جانب من جانبي الأنف ، و أن هذه الخلايا الشمية محاطة بخلايا أُثبت عليها أهداب من أجل أن تستقبل الانطباعات الشمية ، قال تعالى :
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾