- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مسؤولية الآباء في تربية أولادهم التربية الاجتماعية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في البيت المسلم ، وقد كان الموضوع في الخطب السابقة : مسؤولية الآباء في تربية أولادهم التربية الإيمانية الصحيحة ، وكذلك مسؤوليتهم في تربية أبنائهم التربية الخلقيــة ، وكذلك مسؤوليتهم في تربية أولادهم التربية النفسية ، وها نحن ننتقل في هذا اللقاء ، وهذه الخطبـة ، إلى موضوعٍ رابع ألا وهو مسؤولية الآباء في تربية أولادهم التربية الاجتماعية . هناك علاقات اجتماعية ، وهناك صفاتٌ نفسية ، وهناك صفاتٌ خُلُقية ، وهناك صفاتٌ إيمانية .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أساس العلاقات الاجتماعية تقوى الله عز وجل ، فينبغي أن تقام هذه العلاقات كلها ؛ علاقات الزواج ، علاقات البيع والشراء ، علاقات الجوار، علاقة القويّ بالضعيف ، علاقة الضعيف بالقوي ، علاقة الغنيّ بالفقير ، أيّة علاقةٍ اجتماعية ، أيّ علاقةٍ بين مسلمَين ، يجب أن تحكمها تقوى الله عز وجل . قد يكون الرجل قوياً ، والطرف الآخر ضعيفاً ، فبإمكانه أن يأخذ منه كل شيء ، ما الذي يحكم هذه العلاقة ؟ تقوى الله عز وجل ، قد يكون الزوج قوياً ، وزوجته مستضعفة ، ما الذي يحكم العلاقة بينهما ؟ تقوى الله عز وجل ، قد يكون الرجل غنياً ، والمال ينمو باطرادٍ سريع ، وقد يعطي الآخرين دون حقوقهم ، ما الذي يحكم هذه العلاقة بين المسلمين ؟ تقوى الله عز وجل .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى الإمام الغزاليّ في إحياء علوم الدين القصة التالية: يونس بن عُبَيد ، تاجـرٌ يبيـع الثياب الفاخـرة ، كانت تسمى الحُلَل ، وهذه الحلل مختلفة الأثمان ، بعضها بمئتين ، وبعضها بأربعمئة ، ذهب إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكان ، فجاء أعرابي فاشترى حلة المئتين بأربعمئة ، وانصرف . لما خرج يونس بن عُبيد من المسجد رأى أعرابياً على يده حُلَّة المئتين ، فسأله :ـ يا هذا بكم اشتريتها ؟ـ قال : بأربعمئة . فقال له : إنها لا تساوي إلا مئتين ، فارجع إلى الدكان ، واسترد حقك الباقي . فقال : إنها في بلدنا تساوي خمسمئة ، وأنا قد رضيت بهذا الثمن . فقال له يونس : انصرف معي ، فإن النصح في الدين خيرٌ من الدنيا وما فيها - أي اذهب معي إلى الدكان ، فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها - ثم رد له المئتين ، وخاصم ابن أخيه ، وقال له : أما استحييت من الله عز وجل ؟ أما اتقيت الله عز وجل ؟ تربح مثل الثمن وتترك النُصح للمسلمين ؟! فقال ابن أخيه : والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها . فأجابه : فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسه ؟
ينبغي أن تغرس في نفس الصغير أن أية علاقةٍ بين اثنين يجب أن تَمُرَّ عَبْرَ تقوى الله عز وجل ، تنشأ ظروف استثنائية يكون فيها أحد الطرفين قوياً ، والطرف الآخر لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن يستسلم ، ولكن أين تقوى الله عز وجل ؟ كلكم يعلم القصة الشهيرة؛ قصة سيدنا عمر مع الراعي قال : بعني هذه الشاة ، قال : ليسـت لي ، قال : خذ ثمنها ، قال : ليست لي ، قل لصاحبها : ماتت أو أكلها الذئب ، إلى أن قال الراعي : والله لو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟
العلاقات الاجتماعية بين المسلمين يحكمها عدة أمور منها :
1 ـ تقوى الله عز وجل :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا تستقيم أمورنا ، لا تستقيم حياتنا ، لا نسعد في بيوتنا ، لا نسعد في أعمالنا ، لا نسعد مع أقاربنا ، ولا مع جيراننا ، ولا مع من حولنا ، إلا إذا بُنِيَت علاقتنا جميعاً على تقوى الله عز وجل ، وتقوى الله عز وجل يَحْكُمها حديثٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ))
هذه البنت التي في بيتك ؛ زوجة ابنك ، افرضها ابنتك ، كيف تعاملها ؟ أو كيف تحب أن تعامل لو أن ابنتك في بيت زوجها ؟ كيف تحب أن تعامل ابنتك عامل هذه زوجة ابنك التي في بيتك . إذا وقفت أمام موظـف كيف تحب أن يعاملك ؟ باستعلاءٍ ومماطلةٍ وردٍ وتسويفٍ أم تحب أن يعاملك بالعدل والإنصاف وتيسير الأمور ؟ فإذا كنت موظفاً فعامل هؤلاء الذين أمام الطاولة كما تحب أن تعامَل كما لو كنت أمام طاولة أحدهم .
إذا كنت بائعـاً ، إذا كنت شارياً ، يجب أن تغرس في نفوس المسلمين تقوى الله عز وجل ، فإذا نُزِعَت التقوى فقد فسدت حياتنا ، في بيوتنا ، وفي أعمالنا ، وفي تجارتنا ، وفي صناعتنا ، وفي زراعتنا ، إذا استعملت شيئاً يضرّ بالصحة من أجل أن تروج هذه السِلعة ، أنت لا تتقي الله عز وجل ، هؤلاء المسلمون سَلَّموك أجسامهم كي تطعمهم طعاماً أو غذاءً جيداً ، فإذا أضفت بعض المواد الرخيصة ، لتَجني أرباحاً طائلة ، ماذا فعلت ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العلاقات الاجتماعيةُ أساسها تقوى الله عز وجل ، وتقوى الله عز وجل أساس تعريفها الدقيق : أن تتقي عذابه في الدنيا ، وأن تتقي عذابه في الآخرة بطاعته . تقوى الله تعني طاعة الله عز وجل .
2 ـ الأخوة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر يجب أن يحكم العلاقة بين المسلمين ، الخطبة اليوم عن العلاقات الاجتماعية ، أيّة علاقةٍ ؛ علاقة أجيرٍ بمستأجر ، علاقة رَبّ عملٍ بعامل ، علاقة موظفٍ بمراجع ، علاقة أبٍ بولد ، علاقة جارٍ بجاره ، علاقة زَوْجٍ بزوجته ، أيّة علاقةٍ بين اثنين يجب أن تحكمها أولاً : تقوى الله عز وجل ، ثانياً : هذا الذي أمامك أخوك، إنما المؤمنون أخوة ، أخوك وماله مالك . .
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
لا تأكلوا ، لم يقل الله عز وجل : لا تأكلوا أموال إخوانكم بل قال :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم﴾
إن هذا المال مال أخيك إنما هو في الحقيقة مالُك ، فأنت ملزمٌ أن تحافظ عليه، فإذا كنت مُلزماً أن تحافظ عليه ، فلأن تدع أكله بالباطل من باب أولى . لذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيح رواه الإمام مسلم ، والإمام البخاري ، والإمام أحمد في مسنده واللفظ لمسلم :
((إياكم والظـن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا - تتبع الأخبار الطيّبة من دون فائدة فهو فضول - ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تنافسوا ، ولا تدابروا ، وكونـوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله))
((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يسلمه ، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))
((كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه))
(( إنما التقــوى هاهنـا ، إنما التقوى ها هنا ، إنما التقوى هاهنا ))
وأشار النبي الكريم إلى صدره الشريف ، ثم قال :
((إن الله لا ينظر إلى صوركم - إلى قاماتكم ، إلى وسامتكم ، إلى أناقتكم ، إلى ثيابكم ، إلى منطقكم ، إلى حُجَّتكم ، إلى براعاتكم ، إلى ذكائكم - و أموالكم - إلى بيتكم ، ما مساحته ؟ ما نوع أثاثه ؟ إلى مركبتكم ، إلى دكانكم - ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))
كيف عملك ؟ ماذا قدَّمت للأمة ؟ ماذا قدَّمت لأخيك الإنسان ؟ ماذا فعلت في الدنيا ؟ دخلتها وخرجت منها ، ماذا تركت فيها من بصمات ؟ ما العمل العظيم الذي خَلَّفْتَه ؟
((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))
3 ـ الرحمة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ العلاقة بين المسلمين يجب أن تحكمها قاعدةٌ ثالثة .
القاعدة الأولى التقوى ، تقوى الله ، أن تخاف من الله ، ولو كان الذي أمامك ضعيفاً ، ولو كان جاهلاً ، قال عليه الصلاة والسلام :
((غبن المسترسل ربا))
هذا الذي يشتري منك بضاعةً وهو جاهلٌ بقيمتها ، ونوعها ، وتاريخ صنعها ، ومصدرها ، وصفاتها ، هذا جاهل ، بعض التُجَّار يرون في هذا الإنسان غنيمةً كبيرة ، لأنه جاهل ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام :
((غبن المسترسل ربا))
((غبن المسترسل حرام))
تقوى الله عز وجل يجب أن تحكم كل علاقةٍ بين اثنين ، الشيء الثاني : الأخوة، هذا الذي تعامله أخوك في الدين ، أخوك في الإسلام ، له حقوقٌ عليك لا ينبغي أن تَغُشَّه ، ولا أن تُدَلِّس عليه ، ولا أن تكذبه ، ولا أن تخونه ، ولا أن تُسْلِمَه ، ولا أن تحتقره ، ولا أن تظلمه ، كل المسلم على المسلم حرام ؛ ماله ودمه وعرضه .
شيءٌ آخر . . يجب أن تحكم العلاقة بين المسلمين الرحمة :
((ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء))
سيدنا الصديق رضي الله عنه ، حينما أرسل جيشاً أوصى قائد الجيش فقال رضي الله عنه : " لا تقتلوا امرأةً ، ولا شيخاً ، ولا طفلاً ، ولا تقطعوا نخلاً ، ولا تعقروا بعيراً إلا لمأكلةٍ " .
لذلك كان السلف الصالح أيها الأخوة من شدة رحمته يَقِفُ أمواله لإطعام الجائع، وكسوة العاري ، وسقاية الظمآن ، هذه السُبُل في المدينة التي ترونها عادة قديمة من عوائد هذه البلدة ، كان السلف الصالح يقف ماله لإطعام الجائع ، وسقاية الظمآن ، وكسوة العريان ، وإيواء الغريب ، ومعالجة المريض ، وتعليم الجاهل ، وكفالة اليتيم ، وإغاثة اللهفان ومواساة العاجز . ينطلقون من الرحمة ، حتى أن هذا السوق الذي في دمشق "سوق العصرونية " أساسه وقفٌ وقفه رجل اسمه " عصرون " ، ما نوع هذا الوقف ؟ أيّ غلامٍ ، أيما امرأةٍ ، أيّ أجيرِ انكسرت معه آنيةٌ ، فخاف من ظلم سيده من أن يضربه ، يذهب إلى هذا المكان ويأخذ آنيةً جديدةً رحمةً بهذا الأجير ، ورحمةً بهذه المرأة ، ورحمةً بهذا الطفل .
أيها الأخوة المؤمنون :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
إذا كانت هذه القضية لا يسَعها العدل ، يسعها الإحسان ، إن لم تأخذ حقك فأحسن .
4 ـ الإيثار :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قيمةٌ رابعة يجب أن تحكم العلاقة بين المسلمين ، إنها الإيثار .
أهدي إلى رجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعةٍ لحمٍ ، فقال : أخي أحوج مني إليها . فانتقلت إلى أخيه ، أخوه قال مقالته ، قال : أخي فلان أحوج إليها مني، انتقلت إلى أخٍ ثالث ، قال الثالث : فلان أحوج إليها مني ، وما زالت تنتقل هذه القطعة من بيتٍ إلى بيت حتى انتقلت عبر سبعة بيوت ، ثم عادت إلى الأول ، هذا معنى قوله تعالى:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
من عجائـب الإيثار التـي لا تُصَدَّق ما رواه القرطبي في تفسيره ، أن رجلاً اسمه العدوي قال : " انطلقت يوم اليرموك - يوم وقعة اليرموك ، بعد أن انتهت هذه الوقعة - أطلب ابن عمٍ لي ، ومعي شيءٌ من الماء ، وأنا أقول : إن كان به رَمَقٌ سقيته ، فإذا أنا به فقلت : أأسقيك ماءً ؟ فهز برأسه أن نَعَم - والجريح يكون في أشدّ حالات العطش - وبينما أحاول أن أسقيه إذا رجلٌ يئن ، فإذا هو هشام بن العاص ، فأشار إلي أن أسقه - وهو على وشك الموت- وبينما أنا أحاول أن أسقي هشام بن العاص إذا رجلٌ ثالث يَئِن ، فأشار إليّ هشام أن أسقيه ، فذهبت إليه لأسقيـه فإذا هو ميت ، عدت إلى هشام فإذا هو ميت ، عدت إلى ابن عمي فإذا هو ميت .
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
فأين أخلاقنا من أخلاق أصحاب رسول الله ؟ أين أخلاقنا من أخلاق السَلف الصالح ؟ يجب أن تُبْنى العلاقة الاجتماعية على تقوى الله أولاً ، وعلى الأخوة ثانياً ، وعلى الرحمة ثالثاً ، وعلى الإيثار رابعاً .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ رجلٌ استأذن على عمر بن الخطاب فلما دخل عليه قال: يا بن الخطاب . هكذا ، بلا توقيرٍ ولا تعظيم ، ولم يقل : يا أمير المؤمنين ، قال : يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجذل ، ولا تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر لأن هذا اجتراء على مقام الخلافة ، حتى همَّ أن يوقع به ، فقال أحد الجالسين : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول لنبيه الكريم :
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾
فقال الجالس : فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها ، وكان وَقَّافاً عند كتاب الله .
من صفات عمر رضي الله عنه أنه كان وقَّافاً عند كتاب الله ، لو قال لك رجل :
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
هل تقف فجأةً ؟ لو قال لك رجل :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
هل تُقْلِع عن هذه العادة مباشرةً ؟ هكذا .
5 ـ الجرأة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ومما يجب أن تحكم العلاقة بين المسلمين الجُرأة ، هذا الخجل من أن تأخذ حقك ، هذا الخَجَل من أن تنصح رجلاً قوياً ، هذا الخجل من أن تُنْكِر المُنْكَر ، من أن تأمر بالمعروف ، هذا الخجل من أن تفعل شيئاً ذا قيمة ، هذا ليس من أخلاق المُسلم . تروي السيدة عائشة ؛ أن المسلمين بعد وفاة رسول الله لشدة ما أصابهم من الوهن والجزع ، كالغنم في الليلة المطيرة ، وكلكم يعلم أنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت مُعظم القبائل عن الإسلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر ببعثِ أسامة ، عُقَلاءُ أصحاب رسول الله رأوا أن في إنفاذ هذا البعث إضعافاً للخلافة ، يطمع الناس في الخلافة أكثر مما هم طامعون .
لذلك جاء بعض المسلمين مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لأبي بكرٍ خليفة رسول الله : يا خليفة رسول الله لا طاقة لك اليوم بحرب المُرتدين ، الزم بيتك، وأغلق بابك ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .
سيدنا الصديق ؛ هذا الرجل الخاشع ، البَكَّاء ، الرقيق كَرِقَّة النَسيم ، الليِّن كلين الحرير ، الرحيم كقلب الأم ، ينقلب في لحظةٍ واحدة إلى رجلٍ ثائرٍ كالبحر ، مضطربٍ كالليث ، يصيح في وجه عمر : ثكلتك أمك يا بن الخطاب أجبارٌ في الجاهلية خَوارٌ في الإسلام ، لقد تمَّ الوحي واكتمل ، أفينتقص دين الله عز وجل وأنا حي ؟ والله لو منعوني عقال بعيرٍ كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه .
لذلك قال بعض الأدباء : لي صديقٌ كان من أعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عَظَّمَهُ في عيني صِغَر الدنيا في عينيه ، فكان خارجاً عن سُلطان بطنه ، فلا يشتهي ما لا يجد ، ولا يُكثر إذا وَجَد ، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة ؛ فلا يتكلم بما لا يعلم ، ولا يماري فيما علم ، وكان أكثر دهره صامتاً ، فإذا تكلّم بَذَّ القائلين ، وكان يرى ضعيفاً مستضعفاً ، فإذا جَدَّ الجِدُّ فهو اللّيث عادياً .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يجب أن تكون جريئاً في أخذ حقك ، يجب أن تكون جريئاً في قول الحق ، لأن كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً .
6 ـ ألا نخاف في الله لومة لائم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ بقي شيء آخر يحكم العلاقة بين المسلمين ، يصف هذا أحد أصحاب رسول الله ، قال هذا الصحابي الجليل : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، والعسر واليُسر ، وعلى أثرةٍ علينا ، وعلى ألا ننازع الأمر أهله ، إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا من الله فيه بُرهان ، وعلى أن نقول الحق أينما كنا ، وألا نخاف في الله لومة لائم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يجب أن نربي صغارناً على أخلاق المُسلم ، على تقوى الله ، وعلى أخوته مع إخوانه الصغار ، وعلى رحمةٍ ، وعلى إنصافٍ ، وعلى إيثارٍ ، وعلى جُرأةٍ ، هذه القواعد يجب أن تحكم العلاقة بين المسلمين ، ويجب أن نُلَقِّنها الصغار .
للموضع تتمة ، له تتماتٌ كثيرة ، مراعاة الحقوق ؛ حقوق الأبوين ، حقوق الأرحام ، حقوق الجار ، حقوق المُعَلِّم ، حقوق الرفيق ، حقوق الكبير ، والتزام أدب الطعام ، وأدب السلام ، وأدب الاستئذان ، وأدب الحديث ، وأدب المزاح ، وأدب التهنئة ، وأدب عيادة المريض ، وأدب التعزية ، وأدب العُطاس ، وأدب التثاؤب ، وأدب الجلوس ، هذه دروسٌ لنا ولأولادنا.
تعليم أولادنا آداب الطعام :
أقتطع من كل هذه العنوانات فقرةً واحد : كيف نعلم أبنائنا على أدب الطعام ؟ فعليه الصلاة والسلام أمرنا بغسل اليدين قبل الطعام وبعده ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((بركة الطعام الوضوء قبله ))
وضوء الطعام غسل اليدين والفم ، قبله وبعده . وقال عليه الصلاة والسلام :
((من أحب أن يكثر الله خيره فليتوضأ إذا حضر غداؤه ، وإذا رفع))
وهذا يقي أمراض الصيف ، التي يتحدث عنها أهل الطب والصحة حول أمراض الصيف الكثيرة ، التي تنتقل بالعدوى ، والتي أساس العدوى ضعف النظافة ، هكذا علمنا النبي .
الأدب الثاني : التسمية " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى عند أول طعامه وفي آخر طعامه " .
والأدب الثالث : ما كان عليه الصلاة والسلام يعيب طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه ، ما كان يعيب طعاماً قط .
رابعاً : كان يأكل عليه الصلاة والسلام بيمينه ، ويأكل مما يليه ، وقد قال لغلامٍ:
((يا غلام ، سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك))
وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل متكئاً ، أن تأكل متكئاً فيه كبرٌ وعجرفةٌ ، وفيه بعض المضار الصحية ، ما كان يأكل متكئاً .
وكان عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أصحابه في أثناء الطعام ليسهل الهضم ، وليأكل هنيئاً مريئاً من دون عَجَلةٍ ولا ازدراد . فكان عليه الصلاة والسلام يحدث أصحابه وهو يأكل على المائدة . وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دعي إلى طعام يدعو لمضيفه ، فكلما رفع الطعام إذا كان مدعواً عليه يقول :
((أكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون))
هكذا كان عليه الصلاة والسلام .
وهناك شيءٌ آخر : يجب على الصغير ألا يأكل قبل الكبير ، هذا من أدب الطعام . ومن أدب الطعام ألا تستهتر به ، فكان عليه الصلاة والسلام يلعق أصابعه ، وإذا وقعت لقمة على الأرض أخذها ، وأماط عنها الأذى ، ثم أكلها .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يأكل واقفاً ، أمرنا أن نأكل وأن نشرب جالسين .
وآخر أدبٍ من آداب الطعام قال عليه الصلاة والسلام :
((ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه))
كان يعتدل ، وأول بدعةٍ ابتدعها المسلمون بعد وفاة رسول الله الشِبَع .
((أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجوع ، ولا نشبع))
وهذا الحديث يُعَدُّ القاعدة الأصيلة الوحيدة في الطب الوقائي .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أمامكم سنة النبي ، أعيد على أسماعكم سريعاً بعض العنوانات التي عليكم أن تلاحظوها : حقوق الأبوين ، حقوق الأرحام ، حقوق الجار ، حقوق المُعَلِّم ، حقوق الرفيق ، حقوق الكبير ، أدب الطعام ، أدب السلام ، أدب الاستئذان ، أدب الحديث ، أدب المُزاح ، أدب التهنئة ، أدب عيادة المريض ، أدب التعزية ، أدب العطاس ، أدب التثاؤب ، هكذا ينبغي أن نُلَقِّنَ أبناءنا هذه الآداب الإسلامية .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتْبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أعظم عملٍ يقوم به الإنسان هو نقل البشرية من الظلمات إلى النور :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان إذا استمع إلى حقيقةٍ ، أو إلى توجيهٍ ، أو إلى نُصْحٍ ، فهذا الاستماع لا وزن له عند الله أبداً ، إلا أن يترجم إلى سلوكٍ وإلى عمل ، بل إن الذي يستمع إلى حقائق وتوجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ، وبيانه النبوي الشريف ، ولا يلتزم به ، يُصبح هذا العِلم حُجةً عليه يوم القيامة .
شيءٌ آخر : أما إذا التزمت بما سمعت ورثك الله علم ما لم تعلم ، من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ، أما الذي ينصح فأهون شيءٌ تفعله في الدنيا أن تنصح الناس ، شيءٌ سهلٌ جداً ، لا يكلف شيئاً ، أما إذا التزمت أنت بما تنصح ، أصبح عملك أخطر عملٍ في الحياة ، إنه من نوع صنعة الأنبياء ، أعظم عملٍ قام به إنسان على وجه الأرض ما فعله الأنبياء ؛ نقلوا البشرية من الظلمات إلى النور ، من الضلال إلى الهدى ، من العداوة والبغضاء إلى المَحبة والإخاء ، من ضعف الإنسان إلى سموّه ، من شهوانيَّته إلى رُقِيِّه ، من وحول الشهوات إلى جنات القُربات ، الأنبياء في الأرض هم قمم البشر ، ما مهمتهم ؟ ما عملهم ؟ الكلمة ، الكلمة تفقد قيمتها ، وتصبح مثاراً للسخرية إن لم يرافقها عمل . .
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾
أنت أيها الأخ الكريم ؛ إذا أردت أن تنصح الناس فنُصحك شيءٌ تافه جداً ما لم ينطلق من واقع ، من صدق ، من التزام ، من تطبيق ، من تَمَثُّل ، هذا الذي ينصح الناس ولا يلتزم بما ينصحهم به ، يسقطُ من عين الله ، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فَتُحَطَّم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله .
وإذا كنت منصوحاً اعلم أن هذا الكلام الذي تلقَّيْتَه حجةٌ عليك يوم القيامة إن لم تطبقه ، فالناصح إما أن يكون أتفه الناس ؛ إذا اتخذ النصيحة حرفةً ، أو صنعةً يكتسب منها رزقه ، وإما أن يكون أخطر الناس ، إنها صنعة الأنبياء إن انطلقت من عقيدةٍ صحيحة ، ومن التزام ، ومن تطبيقٍ ، أما إذا انطلقت من حرفةٍ ، أو كسبٍ رخيصٍ ، أو ارتزاقٍ ، فإنها أتفه الصنعات ، بل إنَّ أيّ إنسان ينتج في المجتمع سلعةً هو أشرف وأخطر في حياتنا من هذا الذي ينصح الناس ولا يلتزم بنصحه .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً هكذا قال الله عز وجل ، والكلمة الطيبة صدقة . .
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾
الدعاءأيها الأخوة الأكارم ؛ إني داعٍ فأمنوا .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .