- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
تربية الأولاد النّفسيّة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في الموضوع المُتَسلسل موضوع البيت المسلم.
من الثابت أن الإنسان أيها الأخوة هو المخلوق الأول ، والمخلوق المكرم ، بدليل أن الله سبحانه وتعالى سخر له ما في السموات والأرض ، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾
ومِن كَرامة الإنسان على الله عز وجل أنه جعله مُرَبِّياً ، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين ، ومِن كرامته على الله أنه جعله مُريداً ، وجعله فَرْدَاً ، هذا من تكريم الله عز وجل، لذلك أناط بالآباء مهمة تربية الأبناء ، ليكون البيت حقلاً خصباً للعمل الصالح .
قد يقول قائل : أين الأعمال الصالحة ؟ بيتك وحده يمكن أن تصل به إلى الجنة، يمكن أن تلقى الله بتربيتك لأولادك ، واليوم الحديث عن تربية الأولاد النفسية .
تحدثنا عن تربيتهم الإيمانية في خطبٍ سابقة ، وفي الخطبة التي قبل هذه الخطبة ، والتي قبلها ، تحدثنا عن تربية الآباء لأولادهم التربية الخُلقية ، وها نحن أولاءِ اليوم بفضل الله تعالى وبتوفيقه نتحدث عن تربية الأولاد النفسية .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الأب الذي لا يسمح لابنه أن يتكلَّم أمامه ، ولا في مجلسٍ من الكبار ، يمنعه مِن حضور مجالسه ، يمنعه مِن حضور لقاءاته ، لا يصطحبه معه، دائماً لِصِغَرِ شأن ابنه عنده يعْزله عن المجتمع ، عند هذا الطفل تنشأ ظاهرة مرضيةٌ خطيرة اسمها " ظاهرة الخجل " ، الخجل نقصٌ في بُنية الطفل النفسية ، بينما الحياءُ فضيلة ، أن يستحي الإنسان أن يعصي الله ، أن يمتنع عن اقتراف المنكر هذا حياء ، أن يمتنع عن معصية الله هذا حياء ، أن يمتنع عن أن يشتم الآخرين هذا حياء ، يمتنع عن أن يفعل عملاً لا يقرّه المجتمع هذا حياء ، والذي تعرفونه جميعاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((استحيوا من الله حق الحياء ، قالوا : يا رسول الله كلنا يستحيي مـن الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : استحيوا من الله حق الحياء ، قيل : وما حـق الحياء ؟ قـال: أن تحفظ الرأس وما وعى - ضبط اللسان ، ضبط العينين ، ضبط الأذنين ، ضبط الفِكر ، أن تحفظ الرأس وما وعى ، و البطن وما حوى - ألا تطعمه مالاً حراماً ، ألا تقضي الشهوة إلا في القناة التي سمح الله لك بها - وأن تذكر الموت والبلى ، وأن تدع زينة الدنيا ))
الحياء فضيلة والخَجَلُ نقصٌ في الإنسان :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الحياء فضيلة ، والخَجَلُ نقصٌ في الإنسان ، إن إبعاد الطفل عن مجالِس الأب ، وعن مجالس العِلم ، وعن لقاءات الأب ، إن إبعاد الطفل عن كل نشاطٍ اجتماعي ، إسكاته كلما تكلَّم ، إشعاره بأنه لا قيمة له ، هذا يُظهر عنده مرضاً إن صح التعبير اسمه الخجل .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى البخاري رحمه الله تعالى عن عبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن عمر دون الحُلم – صغيراً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنها مثل المُسْلِم ، فحدثوني ما هي؟))
أول استنباط أن النبي عليه الصلاة والسلام من أساليبه التربوية أنه كان يجري حواراً مع إخوانه ، حواراً مع أصحابه ، الحوار يُنَمِّي الشخصية ، الحوار يُفَتِّق الفِكر ، الحوار يعرف المُعَلِّم بمَن يُعَلِّم .
(( . . . حدثوني ما هي ؟ قال : فوقع الناس في شجر البوادي . . .))
ظنوا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقصد شجر البوادي . قال عبد الله :
((ووقع في نفسي أنها النخلة ، فاستحييت ثم قالوا : حدثنا يا رسول الله ما هي؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هي النخلة ))
قال عبد الله بن عمر في روايــة : فأردت أن أقول هي النخلة ، فإذا أنا أصغر القوم ، استحيا ، فرأيـت أبا بكرٍ وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلَّم في حضرتهما ، فلما قمنا حدثت أبي -ـ عمر بن الخطاب - بما وقع في نفسي . فقال عمر :
(( والله لأن تكون قلتها أحبَّ إليَّ من أن يكون لي حُمُر النَعَم))
ليتك قلتها ، لأن أجبت النبي عليه الصلاة والسلام في حضرة سيدنا أبي بكر ، وسيدنا عمر ، وفي حضرة كبار الصحابة ، لأن كنت قلت : النخلة يا رسول الله - وكانت هي الصواب - أحب إليَّ من أن يكون لي حمر النعم . فالأب المؤمن يشجع ابنه ، يبثُّ في نفسه الثقة ، يدفعه للقول ، كلما نَمَت الثقة في نفس هذا الطفل ، كلما شبَّ على صفاتٍ خلقيةٍ راقية .
قصةٌ أخرى . . روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتيَ له بشرابٍ فشرب منه - والسنة كما تعلمون يقدَّم الشراب، والطعام ، والضيافة لكبير القوم سناً أو علماً أو مكانةً ، ثم مِن عن يمينه - فالنبي عليه الصلاة والسلام قدم لـه شرابٌ فشرب منه ، وعن يمينه غلامٌ صغير ، وعن يساره أشياخٌ فقال عليه الصلاة والسلام للغلام :
((يا غلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء الأشياخ ؟ فقال الغلام : لا والله ، لا أؤثر بنصيبي منك أحداً ))
أيْ أراد هذا الغلام أن يتشرَّف بأن يشرب بعد النبي عليه الصلاة والسلام ، هكذا السنة ، وهكذا التقليد . انظروا إلى هذه الجُرأة ، إلى هذه الشخصية النامية ، يبدو أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله كانوا يربون أولادهم هذه التربية .
وروى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس ، وكان دون الحُلُم - أي دون البلوغ -: كان عمـر يدخلني في أيام خلافته مع أشياخ بدر في المشورة - هو طفلٌ دون الحُلم ، ومعه أشياخ بدرٍ ، وهم على ما هم من كبر السن ورجاحة العقل - فكأن بعضهم وجد في نفسه - تألم- فقال : لمَ يدخل معنا هذا الغلام ولنا أبناءٌ في مثل سنه ؟ سمع عمر هذا الكلام فقال عمر : إنه من حيث قد علمتم - إن هذا الغلام من حيث قد علمتم ، ما معنى هذا الكلام ؟ أي إنكم سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دعا لهذا الغلام وقال :
((اللهم فقهه الدين وعلمه التأويل))
كلام النبي لا ينطق عن الهوى ، وهذا مِن إيمانك بالله عز وجل إذا رأيت النبي يقول حديثاً ، هكذا قال سيدنا سعد : وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ مِن الله تعالى - فقال : إنه من حيث قد علمتم . وقال ابن عباس : فدعاني ذات مرة فأدخلني معهم ، فما رأيت أنه دعاني يومئذٍ إلا ليريهم من أنا ، وقال لهؤلاء الأشياخ : ما تقولون في قوله تعالى :
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾
فقال أشياخ بـدر : أمرنا الله عز وجل أن نحمده ، وأن نستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً ، فقال عمر بن الخطاب لسيدنا ابن عباس الطفل الصغير: ـ يا ابن عباس أكذلك تقول ؟ ـ قال : لا ـ قال : ماذا تعني هذه الآية ؟
- فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله أعلمه به ، فإذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فقد انتهى أجلك .
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . هكذا ، هذه الآية فيها إعلامٌ لطيفٌ جداً من حضرة الحق للنبي عليه الصلاة والسلام . سيدنا عمر بن عبد العزيز ، رأى ولده في يوم عيدٍ وعليه أثوابٌ بالية ، فدمعت عيناه ، فرآه ابنه الصغير يبكي وقد كان معه ، فقال :
يا أبتِ ما يبكيك ؟ قال عمر : أخشى يا بني أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذه الأثواب الخلقة - أي إذا كنت بهذا الثوب الخَلِق ، أخاف أن ينكسر قلبك - فقال هذا الغلام الذكي : يا أمير المؤمنين إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه ، أو عق أمّه وأباه ، وإني لأرجو أن يكون الله راضياً عني برضاك . فإذا بثثت في قلب ابنك الجرأة ؛ رفعت معنوياته ، سمحت له أن يتكلّم في حضرتك ، وفي حضرة مجلسك ، اصطحبته معك في مجالس العِلم ، اصطحبته معك في نُزهاتك ، هذا الحوار الذي يجري ، وهذا السؤال وذاك الجواب ، وهذه الثقة ترفع معنوياته ، فإذا هو طفلٌ صغير ذو عقلٍ كبير .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الظاهرة ظاهرة " الخَجَل " ترى أن الطفل طليقٌ مع أصدقائه ، ومع أصدقائه لا ضابط له ، قد يتكلمون كلاماً سيئاً ، قد يتجاوزون الأصول ، ليس هناك ضوابط مع الأصدقاء ، أما إذا كان معك ، ومع أصدقائك ، ومع مجتمعٍ راقٍ ، وفي مجلس علمٍ ، وفي نزهةٍ بريئة ، عندئذٍ ربما تعلَّم مِنك الكثير ، هذه ظاهرة من ظواهر التربية النفسية .
الشعور بالنقص :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك ظاهرةٌ خطيرةٌ جداً ، هي ظاهرة " الشعور بالنقص"، تأتي هذه الظاهرة من بعض الأسباب الخَلْقِيَّة ؛ طفلٌ فيه عاهةٌ ، فيه ضعفٌ ، فيه شيءٌ غير سَوِيّ ، فإذا سمح الأب للأولاد ، لإخوانه ، لأصدقائه ، لإخوته الصغار أن يلقبوه بلقبٍ متعلقٍ بهذه العاهة فقد أجرم بحقه .
هناك عوامل تربوية أخرى ، فإذا كذب الطفل مرةً ينادى باسم كذاب دائماً ، يُرَسَّخ فيه هذا الخُلُق ، إذا لطم أخاه مرةً يقال له : شرير ، إذا احتال مرةً يقال له : مُحتال ، إذا أخذ ما ليس له مرةً يقال له : سارق ، إذا توانى عن عملٍ مرةً يقال له : كسول . إن مناداة الطفل بهذه الألفاظ الكبيرة ، المؤلمة ، الجارحة تسبب في نفسه مرضاً اسمه الشعور بالنقص ، يشعر بالنقص لذلك لا تُسَمِّ ابنك إلا باسمه ، ولا تحاول أن تؤنِّبه في حضرة أخوته ، ولا في حضرة أقربائه ولا أصدقائه . فالتحقير والإهانة يسببان الشعور بالنقص ، الدلال المُفْرِط يسبب الشعور بالنقص ، المفاضلة بين الأولاد تسبب الشعور بالنقص .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ جاء رجلٌ إلى سيدنا عمر يشكو له عقوق ابنه ، فسيدنا عمر استدعى الابن ليؤنبه على عقوقه لأبيه ، فقال له هذا الابن كلمة قال : يا أمير المؤمنين أليس للولد حقٌ على أبيه ؟ قال : نعم . قال : ما هو هذا الحق ؟ قال : أن يحسن اسمه ، وأن يحسن اختيار أمه ، وأن يعلمه الكتاب . فقال : يا أمير المؤمنين ما فعل أبي شيئاً من ذلك ، أمي كانت زنجيةً عند مَجوسي تزوجها وسماني جُعْلاً - أي خنفساء - ولم يعلمني شيئاً من كتاب الله . فالتفت عمر غاضباً إلى الأب ، قال : يا هذا ، لقد عققته قبل أن يعقك ، ولقد أسأت إليه قبل أن يسيء إليك . لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
((رحم الله والداً أعان ابنه على بره))
فكلمةٌ جارحة أمام الأخوة الصغار ، كلمةٌ مؤلمةٌ أمام الضيوف ، كلمةٌ مُهينةٌ أمام الأصدقاء ، هذه تُكسبه مرضاً اسمه " الشعور بالنقص" .
التعليم لا التعنيف :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه قصة ، العلاج أيها الأخوة : إذا رأيت ابنك منحرفاً ، العلاج هو التعليم لا التعنيف ، قال عليه الصلاة والسلام :
((علموا أولادك ولا تعنفوهم فإن المعلم خيرٌ من المعنف))
ما قولك أيها الأخ الكريم بشابٍ يدخل على النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخَلق ، وحبيـب الحق ، ويوحى إليـه ، ويقول : يا رسول الله ائذن لـي بالزنا - أمام أصحابه - قام له أصحابه ، فقال النبي :
((دعوه ، اقترب مني أيها الشاب ، قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا جعلت فداك ، قال عليـه الصلاة والسلام : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لأختك ؟ قال : لا جعلني الله فداك ، ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، وما زال يقول له لابنتك ، وعمتك ، وخالتك ، حتى قال هذا الشاب : ادع لي يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم طهر قلبه ، واغفر ذنبه ، وحصن فرجـه ، فقال هذا الشاب : دخلت إلى رسول الله وما شيءٌ أحب إلي من الزنا ، وخرجت من عنده وما شيءٌ أبغض إلي من الزنا))
هكذا التعليم ، علمه ، أتحب أن يفعل فلان بأختك كذا وكذا ؟ لا والله ، ولا الناس يحبون ذلك لأخواتهم ، عَلِّم ، وجِّه ، بيِّن ، وضِّح ، أقنع ، ائت بالدليل العقلي والنقلي والواقعي ، ولا تعنف لأن التعنيف لا يجدي .
أحد الأعراب كان يصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام ، صحابيٌ جليل إلى جانبه عطس ، فالتفت في الصلاة وقال له : يرحمك الله ، فإذا أصحاب النبـي يضربون على أرجلهم ، يسكتونه ، قال : ماذا فعلت ؟ عندئذٍ شعر بالخوف الشديد ، فلما انتهت الصلاة قال له النبي عليه الصلاة والسلام :
((يا أخي إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ))
فقال هذا الأعرابي : " جعلت فداك يا رسول الله ، ثم قال : والله ما قهرني ولا ضربني ولا شتمني ، ولا رأيت معلماً خيراً منه ". هذا الذي دخل إلى المسجد وبال في المسجد في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقام إليه أصحابه ، قال عليه الصلاة والسلام :
((دعوه لا تزرموا عليه بوله ، صبوا عليه سجلاً من ماء))
ووجه هذا الأعرابي توجيهاً لطيفاً ، هو جاهل لا يعرف ، فقال هذا الأعرابي لشدة حبه للنبـي ، وغيظه مـن أصحابه قال : " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحـم معنا أحداً " ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((لقد حجرت واسعاً))
أيها الأخوة الأكارم ؛
((إن الله رفيقٌ يُحب الرِفق في الأمر كله))
ولا يكون الرفق في شيءٍ إلا زانه ، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه -ـ عابه - و..
((من يحرم الرفق يحرم الخير كله))
هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام .
المساواة بين الأولاد وعدم المفاضلة بينهم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الذي يصيب الطفل بالشعور بالنقص المفاضلة بينه وبين إخوته ، قال عليه الصلاة والسلام :
((رحم الله والداً أعان ابنه على بره))
وقال عليه الصلاة والسلام :
((ساووا بين أولادكم في العطية . . .))
وهذا الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال له : إني نحلت ابني حديقةً فاشهد على ذلك يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أنحلت كل أولادك مثل ما نحلته ؟ - أي مثل ما أعطيته - قال : لا ، قال : أشهد غيري ، فإني لا أشهد على جور ))
أيْ إذا أردت أن يحبك أولادك ، وأن يكونوا كما تريد فساو بينهم في العَطِيَّة ، لا يأخذنك ذكاء بعضهم ، ومجاملة بعضهم على حرمان الآخرين ، فإن هذا يورث الأحقاد والضغائن ، وتكون بهذا قد خالفت قول النبي عليه الصلاة والسلام .
التخفيف من آلام الصغار :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرةً ثانية ، الشعور بالنقص أساسه ، قد يكون أساسه شيء خَلْقي ، لا ينبغي أن تشير به ، قد تأتي بنتٌ لها وضعٌ خاص ، لها لونٌ خاص ، لها قامةٌ خاصة ، في عينيها شيء ، إذا سَمَحَ الأب المؤمن لأمها ولأولاده أن يَنْعَتون هذه الطفلة بهذه الصفات ، فإنّه يورثها الشعور بالنقص ، وهذا يحطمها ، كذلك الطفل ، فالشيء الذي يأتي من عند الله على العين والرأس . وهذا الأب يقمع ابنه ، لا يسمح له بالكلام ، يوبِّخه ، يعَنِّفه ، يبعده عن مجالسه ، هذا ينشأ عنده أيضاً شعورٌ بالنقص ، ولابد لهذا الشعور من أن يعالج . إذا دللت ابنك فوق الحد المعقول ينشأ على الاتكالية ، وعلى أن الناس يقدِّمون له كل شيء ، حينما يكبر يرى الناس في واد وهو في واد ، الناس مُجِدّون وهو كسول ، الناس جريئون وهو خجول ، الناس متفوّقون وهـو متخلِّف ، إكثار الدلال يورث في الطفل الشعور بالنقص ، وهذا الأب الذي يعفي ابنه من كل شيء ، لا يكلفه شيئاً ، يقدم له كل شيء ، إنه يورثه مرضاً خطيراً في نفسه.
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كذلك الأب إذا أقنع ابنه أن الله سبحانه وتعالى حكيم ، وأن عطاءه ينطوي على حكمةٍ بالغة ، وأن هذا الذي حرمه الله إيّاه إنما هو ابتلاء ، و أن الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، التوجيه المَبني على التوحيد وعلى حِكمة الله عز وجل ، وعلى أن الدنيا دار ابتلاء ، والآخرة دار جزاء ، على أن الدنيا دار تكليف ، والآخرة دار تشريف ، هذا التوجيه في التوحيد ، وفي بيان حِكمة الله ، يخفف من آلام الصغار .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تزكية الذبيحة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً﴾
من إعجاز القرآن العلمي هذه الكلمة " دماً مسفوحاً " . . هذا الدم وهو يجري في العروق دمٌ طاهر ، لماذا ؟ لأن الكبد أول شيء يُعَدِّل من سمية الدم باستمرار .
والغُدَد العرقية تطرح الكثير من السموم عن طريق التعرُّق ، والرئتين تطرحان غاز الفحم ، والكليتين تطرحان البَوْلة ، وكل الأشياء الضارة . إذاً الكبد ، والتعرُّق ، والرئتان ، والكليتان ، تعملان باستمرار على تنقية الدم ، مما يؤذي صاحبه ، أما إذا سال الدم مسفوحاً ، فهو بؤرةٌ مناسبةٌ جداً لنمو الجراثيم ، لذلك الآن مخابر الجراثيم كيف تربي الجراثيم لتكتشف خواصّها ؟ عن طريق الدم ، أي الوسط الناجح ، المغذي ، المُفيد ، الملائم للجراثيم ، هو الدم ، فإذا سال الدم ، فهو مستنبتٌ للجراثيم .
والعرب قبل الإسلام أيها الأخوة ؛ كانت تضع الدم في الأمعاء ، وتشويه ، وتأكله ، هكذا . . واليوم البلاد التي لا تأتمر بأمر الله عزَّ وجل يحلو لها أن تأكل اللحم مع دمه، لذلك يُصعق الحيوان صعقاً ، ولا يذبح ، ويقطَّع ، وهذه اللترات الخَمْسة التي هي دم هذا الحيوان تبقى في لحمه ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً﴾
أيْ أن الدم وسط مُغَذَّ ، وصالح جداً جداً جداً لنمو الجراثيم ، فالله سبحانه وتعالى حرم أكله . قد يسأل سائل : فما بال الشرع تجاوز في السمك ؟ السمك يصطاد ، ولا يذبح ، ويبقى دمه فيه .
الشيء المعجز أن السمكة حينما تموت ، يندفع دمها كلّه إلى غلاصمها ، فإذا فتحت غلاصم السمكة ، تراها قانيةً حمراء ، دم السمكة كلُّه أصبح في الغَلاصم ، لذلك حينما جاء الشرع وسمح أن نأكل السمك من دون أن نذبحه ، ومن دون أن نخرج دمه ، زوده الله سبحانه وتعالى بهذه الخاصّة ، قبل أن تموت السمكة يدفع قلبها دمها كله إلى غلاصمها ، فإذا هي كما لو أنها ذُبِحَت .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن إذا طبَّقنا أوامر الله عزَّ وجل نطبق أوامر الصانع، نطبق أوامر الخبير ، قال تعالى :
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾
فالذبيحة لا يجوز أكلها إذا كان دمها فيها .