وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0304 - البيت المسلم5- الأبوة مسؤولية .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الأبوة مسؤولية كبيرة :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في البيت المسلم ، منطلقين مما قلته في الأسبوع الماضي من أن سعادة المُسلم في سعادة أولاده ، وأن شقاءه في شقائهم ، وأن الأبوّة مسؤوليةٌ كبيرة ، وأن الأب إذا أهمل تربية أولاده ، وشَبّوا على معصية الله عز وجل ندم ، ولات ساعة مَنْدَم .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في القرآن الكريم توجيهاتٌ كثيرة توجّه الآباء إلى تربية الأبناء ، فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾

[ سورة التحريم : 6 ]

الأمر موَجّهٌ إلى أنفسِكم أولاً ، وإلى أهليكم ثانياً ، بل إن حِكمة تقديم النفسِ على الأهل ، أن الإنسان لا يستطيع أن يوجّه أهله إلا إذا وجَّه نَفسه ، ولا يستطيع أن يُصلح أهله إلا إذا أصلح نفسه ، ولا يستطيع أن يُقنع الآخرين بشيء إن لم يكن قانعاً به ، ولا يستطيع أن يحملهم على تطبيقه إن لم يكن مطبقاً له ، من هنا جاء قوله تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾

[ سورة التحريم : 6]

هذا الأب الذي يتمنَّى من أهله أن يكونوا في أحسن حال ، وفي أفضل طريقة ، وفي أحسن حالة ، من دون أن يُعْنَى بآخرتهم ، من دون أن يعنى بدينهم ، من دون أن يعنى بمستقبل حياتهم ، من دون أن يُعْنَى بسعادتهم ، هذا الأب الذي يفعل هذا يخون أهله ، لأنه يوردهم موارد الهَلَكة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الآية يجب أن تكون شعار كل مؤمن :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾

[ سورة التحريم : 6]

والأهل الزوجة ، والأهل الأولاد ؛ شباباً وشاباتٍ ، والأهل كل من تمونه ، أو تلي عليه ، أو جعله الله تحت وِصايتك .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة﴾

[ سورة التحريم : 6]

ضرورة معرفة الله و الإيمان به و بكتابه القويم :


شيءٌ آخر في توجيهات القرآن الكريم هو أن الله سبحانه وتعالى يقول مخاطباً المؤمنين - وأنتم تعلمون أن الناس يخاطبون بأصول الشريعة ، بينما المؤمنون يخاطبون بفروعِها ، بعد أن عرفت الله عز وجل وآمنت به ، وآمنت بكتابه القَويم ، إن كتابه يأمرك أن تأمر أهلك بالصلاة - قال تعالى :

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾

[ سورة طه : 132 ]

في الآية لقطةٌ دقيقة ؛ لم يأمرك الله أن تصطبر عليهم ؛ بل أن تصطبر على الصلاة نفسها ، فربما أدَّوها أداءً شكلياً ، اقبلها منهم بادئ ذي بَدء ، دعهم يصلّوا قبل كل شيء، إذا صلّوا وجههم إلى الخشوع في الصلاة ، إذا خشعوا وجههم إلى ثِمار الصلاة ، أيْ نَقِّلْهُم من مرحلةٍ إلى مرحلة ، ومن طَوْرٍ إلى طور ، ومن حالة إلى حالة ، اصطبر على صلاتهم كيْ تُصبح صلاةً مقبولة ، اصطبر على صلاتهم حتى تكون كما أراد الله عز وجل ، اصطبر على صلاتهم حتى تؤْتي أُكُلَها ، اصطبر على صلاتهم حتى تقطف منها ثمارها .

 

الأبوة ليست وجاهةً و مكانةً إنما هي مسؤوليةٌ تجاه الله أولاً :

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة الحجر : 92-93]

يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ليست الأبوة وجاهةً ، وليست الأبوة مكانةً ، وليست الأبوة ميزةً يمتاز بها الأب ، وليست الأبوة مُتعةً ، إنما الأبوة مسؤوليةٌ تجاه الله أولاً ، لذلك هذه الآية عامَّة ويمكن أن تنسحب على موضوع خطبتنا اليوم :

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة الحجر : 92-93]

في بيوتهم ، في معاملتهم لأهليهم ، في تربيتهم لأولادهم ، في أخذ أهلهم بشرع الله عز وجل . .

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة الحجر : 92-93]

آيةٌ أخرى تؤكِّد هذا المعنى ، يقول الله عز وجل :

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾

[ سورة الصافات :24]

لذلك قد يقول الابن : يا رب لا أدخل النار حتى أُدْخِل أبي قبلي ، لأنه لم يعلمني ، لأنه لم يوجِّهني ، لأنه ما حملني على طاعتك ، لأنه لم يضيِّق عليّ إذ رآني في معصية ، لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي ، هذا معنى قوله تعالى :

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾

[ سورة الصافات :24]

والله سبحانه وتعالى يوصيكم في أولادكم ، هكذا يقول القرآن الكريم :

﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾

[ سورة النساء : 11]

ومن إعجاز القرآن أن الآية إذا نزعتها من السياق لها معنى شمولي ، فإذا وضعتها في السياق فلها معنى آخر ، هذه الآية مُطلقةٌ والمُطلق على إطلاقه . .

﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾

[ سورة النساء : 11]

أن تربّوهم ، أن تعتنوا بهم ، أن ترشدوهم ، أن تعلموهم كتاب الله ، أن تحملوهم على الخُلُق الكريم ، ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً .
والله سبحانه وتعالى يوصي النساء فيقول :

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

وقد كشف العلماء عن آثار إرضاع الأمّهات أولادهن ؛ عن الآثار النفسية ، والآثار الاجتماعية ، والآثار الجسمية ، إن إرضاع الأم ابنها له أثرٌ كبيرٌ في أخلاقه ، في نمو عواطفه الإنسانية ، في نمو شعوره الأُسَرِيّ ، هذا كله من جرّاء إرضاع الأم ابنها . .

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

ما ورد في القرآن الكريم من توجيهات حول العناية بالأهل :

توجيهات القرآن كثيرة . .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾

[ سورة التحريم : 6 ]

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾

[ سورة طه : 132 ]

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة الحجر : 92-93]

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾

[ سورة الصافات :24]

﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾

[ سورة النساء : 11]

﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾

[ سورة البقرة : 233 ]

توجيهات في السنة الشريفة وجّهنا بها النبي عليه الصلاة والسلام :

ماذا في السنة النبوية الشريفة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري ، في كتاب الأدب المُفْرَد :

((الرجـل راعٍ في أهله ومسؤولٌ عن رعيته ، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها ))

[ متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]

أَحَفِظَ أم ضيَّع ؟ أنصح أم غَش ؟ اعتنى أم أهمل ؟ أوجّه أن لم يوجّه ؟ أدقق أم لم يدقق ؟ أحاسب أم لم يحاسب ؟

((الرجـل راعٍ في أهله ومسؤولٌ عن رعيته ، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها ))

[ متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]

وفي الحديث :

((أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة))

[ من كنز العمال عن أنس]

يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كما أن بر المسلم بوالديه عملٌ يكفي لدخول الجنة ، استنباطاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ))

[من مختصر تفسير ابن كثير ]

كذلك أن تربي أولادك ؛ شباباً وشاباتٍ تربيةً دينيةً حسنةً ، تربيةً أخلاقيةً قويمة ، تربيةً جسميةً صالحة ، تربيةً اجتماعيةً ، تربيةً علميةً ، إذا ربَّيت أولادك تربيةً صحيحة ، ربما كان هذا العمل كافياً لدخول الجنة ، فأبواب الجنة مفتحةٌ أمامك ، أبواب الجنة تبدأ من بيتك ، أبواب الجنة تبدأ من تربية أولادك .

 

مسؤولية المسلم تجاه أولاده :

الإمام الترمذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً يقول فيه :

((لأن يؤدّب الرجل ولده خيرٌ له من أن يتصدَّق بصاعٍ من بر كل يوم))

[الترمذي عن جابر بن سمرة ]

صاع البر شيءٌ ثمين ، في البيئة التي قيل فيها هذا الحديث .
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :

((علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم))

[ من الدر المنثور عن أبي طالب ]

وأمر النبي عليه الصلاة والسلام هو أمر الله عز وجل ، لقول الله عز وجل :

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[ سورة الحشر : 7 ]

إن طاعة رسول الله - كما يقول علماء الأصول - هي عين طاعة الله ، وطاعة الله عز وجل هي عين طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي حديثٍ آخر رواه الإمام الطبراني ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال حب نبيكم . . .))

[رواه الطبراني عن علي]

لماذا ؟ الطفل ، والفتى ، والشاب ، لابد له من قدوة يقتدي بها ، لابد له من مثلٍ أعلى يتمثّل به ، لابد له من شخصيةٍ فذة يرنو إليها ، لابد له من إنسانٍ عظيم يتأمَّل عظمته ، فإذا كانت القدوة والأسوة والمثل شخصاً تافهاً مِن الطبقة الدُنيا مِن المجتمع ، كما هي الحال في أزمنة التخلّف ، حينما يكون فلانٌ الممثل مثلاً قدوةً لشبابٍ وشابّات ، عندئذٍ اقرأ على أخلاق هذه الأمّة السلام ، لماذا ؟ النبي عليـه الصلاة والسلام يأمرنا أن نؤدِّب أولادنا على ثلاث خصال حب نبينا ، لأنه القدوة التي اختارها الله لنا ؛ زوجٌ ناجح ، أبٌ ناجح ، فتىً ناجح ، نبيٌ مرسل ، كل صفات الكمال متمثلةٌ فيه ، فإذا ربَّيت ابنك على خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام ، على حُب النبي ، على التمسّك بسُنَّته ، على التعلّق بصفاته ، على ترسُّم منهجه ، على اقتفاء أثره ، فقد نجحت وأفلحت وبررت :

((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال ؛ حب نبيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن))

[رواه الطبراني عن علي]

القرآن كما يقولون كونٌ ناطق ، والكون قرآنٌ صامت ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي على قدمين ، كما قالت السيدة عائشة :

((كان خلقه القرآن))

[ مسلم عن عائشة ]

هذا بعض ما في السنة النبوية من توجيهاتٍ وجّهنا بها النبي عليه الصلاة والسلام .
وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال : أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَة- أي شبيبة ، أي شباب - متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين ليلةً ، فظن أننا اشتهينا أهلينا، فسألنا عمّن تركنا في أهلينا ، فأخبرناه ، وكان رقيقاً رحيماً ، فقال عليه الصلاة والسلام :

((ارجعوا إلى أهليكــم فعلّموهم ، ومروهـم ، وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركــم ))

[البخاري عن أبي سليمان مالك بن الحويرث]

أيها الأخوة المؤمنون ؛ حديثٌ أخير يحدد مسؤولية المسلم تجاه أولاده ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((لا تزول قدمـا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن علمه - ليس السؤال ماذا تعلم ؟ لا ، السؤال :- وعن علمه ماذا عمل به ؟))

[ من زيادة الجامع الصغير عن ابن مسعود ]

مسؤولية كل إنسان عن علمه يوم القيامة :

كل من يحضر خطبة جمعة ، ويستمع إلى توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام، أو إلى توجيهات القرآن الكريم ، أو إلى توجيهات السَلَف الصالح ، إنه بهذا الحضور ، وبهذا الاستماع أصبح مسؤولاً أمام الله أولاً عن هذا العلم ماذا عمل به ؟ ماذا ينفع أحدنا أن يقول عقب الخطبة : والله خطبةٌ رائعة ، استمتعنا بها ، فمتى تترجم هذه الخطبة إلى سلوك ؟ إلى واقع ؟
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛

((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمـره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن علمه ماذا عمل به ؟))

[ من زيادة الجامع الصغير عن ابن مسعود ]

هناك ملاحظة : العبد يُسأل يوم القيامة عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ ولكن عن ماله يُسأل سؤالين ؛ من أين اكتسبه ؟ و فيم أنفقه ؟ هؤلاء الذين جمعوا المال من حرامٍ وأنفقوه في حرامٍ ، يقال لهم : خذوهم إلى النار ، حسابهم سريع ، وهؤلاء الذين جمعوا المال من حلالٍ وأنفقوه في حرامٍ يقال : خذوهم إلى النار ، وهؤلاء الذين جمعوا المال من حرامٍ وأنفقوه في حلالٍ ، يقال : خذوهم إلى النار ، المال خطير ، يجب أن تكسبه حلالاً وأن تنفقه حلالاً ، وعن علمه ماذا عمل به . .

وعالمٍ بعلمه لم يعمـلن معذبٌ من قَبْل عباد الوثن
* * *

فأيَّة خطبةٍ ، أيُّ درسٍ ينتهي إلى سمعك ، وضعك أمام مسؤولياتك تجاه الله عز وجل .

 

توجيهات وردت من بعض الأمراء حول تربية الأولاد :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى الجاحظ أن عُقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى مؤدبه - إلى أستاذه - أنتم أيها الأخوة تنتمون إلى أمةٍ عريقة ، في تراثها التربوي الشيءٌ الكبير، استمعوا معي إلى بعض التوجيهات التي وردت من بعض المؤدّبين ، ومن بعض الأمراء، يقول عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ابنه - لمعلم ابنه - :" ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح ابني إصلاح نفسك ، لأن عيونهم معقودةٌ بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنت ، والقبيحُ عندهم ما استقبحت - أيْ أخطر ما في التعليم المُعَلِّم ، إذا استحسن شيئاً غير حسن استحسنه طلابه وهم لا يشعرون ، وإذا استقبح شيئاً حسناً استقبحه طلابه وهم لا يشعرون - ليكن أول إصلاحك لابني إصلاحك لنفسك ، لأن عينه معقودةٌ بعينك ، فالحسن عنده ما فعلت، والقبيح عنده ما تركت - يتابع هذا الأمير توجيهه لمؤدب ابنه - علِّمهم سيَر الحكماء ، وأخلاق الأدباء ، تهددهم بي ، أدبهم دوني ، كن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء - المعلم طبيب ، إذا صَلَحَ المُعَلِّم صلح الطلاب ، إذا صلح المؤدِّب صلح الطلاب - ولا تتكلن على عذرٍ مني فإني قد اتكلت على كفايةٍ منك " توجيهٌ سديد منطلقٌ من حقيقةٍ رشيدة .
ليكن أول ما تبدأ به إصلاح بنيَّ إصلاح نفسك ، فإن عينه معقودةٌ بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنت ، والقبيح عندهم ما استقبحت ، علمهم سير العلماء ؛ الأبطال ، الصناديد ، الصادقين ، الأُمناء ، الشجعان ، الأوفياء ، الكُرماء ، حتى يكون هؤلاء قدوة ، علمهم سير الحكماء ، وأخلاق الأدباء ، تهددهم بي ، أدبهم دوني ، كن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ، ولا تتكلن على عذرٍ مني ، فإني قد اتكلت على كفايةٍ منك .
هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى مؤدِّبه قال له : " يا أحمر - كان اسمه أحمر - إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه ، وثمرة قلبه ، فصيَّر يدك عليه مبسوطة ، وطاعته لك واجبة ، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين ، أقرئه القرآن ، وعَرِّفه الأخبار ، وروِّه الأشعار ، وعَلِّمه السُنَّة ، بصِّره بمواقع الكلام ، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته ، ولا تُمِعَنَّن في مسامحته، ولا تمُرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنمٌ فائدةٌ تفيده إيّاها ، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تُمْعِن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، وقوِّمه - أي أصلحه - ما استطعت إلى ذلك سبيلاً بالقرب والمُلاينة ، فإن أباهُما فبالشدة والغلظة " . توجيهٌ سديد . . امنعه من الضحك إلا في أوقاته ، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنمٌ فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه - أن تيئِسه ، أن تجعله في نفسه صغيراً ، أن تجعل الطريق أمامه طويلاً ، أن تعطيه ما لا يطيق - من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، قوِّمه بالقرب والمُلاينة ، فإن أباهما فبالشدة والغلظة ، هذه بعض توجيهات المُرَبِّين .
عبد الملك بن مروان قال لمؤدِّب ولده : " علمه الصدق كما تعلمه القرآن ، واحمله على الأخلاق الحميدة ، روِّه الشعر - شعر البطولة فيشجع وينجد ، يصبح شجاعاً وذا نجدة - جالس به أشراف الرجال وأهل العلم ، جنِّبه السفلة والجُهَّال ، فإنهم أسوأ الناس أدباً ، وقِّره في العلانية ، وأنبه في السر- لو اطلعت على نفس الصغير لا يؤلمه شيء إلا أن تؤنبه أمام الناس ، إلا أن تؤنبه أمام أصدقائه ، إلا أن تؤنّبه أمام إخوته ، أمام أهله - أنبه في السر، ووقره في العلانية ـ واضربه على الكذب ، لأن الكذب يدعو إلى الفجور ، وإن الفجور يدعو إلى النار " ، كما قال عليه الصلاة والسلام :

((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة ))

[ من كنز العمال عن أبي أمامة ]

أحد الحكماء وجَّه مؤدِّب ابنه ، قال له : " لا تخرجن به من علمٍ إلى علمٍ حتى يُحْكِمَهُ ، فإن اصطكاك العلم في السمع ، وازدحامه في الوهم مضلةٌ للفهم " . أيْ كثرة المواد من دون فهمٍ لها ، مادةٌ فوق مادة ، ومادةٌ فوق مادة ، وليس هناك عمقٌ في التدريس ولا تأنٍ في التلقين ، إذاً هذا مضلةٌ للفهم وسُقمٌ في التفكير .
ابن سينا العالم قال : " أن يكون مع الصبي في مكتبه صبيةٌ حسنةٌ آدابهم ، مَرْضيةٌ عاداتهم - وهذه الحقيقة هي الآن من الحقائق المُسَلَّم بها في علم النفس - لأن الصبي عن الصبي ألقن ، وهو عنه آخذ ، وبه آنس " أحدث إحصاءٍ قرأته : إن ستين بالمئة مما يتعلمه الطفل من قُرنائه ، والباقي موزعٌ بين أساتذته وأمه وأبيه ، ستون بالمئة ، ماذا يقول ابن سينا : " أن يكون مع الصبي في مكتبه صبيةٌ حسنةٌ آدابهم ، مرضيةٌ عاداتهم ، لأن الصبي عن الصبي ألقن ، وهو عنه آخذ وبه آنس " .
هشام بن عبد الملك ، وجه مؤدب ابنه فقال : " إن ابني هذا جلدة ما بين عيني، وقد وليتك تأديبه ، فعليك بتقوى الله ، وأد الأمانة ، وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله ، ثم روِّهِ من الشعر أحسنه ، ثم تخلل به أحياء العرب ، فخذ من صالح شعرهم ، وبَصِّره طرفاً من الحلال والحرام ، والخُطب والمواعظ " .

 

تربية الأولاد سبب كاف لدخول الجنة :

أيها الأخوة المؤمنون ؛ من خلال الآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة ، وتوصيات السلف الصالح ، يتضح أن الأبوة ليست وجاهةً ، وليست ميزةً ، وليست مكانةً ، إنما هي مسؤوليةٌ تجاه الله أولاً ، لأن الابن قد يقول يوم القيامة : يا رب لا أدخل جهنم حتى أُدخل أبي قبلي ، وكما أن الابن يقول هذا ، تقول بنتٌ : يا رب لا أدخل الجنة حتى أدخل أبي قبلي .
هكذا ورد في بعض الأحاديث ، إن تربية الأولاد قد تكون سبباً كافياً لدخول الجنة .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً .

* * *

الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

سعادة المسلم في سعادة أولاده وشقاؤه في شقائهم :

أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يقول أحدكم : هذا الكلام الذي قلته في الخطبة الأولى كلامٌ جيدٌ وصحيح ، ولكن الواقع الذي نحن فيه لا يمكننا من تربية أولادنا هذه التربية ، فهناك أسباب كثيرة تدعو إلى فساد تربية الأولاد .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لا شك أننا في زمنٍ صعب ، ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال :

((يأتي على أمتي زمانٌ الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر))

[ من الجامع الصغير عن أنس]

وقال أيضاً :

((أجره كأجر سبعين . قالوا : منا أم منهم ؟ قال : بل منكم . قالوا : ولِمَ ؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

صاحب الابن قد يهدم كل ما قاله الأب ، رفيق السوء قد يهدمه ، مجلةٌ خليعة قد تهدم كل هذا ، ولكن إذا صدق الرجل في تربية أولاده ، وبذل جهده الذي يستطيع ، لعل الله سبحانه وتعالى يُعينه على هدفه النبيل ، لعل الله عز وجل يحفظ ابنه برعايته ، لعل الله سبحانه وتعالى يلقي في قلب الابن هذا التوجيه السديد ، أنت عليك أن تفعل ، عليك أن تسعى ، وليس عليك إدراك النجاح ، قد يقول قائل : أنا لا أستطيع أن أربي ابني ، إن ابني له أفكاره الخاصّة ، وله عاداته السيئة ، ولا أستطيع أن أسيطر عليه ؟ هذا كلامٌ فيه شيءٌ من الواقعية ، ولكن الشيء الذي أريد أن أنوّه به أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((استعن بالله ولا تعجز ، ولا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان))

[ من مختصر تفسير ابن كثير عن الوليد بن عبادة ]

شيءٌ آخر : لا تقل فات الأوان ، لا ، لا تقل فات الأوان لو كان هناك إهمالٌ سابق شَمِّر عن ساعد الجِد ، وقل : يا رب ألهمني السداد والرشاد في تربية أولادي ، فلعل الله سبحانه وتعالى يكتب على يديك هدايتهم ، إن أسعد شعورٌ يشعره الأب أن يرى ابنه كما يُحب ، أن يرى ابنه كما يريد ، ألم تقرؤوا قوله تعالى :

﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾

[ سورة الفرقان : 74]

بإمكانك أيها الأخ الكريم ، بقدر الإمكان أن تسد كل نافذةٍ فيها توجيهٌ سيئ لابنك، أيّة نافذة ؛ قد تكون بعض أجهزة اللهو نافذة لهذا الفَساد ، قد يكون بعض الرُفقاء ، قد يكون بعض المُطالعات ، بعض الأمكنة ، أي مكانٍ ، أي زمانٍ ، أي بيئةٍ ، أي صديقٍ ، أي جهازٍ ، أي عملٍ فنيٍ قد يؤدي إلى إفساد أخلاق ابنك .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ دقق ما المصادر التي تؤذي أخلاق ابني ؟ ما النوافذ الخطرة على أخلاق ابني ؟ لابد من أن تسدها واحدةً واحدة ، وبعد ذلك الله سبحانه وتعالى يتولّى ابنك بالحفظ والرعاية .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لَقْطةٌ من بعض الأحاديث القدسية ، هذا الذي سأله الله عز وجل قال :

(( أعطيتـك مالاً فماذا فعلـت فيه ؟ قال : يا ربي أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنـك خيرٌ حافظاً وأنـت أرحـم الراحمين ، فقال الله عز وجل : عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك ))

[ ورد في الأثر ]

كما أن الله عز وجل يحفظ أولادك من بعدك يمكن أن يحفظهم في حياتك ، فوجِّههم ، علِّمهم ، جالس بهم العلماء ، خُذْهُم إلى مجالس العِلم ، اصحبهم معك في كل مناسبةٍ تظنّ أنها طيبة ، لعل الله سبحانه وتعالى يهديهم إلى سواء السبيل .
أعود وأكرر ، أنطلق في كل هذه الخطب من أن سعادة المسلم في سعادة أولاده، وشقاءه في شقائهم .

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور